logo
هندسة اللايقين.. من أين جاء نموذج ترامب في التفاوض مع العالم؟

هندسة اللايقين.. من أين جاء نموذج ترامب في التفاوض مع العالم؟

الجزيرةمنذ 7 أيام
في سبتمبر/أيلول عام 2017، وقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة مخاطِبا العالم بلغة غاضبة لم يألفها المسرح الدولي منذ نهاية الحرب الباردة ، مُوجِّها تهديدا صريحا لكوريا الشمالية، قائلا إن الولايات المتحدة "ستدمّر كوريا الشمالية بالكامل إذا واصلت تهديداتها النووية"، ومتحدثا عن الزعيم الكوري الشمالي بلهجة ساخرة، مُطلقا عليه لقب "رجل الصواريخ".
حينها، لم يَبدُ هذا مجرد تصعيد دبلوماسي، بل كأنه إعلان نِيّات عدائية للغاية، وأن تصعيدا تاريخيا يلوح في الأفق. لكن المدهش أن ترامب نفسه عاد بعد أشهر قليلة ليصافح كيم جونغ أون في أول قمة من نوعها بين زعيمين من البلدين، معلنا أنهما "قد وقَعا في الحب" بعد تبادل الرسائل الدبلوماسية، ومشيدا به.
منذ لحظاته الأولى على المسرح السياسي، حرص دونالد ترامب على ألا يبدو مثل أي رئيس أميركي سابق. لم يُخفِ طباعه الغاضبة، بل تبنّاها بفخر، قائلا في مناظرة الحزب الجمهوري عام 2016: "سأقبل بسرور عباءة الغاضب".
وعندما سُئل خلال حملته في 2024 عن كيفية ردّه على حصار صيني لتايوان، قال: "لن أضطر لفعل شيء، لأن [ شي جين بينغ ] يحترمني ويعلم أنني مجنون تماما"!
بيد أن ما ميّز ترامب لم يكن الغضب فحسب، بل رغبته في أن يُنظر إليه بوصفه زعيما مختلفا واستثنائيا، وغير قابل للتنبؤ، وأنه رجل صفقات، بل ذهب أبعد من ذلك في أحد خطاباته في حملته الأولى عام 2016، حين قال: "يجب أن تكون أمتنا أكثر غموضا وأقل قابلية للتنبؤ".
والآن، بعد أن اختبر العالم سياسات ترامب لوقت ليس بسيطا، يمكن القولُ إن هذا المزيج من الغموض وما تسميه عدد من الصحف الأميركية بـ "افتعال الجنون"، بالإضافة لفوضى التصريحات، وهو ما بات يُمثِّل منهجا تفاوضيا، وطريقةً خاصة لعقد الصفقات، فيما يبدو أنها ليست فوضى شعبوية فحسب، بل في الحقيقة هي أداة تفاوضية عالية المخاطرة من نوع خاص. فما ملامح هذا "المنهج الترامبي"؟ وما فرص استدامة نجاحه؟
هندسة اللاعقلانية
ليس من السهل تصنيف سلوك دونالد ترامب التفاوضي ضمن قوالب الدبلوماسية التقليدية، فهو لا يتحدث بلغة المؤسسات، ولا يلتزم بالتسلسل المنهجي الذي يُفضِّله صانعو السياسات، ولا يستخدم القنوات التقليدية في إعلان التصريحات الرسمية.
لكن رغم ما يبدو من عشوائية وتقلّب، سرعان ما يلحظ المراقب تكرارا واضحا في طريقة ترامب في إدارة الملفات الدولية، يُحيل إلى ما يشبه نموذجا تفاوضيا متكاملا، قائما على الصدمة، والتصعيد، والمقايضة.
لا يبدأ ترامب من منتصف الطريق، بل يقذف نفسه مباشرة إلى أقصى مدى، يطلق مطلبا جذريا -مثل قطع العلاقات التجارية نهائيا مع طرف ما، أو الإقدام على ضمّ أرضٍ ما عُنوة إلى بلاده- ثم يدعو بعد ذلك إلى التفاوض من موقع مُتفوق، مصحوبا بتهديدات مبطنة أو صريحة، لا تلبث أن تتحوّل في لحظة إلى رسائل مديح شخصية، أو وعود باتفاقات عظيمة، ثم إنْ لزم الأمر يعود فينفذ تهديدا جزئيا ليؤكد جديته.
هذا النموذج ظهر بوضوح في التعامل مع حلف الناتو. فتح ترامب النار على حلفاء واشنطن الأوروبيين، متهما إياهم بالتقاعس عن تحمل أعباء الدفاع الجماعي، ومهددا بانسحاب الولايات المتحدة من الحلف إذا لم يُضاعفوا إنفاقهم العسكري.
بدا أداؤه أداء "عدوانيا" و"فوضويا"، لكن المفارقة أن هذا الضغط أسفر لاحقا عن إعلان جماعي لرفع ميزانيات الدفاع في عدد من دول الناتو إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو إنجاز لم تحققه الإدارات السابقة رغم الهدوء والانضباط الدبلوماسي. بعدها عاد ترامب للحديث بلغة الشراكة، مشيدا بالحلف ومؤكدا التزام بلاده بالبند الخامس. بدا وكأنه وضع الحلفاء على حافة الانهيار، ثم أعادهم من الحافة ليقطف الثمرة.
مرة أخرى مع إيران، لكن بنتائج مختلفة حتى الآن، وإن كانت العملية ما زالت تحمل في طيّاتها عوامل انفجارها مرة أخرى، طالب ترامب إيران بالتخلي عن برنامجها للأسلحة النووية، مهددا بعواقب وخيمة إن لم تفعل. ثم دخل في مفاوضات غير مباشرة مع إيران، معلنا على الملأ أن المفاوضات تسير بشكل واعد، وأنه يريد أن تكون إيران دولة عظيمة. وفي مرحلة معينة، حدد موعدا لانتهاء المفاوضات، وعندما انقضى الموعد دون اتفاق، اتخذ إجراء عسكريا دراماتيكيا.
وفي الحالتين، لم يكن يسعى إلى خلق بيئة تفاوض مستقرة، بل إلى بيئة مرتبكة تمنحه اليد العليا، مستعدا لتفكيك القواعد القديمة، ثم إعادة بنائها عبر صفقات مباشرة. في ملف أوكرانيا مثلا، لوّح ترامب في بداية ولايته الثانية بإمكانية إعادة النظر في الدعم الأميركي لكييف، ما عُدَّ صدمة جيوسياسية في العواصم الغربية، قبل أن يعود ويُشيد بقدرة الحلفاء على الاستجابة والتنسيق.
ما كان لافتا أيضا هو تصعيده مع كندا، والتي سمّى رئيس وزرائها السابق جاستن ترودو بأنه حاكم الولاية رقم 51، والتي صرح ترامب بأنه سيضمها (كندا) للولايات المتحدة. كان هذا التصعيد عاملا في صعود رئيس الوزراء الجديد مارك كارني الذي انتخب في أواخر أبريل/نيسان الماضي على خلفية تعهّده بمواجهة تهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بحرب تجارية وبضمّ كندا للولايات المتحدة.
إعلان
وبعد فوزه، تعهد بإطلاق "أكبر تحول في الاقتصاد الكندي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية" لبناء دولة "قوية"، في وقت يواجه فيه تاسع أكبر اقتصاد في العالم أزمة غير مسبوقة.
في وقت لاحق، استقبل ترامب كارني في البيت الأبيض، وما بدا تهديدا يمس سيادة كندا في بداية المطاف، تحول إلى سعي لفتح صفحة جديدة يغلب عليها سمة التوتر.
من أين جاء هذا النموذج؟
لفهم كيف بنى ترامب هذا النموذج التفاوضي لا يكفي تتبّع تصريحاته وقراراته السياسية، بل لا بد من العودة إلى البيئة التي تَشكَّل فيها عقله. فالرجل لم يأتِ من خلفية بيروقراطية ولا خدم في أجهزة الأمن القومي، ولم يتدرّب في أروقة وزارة الخارجية أو على طاولات لجان الكونغرس. جاء ترامب من عالم العقارات، والإعلام، والترفيه، والصفقات، ومن رحم ثقافة رجال الأعمال الطفيليين الذين يعتبرون كلَّ علاقة فرصةً لمقايضة رابحة، وكلَّ خصم قابلا للإرباك أو الترويض.
في كتابه الشهير "فن الصفقة" (The Art of the Deal)، الصادر عام 1987، يوضح ترامب فلسفته بعبارات شديدة التبسيط والوضوح: "أنا أضع أهدافا عالية جدا، ثم أواصل الضغط والضغط والضغط حتى أحصل على ما أريده". وفي مواضع كثيرة من الكتاب، يشير إلى أهمية استخدام الغموض، والمماطلة، والضجيج الإعلامي بوصفها أدوات تفاوض بحد ذاتها، ويقول: "أحاول دائما أن أترك خصمي يفكر: مهلا، ربما يتمكن هذا الرجل فعلا من تنفيذ ما يهدد به".
ولكن قبل أن يكتب ترامب كتابه هذا، ثمة شخصية يُرمز لها بأنها شديدة التأثير في بناء هذا المزيج الإدراكي والسلوكي لدى ترامب وفي صياغة رؤيته للعالم، هو روي كوهن، المحامي المثير للجدل الذي عُرف بشراسته وقدرته على تحويل أي أزمة إلى هجوم مضاد. كان كوهن في شبابه مساعدا للسيناتور الجمهوري الشهير جوزيف مكارثي، خلال حملات التطهير السياسي العنيفة في الخمسينيات، ثم أصبح لاحقا الموجّه السياسي والقانوني لترامب في بداياته.
فبحسب تقرير لصحيفة "بوليتيكو" نُشر عام 2017، بدأ كوهن، منذ عام 1973، في تمثيل عائلة ترامب، بعد أن رفعت وزارة العدل دعوى قضائية ضدهم بتهمة ممارسات تأجير عنصرية في آلاف الشقق التي يملكونها، وبحلول ثمانينيات القرن الماضي، كان كوهين بمنزلة المُدبّر الأساسي لمناورات ترامب التي أطلقت مسيرته المهنية، حيث أصبح كوهن بالنسبة لترامب أكثر بكثير من مجرد محاميه.
وفي لحظة حاسمة لترامب، لم تكن هناك شخصية أكثر تأثيرا من كوهن. وبحسب التقرير السابق ذكره، غرس كوهن فيه ثلاث قواعد أساسية:
لا تعتذر أبدا.
لا تتراجع أبدا.
هاجِم دائما.هذه القواعد تحوّلت في عقل ترامب إلى بوصلة تفاوضية راسخة. فعندما ينتقده الصحفيون، يصفهم بالأعداء. وعندما يتباطأ الحلفاء، يهددهم بالانسحاب. وعندما يتحدى خصومه، يبدأ بتدمير قواعد اللعبة قبل أن يطلب إعادة ترتيبها.
ومن هنا نفهم لماذا يُفضِّل ترامب التفاوض المباشر على القنوات الدبلوماسية، ولماذا يميل إلى تحويل الملفات الدولية إلى عروض شخصية، فالرجل لا يثق بالمؤسسات، بل يثق بحضوره الخاص وقدرته على تحريك المعادلة من خلال المواجهة وطبيعته الشخصية.
حتى في مظهره وسلوكه العلني، يستثمر ترامب في "اللاعقلانية المدروسة". يقول دانيال دريزنر، الأستاذ في جامعة تافتس، إن ترامب "نادرا ما يكون لاعب شطرنج ثلاثي الأبعاد، بل غالبا ما يكون الرجل الذي يأكل القطع". هذا التصوّر، وإن بدا ساخرا، يعبّر عن جوهر ما يفعله ترامب في النظام العالمي الآن؛ تفكيك قواعد اللعبة نهائيا ليعيد هو بناءها، حتى لو أدى ذلك إلى تشكيل لعبة مختلفة تماما.
نتائج لا يمكن التنبؤ بها
رغم ثبات النمط التفاوضي لدى ترامب، فإن نتائجه جاءت متفاوتة بشكل صارخ بين ملف وآخر. ففي حين أحرز تقدما تكتيكيا في بعض القضايا، اصطدمت إستراتيجيته بحوائط صلبة في ملفات أخرى، إما لأن خصومه فهموا مبكرا الفلسفة التي يتحرك بها، وإما لأن شركاءه تآكلت ثقتهم في قدرته على الالتزام.
في ملف التجارة العالمية، اختار ترامب أن يبدأ بحرب شاملة وتصريحات صاخبة للغاية. فرض تعريفات جمركية مرتفعة على الحلفاء والخصوم على حدٍّ سواء، من كندا إلى الاتحاد الأوروبي إلى الصين، ثم دعا إلى مفاوضات ثنائية بدلا من النظام التجاري متعدد الأطراف، باعتبار ذلك جزءا من إستراتيجيته لإعادة "التوازن التجاري" لصالح أميركا. فعليا، نجح في تعديل بعض الاتفاقات (مثل "USMCA" مع كندا والمكسيك)، لكنها تعديلات شكلية في معظمها.
أما مع الصين، فقد تحوّلت الحرب التجارية إلى ماراثون نزيف اقتصادي متبادل، لم تنتهِ إلا بهدنة هشّة لم تعالج جوهر الخلافات البنيوية، وما زالت الضغوط القاسية مستمرة بين الطرفين تعاني منها واشنطن كما تعاني بكين. وهكذا، أنتجت هذه الإستراتيجية حالة من التوتّر المستدام دون تسوية إستراتيجية حقيقية.
وفي السياسة الأوروبية، أثمر ضغط ترامب على الناتو عن التزامات مالية إضافية بالفعل، لكن الكلفة الدبلوماسية كانت مرتفعة، حيث إن تكرار التهديد بالانسحاب جعل كثيرا من الحلفاء يتعاملون مع الإدارة الأميركية بقدر من الحذر الإستراتيجي، وبدأت برلين وباريس تبحثان، للمرة الأولى بجدية، في إمكانية بناء بنية أمنية أوروبية مستقلة عن واشنطن، وأُثيرت مؤخرا نقاشات بين برلين ولندن حول اتفاقية دفاعية ثنائية. بهذا المعنى، حصل ترامب على تنازلات، لكنه زعزع ما عُدَّ لعقود "الركيزة النفسية" لتحالف الغرب.
وفيما يتعلق بإيران، سعى ترامب إلى فرض "اتفاق نووي جديد" بشروط أميركية، مدعوما بقصف على منشآت نووية داخل إيران بعد فشل المفاوضات. ورغم هذا الضغط، فإن طهران لم تنهَر، بل صعّدت خطواتها تجاه التخلي عن التزاماتها النووية والانسحاب من اتفاقية حظر الانتشار النووي، ولم تعدْ بعدُ لحظيرة الدبلوماسية منذ أطلق نتنياهو الرصاصة الأولى في 13 يونيو/حزيران.
وهنا تكمن المفارقة التي تنتجها إستراتيجية ترامب؛ حيث ينجح أحيانا لأنه يبدو غير موثوق، ويفشل أحيانا للسبب نفسه. فما يمنحه القدرة على التهديد، يسلبه القدرة على طمأنة الطرف الآخر بأن ثمة طريقا جادّة للاتفاق.
وهكذا، فإن نموذج ترامب ليس بلا جدوى، لكنه أيضا ليس وصفة سحرية. في الملفات التي تحتاج إلى صدمة أو تفاوض سريع قد يُنتج أرباحا آنية، لكنه في الملفات المركّبة والمعتمدة على الثقة التراكمية -مثل احتواء الصعود الصيني، وإنهاء الحرب في أوكرانيا، وتعديل النظام التجاري- يبدو كمَن يهدم ثم لا يقدر على إعادة البناء.
نظرية "الرجل المجنون": من نيكسون إلى ترامب
غير بعيد عن نموذج ترامب؛ تُعد "نظرية الرجل المجنون" أحد أكثر الأساليب التفاوضية إثارة للجدل في تاريخ السياسة الخارجية الأميركية.
تقوم النظرية على مبدأ بسيط في ظاهره، معقّد في تطبيقه، مفادُه أنك إذا أقنعت خصمك بأنك "غير عقلاني" بما يكفي لأن تتخذ قرارات مدمّرة، فإنه مدفوعا بالخوف سيقبل بالتراجع أو التنازل لتجنّب الأسوأ، إذ إن الناس عادة يسرعون لتجنب الخسائر أكثر مما يسارعون لجني المصالح. هنا ليست القوة وحدها هي الرادع، بل الإيحاء بأن تلك القوة ليست منضبطة، وأنها تحوي مزيجا من الجنون والغموض والانفعال.
تُنسب النظرية إلى الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون خلال حرب فيتنام ، حين أبلغ كبير موظفيه، هاري روبنز هالدمان، أنه يريد أن يظن الفيتناميون الشماليون بأنه "مجنون فعلا" ومستعد لاستخدام السلاح النووي إذا اقتضى الأمر.
"عليك أن تُقنعهم بأنني لا أسيطر على نفسي عندما أغضب، وأنه في أي لحظة يمكن أن أضغط الزر، سيخافون وسيرضخون لنا"، هكذا قال له نيكسون وفقا لمذكرات هالدمان. ورغم أن نيكسون أنكر لاحقا أنه قال ذلك حرفيا، فإن ما نقله هالدمان ظلّ حاضرا في الذاكرة السياسية الأميركية بمنزلة أصل هذه العقيدة الغامضة.
بيد أن الفكرةَ أقدمُ من نيكسون ذاته بكثير. في كتابه "نقاشات حول ليفي"، كتب نيقولا مكيافيللي: "أحيانا يكون من الحكمة أن تتظاهر بالجنون".
هذه الفكرة تبنّاها لاحقا مفكّرون في مجال الإستراتيجية، مثل توماس شيلينغ ودانيال إلسبرغ، خلال سنوات الحرب الباردة ، حين جادلوا بأن وجود شيء من اللاعقلانية أو عدم اليقين في سلوك القادة قد يجعل الخصم أكثر حذرا من الإقدام على التصعيد. لكن معظم هؤلاء المنظّرين لم يُوصوا أبدا باستخدامها بشكل فج، بل كانوا يعتبرونها احتمالا مؤقتا ضمن ألعاب الردع.
ومع البريق الذي يبدو محيطا بهذه النظرية، فإن أداءها تاريخيا لم يكن باهرا. فنيكسون نفسه، الذي سعى لتطبيقها مع فيتنام و الاتحاد السوفياتي ، لم يجنِ منها نتائج ملموسة؛ لم تتنازل هانوي، ولم ترتبك موسكو. السبب، كما خلص عدد من الباحثين، هو أن القادة في الطرف الآخر كانوا يعرفون تماما أن "الجنون المقصود" هو مجرد تكتيك، وأن واشنطن، رغم تهديداتها، تخضع لنظام بيروقراطي معقّد، ولرأي عام يصعب تجاهله. ولذا، فإن تهديدات نيكسون، رغم صخبها، بدت بلا أنياب.
لكن الأمر تغيّر مع دونالد ترامب. فالرجل لم يتقمّص دور المجنون، بل يُنظر إليه باعتباره كذلك حقا. يشرح دانيال دريزنر، في "فورين أفيرز"، أن ما كان "تمثيلا مقصودا" لدى نيكسون، بات لدى ترامب سِمة متأصلة في شخصيته السياسية، العديد من قادة العالم، من كوريا الجنوبية إلى كندا، يتعاملون مع ترامب على أنه "فعلا غير متوقع"، لا لأنه يريد ذلك، بل لأنه كذلك فعلا.
في المقابل، تشير الباحثة روزان ماكمانوس، في أبحاثها بجامعة بن ستيت، إلى أن "نظرية الرجل المجنون" قد تنجح فقط في حالات نادرة، عندما يكون القائد غير عقلاني حول قضية محددة، لا مجنونا بشكل عام. فإذا اعتقد الخصم أن الطرف الآخر يهتم بقضية واحدة بشراسة، فقد يُصدّق تهديده. أما إذا بدا أن السلوك المجنون هو جزء من الشخصية العامة، فإن التهديد يفقد مصداقيته، لأن الطرف الآخر لن يعرف متى يتوقف هذا الجنون، ولا متى يتحقق الاستقرار.
المشكلة الكبرى إذن ليست في زرع الخوف فقط، بل في القدرة على ضبطه أيضا، حيث تقتضي نظرية "الرجل المجنون" -حتى تنجح- أن تكون هناك طمأنة موازية للتهديد ومكافئة له، أي إن القائد يجب أن يقنع خصمه بأنه إذا استجاب فسوف يحصل على استقرار أو سلام دائم يستحق التنازل.
لكن من لا يستطيع ضبط سياسة "الرجل المجنون" لا يبعث على الطمأنة، ولا يستطيع أن يبني هذه الثقة مع من حوله. ولهذا، كما لاحظ دريزنر، فشلت معظم محاولات ترامب في انتزاع تسويات نهائية، لأنه لم يكن يُنظر إليه بوصفه شخصا يمكن الوثوق به حتى بعد الوصول إلى اتفاق.
في كل الأحوال، ليس في عالم السياسة ما يُفزع أكثر من رجل يملك زمام القوة ويتقن التلويح بإطلاق أعنّتها دون رادع ولا ضابط. هكذا بدا دونالد ترامب على المسرح الدولي؛ رجلٌ يفاوِض وكأن العالم طاولة قمار، يُصعّد ثم يتراجع، يهدد ثم يساوم، يختبر الحدود بينه وبين خصومه ليس من أجل احترامها، بل لإعادة رسمها وفق ما يريد. وأيًّا ما كانت نتائج هذا النهج، المزيد من الاتفاقات أم المزيد من الحروب، فإنه سيبقى النموذج الصاعد في السياسة الأميركية لسنوات قادمة، وعلى العالم أن يُجيد فهمه.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

5 تكتلات اقتصادية تعيد تشكيل العالم بعيدا عن الهيمنة الغربية
5 تكتلات اقتصادية تعيد تشكيل العالم بعيدا عن الهيمنة الغربية

الجزيرة

timeمنذ 3 ساعات

  • الجزيرة

5 تكتلات اقتصادية تعيد تشكيل العالم بعيدا عن الهيمنة الغربية

لم يعد النظام العالمي كما عهدناه، فزمن الأحادية القطبية يتراجع أمام صعود قوى جديدة تعيد تشكيل خرائط النفوذ والمصالح، وبعد عقود من هيمنة المؤسسات الغربية على المشهدين الاقتصادي والسياسي، بدأت قوى ناشئة من الشرق والجنوب تتحرك بهدوء لبناء تكتلات جديدة تعبّر عن أولوياتها، وتؤسس لتوازن دولي طال انتظاره. ومع دخول الألفية الثالثة، وخاصة خلال العقد الأول منها، تسارعت وتيرة هذه التحولات، وانتقلت التكتلات الناشئة من التنسيق السياسي المحدود إلى كيانات اقتصادية ومؤسسية تفرض نفسها على موازين القوى، وكان لآسيا الدور الأبرز في هذا التحول، وبرزت كمركز ثقل عالمي، ليس فقط بفضل نموها السكاني والاقتصادي، بل بقدرتها على تشكيل تحالفات مرنة تتجاوز الخلافات وتستثمر في المصالح المشتركة. لم يكن هذا التحول البنيوي معزولا عن تراجع واضح في أداء القوى الغربية، خاصة بعد أن بدأت الولايات المتحدة تُربك تحالفاتها التقليدية وتضعف منسوب الثقة بها، منذ وصول الرئيس دونالد ترامب إلى السلطة، فحتى أقرب الحلفاء بدأوا يبحثون عن بدائل أكثر استقرارا واستقلالية، وهو ما عزز من زخم هذه التكتلات. في هذا السياق، تتبلور أمامنا منظومات جديدة تتحدث بلغة التعاون لا الإملاء، والتنمية لا السيطرة، والمصالح المتبادلة لا التفوق الأحادي، وهو تحوّل يفرض على المنطقة العربية أن تعيد النظر في موقعها، كفاعل يمتلك ما يؤهله ليكون شريكا فاعلا في النظام الدولي الجديد. في هذا المقال، نستعرض أبرز هذه التكتلات الصاعدة الفاعلة، التي باتت اليوم واقعا مؤثرا في موازين القوى، ونتناول نشأتها وأهدافها والمشاركين فيها وتأثيرها، وما الذي يمكن للمنطقة العربية أن تتعلمه من نماذج هذه التكتلات. بدأت الولايات المتحدة تُربك تحالفاتها التقليدية وتضعف منسوب الثقة بها، منذ وصول الرئيس دونالد ترامب إلى السلطة، فحتى أقرب الحلفاء بدأوا يبحثون عن بدائل أكثر استقرارا واستقلالية. 1- رابطة الآسيان.. قوة إقليمية بتأثير عالمي تشكّل تحالف الآسيان عام 1967 بدافع مشترك لتعزيز الاستقرار الإقليمي والنمو الاقتصادي في مواجهة الانقسامات الأيديولوجية خلال الحرب الباردة. رابطة دول جنوب شرق آسيا، المعروفة باسم "الآسيان"، تأسست عبر "إعلان بانكوك" بـ5 دول: إندونيسيا، وماليزيا، وسنغافورة، وتايلند، والفلبين، ثم توسّعت لتشمل بروناي (1984)، وفيتنام (1995)، ولاوس وميانمار (1997)، وكمبوديا (2004)، ليصبح عدد أعضائها 10. وتضم الرابطة أكثر من 680 مليون نسمة، باقتصاد يتجاوز 3.6 تريليونات دولار (2024)، ما يجعلها خامس أكبر تكتل اقتصادي عالمي، ويُقدّر أن الطبقة المتوسطة فيها تجاوزت 400 مليون نسمة، ما يجعلها سوقا استهلاكية ضخمة. وبرزت الآسيان منذ الألفية الجديدة كقوة اقتصادية مؤثرة بفضل اتفاقيات التجارة الحرة وتحول دولها لمراكز صناعية في الإلكترونيات والمركبات والتكنولوجيا تجاوز حجم تجارتها الداخلية 850 مليار دولار (2023)، في حين بلغت تجارتها مع العالم 3.9 تريليونات دولار، تتصدرها الصين. وتُمثّل الآسيان قرابة 8% من التجارة العالمية. واستقطب التكتل نحو 224 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة عام 2022، متفوّقا بذلك على بعض التكتلات التقليدية مثل الاتحاد الأوروبي في بعض القطاعات، مع تسجيل نمو اقتصادي بلغ 4.5% عام 2023، وتوقعات بتجاوزه 5% عام 2025، وفقا لتقديرات صندوق النقد الدولي. ورغم التباين في اللغة والدين ونظم الحكم، تجاوزت الرابطة هذه الاختلافات بمنطق المصلحة الاقتصادية، ما جعلها نموذجا لتحالف مرن يصنع التوازن من دون صدام، رغم افتقارها لأدوات الضغط السياسي أو التكامل النقدي. ولا تسعى الآسيان للتوسع الجغرافي، بل لتعميق التكامل، وقد أقامت علاقات شراكة مع 11 طرفا دوليا ضمن "شركاء الحوار" تشمل الصين، والولايات المتحدة، وروسيا، والهند ، واليابان، والاتحاد الأوروبي، وأستراليا، في مجالات التجارة والأمن والثقافة، من دون عضوية ملزمة. 2- الشراكة الاقتصادية الشاملة.. تحالف آسيوي يغيّر قواعد التجارة العالمية تُعد اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة أكبر اتفاق تجارة حرة في العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي وعدد السكان. تضم الاتفاقية 15 دولة: الدول العشر الأعضاء في رابطة الآسيان، إضافة إلى الصين، واليابان، وكوريا الجنوبية، وأستراليا، ونيوزيلندا، وقد وُقّعت رسميا في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، بعد مفاوضات استمرت نحو 8 سنوات، وتغطي أكثر من 30% من الناتج المحلي العالمي، بإجمالي يفوق 29 تريليون دولار، وفقا لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وتمتد الاتفاقية على مساحة جغرافية ضخمة من جنوب شرق آسيا إلى المحيط الهادي، ويقطن دولها أكثر من 2.3 مليار نسمة، أي ما يعادل ثلث سكان العالم، ما يجعلها أكبر منطقة تجارة حرة من حيث عدد السكان. وتُقدّر التجارة البينية بين أعضائها بأكثر من 12.7 تريليون دولار سنويا، بما يمثل نحو 28% من التجارة العالمية، حسب بيانات منظمة التجارة العالمية. وتهدف الاتفاقية إلى خفض الرسوم الجمركية تدريجيا، وتوحيد قواعد التجارة والاستثمار، وتسهيل حركة السلع والخدمات، وتعزيز سلاسل الإمداد، ما يجعلها نموذجا متقدّما للتكامل الاقتصادي بقيادة الآسيان. وتُبرز الاتفاقية الفرق بين التعاون الاقتصادي الملزم، كما تنص عليه، وبين صيغة "شركاء الحوار" التي تعتمدها الآسيان مع قوى كبرى مثل الصين والولايات المتحدة، والتي تتيح تعاونا مرنا دون التزامات قانونية طويلة الأمد. وتكمن براعة الآسيان في قدرتها على إدارة علاقات متعددة المستويات، إذ تتعامل مع الشركاء أنفسهم كالصين في أكثر من إطار، ما يعكس مرونتها في توسيع نفوذها دون التقيد بنموذج واحد من التحالفات. مع تسارع التحولات الجيوسياسية العالمية، تبدو البريكس التكتل الأكثر نموا ومرونة، والأقدر على تقديم بديل متماسك للهيمنة الغربية على النظام الدولي. 3- تحالف البريكس بلس.. صعود اقتصادي يعيد رسم ملامح النظام العالمي انطلق تحالف البريكس رسميا عام 2009 بعضوية كل من البرازيل، وروسيا، والهند، والصين، ثم انضمت جنوب أفريقيا لاحقا، ليشكّل التكتل منصة تهدف إلى تعزيز صوت الدول النامية في مواجهة الهيمنة الغربية داخل المؤسسات المالية الدولية، والسعي إلى إنشاء بدائل تعبّر عن مصالح الدول الخارجة عن المنظومة الغربية التقليدية. وشهد التحالف توسعا غير مسبوق في يناير/كانون الثاني 2024 بانضمام كل من مصر، والإمارات، وإيران، وإثيوبيا كأعضاء دائمين، ثم التحقت إندونيسيا في يناير/كانون الثاني 2025، كما انضمت في العام ذاته 10 دول بصفة "شريك" في طريقها إلى العضوية الكاملة، وهي: بيلاروسيا، وبوليفيا، وكوبا، وكازاخستان، وماليزيا، ونيجيريا، وتايلند، وأوغندا ، وأوزبكستان، وفيتنام، وبهذا توسّعت مظلة "بريكس بلس" لتضم 20 دولة على 4 قارات. واليوم، تمثل دول البريكس وبريكس بلس ما يقارب 45% إلى 50% من سكان العالم (نحو 3.5 مليارات نسمة)، وتسهم بأكثر من 40% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي (وفق تعادل القوة الشرائية)، أي أكثر من خمسي الاقتصاد العالمي، وهو ما يضعها في موقع متقدم يتجاوز مجموعة السبع. كما تسجّل الكتلة نموا اقتصاديا ثابتا بمتوسط يتراوح بين 3.5 إلى 4% سنويا، وتشمل 3 من أكبر الاقتصادات الناشئة عالميا: الصين، والهند، والبرازيل. وقد عزز انضمام دول رئيسية منتجة للطاقة مثل الإمارات وإيران من الوزن الاقتصادي للتحالف، إذ تشير التقديرات إلى أن دول البريكس تسيطر على ما بين 30% و40% من إنتاج النفط العالمي، ونسبة مشابهة تقريبا في إنتاج الغاز، إلى جانب استحواذها على نحو 35 إلى 40% من تجارة السلع في العالم. وللخروج من الهيمنة المالية الغربية، أنشأ التحالف بنك التنمية الجديد، الذي موّل حتى الآن أكثر من 120 مشروعا تنمويا بقيمة إجمالية تجاوزت 39 مليار دولار، كما طُرحت مبادرات طموحة لإنشاء بورصة سلع مشتركة للطاقة والقمح، بهدف تقليل الاعتماد على الدولار الأميركي في التبادلات التجارية. ويمضي التحالف بخطى ثابتة نحو تعزيز التنسيق المؤسسي، من خلال البحث في إنشاء عملة موحدة وأمانة عامة دائمة، ومع تسارع التحولات الجيوسياسية العالمية، تبدو البريكس وبريكس بلس التكتل الأكثر نموا ومرونة، والأقدر على تقديم بديل متماسك للهيمنة الغربية على النظام الدولي. 4- تحالف شنغهاي.. توازن إقليمي على ربع مساحة العالم تأسّست منظمة شنغهاي للتعاون رسميا عام 2001، بعد انطلاقها 1996 كمجموعة "الخمس شنغهاي" بمبادرة من الصين وروسيا، وكازاخستان، وقرغيزستان، وطاجيكستان، وانضمت بعدها أوزبكستان عام 2001، ثم الهند وباكستان عام 2017، وإيران عام 2023، وبيلاروسيا عام 2024، ليصبح عدد الأعضاء 10 دول عبر آسيا الوسطى وجنوب آسيا وشرق أوروبا. وتمتد المنظمة جغرافيا من شرق الصين إلى أوروبا الشرقية، وتغطي نحو 24% من مساحة اليابسة عالميا، وتضم نحو 42% من سكان العالم (حوالي 3.4 مليارات نسمة). وتُنتج نحو 23% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بالأسعار الاسمية، و36% بالقوة الشرائية، مما يجعلها من أكبر التجمعات الديمغرافية والاقتصادية. وانطلقت المنظمة أمنيا لمكافحة الإرهاب، وتوسعت مجالاتها لتشمل الاقتصاد والطاقة والتكنولوجيا والنقل، مع تأسيس آلية مكافحة الإرهاب المشتركة عام 2004. وتتحكم المنظمة في ممرات إستراتيجية كبرى كالطريق الصيني الباكستاني، وممر "الشمال- الجنوب" الرابط بين روسيا وإيران والهند والخليج، بالإضافة إلى شبكات أنابيب الطاقة ومسارات "الحزام والطريق". ورغم هذا الثقل، تواجه تحديات غياب سوق اقتصادية موحدة، وتفاوت أنظمة الحكم والتنمية، وخصومة مثل تلك القائمة بين الهند وباكستان، ما يبطئ اتخاذ القرار. إعلان ولا تضم أي دولة عربية كعضو دائم، لكنها فتحت الباب أمام شراكات مع دول خليجية وعربية مثل السعودية والإمارات ومصر في الأمن والطاقة والبنية التحتية. ورغم أنها لا تملك بعد وزنا اقتصاديا أو تجاريا مشابها للآسيان أو بريكس، فإنها تلعب دورا إستراتيجيا متزايدا في إعادة تشكيل التوازن العالمي، في ظل التصاعد الشرق والغرب. وإذا طوّرت آليات اقتصادية فعالة، وعززت التماسك بين أعضائها، فقد تتحول إلى قوة أوراسية متكاملة تفرض نفسها كأحد أعمدة النظام الدولي الجديد. 5- أفريقيا.. التكتل القادم من الخلف في سباق التكتلات التي تعيد رسم خرائط النفوذ العالمي، تبدو أفريقيا كقوة ناعمة تتحرك بهدوء من الهامش نحو قلب المشهد، وليست بعد من القوى المؤثرة فعليا، لكن مقوّمات الصعود واضحة: قاعدة ديمغرافية كبيرة، وموارد طبيعية إستراتيجية، وإرادة سياسية متنامية لتعزيز التكامل القاري. وما يميز أفريقيا اليوم ليس ما وصلت إليه، بل ما يمكن أن تصبح عليه، ولنا في "الآسيان" عبرة كتكتل انطلق من تفاوت وفقر، ليصبح اليوم أحد أعمدة الاقتصاد الآسيوي، ورغم التحديات الكبرى، من ضعف المؤسسات إلى تفاوت مستويات التنمية، إلا أن التحولات الجارية تمنح من يقرأ المشهد جيدا فرصة نادرة: أن يدرك أن القوة القادمة لا تأتي دائما من الصفوف الأولى، بل من تكتل صبور يتقدّم بثبات من الخلف. العالم يتحرك بالتكتلات بعد استعراض أبرز التكتلات الفاعلة عالميا، يتّضح أن خارطة التحالفات الدولية تشهد تحوّلا جذريا، تقوده قوى صاعدة من آسيا والجنوب العالمي، لم تعد القوة تُقاس فقط بحجم الاقتصاد أو عدد السكان، بل بقدرة الدول على بناء شراكات ذكية وتكاملات واقعية. وتحالف مثل "الآسيان" نجح في تحويل دول متباينة في التاريخ والحجم إلى تكتل اقتصادي مرن، تتسابق إليه القوى الكبرى، وتُعد الاتفاقية الشاملة مع الصين نموذجا لهذا النوع من التعاون، إذ قامت على مبدأ المصالح المتبادلة، لا على التماثل السياسي أو القوة الاقتصادية وحدها. أما "البريكس"، فقد جمعت دولا متباينة في نُظم الحُكم والتوجهات والأيديولوجيات، لكن ما يوحّدها هو الرغبة في كسر احتكار النظام المالي العالمي، وقد بدأت ببناء أدوات بديلة تعبّر عن رؤيتها ومصالحها المشتركة، وتُظهر هذه النماذج أن التباين لا يُلغي إمكانية التعاون، بل يمكن تجاوزه إذا وُجدت الإرادة والهدف الواضح. في لحظة يتغيّر فيها العالم وتتراجع الهيمنة الغربية، تبرز أمام منطقتنا العربية فرصة حقيقية لبناء تكتلات قائمة على مصالح مشتركة، تضمن لنا موقعا فاعلا في النظام العالمي الجديد. دروس من تكتلات صاعدة ما نستخلصه من هذه التكتلات ليس مجرد صعود اقتصادي أو سياسي، بل دروس عملية في تجاوز الاختلافات نحو مصلحة مشتركة: أول هذه الدروس أن التكامل الاقتصادي يسبق التفاهم السياسي ويُمهّد له، فبعد أن مزّقت الحرب فرنسا وألمانيا، أدرك الطرفان أن المصالح المشتركة تصنع السلام، فأنشآ مصنعا للصلب يعتمد على موارد من البلدين، بحيث يصبح إيذاء أحدهما إيذاء للآخر ومن هذا الرباط نشأت نواة الاتحاد الأوروبي. الدرس الثاني: القوة الناعمة من تنمية وتبادل وشراكات، تفعل ما لا تفعله الجيوش، كثير من هذه التكتلات بنت حضورها بهدوء، عبر التعاون لا الصدام، ونجحت في إعادة رسم التوازنات. أما الثالث، هو أن الاختلاف بين الأعضاء لا يعيق العمل المشترك، بل يمكن أن يعززه إذا وُجد هدف واضح وإرادة جماعية. وما نحتاجه كعرب ليس تطابقا سياسيا، بل رؤية اقتصادية جماعية تقوم على المصالح المتبادلة. نملك المقومات: موارد، وموقع، وطاقات بشرية، لكننا نتحرك بشكل فردي في عالم لا يعترف إلا بالتكتلات، والمطلوب اليوم هو تحالف اقتصادي عربي موحّد يتحرك بفاعلية في ملفات الغذاء، والطاقة، والتكنولوجيا، وسلاسل الإمداد، ويملك من أدوات التأثير ما يجعل المساس بأمنه الاقتصادي خطا أحمر يُهدد الاستقرار العالمي. فالتكتلات لا تُبنى على التشابه، بل على الإرادة والتكامل، ومهما بلغت قوة الدولة، فهي كحاملة طائرات تحتاج إلى أسطول يحميها كذلك الدول، لا تتحصّن إلا بتحالفات. وفي لحظة يتغيّر فيها العالم وتتراجع الهيمنة الغربية، تبرز أمام منطقتنا العربية فرصة حقيقية لبناء تكتلات قائمة على مصالح مشتركة، تضمن لنا موقعا فاعلا في النظام العالمي الجديد، أما الاستمرار في التحرك الفردي، فقد يعني البقاء خارج المعادلة، فالتاريخ لا ينتظر أحدا، لكنه يُنصف من يُحسن الاستعداد.

أميركا قد ترحل مهاجرين إلى "بلدان ثالثة" بعد 6 ساعات من إخطارهم
أميركا قد ترحل مهاجرين إلى "بلدان ثالثة" بعد 6 ساعات من إخطارهم

الجزيرة

timeمنذ 3 ساعات

  • الجزيرة

أميركا قد ترحل مهاجرين إلى "بلدان ثالثة" بعد 6 ساعات من إخطارهم

قال مسؤول كبير في إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مذكرة نشرتها صحيفة واشنطن بوست إن مسؤولي الهجرة قد يرحّلون المهاجرين غير النظاميين إلى دول أخرى غير بلدانهم الأصلية بعد إخطارهم بمدة لا تتجاوز 6 ساعات. ونقلت وكالة رويترز أنه ورد في المذكرة اسم تود ليونز القائم بأعمال مدير إدارة إنفاذ قوانين الهجرة والجمارك الأميركية، والذي قال إن الإدارة ستنتظر 24 ساعة على الأقل قبل نقل شخص بعد إبلاغه بترحيله إلى "دولة ثالثة". ومع ذلك، جاء في المذكرة أن الإدارة بوسعها ترحيلهم بإشعار لا يتجاوز 6 ساعات "في ظروف مُلحّة"، إذا ما تم منح الشخص فرصة التحدث مع محام. وتنص المذكرة على أنه يمكن إرسال المهاجرين غير النظاميين إلى الدول التي "تتعهد بعدم اضطهادهم أو تعذيبهم". وتشير سياسة وكالة الهجرة والجمارك الجديدة إلى أن إدارة ترامب قد تتحرك بسرعة لإرسال المهاجرين غير النظاميين إلى دول مختلفة حول العالم. وكانت المحكمة العليا ألغت في يونيو/حزيران أمرا صادرا عن محكمة أدنى يحد من عمليات الترحيل هذه من دون فحص قضية الخوف من الاضطهاد في تلك الدول الثالثة. وبعد صدور قرار المحكمة العليا، أرسلت إدارة ترامب 8 مهاجرين ينحدرون من بلدان مختلفة إلى جنوب السودان. ولم يتم تحديد "الدولة الثالثة" التي سيتم ترحيل المهاجرين لها في المذكّرة، لكن رويترز ذكرت أن إدارة ترامب ضغطت الأسبوع الماضي على المسؤولين في 5 دول أفريقية، وهي ليبيريا والسنغال وغينيا بيساو وموريتانيا والغابون، لقبول المُرّحلين ممن يحملون جنسيات أخرى. وتعد قضية ترحيل المهاجرين غير النظاميين من أبرز الملفات التي روجها ترامب في حملته الانتخابية لولايته الرئاسية الثانية، وهو ما لاقى معارضة واسعة في الداخل الأميركي، آخرها الاحتجاجات التي اندلعت في لوس أنجلوس رفضا للسياسة التي تنفذها وكالة الهجرة والجمارك.

أهداف ترامب في أفريقيا
أهداف ترامب في أفريقيا

الجزيرة

timeمنذ 4 ساعات

  • الجزيرة

أهداف ترامب في أفريقيا

للوهلة الأولى قد يبدو للمهتّمين بدراسة النزاعات أن اتفاق السلام الذي تم التوقيع عليه في العاصمة واشنطن بين رواندا والكونغو الديمقراطية- أواخر يونيو/حزيران 2025 سعيًا لإنهاء واحدة من أطول الحروب في القارة الأفريقية- وكأنه امتداد للنهج الذي أعلن الرئيس ترامب تبنيه في تصفية النزاعات حول العالم وإحلال السلام. ودون التقليل من أهمية هذا الاتفاق على المستوى الأمني والإنساني، ومع تثبيت الجهود القطرية الكبيرة التي بُذلت للتوصل إليه، ولكن التعمق في واقع السياسة الأميركية تجاه القارة، وفي تتبع قصة الوصول لنقطة التوقيع بين البلدين سيُبيّن أن الأمر معقد أكثر مما يبدو عليه في الظاهر، وأن الدوافع والأسباب التي تقف وراء استضافة الولايات المتحدة الأميركية حفل التوقيع تلخص جوهر الاهتمام الأميركي بالقارة الأفريقية في عهد الرئيس ترامب في دورته الجديدة. فجمهورية الكونغو وجارتها زامبيا تمثلان نقطة التقاء التنافس الأميركي الصيني على الموارد والمعادن النادرة، إذ إن الكونغو وحدها تنتج 75% من معدن الكوبالت الذي يُستخدم في صناعة السيارات الكهربائية، بجانب موارد أخرى لا تقل أهمية كالنحاس واليورانيوم، وقد كان لافتًا ما ورد على لسان الرئيس ترامب بعد التوقيع على الاتفاقية حين قال: (ستحصل الولايات المتحدة على الكثير من حقوق المعادن في الكونغو). والأسئلة التي تُطرح هنا هل سينجح الاتفاق الحالي في نشر السلام وطي صفحة حرب الثلاثين عامًا، خاصة أن أكثر من 10 اتفاقيات سابقة انتهت إلى الفشل، ولماذا يسود التفاؤل بنجاح هذه المحاولة؟ والإجابة المباشرة عن هذا السؤال تتعلق بتدخل الولايات المتحدة بثقلها الكبير في هذا الملف مدفوعة بنظرة الرئيس ترامب لأفريقيا حيث تحكم سياسته فيها ثلاثة عوامل هي: تحويل العلاقة بين الولايات المتحدة والدول الأفريقية من بند المساعدات إلى بند التجارة. التركيز على المصالح المباشرة التي تعود على الولايات المتحدة بالنفع السريع، ولا سيما المواد الخام والمعادن ثم محاصرة النفوذ الروسي والصيني، والذي تمدد في القارة في السنوات الأخيرة. أخيرًا الانشغالات الأميركية الخاصة بمحاربة الجماعات الإرهابية وخاصة في الصومال ودول الساحل الأفريقي بجانب تأمين مسارات الهجرة غير الشرعية وغلق منافذها في القارة الأفريقية. ترامب وأفريقيا: هل من جديد؟ لفهم أكثر عمقًا وواقعية للعلاقات بين الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأفريقية خلال إدارة ترامب الحالية يجب النظر إلى عاملين رئيسين هما تجربة ترامب مع أفريقيا إبان ولايته الأولى، ومشروعه الانتخابي الذي يمكن اختصاره في ثلاث نقاط رئيسية هي: التركيز على جعل الولايات المتحدة عظيمة مرة أخرى، والانحياز إلى تيار العزلة النسبية مع التنازل عن نزوع التوسع والهيمنة الذي تتبناه تيارات أخرى داخل الحزب الجمهوري. كما أن ترامب وأنصاره غير متحمسين تمامًا لمشاريع الجمهوريين التي تسعى (لنشر الديمقراطية) والقيم الأميركية الأخرى حول العالم. فقد ورد في أجندة 2025 التي تكشفت بين يدي الحملة الانتخابية وتبنتها جهات متنفذة حول ترامب ما يلي: "على واشنطن أن تتوقف عن الترويج للسياسات الأميركية الضاغطة على الحكومات الأفريقية لاحترام سيادة القانون وحقوق الإنسان والحقوق السياسية والمدنية والديمقراطية التي لا تتقبلها الدول الأفريقية، لأنها تشعر أن ذلك تدخل في شؤونها الداخلية، ويجب على واشنطن التركيز على المشاركة الاقتصادية". اعتماد سياسة خارجية قائمة على الصفقات التي يعود ريعها سريعًا على الخزينة الأميركية المرهقة بالعجز والدين الداخلي، وذلك وفقًا لسياسة (مجهود أقل وعائد أكبر)، مع تجفيف المساعدات الأميركية للدول الأفريقية وغيرها، وتحويلها ما أمكن إلى التجارة واستغلال المعادن. فقد ورد في أجندة 2025 مقترحات تدعو إلى تحويل جميع منح المساعدات الأجنبية للمستفيدين الأفارقة إلى قروض، وإلغاء جميع برامج مساعدات التنمية، وتعزيز مشاركة القطاع الخاص الأميركي في القارة الأفريقية. حرصه على تسويق صورة شخصية تجمع بين الحزم والقوة، وفي نفس الوقت صورة رجل السلام الذي يعمل على إطفاء الحرائق الدولية وتسوية النزاعات بين الدول. وهو ما لخّصه ترامب بعبارة: (السلام عبر القوة)، وفي ذلك يروج أنصاره أنه يستحق جائزة نوبل للسلام لجهوده الكبيرة في منع وقوع حرب نووية بين الهند وباكستان، ودوره الأخير في الحرب الإسرائيلية الإيرانية. وبالنظر لهذه المرتكزات الأساسية وتقييم اهتمامات ترامب خلال الأشهر القليلة التي مضت من عمر ولايته الحالية، والقرارات التي اتخذها بحظر دخول رعايا سبع دول أفريقية، قبل أن يتبعها بتعميم شمل 25 دولة من أصل 36 تطلب منها الولايات المتحدة التدقيق بشأن إجراءات الهجرة وإلا واجهت مصيرًا مشابهًا لتلك السبع. هذا يؤكد أن إدارة ترامب لا تأبه كثيرًا بأي ردة فعل من دول القارة الأفريقية، ويأتي كل ذلك مقروءًا مع النهج الذي اتبعه في ولايته الأولى مع أفريقيا، والذي اتسم بالإهمال والازدراء. ولذلك لا يبدو أن القارة الأفريقية تمثل أولوية لإدارته إلا بقدر ما تمثله من أهمية لسياساتها المتعلقة بالبحث عن الفرص التجارية، ومحاصرة النفوذ الروسي والصيني، أو بمكافحة الإرهاب والمخاطر الأمنية التي ترى فيها الأجهزة الأمنية الأميركية خطرًا ماثلًا. يفسر هذا، دعوة الرئيس دونالد ترامب لقمة مصغرة تشارك فيها دول: موريتانيا، والغابون، وغينيا بيساو، وليبيريا، والسنغال، والتي أثارت تساؤلات كثيرة حول المعايير التي تم بها اختيار هذه الدول الصغيرة وغير المؤثرة في اقتصاد القارة وسياستها. ولكن التمعن في المشتركات التي تجمع هذه الدول يبدد تلك التساؤلات؛ فكلها تطل على المحيط بكل ما يمثل ذلك من فرص وتهديدات، كما تتمتع جميعًا بموارد كبيرة غير مستغلة وخاصة موارد الطاقة والمعادن النادرة، ويمكن أن تكون نموذجًا جيدًا لسياسته الجديدة في أفريقيا (التجارة بدلًا من المساعدات)، فضلًا عن وقوعها في المجال الجغرافي لتمدد النفوذ الروسي الآخذ في التوسع مؤخرًا. ابحث عن الصين قبل شهرين من توقيع اتفاقية السلام بين البلدين نقلت صحيفة فايننشال تايمز عن مسؤولين من جمهورية الكونغو الديمقراطية إمكانية التوصل إلى اتفاق مع واشنطن لتأمين استثمارات أميركية في المعادن الحيوية، مقابل دعم الولايات المتحدة جهود إنهاء الصراع في شرق البلاد. وقالت الصحيفة إن الاتفاق يمنح واشنطن حق الوصول إلى رواسب الليثيوم والكوبالت والكولتان، وصرح مستشار ترامب مسعد بولس قائلًا: "واشنطن تضغط من أجل توقيع اتفاق سلام بين الجانبين هذا الصيف، مصحوبًا باتفاقيات ثنائية للمعادن مع كل من البلدين". في العام 2007 وقعت الصين اتفاقًا اقتصاديًا مع دولة الكونغو عرف باتفاق (المناجم مقابل البنية التحتية)، وبموجب ذلك الاتفاق صارت الصين الحاضر الأبرز في قطاع المعادن الكونغولي، حيث تدير حاليًا حوالي 80% من مناجم النحاس، وتسيطر على 70% من قطاع التعدين، وعلى 60% من سوق بطاريات السيارات الكهربائية عالميًا. ومع الأهمية العالية لمعدن الكوبالت الذي يُستخدم في صناعة الهواتف والسيارات الكهربائية تعالج الصين وحدها 80% من هذا المعدن النادر، وفي العام 2024 أعلنت مجموعة سموك الصينية أكبر منتج للكوبالت في العالم عن أرباح قياسية، حيث قفز صافي الدخل بنسبة 64% ليصل إلى 1.9 مليار دولار. هذه الأرقام مزعجة جدًا للولايات المتحدة التي ترى في الكونغو نموذجًا مثاليًا لتطبيق سياستها الخاصة بالحصول على المعادن النادرة بأسعار رخيصة، وفي نفس الوقت التضييق على الصين في واحدة من أهم ملفات التسابق التجاري والصناعي بينهما. ولذلك فقد واصلت مساعيها لإخراج الصين من الكونغو الديمقراطية عبر الضغوط السياسية وتأليب الحكومة الكونغولية عليها للمناداة بإعادة تقييم الأسس التي قامت عليها اتفاقيات التعدين بين البلدين، وعبر دعم البنية التحتية وإعادة تأهيلها، ومسارات السكك الحديدية لتقليل تأثير الصين في سلاسل التوريد بالنسبة للمواد الخام. وفي العام 2022 نشرت (أويل برايس) الأميركية تقريرًا أشارت فيه (إلى أن الولايات المتحدة تعزز جهودها لعزل الصين في أفريقيا وعرقلة حصولها على أشباه الموصلات المتقدمة، كما تعمل واشنطن أيضًا على السيطرة على مصادر المعادن المستخدمة في التقنية في أفريقيا خاصة الكونغو الديمقراطية). ومما يلفت الأنظار هنا هو إعلان شركة (كوبولد ميتالز) الأميركية أنها ستوسع عملياتها في الكونغو الديمقراطية بعدما قامت فعلًا بشراء حصة للتعدين من شركة أسترالية هناك، وتساهم في شركة كوبولد ميتالز مجموعة من الشركات ورجال الأعمال الذين دعموا حملة ترامب الانتخابية. حرب السودان في الواجهة في ظل النشوة التي سيطرت على فريق ترامب بعد توقيع اتفاق السلام صرح مستشاره مسعد بولس بأن وزير الخارجية الأميركي مارك روبيو سيستضيف اجتماعًا يضم وزراء اللجنة الرباعية التي تضم السعودية، والإمارات، ومصر، والولايات المتحدة؛ لبحث الحرب في السودان، وهو الأمر الذي أكد عليه ترامب نفسه في اجتماعه مع القادة الأفارقة في واشنطن. ويأتي هذا الاهتمام بالملف السوداني بعد فترة من الإهمال وتركيز إدارة الرئيس ترامب على ملفات أخرى في الشرق الأوسط والحرب الروسية الأوكرانية، ومن واقع التحركات التي تمت في الفترة الأخيرة والتي من بينها زيارة رئيس مجلس السيادة عبدالفتاح البرهان جمهورية مصر العربية، وتنشيط تحالف "صمود" الذي يقوده الدكتور عبدالله حمدوك، يبدو أن هناك مساعيَ إقليمية تُبذل لبلورة مبادرة لإحياء التفاوض الذي توقف لفترة طويلة تحت مظلة المبادرة الأميركية السعودية في جدة. ولا يزال الوقت مبكرًا للإجابة عن نجاح اتفاق السلام بين الكونغو ورواندا، إذ إنه ورغم وقوف الدولة الكبرى خلفه فإن التحديات التي تحيط بالاتفاق وأطرافه صعبة للغاية، خاصة إذا علمنا أن هناك مناطق حيوية خارج سيطرة الدولتين والجماعات المتحالفة معهما. كما أن عدم الثقة الكبير بين الدولتين نتيجة الصراع الطويل قد لا يوفر البيئة المناسبة للتطبيق السلس لبنود الاتفاق، وخاصة تلك المتعلقة بجمع السلاح وتسريح الجماعات المسلحة المتناسلة. ومع كل تلك التحديات فإن الترحيب الذي قوبل به الاتفاق على المستوى الدولي سيوفر إرادة قوية لمحاولة صيانة المنطقة حتى لا تعود للحرب مرة أخرى. ونستطيع القول إن إدارة الرئيس ترامب تحاول في نسختها الجديدة تحويل القارة الأفريقية من مكان ميؤوس منه كما كان في دورتها الأولى إلى فرصة تستفيد منها الولايات المتحدة. وتلخص الطريقة التي تم بها دعوة خمسة من رؤساء الدول الأفريقية إلى البيت الأبيض النهج الأميركي في التعامل مع القارة، وهو تعظيم الفوائد الأميركية في القارة دون أن تلتزم بأي مساعدات، أو تقوم بفرض أي شروط سياسية تتعلق بالدمقرطة، وحقوق الإنسان كما كان في السابق. وستتحدد التدخلات الأميركية في كل النزاعات بهذا النهج الجديد والذي يمكن اختصاره تحت شعار: (التجارة بدلًا من المساعدات)، وبجانب التجارة فإن للولايات المتحدة مآربها التي لا يمكن أن تتنازل عنها كقوة دولية تسعى للمحافظة على نفوذها وريادتها.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store