شعور جيد ومريح
الذين يصدقون تحليلات الدويري وزملائه يفعلون ذلك لأن «الجزيرة» تمنحهم شعوراً طيباً، لدرجة الإدمان على تحليلاتها؛ شعوراً خفياً براحة الضمير، وإحساساً زائفاً بالعزة، ووعداً وهمياً بالنصر، وتبريراً لتقاعسهم عن فعل شيء حقيقي ومؤثر.
والذين يتابعون المثلثات الحمراء وقصص بطولات المقاومين، ومقتل الجنود الإسرائيليين، وتدمير الدبابات.. يفعلون ذلك لأن هذه الأخبار تمنحهم شعوراً جيداً؛ شعوراً يعوّض مشاهد الدمار والخراب ومقتل وإصابة وإعاقة وفقدان ونزوح وتشرد مليوني إنسان فلسطيني في غزة. بل وينسيهم ضياع غزة كلها..
وهذا ينطبق على من يميلون لأي تحليل يجعل إيران منتصرة وبطلة، وكذلك الذين يصفقون لأي محلل يتحدث عن «المسرحية»، وعن هزيمة إيران المنكرة، ودورها المشبوه.. وكما ينطبق على مؤيدي «المقاومة» بلا تحفظ، وعلى معارضي «المقاومة» في كل شاردة وواردة، بسبب وبلا سبب.
وأزيدكم من الشعر بيتاً، ينطبق على كل فرد حين يتبنى أي تيار، أو يقبل أي فكرة، أو يؤيد أي طرف، أو يعاديه، أو حتى يشجع فريقاً رياضياً.. المصدر الحقيقي وراء كل ذلك هو الشعور الداخلي.
عشرات الآلاف من «المجاهدين» الذين تورطوا في الحرب الأهلية في العراق وسورية وجاؤوا من عشرات البلدان العربية والأجنبية، جاؤوا من آخر الدنيا لأن أجواء الحرب تمنحهم شعوراً جيداً، شعوراً يجعلهم يقترفون جرائمهم بضمير مرتاح، وكل ما عليهم استبدال كلمات القتل والاغتصاب والسرقة بمسميات دينية.
الذين يتصدقون على الفقراء يفعلون ذلك لأن التصدق يمنحهم شعوراً طيباً، يشعرون بأنهم نالوا الأجر، وسينالون مقابل صدقاتهم قصراً في الجنة، بدليل أنهم لا يتصدقون إلا في رمضان، ولا ينتبهون لوجود فقراء إلا في رمضان.. لأن الأجر في هذا الشهر مضاعف.
والذين يفعلون الخير ويتبرعون بأموالهم وجهدهم (دون دافع ديني، ولا طلباً لأجر) يفعلون ذلك لأن التطوع أو التبرع يمنحهم شعوراً طيباً، وإحساساً بالرضا عن الذات.
المرأة حين تمنحها هرموناتها شعوراً إيجابياً مُرضياً تمنح نفسها وروحها لشريكها، وحين ينتكس شعورها تمتنع حتى عن مناولته ملعقة، أو تقريب طبق الأرز باتجاهه.. والرجل حين يتكدر مزاجه وتغلب عليه مشاعر الإحباط والسلبية يغدو عدوانياً نزقاً ولا يُطاق.
الأب الذي يضرب ابنه، والمعلم الذي يعنّف طلبته يفعل ذلك بدافع الشعور بالغضب، ثم يأتي عقله ويبرر له فعلته، بأنها بدافع الحب ومن أجل التربية.
المحقق الذي يعذب المعتقل أو المشبوه يفعل ذلك ليس بهدف انتزاع معلومة، أو الوصول إلى الحقيقة، أو لفك ملابسات قضية غامضة.. يعذب ويضرب ويقتل لأن ذلك يمنحه شعوراً بالرضا وربما المتعة.
الجندي وهو يقتل أعداءه يفعل ذلك بدافع الشعور بالكراهية والرغبة في الانتقام وإشفاء الغليل، ثم يقول إنه من أجل الحق والعدالة والحرية، أو في سبيل الله. والشرطي الذي يتعسف ويتجاوز ويعتدي يفعل ذلك بدافع الشعور بالكبت والغضب ثم يقول إنه من أجل سيادة القانون، والوزير والمدير العام يتلذذ بالتحكم في موظفيه والتنكيد عليهم ثم يقنع نفسه أنه فعل ذلك للمصلحة العامة.
والذي يجادلك بعصبية، ويحاول جاهداً إثبات صحة رأيه، وتسفيه رأيك المخالف له يفعل ذلك ليس بهدف الفهم، أو الوصول إلى قواسم مشتركة.. هو مستعد لطحنك وإخراجك من الملة للحصول على الشعور بالتوازن الداخلي، فمجرد وجود فكرة معارضة لما هو مستقر في عقله يعني هناك مصدر قلق واضطراب وصراع نفسي، وخشية من خسارة سكونه الداخلي.. ولا حل أمامه إلا بالهجوم القوي المضاد على كل ما يقلقه ويشعره بالاضطراب.
الشعراء والأدباء والعلماء والفنانون أنتجوا إبداعاتهم ليحصلوا على الشعور بالرضا، أي لدوافع شخصية بحتة، بصرف النظر عن أقوالهم وعن إيمانهم بالقضية التي يطرحونها، والتزامهم برسالة الفن والأدب والعلم.. الشعور هو الأساس، حتى لو تطلب ذلك تحطيم منافسيهم، رغم قناعتهم بأن منافسيهم ربما يقدمون شيئاً عظيماً للبشرية.
انضمامك لجماعة أو لحزب، واعتزازك بطائفتك أو قبيلتك عبارة عن استجابة لإحساس وشعور داخلي، ثم يأتي العقل بالتبريرات والتفسيرات وإيهامك أن خيارك صحيح ومنطقي.
المسألة كلها تتعلق بالشعور الداخلي، ومن بعد ذلك نضع لها التبريرات والمسوغات، ونجمّلها بالكلمات، ونزيد عليها بالشروح والفلسفات، ونزينها بالشعارات.. الشعور الداخلي هو المحرك الحقيقي، هو الدافع والواعز والبوصلة والمعيار والحكم، وما عدا ذلك قشور وهمية أو افتراضية ابتدعها الفلاسفة والمنظّرون وأصحاب الأيديولوجيات.
في واقع الأمر، كل ما تؤمن به، وكل مواقفك الشخصية، وتصوراتك وتوجهاتك، إقدامك على فعل شيء جيد، أو امتناعك عن فعل ما هو سيئ.. جميع ما سبق منبعه شيء واحد اسمه الشعور الداخلي، ومعياره ما يرضيك أو لا يرضيك، أو البحث عن الشعور بالرضا والسعادة.
دراسات علمية عديدة أشارت إلى وجود منطقة صغيرة في الدماغ مسؤولة عن الإحساس بالسعادة، وهذه المنطقة تتوهج (أو تنطفئ) كلما تصرف الإنسان على نحو ما، فمثلاً قد يشعر البعض بالسعادة إذا ساعد محتاجاً، أو إذا أدخل الفرحة لقلب بائس.. والبعض قد يشعر بالمتعة وهو يقتل ويعذب ويعتدي على الآخرين.. الدافع في الحالتين هو الشعور، قد يكون الشعور غامضاً (أو أنّ الشخص لم يدركه) لكن تجلياته تظهر في تلك المنطقة الصغيرة من الدماغ.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


معا الاخبارية
منذ 8 ساعات
- معا الاخبارية
لماذا يُصِّر ترامب على تبرئة نتنياهو؟!
توسيع حلف أبراهام يفترض مسألتين ضروريتين، الأولى وقف إطلاقالنار وإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، أما الثانية، فهو "الكلام"الغامض عن دولة فلسطينية دون "الكلام" عن إنهاء الاحتلال، ولهذا،تجد الرئيس الأمريكي يتدخل بطريقة غريبة، ولم تحصل فيالعلاقات بين الدول، من أجل تبرئة نتنياهو وإبعاد وصمة العار عنه،لتأهيله مرة أُخرى لخوض انتخابات جديدة والحصول على تفويضجديد من الجمهور الإسرائيلي، ونحن لا نعرف أبراهام، نحن نعرفالنبي إبراهيم الذي كشف زيف مدينة كاملة وحطّم أصنامها وهو مايزال شاباً غض الإيهاب، فحكموا عليه بالحرق حياً فأنجاه اللهتعالى، فأصبح حكاية لا يمحوها الزمن، ولكن تجارب النبي العظيملم تنتهي في أنه هزّ أركان مدينة وثنية كاملة، بل بحث عن معنىالله بعقله، فأتاه الوحي في قصة عكست قلق الإنسان الدائم وبحثهعن خالق الخلق باعتباره واجب الوجود، ولم تتوقف سيرة النبي إبراهيمورحلته الروحية التي لا مثيل لها، فقد أمره الوحي في الحلم أن يذبحابنه كدليل على إيمانه وصبره وتسليمه، فما كاد أن يفعل حتى تمافتداء النبي الوليد بذبح عظيم من السماء، وهي تجربة إنسانيةفريدة من نوعها، قدّمت للجنس البشري كله ماهيّة العلاقة بينالإنسان وخالقه، وانتهى إبراهيم في رحلته الروحية الموحية التي تقدمالنموذج الكامل للإنسان الباحث المفكر والمتأمل إلى أن يسأل عنكيفية الخلق، وكان أن تم تقديم الإجابة الإلهية النهائية أن الروح ترجعإلى خالقها محبةً واختياراً وخضوعاً وانقياداً، لهذا، أُعطى إبراهيمصحفاً كجائزة على بحثه وإيمانه وصبره، هذا هو النبي إبراهيم الذينعرفه، نبياً وإنساناً ومناضلاً ومضحياً بجسده أولاً ثم بجسد ابنه منأجل مرضاة الله لليس إلا، وبالتأكيد، فإن نبياً مثل هذا لن يقبل الظلمولا الضيم ولا غمض الحقوق ولا ضياع الأوطان، من حطم أصنامالمدينة ذات يوم لن يقبا أن يٌقيم أصناماً جديدة أُخرى. توسيع حلف أبراهام يَقصد دمج إسرائيل في المنطقة وقبولها والتعاملوالتعاون معها دون الالتفات إلى حقوق شعب كامل يتم تجاهله وقمعهوحصاره وتجريده من كل الحقوق الإنسانية بحدودها الدنيا، ونحن هنالا نقدم الدروس أو النصائح لأحد، ولكننا نحذر من أن الترتيب الرديءيقود إلى نتائج رديئة، من الواضح أن هناك تحركات دولية وإقليمية منأجل حلِّ ذي إطارٍ واسع تشارك فيه دول إقليمية أيضاً من أجل إعادةتشكيل المنطقة العربية والإسلامية عن طريق ما يسمى الآن السلام منخلال القوة، يعني بعد 22 شهراً من الحرب الضروس التي شنتهاإسرائيل على ثمانِ جبهات وليس سبعة، فإن إسرائيل مدعومة بالولاياتالمتحدة الأمريكية تريد أن تحصد ذلك سياسياً، من خلال توسيع دائرةالتطبيع مع العرب والمسلمين، وفي طريق تحقيق ذلك، لابد من تسويةالصراع الفلسطيني الإسرائيلي بوعودٍ كاذبة وترتيبات أمنية قاسية ومشاركة دولية إقليمية تضمن الإشراف والرقابة والمشاركة في عمليةتغيير هائلة للبنية الاجتماعية والهيكلة السياسية والوعي والاتجاهات،وهذا يعني أن ما يسمى توسيع حلف أبراهام يفترض تغييراً نوعياً فيالمجتمع الفلسطيني يشمل إعادة الخيارات السياسية والهدوء الأمنيوالسيطرة على منابع التمويل وإعادة الأولويات من خلال برمجة أُخرىللوعي، وتفصيل هذا الكلام يعني الانقلاب على كل ما تم إنجازه حتىالآن، لا دولة ولا نهاية للاحتلال ولا تواصل جغرافي، يرافق ذلك تدخلإقليمي وضم وطرد وهندسة ديموغرافية جديدة وجغرافية مختلفة، منخلال مستوطنات جديدة وشبكة طرق تخدم الأهداف الاستعمارية. توسيع حلف أبراهام يفترض أن يكون نتنياهو في السلطة حتى عام2028، ويفترض أن يتخلص من اليمين المتطرف واليمين الحريدي،ويفترض أيضاً أن يُبرَّأ أولاً ثم أن يأتي بالأمن والسلام معاً، ليتحولبعد ذلك إلى أول رئيس وزراء إسرائيلي يفعل ما لم يفعله حتى بنغوريون نفسه. لماذا يتدخل ترامب لصالح نتنياهو بهذا الشكل الحديث والعنيد إلىدرجة التهديد بالتمويل أو الدعم العسكري؟! ما الذي يدفع رئيس دولةعظمى إلى مثل هذا الموقف الغريب؟! هل هو الطموح الشخصي بأنيكون صانع سلام عالمي؟ أم هو ضغط اللوبيات اليهودية والصهيونية؟أم هي دوافع دينية يرى ترامب من ورائها أن يكون شخصية محوريةتوراتية في تاريخ "شعب مقدس" كما يدّعي؟ أم هي دوافع اقتصاديةبحتة يريد من خلالها أن يجعل منطقتنا منطقة هادئة لاستغلالواستنزاف ثرواتها بهدوء، وتحويلها إلى محور اتصالات عالمية تغيرطرق التجارة العالمية؟ أم أن الدوافع هي كل ما سبق ذكره آنفاً؟ أعتقد شخصاً أن هناك إنضاج لتسوية جزئية في قطاع غزة تريدهاكل الأطراف، ترامب يريدها ليستكمل نجاحاته الدبلوماسية في الهندوباكستان وإيران والكونغو ورواندا، الجمهور والمعارضة الإسرائيلية تريدها، حتى أعضاء من حكومة نتنياهو يريدونها، ويبدو أن المستوىالعسكري أيضاً يمهد للتسوية بالقول إن أهداف حملة عربات جدعونقد تم تحقيقها باحتلال ثلاثة أرباع القطاع، وأن استمرار هذه الحملةسيضر بالأسرى، وكأنهم اكتشفوا ذلك الآن، فهل محاولة تبرئة نتنياهوهي جائزة تقدم له من أجل القبول بهذه التسوية المُرة جداً في بلعومه؟ مهما كانت الأسباب، فإننا نحن الشعب الفلسطيني لن نكونالخاسرين في أي صفقة يتم التوصل إليها إقليمياً، قد نُظلم وقدنستبعد وقد تغمط حقوقنا، ولكننا بالتأكيد نؤمن بالنبي إبراهيم الذيقال للملك الكافر المعاند (إن الله يأتي بالشمس من المشرق فاِت بها منالمغرب)، تماماً مثل يومنا هذا، هذا شعبي مظلوماً ومقهوراً، ولكنه باقٍ.


جريدة الايام
منذ 16 ساعات
- جريدة الايام
تاريخ النشر: 30 حزيران 2025
الذين يصدقون تحليلات الدويري وزملائه يفعلون ذلك لأن «الجزيرة» تمنحهم شعوراً طيباً، لدرجة الإدمان على تحليلاتها؛ شعوراً خفياً براحة الضمير، وإحساساً زائفاً بالعزة، ووعداً وهمياً بالنصر، وتبريراً لتقاعسهم عن فعل شيء حقيقي ومؤثر. والذين يتابعون المثلثات الحمراء وقصص بطولات المقاومين، ومقتل الجنود الإسرائيليين، وتدمير الدبابات.. يفعلون ذلك لأن هذه الأخبار تمنحهم شعوراً جيداً؛ شعوراً يعوّض مشاهد الدمار والخراب ومقتل وإصابة وإعاقة وفقدان ونزوح وتشرد مليوني إنسان فلسطيني في غزة. بل وينسيهم ضياع غزة كلها.. وهذا ينطبق على من يميلون لأي تحليل يجعل إيران منتصرة وبطلة، وكذلك الذين يصفقون لأي محلل يتحدث عن «المسرحية»، وعن هزيمة إيران المنكرة، ودورها المشبوه.. وكما ينطبق على مؤيدي «المقاومة» بلا تحفظ، وعلى معارضي «المقاومة» في كل شاردة وواردة، بسبب وبلا سبب. وأزيدكم من الشعر بيتاً، ينطبق على كل فرد حين يتبنى أي تيار، أو يقبل أي فكرة، أو يؤيد أي طرف، أو يعاديه، أو حتى يشجع فريقاً رياضياً.. المصدر الحقيقي وراء كل ذلك هو الشعور الداخلي. عشرات الآلاف من «المجاهدين» الذين تورطوا في الحرب الأهلية في العراق وسورية وجاؤوا من عشرات البلدان العربية والأجنبية، جاؤوا من آخر الدنيا لأن أجواء الحرب تمنحهم شعوراً جيداً، شعوراً يجعلهم يقترفون جرائمهم بضمير مرتاح، وكل ما عليهم استبدال كلمات القتل والاغتصاب والسرقة بمسميات دينية. الذين يتصدقون على الفقراء يفعلون ذلك لأن التصدق يمنحهم شعوراً طيباً، يشعرون بأنهم نالوا الأجر، وسينالون مقابل صدقاتهم قصراً في الجنة، بدليل أنهم لا يتصدقون إلا في رمضان، ولا ينتبهون لوجود فقراء إلا في رمضان.. لأن الأجر في هذا الشهر مضاعف. والذين يفعلون الخير ويتبرعون بأموالهم وجهدهم (دون دافع ديني، ولا طلباً لأجر) يفعلون ذلك لأن التطوع أو التبرع يمنحهم شعوراً طيباً، وإحساساً بالرضا عن الذات. المرأة حين تمنحها هرموناتها شعوراً إيجابياً مُرضياً تمنح نفسها وروحها لشريكها، وحين ينتكس شعورها تمتنع حتى عن مناولته ملعقة، أو تقريب طبق الأرز باتجاهه.. والرجل حين يتكدر مزاجه وتغلب عليه مشاعر الإحباط والسلبية يغدو عدوانياً نزقاً ولا يُطاق. الأب الذي يضرب ابنه، والمعلم الذي يعنّف طلبته يفعل ذلك بدافع الشعور بالغضب، ثم يأتي عقله ويبرر له فعلته، بأنها بدافع الحب ومن أجل التربية. المحقق الذي يعذب المعتقل أو المشبوه يفعل ذلك ليس بهدف انتزاع معلومة، أو الوصول إلى الحقيقة، أو لفك ملابسات قضية غامضة.. يعذب ويضرب ويقتل لأن ذلك يمنحه شعوراً بالرضا وربما المتعة. الجندي وهو يقتل أعداءه يفعل ذلك بدافع الشعور بالكراهية والرغبة في الانتقام وإشفاء الغليل، ثم يقول إنه من أجل الحق والعدالة والحرية، أو في سبيل الله. والشرطي الذي يتعسف ويتجاوز ويعتدي يفعل ذلك بدافع الشعور بالكبت والغضب ثم يقول إنه من أجل سيادة القانون، والوزير والمدير العام يتلذذ بالتحكم في موظفيه والتنكيد عليهم ثم يقنع نفسه أنه فعل ذلك للمصلحة العامة. والذي يجادلك بعصبية، ويحاول جاهداً إثبات صحة رأيه، وتسفيه رأيك المخالف له يفعل ذلك ليس بهدف الفهم، أو الوصول إلى قواسم مشتركة.. هو مستعد لطحنك وإخراجك من الملة للحصول على الشعور بالتوازن الداخلي، فمجرد وجود فكرة معارضة لما هو مستقر في عقله يعني هناك مصدر قلق واضطراب وصراع نفسي، وخشية من خسارة سكونه الداخلي.. ولا حل أمامه إلا بالهجوم القوي المضاد على كل ما يقلقه ويشعره بالاضطراب. الشعراء والأدباء والعلماء والفنانون أنتجوا إبداعاتهم ليحصلوا على الشعور بالرضا، أي لدوافع شخصية بحتة، بصرف النظر عن أقوالهم وعن إيمانهم بالقضية التي يطرحونها، والتزامهم برسالة الفن والأدب والعلم.. الشعور هو الأساس، حتى لو تطلب ذلك تحطيم منافسيهم، رغم قناعتهم بأن منافسيهم ربما يقدمون شيئاً عظيماً للبشرية. انضمامك لجماعة أو لحزب، واعتزازك بطائفتك أو قبيلتك عبارة عن استجابة لإحساس وشعور داخلي، ثم يأتي العقل بالتبريرات والتفسيرات وإيهامك أن خيارك صحيح ومنطقي. المسألة كلها تتعلق بالشعور الداخلي، ومن بعد ذلك نضع لها التبريرات والمسوغات، ونجمّلها بالكلمات، ونزيد عليها بالشروح والفلسفات، ونزينها بالشعارات.. الشعور الداخلي هو المحرك الحقيقي، هو الدافع والواعز والبوصلة والمعيار والحكم، وما عدا ذلك قشور وهمية أو افتراضية ابتدعها الفلاسفة والمنظّرون وأصحاب الأيديولوجيات. في واقع الأمر، كل ما تؤمن به، وكل مواقفك الشخصية، وتصوراتك وتوجهاتك، إقدامك على فعل شيء جيد، أو امتناعك عن فعل ما هو سيئ.. جميع ما سبق منبعه شيء واحد اسمه الشعور الداخلي، ومعياره ما يرضيك أو لا يرضيك، أو البحث عن الشعور بالرضا والسعادة. دراسات علمية عديدة أشارت إلى وجود منطقة صغيرة في الدماغ مسؤولة عن الإحساس بالسعادة، وهذه المنطقة تتوهج (أو تنطفئ) كلما تصرف الإنسان على نحو ما، فمثلاً قد يشعر البعض بالسعادة إذا ساعد محتاجاً، أو إذا أدخل الفرحة لقلب بائس.. والبعض قد يشعر بالمتعة وهو يقتل ويعذب ويعتدي على الآخرين.. الدافع في الحالتين هو الشعور، قد يكون الشعور غامضاً (أو أنّ الشخص لم يدركه) لكن تجلياته تظهر في تلك المنطقة الصغيرة من الدماغ.

جريدة الايام
منذ 17 ساعات
- جريدة الايام
شعور جيد ومريح
الذين يصدقون تحليلات الدويري وزملائه يفعلون ذلك لأن «الجزيرة» تمنحهم شعوراً طيباً، لدرجة الإدمان على تحليلاتها؛ شعوراً خفياً براحة الضمير، وإحساساً زائفاً بالعزة، ووعداً وهمياً بالنصر، وتبريراً لتقاعسهم عن فعل شيء حقيقي ومؤثر. والذين يتابعون المثلثات الحمراء وقصص بطولات المقاومين، ومقتل الجنود الإسرائيليين، وتدمير الدبابات.. يفعلون ذلك لأن هذه الأخبار تمنحهم شعوراً جيداً؛ شعوراً يعوّض مشاهد الدمار والخراب ومقتل وإصابة وإعاقة وفقدان ونزوح وتشرد مليوني إنسان فلسطيني في غزة. بل وينسيهم ضياع غزة كلها.. وهذا ينطبق على من يميلون لأي تحليل يجعل إيران منتصرة وبطلة، وكذلك الذين يصفقون لأي محلل يتحدث عن «المسرحية»، وعن هزيمة إيران المنكرة، ودورها المشبوه.. وكما ينطبق على مؤيدي «المقاومة» بلا تحفظ، وعلى معارضي «المقاومة» في كل شاردة وواردة، بسبب وبلا سبب. وأزيدكم من الشعر بيتاً، ينطبق على كل فرد حين يتبنى أي تيار، أو يقبل أي فكرة، أو يؤيد أي طرف، أو يعاديه، أو حتى يشجع فريقاً رياضياً.. المصدر الحقيقي وراء كل ذلك هو الشعور الداخلي. عشرات الآلاف من «المجاهدين» الذين تورطوا في الحرب الأهلية في العراق وسورية وجاؤوا من عشرات البلدان العربية والأجنبية، جاؤوا من آخر الدنيا لأن أجواء الحرب تمنحهم شعوراً جيداً، شعوراً يجعلهم يقترفون جرائمهم بضمير مرتاح، وكل ما عليهم استبدال كلمات القتل والاغتصاب والسرقة بمسميات دينية. الذين يتصدقون على الفقراء يفعلون ذلك لأن التصدق يمنحهم شعوراً طيباً، يشعرون بأنهم نالوا الأجر، وسينالون مقابل صدقاتهم قصراً في الجنة، بدليل أنهم لا يتصدقون إلا في رمضان، ولا ينتبهون لوجود فقراء إلا في رمضان.. لأن الأجر في هذا الشهر مضاعف. والذين يفعلون الخير ويتبرعون بأموالهم وجهدهم (دون دافع ديني، ولا طلباً لأجر) يفعلون ذلك لأن التطوع أو التبرع يمنحهم شعوراً طيباً، وإحساساً بالرضا عن الذات. المرأة حين تمنحها هرموناتها شعوراً إيجابياً مُرضياً تمنح نفسها وروحها لشريكها، وحين ينتكس شعورها تمتنع حتى عن مناولته ملعقة، أو تقريب طبق الأرز باتجاهه.. والرجل حين يتكدر مزاجه وتغلب عليه مشاعر الإحباط والسلبية يغدو عدوانياً نزقاً ولا يُطاق. الأب الذي يضرب ابنه، والمعلم الذي يعنّف طلبته يفعل ذلك بدافع الشعور بالغضب، ثم يأتي عقله ويبرر له فعلته، بأنها بدافع الحب ومن أجل التربية. المحقق الذي يعذب المعتقل أو المشبوه يفعل ذلك ليس بهدف انتزاع معلومة، أو الوصول إلى الحقيقة، أو لفك ملابسات قضية غامضة.. يعذب ويضرب ويقتل لأن ذلك يمنحه شعوراً بالرضا وربما المتعة. الجندي وهو يقتل أعداءه يفعل ذلك بدافع الشعور بالكراهية والرغبة في الانتقام وإشفاء الغليل، ثم يقول إنه من أجل الحق والعدالة والحرية، أو في سبيل الله. والشرطي الذي يتعسف ويتجاوز ويعتدي يفعل ذلك بدافع الشعور بالكبت والغضب ثم يقول إنه من أجل سيادة القانون، والوزير والمدير العام يتلذذ بالتحكم في موظفيه والتنكيد عليهم ثم يقنع نفسه أنه فعل ذلك للمصلحة العامة. والذي يجادلك بعصبية، ويحاول جاهداً إثبات صحة رأيه، وتسفيه رأيك المخالف له يفعل ذلك ليس بهدف الفهم، أو الوصول إلى قواسم مشتركة.. هو مستعد لطحنك وإخراجك من الملة للحصول على الشعور بالتوازن الداخلي، فمجرد وجود فكرة معارضة لما هو مستقر في عقله يعني هناك مصدر قلق واضطراب وصراع نفسي، وخشية من خسارة سكونه الداخلي.. ولا حل أمامه إلا بالهجوم القوي المضاد على كل ما يقلقه ويشعره بالاضطراب. الشعراء والأدباء والعلماء والفنانون أنتجوا إبداعاتهم ليحصلوا على الشعور بالرضا، أي لدوافع شخصية بحتة، بصرف النظر عن أقوالهم وعن إيمانهم بالقضية التي يطرحونها، والتزامهم برسالة الفن والأدب والعلم.. الشعور هو الأساس، حتى لو تطلب ذلك تحطيم منافسيهم، رغم قناعتهم بأن منافسيهم ربما يقدمون شيئاً عظيماً للبشرية. انضمامك لجماعة أو لحزب، واعتزازك بطائفتك أو قبيلتك عبارة عن استجابة لإحساس وشعور داخلي، ثم يأتي العقل بالتبريرات والتفسيرات وإيهامك أن خيارك صحيح ومنطقي. المسألة كلها تتعلق بالشعور الداخلي، ومن بعد ذلك نضع لها التبريرات والمسوغات، ونجمّلها بالكلمات، ونزيد عليها بالشروح والفلسفات، ونزينها بالشعارات.. الشعور الداخلي هو المحرك الحقيقي، هو الدافع والواعز والبوصلة والمعيار والحكم، وما عدا ذلك قشور وهمية أو افتراضية ابتدعها الفلاسفة والمنظّرون وأصحاب الأيديولوجيات. في واقع الأمر، كل ما تؤمن به، وكل مواقفك الشخصية، وتصوراتك وتوجهاتك، إقدامك على فعل شيء جيد، أو امتناعك عن فعل ما هو سيئ.. جميع ما سبق منبعه شيء واحد اسمه الشعور الداخلي، ومعياره ما يرضيك أو لا يرضيك، أو البحث عن الشعور بالرضا والسعادة. دراسات علمية عديدة أشارت إلى وجود منطقة صغيرة في الدماغ مسؤولة عن الإحساس بالسعادة، وهذه المنطقة تتوهج (أو تنطفئ) كلما تصرف الإنسان على نحو ما، فمثلاً قد يشعر البعض بالسعادة إذا ساعد محتاجاً، أو إذا أدخل الفرحة لقلب بائس.. والبعض قد يشعر بالمتعة وهو يقتل ويعذب ويعتدي على الآخرين.. الدافع في الحالتين هو الشعور، قد يكون الشعور غامضاً (أو أنّ الشخص لم يدركه) لكن تجلياته تظهر في تلك المنطقة الصغيرة من الدماغ.