
الشرق الأوسط الجديد.. الاقتصاد يرسم ملامح ما بعد الحرب
نحن اليوم أمام لحظة إعادة تشكل تاريخية، لكنها لا تأتي عبر الحروب وحدها، بل عبر المعادلات الاقتصادية الجديدة، والتكنولوجيا، وتبدلات التموضع الجيوسياسي.
الشرق الأوسط الجديد لا يُرسم هذه المرة على الورق فحسب، بل يعاد تشكيله على الأرض عبر مشاريع وممرات وقرارات مالية ومصالح تتجاوز منطق القوة العسكرية إلى منطق الكفاءة الاقتصادية، وتنتقل من الجغرافيا الدموية إلى الجغرافيا الربحية.
التحولات الاقتصادية التي نراها اليوم لم تولد فجأة، بل كانت نتائج تراكمية لأحداث مفصلية. فمنذ بداية الألفية، بدأ الاهتمام العالمي بالمنطقة يتبدل تدريجيًا.
بعد غزو العراق عام 2003، تبيّن أن الهيمنة العسكرية المباشرة مكلفة وغير مستدامة، وهو ما أدى لاحقًا إلى التحولات التي رسخها الانسحاب الأميركي من أفغانستان عام 2021، والذي مثل إعلانا واضحا عن بداية تقليص النفوذ العسكري الأميركي في المنطقة، مقابل تصاعد نفوذ قوى أخرى مثل الصين وروسيا، وتمدد النفوذ الاقتصادي والتكنولوجي لقوى إقليمية كالسعودية، والإمارات، وتركيا.
اليوم، نشهد بوضوح كيف أن مشاريع عملاقة، مثل "طريق الهند– الشرق الأوسط– أوروبا"، ومبادرة "الحزام والطريق" الصينية، ومحور الربط التجاري بين الخليج وتركيا وأوروبا عبر العراق والأردن، كلها ليست مجرد مشاريع بنى تحتية أو لوجستية، بل بمنزلة عقود تأسيس لشرق أوسط اقتصادي جديد. لم تعد المعارك تدور فقط على خطوط النار، بل أيضا على خطوط السكك الحديدية، وأسعار الغاز الطبيعي، ومواضع مراكز البيانات، وسلاسل التوريد.
من خلال الاقتصاد
ولفهم شكل الشرق الأوسط الجديد، لا بد أن نقرأه من خلال العدسة الاقتصادية، لا الأمنية فحسب. فالمنطقة التي عُرفت لعقود طويلة بوصفها منبعا لصادرات الطاقة ومسرحا دائما للحروب، باتت الآن تتصارع على موقعها في مستقبل الاقتصاد العالمي. فالسعودية مثلًا، التي كانت تعتمد على النفط بنسبة تتجاوز 90% من عائداتها العامة حتى 2015، نجحت عبر رؤية 2030 في خفض تلك النسبة تدريجيا بتنويع مصادر الدخل، وجذب استثمارات غير نفطية تجاوزت 30 مليار دولار سنويا، واستحداث مشاريع مستقبلية كمدينة "نيوم" التي تبلغ ميزانيتها التقديرية نحو 500 مليار دولار، لتكون مركزا عالميًا للذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة والاقتصاد الأخضر.
الإمارات بدورها سبقت في هذا المضمار، فتحولت إلى مركز مالي وتجاري عالمي، يضاهي في بعض مؤشراته سنغافورة وهونغ كونغ، وأسست منظومة اقتصادية متكاملة مبنية على الابتكار والتكنولوجيا والخدمات اللوجستية.
أما قطر، فقد استخدمت فائضها المالي في بناء شبكة نفوذ طاقوي وسياسي وإعلامي متكاملة، تمتد من أوروبا إلى آسيا، مستفيدة من مكانتها كونها أكبر مصدر للغاز الطبيعي المسال في العالم.
لكن في مقابل هذا التحول الإيجابي، هناك اقتصادات لا تزال تصارع من أجل البقاء وسط هذا الطوفان، وفي مقدمتها العراق، الذي يمتلك ثاني أكبر احتياطي نفطي في المنطقة بعد السعودية، وثروات طبيعية وبشرية هائلة، وموقع إستراتيجي يمكن أن يجعله عقدة لوجستية تربط آسيا بأوروبا، والخليج بتركيا، بيد أن سوء الإدارة والفساد وغياب الاستقرار السياسي، جعلته حتى اليوم يعتمد على النفط بأكثر من 92% من موازنته، مع عجز مزمن عن جذب الاستثمارات الأجنبية الكبرى، وتباطؤ واضح في مشاريع التحول الرقمي والتنمية المستدامة.
وهو ما يعني أن العراق، رغم ما يملكه من أوراق، لا يزال يقف على حافة الفرصة، إما أن يدخل نادي الشرق الأوسط الجديد عبر بوابة الإصلاح والانفتاح، أو يُترك في الهامش كنقطة عبور بين صاعدين آخرين.
زلزال جيواقتصادي
التحول الأبرز الذي عجل في إعادة تشكيل المنطقة كان العدوان الإسرائيلي على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023. ذلك الحدث الذي ظن كثيرون أنه مجرد جولة جديدة في الصراع الدائر في فلسطين، تبين لاحقًا أنه زلزال جيواقتصادي حقيقي.
الحرب أخرجت جماعة الحوثي في اليمن إلى واجهة التأثير العالمي عبر استهداف الملاحة في البحر الأحمر، مما أدى إلى تراجع إيرادات قناة السويس بنسبة 17% في النصف الأول من عام 2024، واضطراب سلاسل الإمداد العالمية. كما تسبب القصف الإسرائيلي المكثف والتوغل البري في غزة في تدمير البنية التحتية بالكامل، وعرقلة مشاريع التطبيع والربط الاقتصادي بين إسرائيل ودول الخليج، التي كانت في طور التبلور.
إسرائيل نفسها، التي كانت تراهن على تحولها إلى مركز اقتصادي وتكنولوجي إقليمي، تلقت ضربة اقتصادية عنيفة، إذ تراجعت الاستثمارات الأجنبية بنسبة 60% خلال أقل من 9 أشهر، وتكبدت أكثر من 70 مليار دولار في خسائر مباشرة وغير مباشرة، إضافة إلى استنزاف الموازنة العامة وخسائر في سوق العمل.
هذا الانكشاف أثبت أن الاستقرار هو العمود الفقري لأي نهضة اقتصادية، وأن الحروب لم تعد مجرد معارك سياسية، بل تؤثر مباشرة على التموضع في النظام الاقتصادي العالمي.
الجغرافيا الاقتصادية
ما يحدث اليوم تمكن مقارنته بلحظة ما بعد الحرب العالمية الأولى، حين أعادت القوى الكبرى رسم المنطقة وفق توازناتها الاستعمارية، لكن الفرق أن تلك الخريطة رسمت على الطاولة، أما خارطة اليوم فهي ترسم على الأرض، عبر المشاريع والتحولات التكنولوجية والتشابكات الاقتصادية. في السابق، كانت الجغرافيا السياسية هي الحاكمة، أما الآن فقد باتت الجغرافيا الاقتصادية هي البوصلة الجديدة.
وفي ضوء هذه المعطيات، يمكننا أن نرسم سقفا زمنيا منطقيا لظهور الملامح الكاملة للشرق الأوسط الجديد. فبحلول عام 2030، ستكون معظم مشاريع الربط الاقتصادي، مثل ممر الهند – الخليج– أوروبا، وميناء الفاو الكبير في العراق، ومنصات نيوم الرقمية، قد بدأت فعليًا بالعمل، وسيتحدد حينها من هم اللاعبون الرئيسيون في المنطقة.
أما بين 2030 و2035، فستكون مرحلة الاختبار الجدي للتماسك الاقتصادي، خاصة في ظل التحديات المناخية، والتحول في الطلب العالمي على الطاقة، والضغط الديمغرافي. وإذا لم تستطع بعض الدول أن تكيّف اقتصاداتها مع هذه التحديات، فإنها ستكون مرشحة إما للفوضى أو التبعية أو التهميش.
وبحلول عام 2040، سيبرز شرق أوسط مختلف جذريًا، شرق أوسط تقاس فيه القوة ليس بعدد الجنود أو صفقات السلاح، بل بما يلي:
حجم البيانات المتداولة.
قدرة الموانئ.
عدد الشركات الناشئة.
مؤشرات الابتكار.
حجم رؤوس الأموال العابرة.
من سيفهم هذه اللغة الجديدة ويدخلها بذكاء، سيكون له مكان في هذا المستقبل، ومن يظل أسير لغة الماضي، لن يكون سوى متفرج على ما كان يمكن أن يكون.
إن الشرق الأوسط الجديد ليس حتميا ولا جاهزا، بل هو مشروع قيد التشكيل، ويمكن لكل دولة أن تختار مكانها فيه. والفرص لا تزال ممكنة، لكنها لا تنتظر طويلاً.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 38 دقائق
- الجزيرة
العراق يطلق مشروعا لإصدار بطاقة دفع إلكتروني محلية
بغداد- أطلق العراق مشروعا لإصدار بطاقة دفع إلكتروني محلية، مستهدفا تعزيز الثقة المالية بين الجمهور والحكومة، ضمن مساعي بغداد لتعزيز البنية التحتية الرقمية وتوفير حلول دفع إلكتروني آمنة وموثوقة تدعم الاقتصاد الوطني. وأكد البنك المركزي العراقي -في خطاب رسمي موجه إلى جميع المصارف وشركات الدفع الإلكتروني- أن هذه المنظومة الوطنية لبطاقات الدفع الإلكتروني المحلية ستُنفذ تدريجيا، وستكون معرفات البطاقات (BIN) ومعرفات التطبيقات (AID) صادرة حصريا عن البنك المركزي. تشكل البطاقات خيارا محليا إضافيا يُستخدم داخل العراق حصرا بالدينار العراقي، مع التأكيد أنه لا يلغي أو يقيد البطاقات الدولية القائمة مثل فيزا كارد وماستركارد، بل يأتي ليكمل المنظومة المالية ويوفر بديلا وطنيا، وفق البنك. موعد الإطلاق وتوقع المستشار الاقتصادي الحكومي، علاء الفهد، إطلاق بطاقة الدفع الإلكتروني الوطنية قبل نهاية عام 2025، وذلك في إطار جهود البنك المركزي العراقي لإجراء إصلاحات مالية ومصرفية شاملة. وقال الفهد -للجزيرة نت- إن هذه البطاقة الوطنية ستحقق عدة أهداف رئيسية، أهمها تحسين جودة الخدمات المالية وتقليل الرسوم المستقطعة، وستكون بطاقة محلية بامتياز، مؤكدا أنها لن تكون بديلا للبطاقات الدولية المتداولة حاليا، مثل فيزا كارد وماستر كارد، بل ستعمل بالتوازي معها لتعزيز الخيارات المتاحة للمواطنين. وأضاف أن البنك المركزي سيكون الجهة المسؤولة عن إصدار هذه البطاقة، وأن هذا التوجه معمول به في عديد من دول العالم المتقدمة. وتابع: "تميزت البطاقة بأنها للاستخدام المحلي، وتهدف إلى بناء ثقة الجمهور وإتاحة التحكم بها وإجراءاتها وطنيا ومحليا"، واصفا هذا الإجراء بأنه "طبيعي وقانوني يهدف إلى خلق بيئة تنافسية، وتحسين نوعية الخدمات، وزيادة الشمول المالي، وتعزيز ثقة الجمهور بالقطاع المصرفي المحلي". وأعلنت الأمانة العامة لمجلس الوزراء العراقي في العاشر من فبراير/شباط الماضي إيقاف التعاملات النقدية في جميع مؤسسات الدولة اعتبارا من نهاية يونيو/حزيران الماضي، لتكون جميع التعاملات إلكترونية بالكامل ابتداء من أول يوليو/تموز الجاري. يأتي هذا القرار تتويجا لجهود العراق التي بدأت منذ أكثر من عامين، حيث شهدت البلاد توسعا تدريجيا في استخدام أدوات الدفع الإلكتروني، وقد بدأت الدوائر الحكومية بتطبيق هذا النظام في قطاعات حيوية متعددة، مثل المرور، وتعبئة الوقود، وجباية الكهرباء. أسهم هذا الانتشار التدريجي في خلق حالة من الاعتياد لدى المواطنين على استخدام الدفع الإلكتروني، مما شجع الحكومة على المضي قدما نحو الإلزام الكامل بهذه التعاملات. مشروع إيجابي من جهته، أكد الخبير بالشأن المالي والاقتصادي مصطفى حنتوش أن إطلاق المخطط الوطني لنظام البطاقات المحلي يُعد مشروعا إيجابيا للغاية ويتناسب مع التطور المتسارع لعمليات الدفع الإلكتروني. وقال حنتوش -للجزيرة نت- إن هذا النظام سيتضمن شبكة داخلية ومركزا وطنيا يتيح للشركات الاشتراك فيه وإصدار بطاقات دفع خاصة بها، مشيرا إلى أن هذا النظام سيكون مستقلا عن أي عقوبات أو قيود دولية، وسيعمل بالدينار العراقي لضمان استمرارية العمليات المالية بشكل دائم ومستقر. وأضاف أن البطاقات الدولية الحالية مثل فيزا كارد وماستر كارد ستظل فعالة لمن يحتاجون إلى استخدامها خارج العراق، مؤكدا أن البطاقة المحلية ستتميز برسوم معقولة وبيانات شفافة. وتابع: "ستعزز هذه البطاقة المنافسة بين الشركات التي تحصل على خدمات إصدار البطاقات من البنك المركزي، مما يوفر آلية أسهل وأكثر ملاءمة للتعامل بالدينار العراقي، وبالتالي تلبية احتياجات شريحة واسعة من الشعب العراقي وتوفير سرية أكبر للبيانات. وشدد حنتوش على أهمية تطوير قدرات المركز الوطني للدفع الإلكتروني في البنك المركزي العراقي، مرجحا أن يعمل المركزي مستقبلا على تأسيس شركة وطنية للدفع الإلكتروني، تتولى تقديم الخدمات وإصدار البطاقات. وتتوفر في العراق أنواع متعددة من بطاقات الدفع الإلكتروني تشمل بطاقات الخصم المباشر والائتمان والمسبقة الدفع التي تصدرها المصارف وشركات الدفع، وهذه البطاقات تمكن المستخدمين من الشراء عبر الإنترنت والسحب النقدي والدفع لدى التجار. ومن أبرز الأمثلة على هذه البطاقات في العراق فيزا وماستركارد كونهما الأكثر شيوعا، إضافة إلى "كي كارد"، وهي بطاقة دفع محلية واسعة الانتشار، كما توفر بطاقة الرافدين الائتمانية تسهيلات خاصة. وتقدم مصارف مثل آشور والشرق الأوسط والأهلي العراقي أنواعا متنوعة من بطاقات الخصم المباشر وماستركارد وغيرها من خدمات الدفع الإلكتروني. نحو الأفضل ورحب رجل الأعمال العراقي عبد الحسن الزيادي بالخطوة التي اتخذها البنك المركزي العراقي لإطلاق بطاقة دفع إلكتروني وطنية، واصفا إياها بأنها "خطوة نحو الأفضل". وقال الزيادي -للجزيرة نت- إن هذه المبادرة تأتي في ظل تجارب سابقة مع شركات غير رصينة تسببت في أضرار للمواطنين، إذ تعرضت بعض أنظمتها للاختراق من قبل قراصنة الإنترنت. وأوضح أن إصدار بطاقة مخصصة للتعامل بالعملة المحلية العراقية والسيطرة على الوضع داخل البلاد، بحيث تستوعب أهم المشاريع والتعاملات في الشركات أو الدولة أو المؤسسات الاقتصادية، يُعد خطوة ضرورية للغاية. ورجّح الزيادي نجاح عمل هذه البطاقة، كونها خطوة مدروسة وتدار من البنك المركزي العراقي، رغم وجود بعض الملاحظات على عمل البنك. وأشار إلى أن العراق بحاجة ماسة إلى بطاقة محلية لمواجهة تحديات الفساد والمشاكل المتعددة التي تؤدي إلى هدر المال العام، وبالتالي ضعف ثقة المواطن.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
5 أسئلة تفسر تمسّك إسرائيل بالمساعدات الأميركية وإصرار حماس على رفضها
غزة- برز ملف المساعدات الإنسانية التي ينتظرها أكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة كإحدى النقاط الخلافية في إطار المفاوضات غير المباشرة التي تجري في العاصمة القطرية الدوحة بين وفدي حركة المقاومة الإسلامية (حماس) وإسرائيل. وفي الوقت الذي تحاول فيه الحكومة الإسرائيلية فرض آلية توزيع المساعدات الأميركية كأمر واقع عبر المراكز التي خصصتها " مؤسسة غزة الإنسانية"، تصر حماس على العودة إلى تدفقها كما كانت عليه سابقا من خلال المؤسسات الدولية العاملة في القطاع. يشرح التقرير التالي كيف اتخذ الاحتلال الإسرائيلي من المساعدات أداة لتجويع سكان غزة، والضغط عليهم ضمن حرب الإبادة الجماعية التي يشنها منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ويكشف عن الأهداف التي يسعى لتحقيقها تحت ستار "إنساني". كيف كانت تدخل البضائع والمواد الغذائية إلى غزة؟ قبل بدء الحرب على قطاع غزة، كانت قوات الاحتلال الإسرائيلي تسمح بدخول البضائع والمواد الغذائية عبر معبر كرم أبو سالم الواقع شرق محافظة رفح جنوبي القطاع بمتوسط 500 شاحنة يوميا، رغم أن حاجته كانت تصل إلى ما يزيد على 700 شاحنة يوميا. وكانت السلطات المصرية تسمح بمرور شاحنات تجارية عبر محور صلاح الدين الواصل بين غزة والأراضي المصرية. ومنذ بداية الحرب، أغلقت قوات الاحتلال جميع المعابر التجارية المخصصة لإدخال السلع للقطاع، ولم تسمح بمرور أي من الاحتياجات اليومية للغزيين الذين اعتمدوا منذ ذلك الوقت على المساعدات الإغاثية الواردة عبر معبر رفح البري الواصل بين القطاع ومصر. ومع فصل الجيش الإسرائيلي محافظتي غزة وشمالها عن وسط وجنوب القطاع بعد سيطرته على محور " نتساريم"، منع وصول أي من المساعدات عن 700 ألف فلسطيني بقوا شمال وادي غزة، مما أدخلهم في حالة مجاعة شديدة امتدت عدة أشهر بعدما حرموا من جميع المواد الغذائية الأساسية. ومع احتلال الجيش معبر رفح مطلع مايو/أيار 2024، فقد سكان غزة آخر شريان حياة مخصص لحركة الأفراد والبضائع، قبل أن يسمح بإدخال قليل من المواد الغذائية عبر معبر كرم أبو سالم، ولاحقا فتح منفذ "زيكيم" المؤقت الواقع شمال غرب القطاع وأدخل قليلا من البضائع على فترات متباعدة للمحاصرين في محافظتي غزة والشمال. لماذا منع الاحتلال المساعدات عن سكان القطاع؟ في إطار حربه الممنهجة على غزة، اتخذ الاحتلال من ملف المساعدات أداة لتجويع وإخضاع سكان القطاع، في محاولة منه لدفعهم للانتفاض ضد حركة حماس، وللنزوح إلى المحافظات الجنوبية تمهيدا لتنفيذ مخطط التهجير، والسيطرة على القطاع، وفق الخطط الإسرائيلية المعلنة. ومع فشل مخطط الاحتلال الذي اضطر للتراجع عنه، وفتح طريق "نتساريم" بناء على اتفاق وقف إطلاق النار السابق الذي دخل حيز التنفيذ يوم 19 يناير/كانون الثاني 2025، بدأت تدخل المساعدات إلى القطاع بناء على البروتوكول الإنساني الملحق للاتفاق الذي نص على دخول 600 شاحنة مساعدات غذائية يوميا، و50 شاحنة وقود. ورغم أن التزام الاحتلال بتطبيق البروتوكول لم يتجاوز 60%، فإن هذه المساعدات كسرت حالة المجاعة التي كان يعاني منها الغزيون. لكن في الثاني من مارس/آذار 2025، أعاد الاحتلال إغلاق جميع المعابر ومنع إدخال أي من المساعدات الإنسانية لأكثر من مليوني فلسطيني، مما أعاد المجاعة بشكل أكثر قساوة. لماذا لجأ الجيش الإسرائيلي لاعتماد آلية جديدة لتوزيع المساعدات؟ يوم 27 مايو/أيار الماضي، أعلن جيش الاحتلال استحداث آلية جديدة لتوزيع المساعدات على القطاع من خلال "مؤسسة غزة الإنسانية" الأميركية حديثة النشأة، التي بدأت العمل بنقطتي توزيع غرب محافظة رفح، ومن ثم افتتحت ثالثة في منطقة "نتساريم" وسط القطاع، بحجة ضمان عدم سيطرة حركة حماس على المساعدات. وبدا أن هذه الخطوة الإسرائيلية جاءت فقط لامتصاص الغضب الدولي المتصاعد من منع إدخال المساعدات، لأنها لا تلبي أدنى احتياجات الفلسطينيين لعدة أسباب أهمها: افتقار المؤسسة الأميركية لأي بيانات عن سكان غزة، وبالتالي لم تعتمد أي آلية توزيع عادلة. عدد المراكز المخصصة للتوزيع 3 فقط ولا يمكن أن تلبي احتياج أكثر من مليوني فلسطيني. تقتصر المساعدات على كميات غذائية محدودة جدا، لا تعادل شاحنة واحدة من المساعدات التي كانت تصل سابقا عبر المؤسسات الأممية. يريد الاحتلال من مشاهد الفوضى والتزاحم داخل مراكز التوزيع إظهار الشعب الفلسطيني بغزة بشكل غير لائق، لا يتناسب مع حجم صموده وتضحياته التي قدمها خلال العدوان. تقع مراكز التوزيع في المناطق التي يسيطر عليها جيش الاحتلال، وتحولت إلى فخاخ لاستدراج الفلسطينيين وقتلهم، حيث أدت إلى استشهاد 751 مواطنا وإصابة 4931 آخرين، وفُقدت آثار 39 شخصا. يشار إلى أن الاحتلال الإسرائيلي أعلن يوم 19 مايو/أيار الماضي السماح بإدخال مساعدات عبر معبر كرم أبو سالم ومنفذ "زيكيم" بناء على اتفاق الجانب الأميركي مع حركة حماس على إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي عيدان ألكسندر الذي يحمل الجنسية الأميركية، مقابل السماح بإدخال المساعدات لغزة، لكن لم يتم تنفيذ الاتفاق بالشكل المطلوب، واقتصر على إدخال عدد محدود من الشاحنات في فترات متباعدة. ما الأخطار التي تشكلها آلية توزيع المساعدات الحالية؟ ولماذا تصر حكومة الاحتلال عليها؟ تتعدد الأخطار التي تشكلها مراكز المساعدات الأميركية الجديدة -وفق مصدر أمني بغزة تحدث للجزيرة نت- أبرزها: تثبيت محاولة إسرائيلية لإلغاء عمل المؤسسات الدولية في القطاع، خاصة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، التي تمثل عنوانا لحق اللاجئين في العودة. التحكم بكميات الطعام، ونوعية الأصناف الواردة إلى غزة. الإبقاء على حالة الفوضى داخل القطاع، وحرمان الفلسطينيين من حقهم بالتوزيع العادل للمساعدات الواردة إليهم. تحويل مراكز توزيع المساعدات لأماكن للإسقاط الأمني واستدراج فلسطينيين للتعاون مع جيش الاحتلال. يتخذ الجيش الإسرائيلي من مراكز التوزيع ذريعة لفرض وجوده كأمر واقع داخل قطاع غزة، بحجة تأمينها والإشراف عليها، وبما يحول دون انسحابه بناء على أي اتفاق محتمل، لا سيما أن المراكز توجد في أماكن سكنية في عمق القطاع. لماذا تريد حماس العودة إلى تقديم المساعدات عبر المؤسسات الدولية؟ وفق مصدر خاص مطلع على المفاوضات تحدّث للجزيرة نت، تصرّ حركة حماس خلال المفاوضات الجارية في الدوحة على إدخال المساعدات إلى قطاع غزة بناء على البروتوكول الإنساني الموقع في يناير/كانون الثاني الماضي، وذلك بما يضمن: وصول المساعدات إلى جميع سكان القطاع بما يحفظ كرامتهم، بعيدا عن مشاهد الفوضى، ودون فتح المجال أمام سرقتها. إفشال مخطط الاحتلال الإسرائيلي بالسيطرة على المساعدات، وضمان مرورها عبر المؤسسات الدولية. نزع الذرائع التي يسوقها جيش الاحتلال لبقاء تمركزه في مواقع مختلفة من محافظات قطاع غزة، وإجباره على الانسحاب. إحباط أي مخطط إسرائيلي مستقبلي لاستكمال مخطط التهجير انطلاقا من سيطرته على المساعدات الإنسانية.


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
جيش الاحتلال والموساد وتاريخ من الصراعات والإخفاقات
في كواليس المنظومة الأمنية الإسرائيلية الموجهة للخارج، يدور صراع على النفوذ بين جناحيها الأساسيين: الجيش وجهاز الاستخبارات الخارجية (الموساد) في ظل اختلاف الرؤى على طريقة إدارة التهديدات الخارجية. لسنوات طويلة، تمكنت هذه الأجهزة من إدارة نزاعاتها الداخلية تحت مظلة "التنسيق الأمني" لكن التسريبات والاتهامات المتبادلة مؤخرا عرت الانقسامات الكامنة. ويقدم هذا التقرير عرضا لجذور الصراع، ويحلل محطاته المفصلية، ليكشف كيف باتت الانقسامات الداخلية تؤثر على تماسك المنظومة الأمنية الإسرائيلية، وقدرتها على مواجهة التحديات المصيرية. جذور الصراع تعود جذور العلاقة بين جيش الاحتلال الإسرائيلي وجهاز الموساد إلى مرحلة تأسيس إسرائيل ذاتها، حيث ولدت المؤسستان في ظل بيئة سياسية وأمنية مضطربة أعقبت إعلان قيام دولة الاحتلال على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948. وقد جرى إنشاء الجيش ليكون القوة العسكرية المسؤولة عن حماية المشروع الاستيطاني وترسيخ احتلال الأرض بالقوة، بينما أسس الموساد في ديسمبر/كانون الأول 1949 بناء على مقترح رؤوفين شيلواح، المقرب آنذاك من رئيس الوزراء ديفيد بن غوريون ، ليكون ذراعا استخباراتيا خارجيا مكلفا بمهام جمع المعلومات الاستخباراتية وإدارة العمليات الخاصة ضد الخصوم خارج حدود فلسطين المحتلة. ورغم وضوح الأدوار المرسومة نظريا، لم يعرف الواقع انسجاما دائما بين هاتين المؤسستين، إذ سرعان ما بدأ التنافس والتداخل على إدارة الملفات الحساسة، ليتحول إلى صراع مستمر على النفوذ والفضل. وكان أول مشهد دراماتيكي لهذا التوتر في فضيحة لافون عام 1954، حين أدار الموساد شبكة تخريبية باسم "الوحدة 131" في مصر لتنفيذ تفجيرات بهدف تقويض علاقتها مع بريطانيا والولايات المتحدة. ومع انكشاف الشبكة واعتقال عناصرها على يد الأمن المصري، تفجرت أزمة داخلية حادة، فالجيش الإسرائيلي اتهم الموساد بتوريط الكيان في مغامرات غير محسوبة، وقد رد الموساد باتهام قيادة الجيش بالتنصل من المسؤولية لتحميله وحده كلفة الفشل. وبدأت التوترات تتفاقم بين جناحي القوة منذ أزمة روتيم عام 1960 التي بدأت باستفزازات إسرائيلية على طول الحدود مع سوريا، ونَشرت مصر قواتها المسلحة على الجبهة الجنوبية لإسرائيل غير المحمية إلى حد كبير، مما أدى إلى مفاجأة إسرائيل، وأظهر إخفاقا استخباراتيا في صفوف الجيش والاستخبارات، مما أثر على الثقة الداخلية بين الموساد والجيش. ثم جاءت عملية ميونخ 1972 لتكشف عن انقسام آخر، عندما نفذت مجموعة "أيلول الأسود" هجوما ضد رياضيين إسرائيليين، حيث أصر الموساد حينها -وفقا لوسائل إعلام إسرائيلية- على الرد عبر سلسلة اغتيالات سرية استهدفت قيادات فلسطينية في أوروبا، ومن جانبها دعت قيادة الجيش إلى تنفيذ ضربات عسكرية واسعة النطاق ضد الفصائل الفلسطينية في لبنان وسوريا. وفي حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 تفاقم التوتر بين الموساد والجيش، حين أرسل رئيس الموساد زفي زمير آنذاك تحذيرًا عاجلا بأن هجوما مشتركا وشيكا ستشنه مصر وسوريا على إسرائيل. ورغم نقل الموساد التحذير، إلا أن الجيش والإدارة السياسية تأخرا في التفاعل، وفقًا لتقارير لجنة أغرانات، حيث تبنّت إسرائيل المفهوم القائل إن العرب لن يهاجموا، مما ساهم في إضعاف الإنذار المبكّر وتفاقم فجوة الثقة بين الموساد والجيش. مع دخول الألفية الجديدة، تصاعد الانقسام مدفوعا بإخفاقات ميدانية متكررة هزت صورة "التفوق الأمني" التي طالما تفاخرت بها إسرائيل، وسط تبادل الاتهامات وتحميل المسؤوليات عن الفشل. وقد شكلت حرب لبنان الثانية عام 2006 نقطة تحول بارزة، إذ فاجأ حزب الله قيادة الجيش والموساد الإسرائيلييْن بعملية أسر الجنود الإسرائيليين وإطلاق الصواريخ تجاه المستوطنات، وعلى إثرها اعتبر قادة الجيش أن الموساد أخفق في تقديم معلومات دقيقة عن قدرات حزب الله الصاروخية وانتشاره الميداني بالجنوب اللبناني. وفي المقابل، رد الموساد باتهام القيادة العسكرية بالاستخفاف بالمعطيات الاستخباراتية، وإدارة المعركة بشكل مرتجل مما أدى إلى فشل تحقيق "نصر حاسم". وقد كشفت لجنة "فينوغراد" -التي حققت في إخفاقات الحرب- عن فجوة عميقة في التنسيق العملياتي بين الجانبين، معتبرة أن غياب الرؤية الموحدة ساهم في حالة التخبط الإستراتيجي. وتفجر الخلاف أيضا بعد عملية اغتيال القيادي في حماس محمود المبحوح في دبي عام 2010، حيث انتقد قادة الجيش الموساد بشدة على خلفية تداعيات هذه العملية معتبرين أنها وضعت إسرائيل في مواجهة أزمة دبلوماسية خانقة وهددت باندلاع تصعيد ميداني في غزة. وتكرر المشهد ذاته خلال الحروب على غزة، لاسيما عدوان 2014، حيث تباينت التقديرات بين هاتين المؤسستين بشأن قدرات حركة حماس على تطوير الأنفاق الهجومية، فالجيش رأى أن الموساد بالغ في تقدير حجم التهديدات، بينما أصر الموساد على أن تجاهل تحذيراته كاد أن يوقع المستوطنات الجنوبية في كارثة، بحسب صحيفة هارتس الإسرائيلية. وهذه الإخفاقات الأمنية المتكررة التي تعرضت لها إسرائيل، يقرأها أيمن البراسنة أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بالجامعة الأردنية على أنها تتجاوز كونها عثرات فردية أو فشلا مؤقتا، بل تعكس أزمة ثقة متبادلة، مما يحولها إلى أدوات تصفية حسابات داخلية. ما بعد طوفان الأقصى لكن الحدث الأكثر زلزلة للمنظومة الأمنية الإسرائيلية كان عملية " طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، حين نفذت المقاومة الفلسطينية هجوما واسع النطاق وغير مسبوق ضد المواقع العسكرية والمستوطنات في غلاف غزة. وهنا حمل الجيش الإسرائيلي الموساد مسؤولية "العمى الاستخباراتي" وعدم كشف الاستعدادات الهجومية للمقاومة الفلسطينية رغم المؤشرات المتراكمة، بينما رد الموساد بأن القيادة العسكرية تعمدت تجاهل التحذيرات التي قدمها الجهاز منذ أسابيع خوفا من جر الكيان لمواجهة كبرى في غزة. وعلى عكس المحطات السابقة، لم يقتصر السجال هذه المرة على تبادل الاتهامات، بل خرج إلى العلن إذ بدأت الصحف الإسرائيلية تتحدث صراحة عن "حرب الجنرالات" داخل المنظومة الأمنية، مع تسريبات عن صدامات داخل " الكابينت" بين رئيس الأركان السابق هرتسي هاليفي ورئيس الموساد ديفيد برنيع بشأن أسباب الفشل الذريع، وهو ما عزز الانطباع بأن الكيان فقد القدرة على التنسيق الفعال بين جناحي القوة. وقد تصاعدت الأزمة أكثر مع موجة استقالات غير مسبوقة ضربت المستوى العسكري، حيث أعلن قادة عسكريون كبار عن تنحيهم، بينهم قائد المنطقة الجنوبية ياران فينكلمان، كما قدم رئيس الاستخبارات "أمان" أهرون حليفة استقالته محذرا من انهيار منظومة القيادة والسيطرة، وسط حالة الانقسام الحاد بين المستويات العسكرية والسياسية. وحتى داخل الموساد نفسه، كشفت تقارير إسرائيلية عن تهديد بعض القيادات بالتنحي إذا استمرت الحكومة في تحميلهم بمفردهم تبعات الإخفاق الاستخباراتي. منافسة على الفضل بمواجهة إيران وامتد الصراع إلى حرب علنية على السبق في المواجهة مع إيران، فقد اتهم قادة الجيش جهاز الموساد بـ"تضخيم بطولاته" في الهجمات على طهران في 13 يونيو/حزيران، مؤكدين أن عملياته كانت هامشية وأنه عمل تحت قيادة الجيش بنسبة لا تتجاوز 1% وفقا لصحيفة يديعوت أحرنوت الإسرائيلية. ورد الموساد بأن الفضل الحقيقي يعود له في إبطاء مشروع إيران النووي لسنوات، متهما المؤسسة العسكرية بالفشل الذريع بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول، ومحاولة الاستحواذ على إنجازات ليست لها، بحسب الصحيفة. وبلغ التنافس ذروته حينما أقدم رئيس الموساد على إلغاء "الخطة الطموحة" للتعامل مع المشروع النووي الإيراني دون التنسيق مع الجيش، وبرر قراره بأن الجيش "غير قادر على تنفيذ المهام" في ظل الضغوط المتعددة بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول. وهذا القرار، قالت عنه يديعوت أحرونوت الإسرائيلية إنه فجر غضب هيئة الأركان التي اعتبرته "طعنة في الظهر" ومحاولة للتنصل من خطة أثارت جدلاً لسنوات، ورأى قيادات الجيش في خطوة برنيع مؤشراً على أن الصراع لم يعد خلافًا على الصلاحيات، بل تحول إلى معركة نفوذ مفتوحة تهدد بتفكيك المنظومة الأمنية من الداخل. وبدوره، يرى أيمن الروسان الخبير العسكري ومحلل الشؤون الدفاعية أن التنافس الحاد بين الطرفين ساهم بشكل ملحوظ في إضعاف القدرة الاستخبارية والتنفيذية لإسرائيل، وهو ما مكّن حماس من تنفيذ أكبر خرق أمني في تاريخ إسرائيل الحديث دون إنذار فعال. ويُتوقع أن تُحدث هذه الفجوة مراجعات جوهرية في هيكل الاستخبارات وتقسيم المهام بعد الحرب. تسييس الأجهزة الأمنية وصراع الولاءات في خضم الصراع، برزت ملامح انجرار الأجهزة الأمنية إلى صراع الولاءات بين مراكز القوة السياسية وعلى رأسها مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. وتجلت هذه الظاهرة عندما سارع نتنياهو لزيارة مقر الموساد، مشيدا بما اعتبره "مساهمات هامة" خلال الحرب الأخيرة ضد إيران ولبنان. وفي سياق متصل، أثار نتنياهو عاصفة من الجدل بتعيينه اللواء ديفيد زيني رئيسًا للشاباك خلفًا لرونين بار، عقب توتر حاد بينه وبين الأخير، إذ اتهمه رئيس الحكومة بـ"فقدان المصداقية" ورد بار متهماً نتنياهو بمحاولة "جر الجهاز إلى مستنقع التجاذبات السياسية". ويؤكد الروسان -للجزيرة نت- أن تسييس الأجهزة الأمنية ليس جديداً لكنه تفاقم بعد حرب غزة 2023، وبات يمثل تهديدًا خطيرًا لوحدة المنظومة الأمنية واستقرار القرار السياسي، لأنه يضرب جوهر التوازن الذي تقوم عليه دولة تعتمد بشكل أساسي على تفوقها الاستخباراتي والعسكري. ويضيف الخبير العسكري أن تسييس الأمن في إسرائيل يُهدد المنظومة من 3 جوانب: الأول: تقويض وحدة القيادة الأمنية وفقدان الثقة الداخلية. الثاني: زعزعة الاستقرار السياسي نتيجة اتهامات متبادلة وتسريبات. الثالث: إضعاف هيبة الردع الخارجي وفتح الباب لتحديات جديدة من خصوم إقليميين. في حين يرى البراسنة أن العلاقات المتوتّرة بين رئيس الحكومة والمؤسّسة الأمنيّة فاقمت حدة الصراع، إذ يعتبر نتنياهو الجنرالات أنّهم ألدّ منافسيه ولذلك فهو يسعى جاهدا للتدخل في المؤسسة الأمنية لتطويعها وجعلها تتماهى مع أجندته التي ترتهن لرؤى وتصورات التيارات الدينية. وقد ازدادت الأزمة حدة في مارس/آذار الماضي، حين تدخلت المحكمة العليا الإسرائيلية وأوقفت إجراءات عزل نتنياهو، محذّرة من "تضارب المصالح" في ظل التحقيقات الجارية بعد الكشف عن تلقي مقربين من نتنياهو أموالًا لتحسين صورته، في أزمة جديدة تهدد مستقبله السياسي. ولم تكن هذه المحاولة هي الأولى، فقد كشف يورام كوهين (رئيس الشاباك السابق من 2011 حتى عام 2016) في 7 أبريل/نيسان 2025 بأن نتنياهو سبق وطلب منه كرئيس للشاباك استبعاد نفتالي بينيت (المنافس السياسي لنتنياهو) من مجلس الوزراء الأمني وإلغاء تصريحاته الأمنية بحجة وجود مشكلة خاصة بولائه أثناء خدمته في الجيش، وهو طلب رفضه كوهين. وقد دفعت هذه المؤشرات معهد الدراسات الأمنية القومي الإسرائيلي إلى التحذير من وجود فجوة واضحة بين القيادة السياسية والقيادة العسكرية في التنسيق الإستراتيجي. ووفقًا للمعهد، فإن القيادة السياسية لم توفر توجيهًا إستراتيجيًا طويل الأمد أو إشرافًا دقيقًا على الخطط العسكرية، مما أدى إلى انفصال بين مستويات مفهوم الأمن.