
من هانيبال إلى الأسد... حروب أسقطت قادة
تزخر سجلات التاريخ بوقائع سقوط قادة جروا بلادهم إلى حروب خاسرة، وبين الحسابات الخاطئة واختلال موازين القوى دفع كثير من الزعماء ثمن قراراتهم، إما بالعزل أو النفي، وأحياناً القتل. تبدو المعادلة بسيطة على مدى التاريخ، فالصراعات التي كثيراً ما حملت طابع الثأر الشخصي أو السعي وراء مجد تاريخي، لا تكون عواقبها خسارة معركة، بل قد تؤدي إلى نهاية حكم أسرة أو سقوط دولة بأكملها.
سم الخلاص
منذ ما قبل الميلاد بدأت حكاية الحروب التي أسقطت القادة، إذ تشير كتب التاريخ إلى معركة زاما عام 202 قبل الميلاد، التي كانت بداية النهاية لأسطورة قائد قرطاجة هانيبال، أحد أشجع وأشهر القادة العسكريين تاريخياً.
في خضم الحرب البونيقية الثانية بين الرومان والقرطاجيين، خاض الجيشان كثيراً من المعارك لحسم السيطرة على البحر المتوسط، لكن المحطة الأهم كانت في منطقة زاما الواقعة حالياً في تونس، حيث كانت الغلبة لقائد الجيش الروماني سكيبيو، الذي لقب بالأفريقي لاحقاً. وبعد هزيمة قرطاجة، نفي هانيبال إلى سوريا، حيث واصل مناوأة روما، وحين وجد أنه مهدد بالتسليم لأعدائه الرومان اختار الانتحار بتجرع السم.
السم أيضاً كان السبيل للفرار من تبعات الهزيمة في حرب أخرى دارت رحاها قبل الميلاد في حوض البحر المتوسط، فمعركة أكتيوم البحرية عام 31 قبل الميلاد كانت حداً فاصلاً في الصراع على حكم روما بعد يوليوس قيصر، بين أوكتافيوس (الإمبراطور أغسطس قيصر لاحقاً) ومن ناحية أخرى مارك أنطوني الذي تحالف مع كليوباترا ملكة مصر، اللذين كتبا في التاريخ كقصة حب انتهت بصورة مأسوية.
استعانة ماركوس أنطونيوس بكليوباترا، التي كان لها ولد من يوليوس قيصر، فتح باب حرب أهلية طاحنة في الدولة الرومانية، دارت رحاها على جانبي البحر المتوسط، إلى أن حسمت قوات أوكتافيوس معركة أكتيوم، لتبدأ مرحلة تقهقر حلف كليوباترا ومارك أنطوني، حيث تفرق جنودهما وتراجعا إلى الإسكندرية عاصمة الدولة البطلمية. وبعدما أشاع أوكتافيوس أن كليوباترا قتلت، انتحر مارك أنطوني، ثم لحقت ملكة مصر بحبيبها وحليفها منتحرة أيضاً بعد عام من معركة أكتيوم.
حروب عالمية
كثيراً ما قضت الصراعات في القارة الأوروبية على زعامات كانت توصف بالحنكة السياسية والبراعة العسكرية، ولا أدل على ذلك من إمبراطور فرنسا، نابليون بونابرت، الذي أخضع أجزاء واسعة من أوروبا ووصلت جيوشه إلى مصر.
لكن معركة واترلو وضعت حداً لأسطورته العسكرية، بعدما هزم أمام تحالف من جيوش المقاطعات التي تشكل ألمانيا حالياً والجيشين الهولندي والبريطاني، في منطقة تقع في بلجيكا حالياً، وذلك بعد إعلان القوى الأوروبية الكبرى أن نابليون شخص خارج عن القانون، وسعت إلى عزله عن حكم فرنسا. بعد المعركة وتدمير معظم جيشه، حاول نابليون الهرب إلا أن القوات البريطانية ألقت القبض عليه، وقضى بقية عمره منفياً في جزيرة هيلانة بالمحيط الأطلسي.
كانت تلك المعارك الأوروبية صورة مصغرة لحرب عالمية شكلت طابعاً للنصف الأول من القرن الـ20، وكغيرها قضت على زعماء. في روسيا كان تسجيل خسائر بشرية كبيرة في الحرب العالمية الأولى مقدمة لعزل القيصر نيكولاس الثاني عام 1917، على يد الثوار البلاشفة، الذين لم يكتفوا بإنهاء إمبراطورية عائلة رومانوف التي استمرت 300 عام، وتحديد إقامة القيصر وعائلته، لكنهم أيضاً قرروا إعدامهم بالرصاص في يوليو (تموز) 1918.
ومثلما كتب الزعيم الألماني النازي أدولف هتلر فصل البداية في الحرب العالمية الثانية، فإن تلك الحرب سطرت نهايته، فبعد ستة أعوام أرهقت العالم، وأزهقت أرواح الملايين، وغيرت خرائط العالم، حسمت قوات الحلفاء الحرب لصالحها، وأصبحت على بعد مئات الأمتار من مقر مستشارية الرايخ، لم يجد هتلر بداً من الانتحار بالرصاص خوفاً من الوقوع في يد أعدائه ومواجهة الإعدام كحليفه السابق حاكم إيطاليا، بينيتو موسوليني.
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عزل سياسي
الموت لم يكن النتيجة الحتمية لكل الزعماء الذين فقدوا مكانتهم نتيجة الحروب، فالعواقب غالباً كانت سياسية في العقود الأخيرة. في إسرائيل، دفعت رئيسة الوزراء غولدا مائير حياتها السياسية ضريبة للهزيمة في حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، التي شنتها مصر وسوريا.
وأعقب الحرب اتهامات لحكومة غولدا مائير بضعف الاستعداد للحرب التي مكنت الجيش المصري من عبور قناة السويس إلى سيناء للمرة الأولى منذ هزيمة يونيو (حزيران) 1967. وعلى رغم تبرئة لجنة أغرانات للتحقيق في وقائع الحرب مائير من المسؤولية المباشرة عن الحرب، فإن خسارة حزبها الغالبية في انتخابات ديسمبر (كانون الأول) 1973، دفعها إلى الاستقالة في أبريل (نيسان) 1974، كما تنازلت لاحقاً عن مقعدها في الكنيست (البرلمان) ليكون ذلك نهاية مسيرة أحد أشهر الساسة في تاريخ إسرائيل.
المغامرات العسكرية وأطماع التوسع كثيراً ما تؤدي إلى القضاء على أصحابها، وهو ما حدث مع الرئيس العراقي صدام حسين حين غزا الكويت في أغسطس (آب) 1990، في إعادة لمزاعم عراقية قديمة بتبعية الكويت تاريخياً لسيادة العراق. لكن الرئيس العراقي قوبل بإدانة عربية ودولية شديدة، تحولت إلى تحرك لتشكيل تحالف عسكري لتحرير الكويت قادته الولايات المتحدة وشاركت به مصر والسعودية وسوريا إلى جانب دول أخرى.
ومثلت تلك الحرب بداية لضعف نظام صدام، إذ دفعت بغداد عشرات المليارات من الدولارات تعويضاً للمتضررين من الحرب، وفرضت عقوبات دولية تسببت في تقويض الاقتصاد وتراجع مستوى الصحة والتعليم بالعراق، وأدى ذلك لاحقاً إلى هزيمة سريعة لصدام من الولايات المتحدة التي احتلت العراق عام 2003، منهية حكم صدام حسين الذي ألقي القبض عليه وأُعدم عام 2006.
مغامرة أخرى سبقت حرب الكويت لكن بعيداً من المنطقة العربية، تحديداً في الأرجنتين، حين أعلن رئيس الأرجنتين ليوبولدو غالتييري الحرب على بريطانيا عام 1982 لتحرير جزر فوكلاند الواقعة جنوب الدولة الواقعة بأميركا الجنوبية، لكن نتيجة الحرب كانت متوقعة بالنظر إلى الفارق الكبير بين إمكانات جيشي البلدين، إذ استسلمت الأرجنتين بعد 74 يوماً فقط من المعارك، وهو ما أدى إلى اضطراب داخل المجلس العسكري الحاكم أدى إلى عزل غالتييري بعد أيام من سيطرة بريطانيا على ستانلي عاصمة جزر فوكلاند. اعتقل غالتييري في العام التالي بعد عودة الديمقراطية للأرجنتين، ووجهت له تهم انتهاك حقوق الإنسان، ثم عفي عنه عام 1989، وعاش حياة متواضعة حتى وجهت له اتهامات أخرى عام 2002 إلا أنه توفي في مطلع عام 2003.
سقوط تدريجي
أحياناً لا يقع الزعماء ضحية معركة واحدة في الحرب، بل تضمحل سلطاتهم تدريجاً عبر أعوام مثلما حدث مع الرئيس السوري السابق بشار الأسد، الذي واجه ثورة شعبية بدأت عام 2011 ضمن الربيع العربي الذي اجتاح المنطقة. وبعد مواجهة الثورة بالسلاح ظهرت انشقاقات في الجيش السوري، إضافة إلى ظهور عناصر مسلحة كردية وأخرى مدعومة من تركيا وثالثة ذات خلفية إسلامية سيطرت على أجزاء واسعة من البلاد، بينما ظل الأسد رئيساً لـ"بعض سوريا" بفضل الدعم العسكري من حليفيه روسيا وإيران.
غير أن 14 عاماً من الصراع والعقوبات الاقتصادية دفعت إلى سقوط مفاجئ لم يستغرق سوى أيام لنظام دمشق أمام قوات معارضة تسمى "هيئة تحرير الشام" ارتبطت في السابق بتنظيم "القاعدة" المصنف إرهابياً، ولم يجد بشار أمامه سوى الهرب إلى الحليف موسكو، لينتهي عصر آل الأسد الذي استمر 54 عاماً في سوريا، بينما حل رئيس هيئة تحرير الشام أحمد الشرع محله في قصر الشعب في دمشق.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


Independent عربية
منذ 2 ساعات
- Independent عربية
الأرباح والخسائر في لعبة أكبر
الرئيس دونالد ترمب أمسك باللعبة من أيدي القوى الإقليمية في المنطقة، وأعاد الدورين الروسي والصيني إلى مسافة طويلة وراء الدور الأميركي. وما كان من الصعب عليه الانتقال سريعاً من توجيه ضربة هائلة للمنشآت النووية الإيرانية إلى فرض وقف النار على إسرائيل وإيران، المتعبتين من تبادل التدمير في حرب قاسية. ولم يكن خارج التوقعات إعلان ثلاثة "منتصرين" في حرب هي عملياً حرب "منتصر" واحد وعاجزين اثنين عن الانتصار. فليس في حرب كالتي بدأتها إسرائيل بالطائرات وردت عليها إيران بالصواريخ انتصارات، بل مجرد أرباح وخسائر لدى كل طرف. ولا شيء يمنع من الادعاء أن نتنياهو "ملك إسرائيل" وأن المرشد الأعلى علي خامنئي "إمبراطور غرب آسيا"، وأن ترمب "ملك العالم"، لكن على الجميع الجلوس في هدوء و"البحث عن الحقيقة في الوقائع" حسب الحكمة الصينية. ذلك أن حسابات الأرباح والخسائر ليست نهائية ولا كاملة في حرب ناقصة، حرب هي الأولى بين دولتين وجيشين في المنطقة بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973 بين التحالف المصري-السوري وإسرائيل، لأن كل الحروب الأخرى كانت بين إسرائيل ومجرد فصائل مثل "حزب الله و'حماس' وأنصار الله الحوثيين"، حرب لا تستطيع أطرافها تحمل دمارها وكلفتها ومضاعفاتها طويلاً، وليسوا قليلي الرغبة في إكمالها حين تسمح الظروف. وما تقوله الوقائع واضح، بصرف النظر عن القراءات المتسرعة والقراءة الأيديولوجية. إسرائيل ربحت إبعاد الكابوس النووي وتدمير جزء من منصات الصواريخ، مقابل خسارتها لما روجت له من كونها "القلعة الحصينة"، وانكشاف ضعف قدرتها على حماية أصولها الاستراتيجية من ضرب الصواريخ الباليستية. إيران ربحت تأكيد القدرة على الصمود وإلحاق الأذى بإسرائيل، وما لم يكن على جدول الأعمال أمام أميركا وإسرائيل، وهو بقاء النظام، لكنها خسرت أسطورة الاقتدار، وبدت مكشوفة أمام الطيران الإسرائيلي من دون حماية فعلية، بحيث دفعت في الضربات اليومية أثماناً لا تقل عن الأثمان التي دفعتها في "الضربة الاستباقية" لجهة اغتيال القادة الكبار وعلماء الذرة، كما أن قوتها الصاروخية لفتت أنظار أوروبا والعرب إلى أخطار الصواريخ الباليستية على أمن أوروبا والمنطقة. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) ترمب ربح الحرب عبر الضربة العسكرية التي شكلت مشهد الذروة في التراجيديا القتالية، ويريد أن يربح السلام. ومن المبكر رسم السيناريوهات حول الصورة الجديدة للشرق الأوسط، فلا تقسيمات سايكس-بيكو كانت ممكنة لولا الحرب العالمية الأولى وهزيمة السلطنة العثمانية والإمبراطورية النمسوية-المجرية والإمبراطورية البروسية ثم القيصرية. ولولا الحرب العالمية الثانية لما حصلت البلدان العربية على الاستقلال، ولما كان من السهل أن تولد إسرائيل. والتطورات الدراماتيكية التي يتحدث عنها أصحاب الخيال، وبينهم أصحاب رؤية بعيدة، تحتاج إلى حرب أكبر من حرب غزة ولبنان وحرب إسرائيل وإيران وإن دخلتها أميركا مباشرة. وما حدث ليس السيناريو الخطر الذي تصوره بعض، وهو أن تسجل إسرائيل نصراً مطلقاً على الجمهورية الإسلامية أو بالعكس أن تلحق طهران بإسرائيل هزيمة كاملة. ففي مثل هذا السيناريو تقع المنطقة من المتوسط إلى الخليج، وحتى من المحيط إلى الخليج بحسب الشعار القديم، تحت هيمنة قوة إقليمية واحدة تتحالف مع قوة دولية واحدة أو أكثر. وهذا هو الخطر الأكبر الذي يتطلب التخلص منه عقوداً وتضحيات وعذابات. وليس سراً أن كثراً في المنطقة راهنوا على أن تنتهي الحرب بخسارة الطرفين، مقابل قلة راهنت على ربح إيران وقلة راهنت على ربح إسرائيل، ولكل أسبابه وظروفه وموقفه المبني على تجارب الماضي وما فعلته في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق، وسواها هيمنة إسرائيل وهيمنة إيران. والسؤال المباشر الآن هو ماذا بعد وقف النار؟ هل تنتهي الحرب أم أن المنطقة في استراحة محارب قبل معاودة القتال، وما التسوية التي تقود إليها المفاوضات بين أميركا وإيران؟ طهران توحي أنها ستكمل برنامجها النووي وأن الأضرار التي وقعت في المنشآت لم تدمر كل شيء، كما أنها لن تتخلى عن حقها في تخصيب اليورانيوم. وترمب يقول إن الضربة الأميركية دمرت المنشآت النووية بالكامل، وسط تشكيك حتى في أوساط الاستخبارات الأميركية، ويهدد بضرب أية منشأة تحاول طهران إعادة بنائها وإحياء وظيفتها، ونتنياهو يهدد بما هو أكثر، وهما معاً يصران على شعار "صفر تخصيب" داخل إيران. وإذا كان أنصار إيران يتصورون أن الجمهورية الإسلامية ستخرج من المفاوضات مع أميركا، لا فقط برفع العقوبات عنها بل أيضاً بإطلاق يدها في المنطقة، فإن الأوساط الأميركية والإسرائيلية تضع على جدول الأعمال ثلاث لاءات، لا للمشروع النووي الإيراني ولا لتطوير البرنامج الصاروخي ولا للمشروع الإقليمي الإيراني وأذرعه. الحرب التي كشفت نقاط القوة والضعف لدى كل من إسرائيل وإيران، تركت لدى بعض انطباعاً خلاصته أن الجمهورية الإسلامية خسرت دور القوة الإقليمية، ولم تعد قادرة على حماية الرأس ولا الأذرع من إسرائيل. ومقابل الرهانات على الطائرات والصواريخ لصنع التاريخ، يقول هيغل "الفلسفة وحدها تستطيع قراءة ما خفي من التاريخ".


Independent عربية
منذ يوم واحد
- Independent عربية
الفيلسوف الروسي كوجيف اختبر الشيوعية واستعاد الإيمان
يلقي الكتابان الصادران حديثاً في باريس عن منشورات "غاليمار" "صوفيا I، الفلسفة والظاهراتية" (544 صفحة) لألكسندر كوجيف من إعداد وترجمة رامبير نيكولا، و"وعي ستالين، كوجيف والفلسفة الروسية" لرامبير نيكولا أيضاً (222 صفحة)، ضوءاً جديداً على شخصية المفكر الفذ ذي الأصل الروسي والهوية الفرنسية ألكسندر كوجيف، واسمه الحقيقي كوجيفينيكوف الذي كان حضوره لافتاً في المشهد الفكري الفرنسي خلال القرن الـ20. وارتبط اسم هذا الفيلسوف المولود في موسكو لعائلة برجوازية ارتباطاً وثيقاً باسم الفيلسوف الألماني هيغل من خلال الدروس التي ألقاها في "المدرسة التطبيقية للدراسات العليا" في باريس والتي قدمت تفسيراً لكتاب هيغل "فينومينولوجيا الروح"، ترك أثراً بالغاً في الفكر الفلسفي الفرنسي، ولا سيما في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. كان كوجيف مؤمناً بالشيوعية، لكنه استشعر الأحداث الرهيبة التي ستشهدها بلاده، فغادرها إلى هايدلبرغ في ألمانيا عام 1918 لمتابعة دراساته العليا وكتابة أطروحته تحت إشراف كارل ياسبرز (1883-1969) في فكر فلاديمير سولوفييف الذي انشغل بثنائية حرية الإنسان ومعرفة الله المطلقة، وهما موضوعان سيبقيان حاضرين بقوة في مساره الفكري. كتاب "صوفيا 1" (دار غالميار) بعد حصوله على شهادة الدكتوراه، توجه الروسي الشاب إلى باريس لدراسة الفيزياء والرياضيات الحديثة ولمتابعة المحاضرات الفلسفية التي كان يلقيها أساتذة مرموقون من أمثال ألكسندر كويري، وهو روسي مثله ترك بلاده بعد انتصار الثورة البلشفية، وقد ربطت بين الرجلين علاقة صداقة كانت منطلق كوجيف إلى التعرف إلى نخبة من المفكرين والكتاب والشعراء والرسامين الفرنسيين، وإلى إعطاء محاضراته الشهيرة حول فلسفة هيغل التي كان يلقيها كل يوم اثنين أمام جمع من المعجبين الذين كانوا يخرجون من محاضراته مفتونين بسعة معرفته وقدرته على إيصال أفكاره بأسلوب رشيق ولغة بيّنة واضحة. في باريس، عاش كوجيف بداية حياة مترفة، معتمداً على ريع ممتلكاته وبيع لوحات قريبه، الرسام التجريدي الشهير فاسيلي كاندينسكي. لكن عام 1929، انهار كل شيء بسبب الأزمة الاقتصادية الكبرى، فجاءت دروسه حول كتاب هيغل "فينومينولوجيا الروح" الصادر عام 1807، بمثابة خشبة خلاص. ونشرت هذه الدروس عام 1947 تحت عنوان "مقدمة في قراءة هيغل" وتعد من أشهر مؤلفاته، علماً أن ريمون كونو هو من صاغ الجزء الأكبر منها بناء على ملاحظات مأخوذة من الحلقات الدراسية، إلى جانب بعض النصوص التي كتبها كوجيف بنفسه. فداخل قاعة صغيرة تقع في شارع أولم، بدأ كوجيف يلقي هذه الدروس على صفوة من كبار مثقفي فرنسا كريمون آرون وجاك لاكان وجورج باتاي وريمون كونو وجان هيبوليت وموريس ميرلو بونتي وهنري كوربان وميشال لييريس وغيرهم من الأسماء اللامعة في الفضاء الفكري الفرنسي، مما منحه مكانة استثنائية في تعريف الفرنسيين بفلسفة هيغل. مسرى حياة كتاب "وعي ستالين" (دار غاليمار) أذهلت هذه الدروس المشهد الفكري الفرنسي في ثلاثينيات القرن الـ20، لكن شخصية معطيها ظلت مجهولة ومثيرة للجدل. لكن من يذهب أبعد من هذه الصورة الظاهرة، ومن يتتبع خفايا مسرى حياة هذا الفيلسوف، يعلم أن كوجيف لم يكُن مجرد شارح لهيغل، بل كان أيضاً شيوعياً متحمساً، بلغ به الولاء أن عمل لمصلحة الاستخبارات السوفياتية، مطلقاً على نفسه، من دون مواربة، لقب "وعي ستالين". ففي نص ضائع وغير مكتمل، أعيد اكتشافه أخيراً، كتبه كوجيف بحماسة عالية بين عامي 1940 و1941، أي خلال الفترة التي يعتقد بأنه أصبح فيها عنصراً مهماً في جهاز الاستخبارات السوفياتي، وهو النص الذي شكل مادة كتاب "صوفياI " المحرر والمترجم إلى اللغة الفرنسية من قبل رامبير نيكولا، يكتشف القارئ وجهاً آخر لهذا الفيلسوف، لا يمت بصلة مباشرة إلى شهرته كمفسر لفلسفة هيغل. كتب كوجيف هذا النص بعد عامين من "التهديدات الكبرى" التي نظمها ستالين والتي أودت بحياة 750 ألف شخص، وبعدما كان الاتحاد السوفياتي وقع مع ألمانيا النازية اتفاقاً جعله حليفاً لها. ويبدو أن كوجيف الذي تبنى كل هذه الأحداث، باعتباره "ستالينياً صارماً"، نادى بضرورة مشاركة الفيلسوف "بفاعلية في العمل الهادف إلى تحقيق المجتمع الشيوعي"، على ما نقرأ في "صوفيا I"، ذلك أن البشرية، برأيه، مدعوة في نهاية المطاف إلى بناء تضامن كوني، "لا بد من بلوغه عبر الفولاذ"، أي، بحسب المعنى الضمني، عبر "إبادة الأجيال المحافظة السابقة". في هذا النص، يوجه كوجيف تحيته الصريحة إلى جوزيف ستالين "الأب الصغير للشعوب" وإلى الأمة السوفياتية، كاشفاً عن بعد عقائدي لطالما ظل خفياً في سيرته وفكره. ولعل رامبير نيكولا من خلال إبرازه هذا الجانب المجهول من فكر كوجيف، يظهر لنا أيضاً أن هذا الفيلسوف الذي عرف بإلحاده الراديكالي، كان في حقيقة الأمر غارقاً في ينابيع الفلسفة الدينية الروسية، ولا سيما في فلسفة فلاديمير سولوفييف (1853–1900) الذي كرس له كوجيف أطروحة الدكتوراه. مشروع فلسفي كوجيف في فترة الشباب (موقع فلاسفة روس) والأهم من ذلك، يظهر لنا هذا النص أن كوجيف لم يكُن يقرأ هيغل قراءة فلسفية فحسب، بل ألبس تفسيره لبُنيان هيغل طابعاً سياسياً ودعائياً صارخاً حين وضعه تحت راية "الماركسية-اللينينية-الستالينية". ويبدو، في هذا السياق، أن مشروعه الفلسفي كان عبارة عن محاولة فلسفية لتبرير وجود الاتحاد السوفياتي عبر تثبيت موقع روسيا الإمبراطورية ضمن مسار التاريخ الكوني في مواجهة الغرب ونظامه الديمقراطي الليبرالي البرجوازي. في الكتاب الأول، أي "صوفيا I، الفلسفة والظاهراتية" الذي صمم كمدخل لعمل ضخم، يقدم كوجيف تعريفه للفلسفة، عارضاً منهجه ومحدداً غايته، وهي الإسهام في إرساء أفضل نظام سياسي ممكن في روسيا السوفياتية التي قدّر لها برأيه إنجاز هذه المهمة الكبرى. في قلب هذا النص غير المنجز، يكمن مشروع كوجيف الفكري، وهو عبارة عن محاولة فلسفية سياسية تهدف إلى الجمع بين تراث المثالية الألمانية و"المهمة التاريخية" لروسيا السوفياتية. إنه بمعنى ما قراءة للـ"هيغلية" تفضي إلى الستالينية، وبحث صوفي عن نهاية التاريخ في رحم الأيديولوجيا. إلى جانب الكشف عن هذا البعد شبه المجهول في فكر ألكسندر كوجيف، ولا سيما تدربه، على نحو مفاجئ، ضمن تقليد الفلسفة الدينية الروسية، يسعى رامبير نيكولا إلى إعادة الاعتبار لفكر كوجيف الذي كان أسطورة في زمانه، وهو اليوم مجهول نسبياً، من خلال دراسة فلسفية وترجمة غير مسبوقة لنصه هذا الموضوع باللغة الروسية إلى اللغة الفرنسية. أما كتابه الثاني، "وعي ستالين، كوجيف والفلسفة الروسية"، فهو عبارة عن شروحات وتعليقات على نص كوجيف الموسوم "صوفيا"، وضمنه يستعيد نيكولا السؤال الذي طرحه كوجيف وقبله سولوفييف عام 1877 في كتابه "المبادئ الفلسفية للمعرفة الكاملة"، "ماذا سيحدث في روسيا غداً؟"، ساعياً من خلاله إلى إعادة اكتشاف "الكلمة" التي ينبغي لروسيا أن تطلقها اليوم في وجه العالم كي تغيره. "ضمير روسيا" يقول لنا لامبير نيكولا إن الثورة البلشفية التي قامت في الفترة الزمنية الفاصلة بين حياة سولوفييف وكوجيف والتي انعطفت بالقرن الـ20 نحو مسار مختلف، سبقتها مرحلة أسس فيها سولوفييف نظاماً فلسفياً كان وراء إطلاق الناس عليه لقب "ضمير روسيا". هذه الروسيا التي ورثها كوجيف والتي أسقطها في الوقت عينه باسم السوفياتية، جعلته يطلق هو أيضاً على نفسه لقب "ضمير ستالين"، أي "ضمير الاتحاد السوفياتي". وتشكل هذه المواجهة بين الفلسفة الدينية الروسية التي أسسها سولوفييف والفلسفة الإلحادية السوفياتية التي بناها كوجيف، لبّ هذا الكتاب الذي نكتشف فيه فكر كوجيف وقد أعيد دمجه في ثقافة بلده الأم، ولا سيما الفلسفة الروسية التي قامت بدور حاسم في مصير أمة تغلي بالتجارب الفنية والسياسية والفكرية. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) و في هذه الدراسة يستكشف رامبير نيكولا أيضاً فكر كوجيف الذي لا تزال أفكاره، على رغم تعقيدها، تلامس بحسبه راهنيتنا، مسلطاً الضوء ليس فقط على الجانب الستاليني المتحمس من فكره وعلى شخصيته الغامضة والذي يُعتقد بأنه عمل لفترة كعميل مزدوج لمصلحة الحكومة السوفياتية، بل أيضاً، ومن خلاله، على مجمل تاريخ الفلسفة الروسية وعلاقتها بالأسئلة الوجودية والموت والعمل السياسي، داعياً إلى عدم رفض هذا التقليد الفلسفي كلية، على رغم تناقضاته، بل إلى إدخاله مجدداً في النقاش الفلسفي المعاصر، طارحاً السؤال عن إمكان هذا الفكر الآتي من روسيا أن يساعدنا، اليوم، في فهم الحاضر وتعقيداته. إذاً، من خلال فكر الفيلسوفين فلاديمير سولوفييف وألكسندر كوجيف، يعود بنا رامبير نيكولا لتلك اللغة المتوهجة والملهمة التي اتسم بها فلاسفة روسيا الإمبراطورية المتأخرة، وللغة الروسية المعاصرة، لغة المثقفين الذين يشاركون، هم أيضاً، بحماسة في إعادة الاعتبار لـ"الإنجازات الكبرى" لوطنهم التي يسعى إلى توصيفها في كتابه "وعي ستالين". ويظهر كتاب "صوفيا I" الذي يشكل المرحلة الأولى من مشروع أوسع لم يكتمل، البعد العملي الملموس لهذه النظرية، إذ تتطابق فيه النهاية الفلسفية للتاريخ مع سياسة ستالين. وفي هذا الجزء من نصه، يعرّف كوجيف الفلسفة بأنها علم الغايات النهائية للإنسانية، جاعلاً من الشيوعية السوفياتية أفقاً لهذا التحقق. أما عنوان الكتاب الثاني "وعي ستالين، كوجيف والفلسفة الروسية"، المستوحى من كوجيف نفسه، فيقدم لنا قراءة عميقة لمخطوطة "صوفيا I"، يتتبع فيها رامبير نيكولا أثر الفلسفة الدينية عند فلاديمير سولوفييف التي شكلت خلفية فكرية لكوجيف الشيوعي، مبيناً لنا أنه بين سولوفيوف الذي رأى في روسيا "ضمير العالم"، وكوجيف الذي أراد أن يكون "ضمير ستالين"، تتقاطع رؤيتان متناقضتان للعالم والإنسان والسلطة. إن كتابي "صوفيا I ، الفلسفة والظاهراتية" و"وعي ستالين، كوجيف والفلسفة الروسية" يسلطان الضوء إذاً على مفكر لم يعُد يُقرأ اليوم إلا من خلال صدى محاضراته الشهيرة حول كتاب هيغل "فينومينولوجيا الروح"، ولعلهما يعيدان الاعتبار للجانب الروسي والسياسي والديني في فكره. وهذا بالضبط ما أراده لامبير نيكولا في إعداده وترجمته وشرحه لنص كوجيف ومشروعه الفلسفي وهويته كـ"ضمير ستالين"، المتأرجح بين إرث سولوفييف الديني والـ"يوتوبيا" الشيوعية الحديثة بوصفها بداية جديدة ومرحلة نهائية في العقل والتاريخ، متطلعاً إلى فهم أثر هذا الفكر في التاريخ المعاصر، ومساءلة موقعه من جدلية الفكر والسلطة والحلم والواقع.


Independent عربية
منذ 2 أيام
- Independent عربية
ميثاق الأمم المتحدة تعرض للانتهاك مرارا خلال 80 عاما
وقعت 80 دولة ميثاق الأمم المتحدة خلال الـ26 من يونيو (حزيران) 1945، أملاً في إنقاذ "الأجيال المقبلة من ويلات الحرب"، لكن هذه الوثيقة التي أرست قواعد العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، انتهكت مراراً خلال العقود الثمانية الماضية. وشدد الأمين العام للمنظمة أنطونيو غوتيريش هذا الأسبوع على أن الميثاق "هو أكثر من حبر وورق، هو وعد بالسلام والكرامة والتعاون بين الأمم". في خضم الحرب العالمية الثانية، وقع الحلفاء اعتباراً من عام 1941 مجموعة من الاتفاقات التي وضعت المعالم التأسيسية للأمم المتحدة، لكن صياغة الميثاق تمت خلال مؤتمر مدينة سان فرانسيسكو الأميركية خلال الـ25 والـ26 من أبريل (نيسان) 1945، ووقعته الدول الـ50 المشاركة. وبعد مصادقة الصين وفرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي وغالبية الدول الأخرى، أصبحت الأمم المتحدة واقعاً خلال الـ24 من أكتوبر (تشرين الأول) 1945 مع 51 دولة مؤسسة، وباتت الدول الخمس الكبرى دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي. يتألف الميثاق من 19 فصلاً و111 مادة ترسم "مقاصد الهيئة ومبادئها" والأسس الحاكمة للعلاقات الدولية، مثل حل المنازعات سلمياً والسيادة المساواة بين الدول، والتعاون في المجال الإنساني واحترام حقوق الإنسان. وفي حال حدوث تهديد للسلام العالمي، يمنح الفصل السابع مجلس الأمن الدولي صلاحية فرض عقوبات واتخاذ إجراءات، وصولاً إلى حق استخدام القوة العسكرية. ويحدد الميثاق دور الهيئات الرئيسة للأمم المتحدة، خصوصاً مجلس الأمن حيث تحظى الدول الخمس بحق النقض (فيتو)، والجمعية العامة والأمانة العامة إضافة إلى محكمة العدل الدولية. ويمكن لكل دولة توافق على مبادئ الميثاق أن تنضم إلى الأمم المتحدة، لكن يمكن لأي من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن أن يحول دون ذلك، ويبلغ عدد الدول الأعضاء حالياً 193. ويعد تعديل الميثاق أمراً بالغ الصعوبة، إذ يحتاج إلى مصادقة ثلثي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، بمن فيهم الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) على مدى الأعوام الـ80 الماضية تعرض الميثاق لانتهاكات متعددة، لكن يندر أن يجمع الأطراف على اعتبار أي تصرف انتهاكاً للميثاق، إذ غالباً ما يخضع ذلك لتباينات يحكمها التاريخ والعلاقات الدبلوماسية والتفسيرات المختلفة للنص التأسيسي. وغالباً ما تفتح مواد ميثاق الأمم المتحدة المجال أمام حجج متناقضة مثل حق الشعوب في تقرير المصير، مقابل عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، أو حتى "الدفاع المشروع" في مواجهة "أعمال العدوان". وفي أحدث الأمثلة، اتهمت إيران مدعومة من الصين، الولايات المتحدة بانتهاك الميثاق عبر قصف منشآتها النووية أواخر الأسبوع الماضي، بينما تذرعت واشنطن بـ"الحق الجماعي في الدفاع المشترك بما يتلاءم مع الميثاق". وتعد غيسو نيا من المجلس الأطلسي (أتلانتيك كاونسل) للأبحاث أن المجتمع الدولي لم يكترث عملياً لـ"أعمال العدوان"، أكان في ما يتعلق بالحرب الروسية داخل أوكرانيا عام 2022، أو الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وترى أن دولاً أخرى باتت تستند إلى هذا "الإفلات من العقاب" لتبرير أفعالها. وفي ما يتعلق بالدفاع المشروع الذي يتطلب تقديم أدلة على "هجوم وشيك"، عدت نيا أن هذه النقطة تبقى "إحدى المسائل الأكثر جدلية في الميثاق". ودان الأمين العام للأمم المتحدة وجمعيتها العامة الحرب الروسية في أوكرانيا باعتبارها انتهاكاً لميثاق المنظمة الدولية، لكن مجلس الأمن حيث تحظى موسكو بحق الفيتو، لم يقم بذلك، وكان الأمين العام السابق كوفي أنان عدَّ أن غزو العراق "غير مشروع". وفي حين تتيح المادة السادسة فصل دول من عضوية الأمم المتحدة في حال انتهكت مبادئ الميثاق، لم يحصل ذلك قط، لكن خلال عام 1974، عُلقت مشاركة جنوب أفريقيا في الجمعية العامة بسبب انتهاكاتها المتواصلة للميثاق من خلال نظام الفصل العنصري.