
ثورة العشرين أم الثورات
بقيت الثورة كمصفوفة ومفاعيل تراود المخيال الجمعي العراقي في كافة منعطفاته التاريخية الدامية التي وصفت بأنها 'ثورة' 1958/1963/1968 وقبلها حركات رشيد عالي الكيلاني 1941/الشواف 1959 وجميع ما تقدم وغيرها التي سميت بالثورات لم ترتقِ في ابسط مدلولاتها اللغوية او السياسية وحتى الاستعارية الى التعريف الموجز المبسط للثورة: Revolution (وهي التغيير المفاجئ السريع بعيد الأثر في الكيان الاجتماعي لتحطيم استمرار الأحوال القائمة في المجتمع وذلك بإعادة تنظيم وبناء النظام الاجتماعي بناءً جذرياً) كونها حركات هي اقرب للانقلابات العسكرتارية منها الى مفهوم الثورة كونها ذات طابع عسكري قامت بها مجاميع من العسكر وقوى الأمن لغرض تداول السلطة بالطرق اللاسلمية ولم تكن ذات مد او قاعدة او هدف جماهيري او شعبوي وقد تنفرد حركة تموز/58 بشيء من الخصوصية فهي بحكم السمات التي اتصف بها الزعيم قاسم وكاريزميته الشعبية والراديكالية والانجازات التي حققها فهي اقرب الى توصيف الثورة من غيرهــــا الى حـــد ما.
أما الحركة التي انطلقت في الثلاثين من حزيران سنة 1920 فهي الحركة الوحيدة في تاريخ العراق الحديث والمعاصر باستثناء الانتفاضة الشعبانية 1991، التي تتمظهر فيها سمات الثورة وصفاتها ومقارباتها فضلا عن أسبابها ونتائجها وإسقاطاتها على مجمل التاريخ العراقي الحديث والمعاصر فهي تشبه الثورة الفرنسية (1789) كمقياس من حيث المد الثوري الشعبي العفوي الهادر والهيجان المسلح ذي الطابع الراديكالي العنيف وتختلف عنها من نواح عدة أهمها ان ثورة العشرين ثورة ذات تنظيم عشائري/مناطقي بالدرجة الأساس وتوجه ديني ممزوج بالحس الوطني فهي ثورة عشائرية/ دينية/وطنية تواشجت فيها المفاعيل القبلية/المناطقية مع الدينية/الوطنية لتعطينا نموذجا مازال راسخا في جميع السرديات الوطنية كعلامة فارقة من علامات التحرر الوطني .
الثورة الفرنسية
وهي ثورة ذات نتائج مفصلية كالنتائج التي حققتها الثورة الفرنسية وان كانت لم تحقق الهدف الرئيسي من قيامها وهو طرد المحتل البريطاني الذي دخل الى العراق بموجب توافقات دولية كان من ضمنها تقسيم مناطق النفوذ في العالم الثالث بين القوى العظمى آنذاك بريطانيا وفرنسا وايطاليا وكان العراق وفقاً لاتفاقية سايكس بيكو 1916 من 'حصة' بريطانيا، وذلك قبل أن تبرز الولايات المتحدة كلاعب دولي/كوني فاعل إبان الحرب العالمية الثانية..
إلا إن ثورة العشرين حققت عدة نتائج مهمة منها إنها أجهضت المشروع البريطاني في العراق في ضمه الى منظومة دول الكومنولث (وهو اتحاد طوعي مكون من 53 دولة) وربطه مباشرة بالتاج البريطاني كمستعمرة كما فعلت مع الهند التي اعتبرتها 'درة' هذا التاج فكان العراق عصيا على الإرادة البريطانية وقد سبق الهنود في هذا المضمار الى أن جاء المهاتما غاندي (اغتيل عام 1948) وقاد حركة التحرير في بلاده وهي حركة تميزت بالعصيان المدني غير المسلح.
كما كشفت ثورة العشرين عن أولى بوادر المواطنة والوطنية العراقية ما يدل على بداية تأسيس الوعي الوطني الواضح المفضي الى ارتقاء المشاعر والأحاسيس المواطنية والوطنية الى الاتجاه نحو بلورة المشروع الوطني العراقي في ملامحه الاولى وهذا لم يتأتَ إبان الحكم العثماني الذي دام لأكثر من أربعة قرون فلأول مرة يتلاحم الشعب العراقي بأغلب مكوناته ومناطقه أي بأغلب نسيجه السوسيولوجي وتضاريسه الجغرافية وخريطته الطبوغرافية وتشكيلته المذهبية والقومية وفسيفسائه الاثني وقواسمه الانثروبولوجية في فعل وطني/ثوري مشترك وبتشارك نوعي تاريخي بعد أن كان هذا الفعل مجرد 'مشاغبات' مناطقية/عشائرية/فردية محلية وجزئية وبطابع محلي بحت، تتعرض للقمع والتنكيل دائما في ذلك العهد الذي مهد الطريق للاحتلال البريطاني للعراق الذي كان من تداعياته وأخطائه الفادحة نشوب ثورة العشرين التي ساهم نجاحها الجزئي في 'تسريع' بريطانيا لتأسيس أول دولة عراقية (آب/ 1921) بأخطاء تأسيسية فادحة صارت فيما بعد 'خارطة طريق' لمشاريع دولتية اكثر فشلا وخرابا أوسع، وتشكيل أول حكومة عراقية على أساس طوائفي عنصري شوفيني و'باستيراد' ملك من خارج البلاد لتتأسس فيما بعد النزعة الطوائفية المناطقية الاقصائية ومن ثم النزعة الطوائفية/العشائرية/العائلية.. المهم إن ثورة العشرين كانت النواة الاولى نحو تأسيس الدولة العراقية الحديثة وهذا لم تفعله أية ثورة عربية معاصرة حينئذٍ ما يكشف عن قوة فاعليتها وعمقها الوطني الإستراتيجي..
نتائج الثورة
وفي رأينا إن من أهم نتائج ثورة العشرين إنها حققت الطموح الشعبي ضد أهم الأسباب التي قامت من اجلها وهي إنها كسرت الإرادة البريطانية في استنساخ تجربة الهند (الشرق الأقصى) على الواقع العراقي (الشرق الأوسط) مايدل على قلة الخبرة البريطانية في التعامل مع واقعين حضاريين مختلفين تماما وهو ما اضطر بريطانيا لإرضاء غرورها الامبريالي والانتقام لمركزها الكولونيالي على الساحة الدولية آنذاك نتيجة لخسائرها الفادحة في الميدان العراقي وتخلخل موقعها كإمبراطورية عظمى وقطب دولي محوري فقامت بتأسيس مشروع الدولة العراقية الاولى حاملا معه منظومة جينية متكاملة من تلك الأخطاء التي ظلت تستنسخ نفسها مع كل مفصل تاريخي مهم.
الى أن جمعت تلك المنظومة كل أخطائها وخطاياها في تموز 1968 في مفارقة تاريخية سحبت معها خرابا شموليا واحتلالا آخر أعاد الى الذاكرة العراقية بيان الجنرال ستانلي مود (1917) وهو يرسل 'البشارة' الى الشعب العراقي بان البريطانيين لم يأتوا الى العراق فاتحين بل جاؤوا 'محررين' فكانت ثورة العشرين الرد الواضح على هذا 'البيان' الذي أسس لمنظومة الخراب في هذا البلد وما زال يؤسس.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الزمان
منذ 9 ساعات
- الزمان
ثورة العشرين أم الثورات
ثورة العشرين أم الثورات – عباس الصباغ بقيت الثورة كمصفوفة ومفاعيل تراود المخيال الجمعي العراقي في كافة منعطفاته التاريخية الدامية التي وصفت بأنها 'ثورة' 1958/1963/1968 وقبلها حركات رشيد عالي الكيلاني 1941/الشواف 1959 وجميع ما تقدم وغيرها التي سميت بالثورات لم ترتقِ في ابسط مدلولاتها اللغوية او السياسية وحتى الاستعارية الى التعريف الموجز المبسط للثورة: Revolution (وهي التغيير المفاجئ السريع بعيد الأثر في الكيان الاجتماعي لتحطيم استمرار الأحوال القائمة في المجتمع وذلك بإعادة تنظيم وبناء النظام الاجتماعي بناءً جذرياً) كونها حركات هي اقرب للانقلابات العسكرتارية منها الى مفهوم الثورة كونها ذات طابع عسكري قامت بها مجاميع من العسكر وقوى الأمن لغرض تداول السلطة بالطرق اللاسلمية ولم تكن ذات مد او قاعدة او هدف جماهيري او شعبوي وقد تنفرد حركة تموز/58 بشيء من الخصوصية فهي بحكم السمات التي اتصف بها الزعيم قاسم وكاريزميته الشعبية والراديكالية والانجازات التي حققها فهي اقرب الى توصيف الثورة من غيرهــــا الى حـــد ما. أما الحركة التي انطلقت في الثلاثين من حزيران سنة 1920 فهي الحركة الوحيدة في تاريخ العراق الحديث والمعاصر باستثناء الانتفاضة الشعبانية 1991، التي تتمظهر فيها سمات الثورة وصفاتها ومقارباتها فضلا عن أسبابها ونتائجها وإسقاطاتها على مجمل التاريخ العراقي الحديث والمعاصر فهي تشبه الثورة الفرنسية (1789) كمقياس من حيث المد الثوري الشعبي العفوي الهادر والهيجان المسلح ذي الطابع الراديكالي العنيف وتختلف عنها من نواح عدة أهمها ان ثورة العشرين ثورة ذات تنظيم عشائري/مناطقي بالدرجة الأساس وتوجه ديني ممزوج بالحس الوطني فهي ثورة عشائرية/ دينية/وطنية تواشجت فيها المفاعيل القبلية/المناطقية مع الدينية/الوطنية لتعطينا نموذجا مازال راسخا في جميع السرديات الوطنية كعلامة فارقة من علامات التحرر الوطني . الثورة الفرنسية وهي ثورة ذات نتائج مفصلية كالنتائج التي حققتها الثورة الفرنسية وان كانت لم تحقق الهدف الرئيسي من قيامها وهو طرد المحتل البريطاني الذي دخل الى العراق بموجب توافقات دولية كان من ضمنها تقسيم مناطق النفوذ في العالم الثالث بين القوى العظمى آنذاك بريطانيا وفرنسا وايطاليا وكان العراق وفقاً لاتفاقية سايكس بيكو 1916 من 'حصة' بريطانيا، وذلك قبل أن تبرز الولايات المتحدة كلاعب دولي/كوني فاعل إبان الحرب العالمية الثانية.. إلا إن ثورة العشرين حققت عدة نتائج مهمة منها إنها أجهضت المشروع البريطاني في العراق في ضمه الى منظومة دول الكومنولث (وهو اتحاد طوعي مكون من 53 دولة) وربطه مباشرة بالتاج البريطاني كمستعمرة كما فعلت مع الهند التي اعتبرتها 'درة' هذا التاج فكان العراق عصيا على الإرادة البريطانية وقد سبق الهنود في هذا المضمار الى أن جاء المهاتما غاندي (اغتيل عام 1948) وقاد حركة التحرير في بلاده وهي حركة تميزت بالعصيان المدني غير المسلح. كما كشفت ثورة العشرين عن أولى بوادر المواطنة والوطنية العراقية ما يدل على بداية تأسيس الوعي الوطني الواضح المفضي الى ارتقاء المشاعر والأحاسيس المواطنية والوطنية الى الاتجاه نحو بلورة المشروع الوطني العراقي في ملامحه الاولى وهذا لم يتأتَ إبان الحكم العثماني الذي دام لأكثر من أربعة قرون فلأول مرة يتلاحم الشعب العراقي بأغلب مكوناته ومناطقه أي بأغلب نسيجه السوسيولوجي وتضاريسه الجغرافية وخريطته الطبوغرافية وتشكيلته المذهبية والقومية وفسيفسائه الاثني وقواسمه الانثروبولوجية في فعل وطني/ثوري مشترك وبتشارك نوعي تاريخي بعد أن كان هذا الفعل مجرد 'مشاغبات' مناطقية/عشائرية/فردية محلية وجزئية وبطابع محلي بحت، تتعرض للقمع والتنكيل دائما في ذلك العهد الذي مهد الطريق للاحتلال البريطاني للعراق الذي كان من تداعياته وأخطائه الفادحة نشوب ثورة العشرين التي ساهم نجاحها الجزئي في 'تسريع' بريطانيا لتأسيس أول دولة عراقية (آب/ 1921) بأخطاء تأسيسية فادحة صارت فيما بعد 'خارطة طريق' لمشاريع دولتية اكثر فشلا وخرابا أوسع، وتشكيل أول حكومة عراقية على أساس طوائفي عنصري شوفيني و'باستيراد' ملك من خارج البلاد لتتأسس فيما بعد النزعة الطوائفية المناطقية الاقصائية ومن ثم النزعة الطوائفية/العشائرية/العائلية.. المهم إن ثورة العشرين كانت النواة الاولى نحو تأسيس الدولة العراقية الحديثة وهذا لم تفعله أية ثورة عربية معاصرة حينئذٍ ما يكشف عن قوة فاعليتها وعمقها الوطني الإستراتيجي.. نتائج الثورة وفي رأينا إن من أهم نتائج ثورة العشرين إنها حققت الطموح الشعبي ضد أهم الأسباب التي قامت من اجلها وهي إنها كسرت الإرادة البريطانية في استنساخ تجربة الهند (الشرق الأقصى) على الواقع العراقي (الشرق الأوسط) مايدل على قلة الخبرة البريطانية في التعامل مع واقعين حضاريين مختلفين تماما وهو ما اضطر بريطانيا لإرضاء غرورها الامبريالي والانتقام لمركزها الكولونيالي على الساحة الدولية آنذاك نتيجة لخسائرها الفادحة في الميدان العراقي وتخلخل موقعها كإمبراطورية عظمى وقطب دولي محوري فقامت بتأسيس مشروع الدولة العراقية الاولى حاملا معه منظومة جينية متكاملة من تلك الأخطاء التي ظلت تستنسخ نفسها مع كل مفصل تاريخي مهم. الى أن جمعت تلك المنظومة كل أخطائها وخطاياها في تموز 1968 في مفارقة تاريخية سحبت معها خرابا شموليا واحتلالا آخر أعاد الى الذاكرة العراقية بيان الجنرال ستانلي مود (1917) وهو يرسل 'البشارة' الى الشعب العراقي بان البريطانيين لم يأتوا الى العراق فاتحين بل جاؤوا 'محررين' فكانت ثورة العشرين الرد الواضح على هذا 'البيان' الذي أسس لمنظومة الخراب في هذا البلد وما زال يؤسس.


ساحة التحرير
منذ 15 ساعات
- ساحة التحرير
.. أمريكا تعقم يديها القذرتين بانتقاد سايسبيكو على لسان مندوبها إلى سوريا..!بقلم بكر السباتين
.. أمريكا تعقم يديها القذرتين بانتقاد سايسبيكو على لسان مندوبها إلى سوريا..! هل هو تَحَوُّلٌ في الرؤية الأمريكية أم جرعةُ مورفين لتخدير الوعي العربيِّ المسلوب!وأسئلة أخرى بقلم بكر السباتين ربما هو اعتراف أمريكي بما اقترفه الاستعمار الأوروبي من جرائم وكوارث بحق الوطن العربي مطلع القرن الماضي!أو هي حقنة مورفين يفرغها مستشارو ترامب في الجسد العربي المنهك؛ لتسهيل عملية استئصال ما تبقى من وعيٍ تاريخيٍّ إزاء مجريات الأحداث في الشرق الأوسط الذي يعربد في تفاصيله الشيطان!فقد ينخدع البعض للوهلة الأولى بالكلام الصادر عن أحد أهم المقربين المتصهينين من الرئيس الأمريكي دوناند ترامب، على اعتبار أن ما قاله مجرد صليةِ رصاصٍ يطلقها ترامب ضد الموروث الاستعماري للمنطقة، الناتج عن 'سايسبيكو' من خلال المبعوث الأميركي إلى سوريا، توماس بارك، أثناء لقائه بالرئيس السوري أحمد الشرع في مدينة إسطنبول التركية، لمناقشة عدد من الملفات الحيوية وسُبل دعم الاستثمارات الأجنبية في سوريا (الإخبارية السورية).فقد انتقد بارك اتفاقية 'سايكس بيكو' وهو في تركيا ممجداً الحكم العثماني على اعتبار أنه تمكن من خلق حالة من الوئام والسلم المجتمعي رسّخت العلاقة بين فسيفساء المنطقة القومية والطائفية على مدى قرون خلت، متأملاً في أنْ تتمكنَ أمريكا من تحقيق ذلك في وقتنا الراهن، اعتماداً على تفاهمات محلية بين دول المنطقة دون تدخل من الدول الغربية الاستعمارية كما كان دأبها، متجاهلاً حقيقة دامغة فحواها أن وحدة وجوهر الدين الإسلامي وسماحته إزاء الطوائف المنضوية تحت جناحيه، كان الأساس في ذلك، إلى جانب اللغة العربية وتشابه العادات والتقاليد، فيما لم يكن لليهود وجود يذكر بين العرب المنفتحين على بعضهم دون قيود أو حدود.ولكن بعد هزيمة الدولة العثمانية، والتغلغل الاستخباراتي الإنجليزي الفرنسي في الهلال الخصيب، تقاسم الاستعماران الفرنسي والبريطاني تركة رجل أوروبا المريض، فرسِّمت الحدودُ عشوائياً وكأنه 'سدر كنافة' على مائدة اللئام.. فيما تم غرس الكيان الإسرائيلي 'اللقيط' في القلب كمحراك للشر في الشرق الأوسط إلى وقتنا الراهن حتى لا يستعيد العرب وعيهم التاريخي ووحدتهم المفقودة على أساس اللغة والدين.و'سايسبيكو' هي معاهدة سرية أبرمت بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من الإمبراطورية الروسية وإيطاليا على اقتسام منطقة الهلال الخصيب (بلاد الشام والعراق) بين فرنسا وبريطانيا بعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الثانية باستثناء فلسطين التي كانت خاضعة للانتداب البريطاني.ويبدو أن بارك بأوهامه يريد التشكيك بالحدود البينيّة بين الدول العربية، التي أصبحت قانونية ومقدسة، وعُمِّدَتْ بالدماء التي نزفت ذوداً عنها.. وخاصة ما يتعلق بسوريا المعنية باللقاء، حيث تجاهل بارك التلميح إلى الشعب الفلسطيني الذي سلبت منه أرضه عام 1948 خارج سياق 'ساكسبيكو'من قبل العصابات الصهيونية تحت غطاء الانتداب البريطاني، بمنح اليهود وعد بلفور ، الصادر 'ممن لا يملك الأرض، لمن لا يستحقّها' في سابقة غير مشهودة عبر التاريخ المعاصر.إلا إذا وجد باركُ البديلَ الروحيَّ للإسلام الذي وحّدَ الأمةَ العربيةَ في الحقبةِ العثمانية، بالديانة الإبراهيميةِ التي يأمل ترامب أن توحِّدَ فسيفساءَ إقليم الشرق الأوسط بعد طمس معالم القضية الفلسطينية التي تشكل جوهرياً العقبةَ الكأداءَ لمشروعه المُغَلَّفُ بورقِ الهدايا والمُزَيَّنُ بابتسامةِ الذئبِ في وجوه الحملان، بغية مسح أيِّ أثرٍ للدم الفلسطيني المُراق في زمن تعددت مكاييله!فماذا قال بارك بالتفصيل في انتقاده ل'سايكسبيكو':اتهم الاتفاقية بالجور، قائلاً: بأنها'خطأ تاريخي' لمطامع استعمارية، ودفعت ثمنه أجيالٌ بكاملها!؟ 'عجبي!'وكأن أمريكا مُنَزّهَةٌ عن مثل هذه الخطايا، ما يعني أن إعادة رسم الحدود نية ترامبية مبيتة، وقد فعلها من قبل، على نحو الاعتراف بضم الجولان السوري للكيان الإسرائيلي المحتل، ومحاولة تفريغ القضية الفلسطينية من عنصريّ الأرض والإنسان توطئة لضم الضفة الغربية وقطاع غزة إلى ما يسمى ب'إسرائيل'.إذن هل بوسع بارك مخاطبة الفلسطينيين بنفس المنطق لو تجرأ على ذلك! بينما هم يقاومون الاحتلال في أجزاء من فلسطين المحتلة التي منحها اللورد بلفور للعصابات الصهيونية عام 1917 ليأتي الرئيس الأمريكي ترامب فيدافع عن الوجود الاستعماري الإسرائيلي بالحديد والنار، مخالفاً القانون الدولي بدعمه حرب الإبادة على قطاع غزة واضعاً العراقيل أمام تنفيذ قراري محكمة العدل والجنايات الدوليتين.ففي التفاصيل ستجد ما يثير الحيرة والاتباس، حينما ينتقد بارك معاهدة 'سايكس بيكو' قائلاً بأنها 'خطأ'.وهي المرة الثانية التي يستهدف فيها المفكرون الأمريكيون هذه المعاهدة، بغية تفتيت المجزأ، حينما أعاد المفكر البريطانيّ الأصل برناند لويس رسم خرائط للشرق الأوسط على أساس طائفي ليشرعن ليهودية 'إسرائيل'، وأقرها الكونغريس الأمريكي عام 1983 في عهد الرئيس ريغان الذي لم يكن متحمساً كثيراً لها.وفي تقديري أن خرائط لويس كانت تنتظر رئيساً مقامراً مثل ترامب، حتى ينفذ هذا المشروع مع شريكه المتطرف، نتنياهو.ورغم أن تلك الخرائط حفظت في خزائن البيت الأبيض؛ إلا أنه جاء من يبشر بالبديل من خلال شرق أوسط جديد يلبي حاجة 'إسرائيل' الاستراتيجية والأمنية، من بوابة الاتفاقيات الإبراهيمية وإعادة رسم الحدود 'غير المقدسة' وكأن القضية الفلسطينية طويت إلى الأبد، وسوريا ستكون موحدة ومنسجمةً فسيفسائياً دون الالتفات إلى ما سوف يُقْضَمُ من أراضيها شمالاً، لصالح تركيا إلى جانب ضم هضبة الجولان إلى 'إسرائيل' وفق ما ينادي به نتنياهو كشرط للسلام مع سوريا خلافاً لشعارات وحدة سوريا، وهي بمثابة السم في الدسم.ولكم أن تستذكروا في سياق ذلك ما قاله ترامب في مناسبات عديدة بأن 'إسرائيل' ضيقة المساحة وتحتاج للتوسع باتجاه الضفة الغربية، ولولا صمود المقاومة في غزة لنفذت هذه الأجندة كأمر واقع في ظل صمت دولي مطبق.وبكل غرور، وفي نشوة السوبرمان الأمريكي القادر على اجتراح المعجزات وتغيير العالم وفق المصالح الأمريكية، آخذاً في حساباته أن'إسرائيل' مصلحة أمريكية، قال بارك: إن الغرب ارتكب قبل قرن من الزمن 'خطأ تاريخياً' بتقسيم المنطقة عبر خرائط وقرارات استعمارية، مؤكداً أن واشنطن لن تكرر ذلك المسار، وأن الوقت قد حان لتمكين السوريين وشعوب المنطقة من رسم مستقبلهم بأنفسهم.وقال في تغريدة على حساب أنشأه مؤخراً ووثقته منصة 'إكس' باعتباره جهة حكومية، إن فرضَ الغرب قبل قرنٍ من الزمان خرائط وانتداباتٍ ورسمَ حدوداً بأقلام الرصاص و(نصّب نفسه عليها) حاكماً أجنبياً. فقسّمت اتفاقية سايكس-بيكو سوريا وعموم المنطقة لأجل المطامع الإمبريالية لا لأجل السلام. وقد كلّف ذلك الخطأ أجيالاً بأكملها. ولن نُكرّرهُ مرة أخرى'.متناسياً بارك دور أمريكا بفرض أجندتها التقسيمية في جنوب شرق أسيا، ولولا هزيمة أمريكا النكراء في حرب فيتنام عام 1959 لتغير شكل قارة آسيا وفق المصالح الأمريكية الاستعمارية.وأضاف بارك: 'عصرُ التدخل الغربي قد ولّى إلى غير رجعة. أما المستقبلُ فهو للحلول التي تضعها المنطقة بنفسها، وللشراكات، وللدبلوماسية القائمة على الاحترام (المتبادل)'.وهذا إيحاء مبطن بأن 'إسرائيل' جزء من الإقليم، وقادرة على ضبط ساعته وفق الاتفاقيات الإبراهيمية؛ لبناء شرق أوسطي جديد يقوم شكلاً على مبادئ السلام والتعاون الاقتصادي بينما مضمونه يقوم على تحقيق نبوءة إسرائيل الكبرى وفق ما بشر به جابوتسكي ووريثه نتنياهو الذي يجر الشرق الأوسط من حرب إلى أخرى بدعم أمريكي مفتوح على كافة الصعد؛ لتحقيق هذا الحلم على حساب القضية الفلسطينية، دون أن يدركَ بارك استحالة ذلك لأنه لا يتعلم من التاريخ.إن 'إسرائيل' التي فشلت في هزيمة المقاومة في قطاع غزة، ولم تحقق أهدافها في إيران، وعجزت عن لجم الخطر الحوثي عند باب المندب؛ لن يكون بوسعها التمدد في الشرق الأوسط لمجرد أنها حجمت حزب الله شمالاً، واحتوت سوريا لتقوم بدورها الوظيفي: بالتنازل عن الجولان- وهذا لم يحصل بعد- وقطع خط الإمدادات عن حزب الله، وربما مشاغلة حزب الله إذا نفذت 'إسرائيل' خطتها بخلط الأوراق في وجهه، وإحراجه بتسليم مزارع شبعا لحكومة الشرع والاعتراف بسوريتها، والوضع مهيأ لذلك.والغريب أن بارك أشار إلى خطاب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في الرياض عام 2017 قائلاً: 'فإنّ الأيّام التي كان فيها المتدخّلون الغربيون يطيرون إلى الشرق الأوسط ليحاضروا فيكم عن الطريقة التي يجب أن تعيشوا حياتكم فيها وتديروا بها شأنكم قد ولّت'.وكأن ترامب منزه عن ذلك! وهو يتدخل حتى في القضاء الإسرائيلي المستقل لصرفه عن محاكمة نياهو وهذا تدخل سافر في شؤون الدول، لا بل يحاول تخليصة من ملاحقة محكمة الجنايات الدولية بتهمة جرائم حرب! وكيف أنه يدعم حرب الإبادة على غزة وتهجير الفلسطينيين قسرياً منها! فماذا لو أضفنا إلى ذلك مطالبته بضم كندا إلى الولايات المتحدة دون موافقتها! ومحاولته الاستحواذ على قناة بنما.. وغيرها من التدخلات غير المشروعة في شؤون الغير.سأكتفي بهذا القدر من حديث بارك الذي جاء ليكسب ودّ تركيا من خلال مدحه للعثمانيين، وقد وضع السم في الدسم لجذب السوريين إلى هذا المنطق الذي يخفي شكله البراق جوهره المسموم، وفي المحصلة ليُسَوِّقَ ترامبَ بطريقة غير مباشرة كرجل سلام وبناء، معني بحل الأزمات الجيوسياسية في المنطقة.3 يوليو 2025 The post .. أمريكا تعقم يديها القذرتين بانتقاد سايسبيكو على لسان مندوبها إلى سوريا..!بقلم بكر السباتين first appeared on ساحة التحرير.


ساحة التحرير
منذ 2 أيام
- ساحة التحرير
في ذكرى استقلال الجائز 05 تموز/يوليو 1962 – 2025!الطّاهر المُعِز
في ذكرى استقلال الجائز 05 تموز/يوليو 1962 – 2025! الطّاهر المُعِز فرانتز فانون وزوجته ماري جوزيف، والقضية الفلسطينية وُلد فرانز فانون (1925-1961) في مارتينيك المستعمرة الفرنسية في بحر الكاريبي، وتدرب كطبيب نفسي في ليون قبل توليه منصبًا في الجزائر الاستعمارية. وقد سبق له أن عانى من العنصرية كمتطوع في الجيش الفرنسي الحر، الذي شهد القتال في نهاية الحرب العالمية الثانية. في الجزائر، تَوَاصَلَ فانون مع جبهة التحرير الوطني، التي قوبل نضالها الشرس من أجل الاستقلال بعنف استثنائي من القوات الفرنسية، وانتمى إلى حركة التحرير، واضطر إلى مغادرة البلاد، حيث أصبح حينها داعية وسفيرًا لجبهة التحرير الوطني، بالإضافة إلى كونه منظّرًا بارزًا مناهضًا للاستعمار، وبعد وفاته المُبكّرة عن 36 سنة، استمرّت زوجته ماري جوزيف (جوزي) في السّيْر على نَهْجِه واستقرّت بالجزائر حتى وفاتها، وساهمت بالتعريف بالقضية الفلسطينية في العالم ماري جوزيف دوبليه، المعروفة باسم 'جوزي' ( 1931 – 1989)، امرأة بيضاء ولدت في فرنسا، كانت زوجة فرانز فانون، الرجل الأسود (المولود في مارتينيك). تزوجا سنة 1953، سنة صدور كتابه 'بشرة سوداء، أقنعة بيضاء'، الذي ساعدته على إعداده، وظَلّت جوزي فانون طوال مسيرتها المهنية التي امتدت قرابة ثلاثين عامًا كصحفية ومحللة سياسية، تُركز اهتمامها على فلسطين، ووضعت 'جوزي' حدًّا لحياتها بشكل مأساوي في الجزائر العاصمة وانتحرت يوم الثالث عشر من تموز/يوليو 1989، بعد الإعتداء عليها خلال هجوم مُرَوّع من قبل شباب من فصائل الإسلام السياسي الإرهابي… أما بشأن فلسطين فقد أرسلت جوزي فانون، خلال العدوان الصهيوني ( بداية من الخامس من حزيران 1967) برقية عاجلة من منزلها في الجزائر إلى مكتب فرانسوا ماسبيرو في باريس، الناشر الفرنسي لكتاب فرانز فانون 'معذبو الأرض'، وطلبت من ماسبيرو: 'الرجاء حذف مقدمة جان بول سارتر لكتاب فرانز فانون (معذبو الأرض) فورًا من جميع الطبعات القادمة، نظرًا لموقفه ( موقف جان بول سارتر) المؤيد للصهيونية والإمبريالية وتعاطفه العلني مع العدوان الصهيوني على الشعوب العربية'، وكان جان بول سارتر قد وَقَّعَ قبل ذلك بأسابيع قليلة، بيانًا لمثقفين فرنسيين مؤيدين 'لأمن إسرائيل وسيادتها'، بينما كان الجيش الصهيوني يعتدي على الأراضي والبلدان والشعوب العربية، وبالنسبة لجوزي فانون، فإن 'كل من قرأ كتاب معذبو الأرض ولم يُبدِ تضامنًا راسخًا مع القضية الفلسطينية، لم يفهم كُنْهَ النص' لا بُدّ من نَزْع هالة القُدُسية عن سارتر وأمثاله، ولنعد لقراءة خاتمة 'مُعذبو الأرض'، وإذا أردنا 'تلبية طموحات شعوبنا، فعلينا البحث في مكان آخر غير أوروبا'، واعتبرت جوزي إن رفض مقدمة جان بول سارتر 'تحية أخيرة لذكرى فانون ورؤيته السياسية'، غير إن دار النّشر 'ماسبيرو' تجاهلت ملاحظات وتعليمات جوزي أرملة فرانتز فانون، بل أُزيلت المقدمة من المُجلّد للطبعة المُعادة، وأُدْرِجت بنهاية الكتاب كملحق. كانت جوزي فانون تعتبر سارتر غير منتمي إلى اليسار، وهي عبّرت عن عدم ثقتها بـ'اليسار الفرنسي' وأعلنت ' لم أعد أشعر بوجود أي شيء مشترك بيني وبين هذا اليسار ' وكتبت ( بخصوص سارتر الذي كان من الأدبار الفرنسيين القلائل الذين دعموا استقلال الجزائر) 'التقى فرانز فانون وجان بول سارتر مرة واحدة فقط، في روما صيف العام 1961، وأعلن سارتر إن فانتز فانون هو الرجل الأسود الوحيد الذي أنسى أمامه أنه أسود، وشكّل هذا اللقاء الوحيد عقودًا من البحث العلمي…' لا يتجاهل كُتّاب السّيرة والباحثون في الإرث الأدبي والثقافي لفانون عادةً طَلَبَ جوزي بإزالة المقدمة، ولكن يُستخدم هذا الطّلب لمناقشة العلاقة بين فرانز وسارتر أو تُسْتَغل المقدّمة في نقاشات حول صهيونية سارتر، دون التطرق إلى جوزي نفسها، وبعد قُرابة ستة عُقُود من عُدْوان 1967، لا يزال الكيان الصّهيوني مُستمرًّا في قصف وتهجير وتجويع الفلسطينيين ومُصادرة أراضيهم وتدمير مبانيهم، ولذا فإن الظّرْف مُناسب لوضع طلب حَذْف مُقدّمة جان بول سارتر في سياقه التّاريخي، وضمن إخلاص جوزي فانون والتزامها الممتد لعقود بتحرير فلسطين. عند التفكير في نشأتها في فرنسا، اعتقدت جوزي أن 'كل أوروبي يولد عنصريًا' ولكن يمكن تسهيل الوصول إلى 'أخوة الإنسان' من خلال 'تدريب أو تأهيل شاق وطويل' ولكنها تُضيف 'إن الظروف أو المناخ السياسي يُساعدان على تسريع أو تقصير عملية التّأهيل والجُهد المَبْذُول من قِبل الأوروبيين، وكان الإستعمار الفرنسي للجزائر مُحَفِّزًا هامّا لتنمية الوَعْي لدَيَّ '. أصبحت جوزي فانون أرملة وأُمًّا في الثانية والثلاثين من عمرها، وعادت إلى الجزائر مع ابنها ( أُولِيفييه) سنة 1962، بعد بضعة أشهر فقط من الاستقلال، ولاحظ الإبن، خلال مُقابلة معه سنة 2018، 'تَعَلُّقَ والدته القَوِيّ والفَوْرِي بالجزائر'، لأن فرانتز فانون كان جزءًا لا يتجزأ من هياكل جبهة التحرير الوطني التي تقاتل ضد الاستعمار الإستيطاني الفرنسي. بدأت جوزي فانون الكتابة في صحيفة المُجاهد بعد عودتها بفترة وجيزة، وأشرفت على ملف حركات المقاومة ومناهضة الإستعمار، وشَدّدت على 'العلاقة الوثيقة بين الثورة الجزائرية والثورة الفلسطينية' وأشارت في العديد من مقالاتها إلى 'التّكامل بين الثّوْرَتَيْن'، وظلت جوزي تُركّز على فلسطين طوال مسيرتها المهنية التي امتدت قرابة ثلاثين عامًا كصحفية ومحللة سياسية،. وشكّلت حُرِّيّة الشّعب الفلسطيني محور اهتمامها السياسي في العالم الثالث، حيث جمعت كتاباتها على الرّبْط بين الصهيونية والاستعمار والإمبريالية. كانت جوزي فانون في بداية مسيرتها مُراسلة إخبارية لصحيفة المجاهد، وكانت تُركِّزُ على أمريكا الجنوبية وأفريقيا، وانضمّت بهذه الصفة، إلى 'إيلين مختفي' في هافانا كمبعوثة صحفية رسمية لجبهة التحرير الوطني في المؤتمر الأول لمنظمة التضامن مع أمريكا الجنوبية (OLAS) سنة 1967، وكان المؤتمر بمثابة أكبر تجمع لجبهات حرب العصابات النشطة في أمريكا الجنوبية، بمشاركة أكثر من 157 صحفي أجنبي، وكان المؤتمر يهدف مواصلة الزّخم الذي وَلَّدَهُ المؤتمر الأول للقارات الثّلاث ( كانون الثاني/يناير 1966) لتوسيع نطاق التضامن الثوري والنّضال ضدّ الإمبريالية الأمريكية، وركّزت البيانات الصادرة عن المؤتمر ومعظم مقالات المُراسلين الصّحُفِيِّين على إدانة العدوان الأمريكي على فيتنام وإدانة حصار كوبا، وتميّزت مُراسلات جوزي فانون بحرصها على تسليط الضوء على العلاقة بين الإمبريالية الأمريكية والقضية الفلسطينية، فبالنسبة لها، لا يُمكن فصل 'وجود القوات الأمريكية في فيتنام ومحاولة غزو كوبا وتدخل المرتزقة في الكونغو، عن العدوان الصهيوني الجبان والإمبريالي على الشعوب العربية (…) ولا يُمكن اختزال قضية فلسطين في الدين أو العرق فحسب، بل هي جزء من عدوان امبريالي صهيوني'. بعد أقل من شهر من استسلام انفصالِيِّي إقليم بيافرا الغني بالنفط ( بقيادة الجنرال الإنفصالي أوجوكيو) للحكومة الإتحادية النيجيرية بقيادة الجنرال يعقوب غوون ( آذار/مارس 1970)، سافرت جوزي فانون إلى الإقليم الانفصالي السابق كمراسلة رسمية لصحيفة 'المجاهد'، وركزت تقاريرها على كشف النقاب عَمَّا كان يتم تقديمه على أنه صراع أهلي إقليمي، وأزاحت جوزي السّتار عن الأطراف الدّولية العديدة في هذه الحرب، ومن ضمنها الكيان الصهيوني ونظام جنوب إفريقيا العنصري والإستعمار البرتغالي والإمبريالية الأوروبية والأمريكية، وكانت جميع هذه الأطراف متحالفة من أجل الإطاحة بحكومة يعقوب غُوون ومن أجل انفصال إقليم بيافرا الغني بالنفط، منذ استقلال نيجيريا عن بريطانيا سنة 1960، ويعود الفض إلى جوزي التي عملت على إبراز دور الكيان الصهيوني في إفريقيا، وفي نيجيريا المُطلّة على المحيط الأطلسي ( أكثر الدّول الإفريقية كثافة سكّانية وأكثرها إنتاجًا للنفط والغاز وتقطنها أغلبية سُكّانية مُسلمة) حيث حرصت دولة الإحتلال الصهيوني على إقامة علاقات دبلوماسية واقتصادية وعسكرية مع الدّول الإفريقية حال استقلالها، ومن بينها نيجيريا، منذ استقلالها سنة 1960 وركّز الكيان الصهيوني على نيجيريا بحكم موقعها وثرواتها فأصبحت الوجهة الرئيسية لأنشطة الشركات المملوكة للصّهاينة في أفريقيا، ولعب مُمثّلو هذه الشركات – إلى جانب البعثات الدّبلوماسية الصهيونية والإمبريالية – دورًا حاسما في اندلاع الحُرُوب الدّاخلية منذ سنة الإستقلال ( 1960 ) وأظهرت جوزي فانون بوضوح وببساطة 'إن الصراع ليس صراعًل قَبَلِيًّا أو أَهْلِيًّا أو بين سكان مختلف أقاليم أو مناطق البلاد الواحدة، بل هو صراع أطْلَقَتْهُ أطراف خارجية دَوْلِيّة وفي مقدّمتها إسرائيل للسيطرة على موارد نيجيرها…'، وأدّى الكيان الصّهيوني بإتقان دَوْرًا مُزدوجًا حيث زَوَّدَ ( سنة 1967، سنة العدوان على الدّول العربية) طَرَفَيْ النِّزاع بالأسلحة والعتاد والمُستشارين والمُدرّبين، وتم الكَشْف عن عشرات الآلاف من صفحات البرقيات الموجودة في أرشيف وزارة الخارجية الصهيونية التي دعمت ما كتبته جوزي فانون قبل عُقُود، حيث عبّرت مقالاتها التي كتبتها من نيجيريا سنة 1970 عن دهشتها من العدد الكبير للأسلحة المهجورة التي لا تزال قيد التجميع، وعند زيارتها المَيْدانية لأماكن تجميع هذه الأسلحة لاحظت وجود 'أسلحة غربية وقنابل يدوية وأخبرني أحد الجنود إن إسرائيل كانت تزوّد الجميع ( طَرَفَيْ الحرب ) بأسلحة أمريكية '… كُتِبَ الكثير عن فرنتز فانون – وهو مُفكّر ثوري استثنائي – ولكن أرملته بقيت في الظّل حيث ظلَمها النّقّاد والمؤرخون وكذلك قيادات جبهة التحرير الوطني في الجزائر، لأن الجبهة بطبيعتها غير متجانسة… تمكّنت جوزي فانون من الرّبط – من خلال مقالاتها – بين الكيان الصّهيوني ونظام المَيْز والفَصْل العنصري في جنوب إفريقيا ( التي لم تتمكّن من زيارتها سوى خلال عقد الثمانينيات من القرن العشرين)، ونشرت العديد من المقالات الدّاعِمَة للمقاومة التي يقودها المؤتمر الوطني الأفريقي، وشهدت الروائية والنّاقدة الفرنسية ماريز كونديه، سنة 2023، عن بداية صداقتها مع جوزي فانون : ' لم أكن أُولِي اهتمامًا كبيرًا لبعض القضايا العالمية ، ومن بينها الإستعمار الإستيطاني في جنوب إفريقيا، ويعود الفضل إلى جوزي التي أطْلَعَتْنِي على على هذه القضايا وعلى الفصل العنصري في جنوب أفريقيا'، وهي مشاكل لم أكن أُوليها اهتمامًا كبيرًا'. كتبت جوزي فانون، سنة 1979، مقالاً بعنوان 'الصهيونية عنصرية'، وبرهنت على 'العلاقة الإيديولوجية والمصالح الإقتصادية والسياسية والإسترتيجية المُشتَرَكَة والقوية المُسْتَمِرّة منذ عقود بين إسرائيل والنظام العنصري في جنوب إفريقيا ضد مصالح الدول الأفريقية والعربية'، وجادلت بأن وسائل الإعلام في ذلك الوقت قللت من شأن هذا التعاون، لكن جوزي فانون أصرت على أن هذه العلاقة 'تتجاوز مجال الزيارات الدبلوماسية وتوافقهما في الأمم المتحدة، رغم إسقاط الجيش المصري، خلال حرب تشرين الأول/اكتوبر 1973، طائرة ميراج جنوب أفريقية على جبهة السويس، ورغم الدّلائل العديدة على مُشاركة الجيش الإسرائلي في غزو أنغولا سنة 1976، من خلال مدربين إسرائيليين في الجيش الجنوب أفريقي، وليست هذه الأحداث العديدة والمُتكرّرة عَرَضِيّة بل تعكس التعاون العسكري الوثيق والتّحالف واسع النّطاق، كما تعاونت أجهزة المخابرات الإسرائيلية والجنوب أفريقية بشكل وثيق في قمع القوميين السود والمقاتلين الفلسطينيين…' وكتبت جوزي فانون عن محاكمة أفراد الكومندوس الصهيوني ( سنة 1974) المُتّهمين باغتيال أحمد بوشيخي في النرويج بمشاركة عملاء جنوب أفريقيين، وتكتم الصحف الأوروبية عن 'هذا التعاون في الإرهاب الدولي' بين الكيان الصهيوني ونظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا… كما انتقدت الدّور السّلبي، بل التّخريبي أحيانا للأمم المتحدة بشأن فلسطين، بسبب الدور المهيمن للولايات المتحدة، ونَشَرت سنة 1979 ملفًا مخصصًا لأندرو يونغ، السفير الأمريكي السابق لدى الأمم المتحدة، الذي أُجْبِرَ على الاستقالة عقب اجتماعه مع مسؤول في منظمة التحرير الفلسطينية… خاتمة أصبحت جوزي فانون مُحاورة ماهرة وموثوقة، معروفة في محيط الصحافيين والمراسلين الدّوليين، وسمحت لها سُمْعَتُها الطّيّبة لمحاورة أكثر الشخصيات المناهضة للإستعمار والإمبريالية، مثل تشي جيفارا وإلدريدج كليفر وجوليوس نيريري وجورج سيلونديكا وارتبطت بصداقة مع أنجيلا ديفيس التي شاركتها وجهة نظرها بأن فلسطين 'اختبار أخلاقي حاسم'، وحاولت جوزي اغتنام أي فرصةً لتُكرّر الدّعوة إلى التضامن مع الشعب الفلسطيني، وكان مَقالها بعنوان 'كلنا فلسطينيون' أحد آخر المقالات التي نشرتها جوزي فانون التي عادت إلى أطروحتها التي نشرتها قبل أكثر من عقد، بشأن التّضليلات الصهيونية وتبرير الإحتلال الإستيطاني الصهيوني والعدوان على الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإفريقية بما حصل لليهود الأوروبيين على يد أنظمة الحُكم الأوروبية كالنازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا ونظام فيشي العمل للنازية في فرنسا، واستنكرت التبني واسع النطاق لتعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA) ل'معاداة السامية'، واستيعاب معاييره، وهو تعريف مُزَيِّف للحقائق والوقائع التّاريخية، ويُظْهِرُ دعمًا للإحتلال الإستيطاني لأوطان الشعوب التي تمت إبادتها وتهجير من أفلت من الإبادة. هل يَعْرِفُ من اعتدوا على جوزي فانون، من عناصر الإرهاب باسم الإسلام قيمة هذه المرأة ويُدركون تضحياتها ومشاركتها في حركة التحرير الوطني ودعمها لقضايا الشُعُوب المُضطَهَدَة ومُساندتها الشعب الفلسطيني، واعتدوا عليها لأنها مناضلة تقدّمية ومناهضة للإستعمار، أم اعتدوا عليها لأن مَظْهَرها يوحي بأنها 'أوروبية'؟ لقد اغتال الظّلاميون حسين مروّة ومهدي عامل في لبنان واعتدوا على التقدّميين والمفكرين المُتنوّرين من المُسلمين، وفي الجزائر انطلقت حملة اغتيالات المُثقفين والفنانين والنساء التّقدّميات قبل 'العَشْرِية السّوداء' وقبل قرار قيادة الجيش الجزائري إيقاف الإنتخابات، وكانت جوزي فانون من ضحاياهم وافتقدنا بذلك نَصِيرَةً للشعب الفلسطيني والشّعوب العربية وجميع شعوب 'العالم الثالث'، ورمزًا من رُموز الكفاح الوطني الجزائري والكفاح الأُمَمِي، ولتكُنْ هذه الفقرات مُساهمة في تكريمها في الذّكرى السادسة والثلاثين لوفاتها… 2025-07-03