
توازن السوق بإشارة سالبة؟ مشادة أكاديمية صامتة!!
انتهى أستاذنا القدير من درس الاقتصاد الجزئي في تلك القاعة الجامعية الأنكلو-سكسونية، التي ضمّت طلابًا من شتى أنحاء الأرض، بعد أكثر من ساعة ونصف قضيناها في تتبّع اشتقاق رياضي معقّد، أراد استاذنا من خلاله، البرهنة على توازن السوق بين سلعتين، مستخدمًا أعنف أدوات الاقتصاد الرياضي فتكًا.
وكانت النتيجة التي ختم بها درسه في: توازن السوق… بإشارة سالبة!
همس في أذني ذلك الطالب الكوري المتقد ذكاءً (يي جون)، والذي قدم للتو من جامعة سول لمتابعة تعليمه العالي في جامعتنا في شمال أميركا، قائلاً: 'كيف يمكن للسوق أن تنتهي على لوحة أستاذنا بهذا الكم من المعادلات… بإشارة سالبة؟ كان ينبغي، على الأقل، أن تكون نتيجة التوازن صفرًا أو موجبة!'
فقلت له هامسًا: 'ربما هناك حالة استثنائية… إنه عالم الرياضيات، واحة مخيفة في أدغالها!'
أجابني: 'أتمنى أن أسأله، لكنني… لا أستطيع ، ألا ترى أنه رجل متعجرف، متعالٍ على طلبته على نحو لا يُحتمل؟'
قلت له:'حاول أن تستفسر منه!'
فجمع الطالب شجاعته، وسأل أستاذنا بصوت خافت:
'هل يجوز أن تحمل حالة السوق المتوازنة إشارة سالبة؟'
احتقن وجه الأستاذ، وسكت هنيهة، ثم ازداد حنقه، والتزم الصمت، ونحن بدورنا غرقنا في صمت أشد. ثم كانت إجابته الحاسمة، بكلمة واحدة فقط، توجّه بها إلى الطالب (يي جون )الكوري الجنوبي الذكي المهذّب:
'أخرس!'
صمت الجميع، وانتهى الدرس. وانصرفنا ونحن نتقلب على حافات استبدادٍ أكاديمي، لا يصحو من نشوة دكتاتوريته، فيما نحن تائهون في خوفٍ من مجهولٍ لا يرحم.
ذهبنا نقلب بطون الكتب، وبدأت نقاشاتنا كخلايا نحل من طلاب قدموا من شمال العالم وجنوبه، لولوج عالم النظرية الاقتصادية الكلاسيكية، حيث يُفترض أن السوق يتوازن عند تقاطع قوى العرض والطلب، أي عندما تتساوى الكمية المعروضة مع الكمية المطلوبة عند سعر موجب، يُمثّل القيمة النقدية للسلعة.
ولكن… السؤال الذي ظلّ يراودنا:
هل يمكن أن يحدث التوازن بسعر صفري أو حتى بإشارة سالبة؟
نظريًا، لا يُفترض أن يكون السعر التوازني سالبًا، لأن السعر يُعد أداة تخصيص للموارد والتعبير عن الندرة.
لكن المفارقة الاقتصادية تكمن في أن السعر السالب لا يعني أن السلعة بلا قيمة، بل أن كلفة التخلص منها قد تكون أعلى من كلفة إنتاجها، أو أن السوق فقد مؤقتًا كفاءته في توزيعها.
مرّ أقل من نصف قرن على تلك الجدلية… بين التوازن السالب والموجب والصفر. لقد طويت صفحات من حياتي الأكاديمية والمهنية، ولكن أسئلة ضلت لم تغب عن بالي قط، خصوصًا مع كل ظاهرة اقتصادية نشهدها اليوم في عالم يعجّ بحالات 'التوازن السالب'، كاستثناء لا كقاعدة.
فالحادثة الأولى التي أثارت ظاهرة التوازن السالب تجلت في الأسواق المغمورة بالإنتاج الفائض مثل النفط أو الغاز، كما حدث في نيسان 2020، حين انهار الطلب ووصل خام غرب تكساس إلى (سالب 37 دولارًا للبرميل)، بسبب تكاليف التخزين المكلفة جدًا، بحيث اضطر المنتج إلى دفع المال للمشتري كي يأخذ السلعة!
وتتكرر هذه الظاهرة في حالات التسعير البيئي أو الاجتماعي السلبي، كأن تكون السلعة غير مرغوبة اجتماعيًا أو ملِوثة (مثل النفايات الصناعية أو انبعاثات الكربون)، فتُولِّد سعرًا سالبًا رمزيًا مقابل نقلها أو تدويرها.
أما الاقتصاد الصيني، الموصوف اليوم بمصنع العالم، والذي حقق أعلى معدلات نمو في ناتجه المحلي الإجمالي خلال العقود الماضية، فقد بات يعيش محنة التوازن السالب في أسواقه.
اذ تبين مؤشرات الاقتصاد الصيني اليوم بكون الصين 'مملكة العالم الأوسط - حسب النظرية الكونفوشيوسية " إلى أن أسواقها تناطح السعر السالب، الذي لا يعكس توازنًا اقتصاديًا مستقِرًا، بل اختلالًا مؤقتًا في آلية السوق.
حيث يرى الصينيون انفسهم حسب معتقدات الصينيون القدماء ان بلادهم مركز العالم حضاريًا وثقافيًا وجغرافيًا، واعتقدوا أن جميع الأمم الأخرى إما 'برابرة' أو تقع في الأطراف المحيطة. هذه النظرة هي جزء من الفكر الكونفوشيوسي والإمبراطوري الصيني، حيث كانت الصين ترى نفسها محورًا للنظام العالمي، خصوصًا في ظل 'نظام الروافد' (Tributary System)وهو شكل من اشكال الحرب الناعمة او الإمبريالية الثقافية والسياسية الصينية' في التاريخ الآسيوي مع محيطها الاقليمي" وحسب مُنظري مدرسة فرانكفورت الفكرية : 'لم يعد الإنتاج هو المشكلة، بل ان المعضلة الحقيقية تكمن في كيفية تعبئة فائض القوة الصناعية لتعزيز أنظمة الهيمنة، والاستهلاك، والانهيار البيئي.'
فالتوازن بالسالب هو حالة اضطرارية، تنشأ عندما تتعطل فيها آلية السعر عن تحقيق التوازن بين العرض والطلب، وخصوصًا في ظل الحروب التجارية 'الاترامبية' الاخيرة وفرض تعريفات كمركية إضافية على صادرات الصين إلى الولايات المتحدة بنسبة تجاوزت 50% إضافةً إلى الأزمات الجيوسياسية، وتداعيات تغير المناخ، وحروب المعلوماتية والذكاء الاصطناعي في خضمّ الثورة التكنولوجية الرابعة.
وعندما يتحول السعر إلى سالب، لا يعود السوق عقلانيًا، بل نكون أمام حالة نادرة يُصبح فيها التخلص من السلعة أغلى من إنتاجها.
تغمر الصين العالم اليوم بسلعها ، اذ جائت وكالة 'بلومبيرغ' تحليلًا بهذا الشأن تحت عنوان :
'فائض الإنتاج يتحول إلى سلاح صناعي'
ليست المسألة إخفاقًا صينيًا في ضبط الإنتاج، بل هي، حسب بلومبيرغ، انعكاس لإستراتيجية صناعية متعمدة تقوم على ما يُعرف ب "فائض القوة (Surplus of Power).فحتى وإن بدت النتائج مرهقة على المدى القصير، فإن التوازن السالب هو تكتيك جيو-اقتصادي ستربح الصين من خلاله الحرب العالمية على الأسواق.
إذ تُفضل بكين في ميزانها الدقيق بين النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي، الحفاظ على فائض الإنتاج كدرع قومي لمواجهة تحولات السوق العالمية، حتى وإن كان الثمن… هو الانخفاض وتحمل حروب الأسعار داخل الحدود وخارجها.
تذكّرت ثانية ' يي جون '، ذلك الطالب الكوري الجنوبي، بعد اكثر من أربعين عامًا. اذ لم يحصل وقتها على جواب من أستاذ الاقتصاد الجزئي الديكتاتور الجامعي الانكلو سكسوني، لكن يبدو أن الجواب جاء مؤخرًا، لا من قاعة الدرس، بل من سياسات النحاس الصينية!
إذ قالت بلومبيرغ في تقريرها اليوم إن: 'المشكلة لم تعد فقط في ما يُنتَج، بل في كيف يُستخدم فائض القوة الصناعية.'
The challenge today lies not in production per se, but in the deployment of surplus industrial power.
فعلى سبيل المثال، لا تزال مصاهر النحاس الصينية تعمل بكفاءة عالية، رغم مواجهتها لما وصفه التقرير بـ'رسوم معالجة سلبية غير مسبوقة'، أي أن الشركات تضطر إلى دفع مبالغ مقابل إنتاجها بدلًا من جني الإيرادات، في انعكاس لمستوى التنافس المحموم الذي يُكبد القطاع خسائر فادحة من أجل الحفاظ على الحصة السوقية.
وأخيراً ، عند الانتقال من التوازن الرياضي إلى الجيوصناعة، تتجه الصين اليوم وغيرها من الدول إلى رسم خريطة جديدة للقوة الصناعية، إذ لم تعد الدول تُقاس بإجمالي الناتج المحلي فحسب، بل بـمدى ما تمتلكه من 'قدرة صناعية فائضة قابلة للتوجيه'.
لقد بدأت الجغرافيا الاقتصادية تتحول إلى جيوصناعة (Geo-Industry)، يُعاد فيها ترسيم النفوذ العالمي وعلى وفق من يملك القدرة على تصنيع السلع الحيوية، ويتحكم بمفاتيح التكنولوجيا والبنى التحتية الرقمية، وينقل الفائض إلى الخارج دون أن ينهار داخليًا.
نحن نعيش اليوم في نظام اقتصادي عالمي لا يحتفي بالتوازن الموجب كما ينبغي ان ندرسه، بل يتهيأ لقبول التوازنات السالبة كأدوات للمنافسة والهيمنة، في عالمٍ تذوب فيه مفاهيم السوق التقليدية، ويُعاد كتابتها بلغة الجيوصناعة وفائض القوة.
ختاماً، إن الصراع لم يعد على إنتاج السلع فقط، بل على التحكم بوجهتها وتوقيتها وسعرها… حتى لو أصبح سالبًا. إنه عالم اقتصادي متسارع يعمل بلا توازنات موجبة، في صراع سالب من أجل البقاء.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


صدى البلد
منذ 5 ساعات
- صدى البلد
حكم قضائي تاريخي في بكين.. تعويض موظف عن تدريبات خارج ساعات العمل
في سابقة قانونية أثارت جدلًا واسعًا في الأوساط المهنية بالصين، ربح موظف سابق في إحدى الشركات الهندسية في بكين دعوى قضائية ضد صاحب عمله السابق، حيث قضت المحكمة بإلزام الشركة بدفع تعويض مالي عن تدريبات إلزامية نُظمت بعد انتهاء ساعات العمل الرسمية، وذلك وفقًا لموقع SCMP. خلفية القضية بدأ الموظف، المعروف إعلاميًا باسم "وانغ"، عمله كمهندس في شركة هندسية بالعاصمة الصينية في يوليو عام 2020، قبل أن يُفصل من عمله في يونيو 2023، وبالرغم من أن تفاصيل راتبه لم تُكشف، فقد لجأ وانغ إلى هيئة التحكيم طالبًا تعويضًا يزيد على 80 ألف يوان (نحو 11 ألف دولار) عن ساعات العمل الإضافية التي قضاها في تدريبات إلزامية. تدريبات بعد الدوام وعقوبات غير رسمية وفقًا لما ذكره وانغ، فقد طُلب منه مرارًا حضور جلسات تدريبية عبر الإنترنت خارج ساعات العمل باستخدام تطبيقات مثل "دينغ دينغ" و"وي تشات"، وكان الامتناع عن الحضور يُقابل بفرض تبرع إجباري بقيمة 200 يوان (28 دولارًا)، ما أشار إليه وانغ كدليل على إلزامية الحضور. لقطات مسجلة لإثبات الواقعة ولإثبات دعواه، قدّم وانغ لقطات شاشة وسجلات محادثات توضح مشاركته في هذه التدريبات، إلا أن الشركة أنكرت أن هذه الأنشطة تُعد ساعات عمل إضافية، بحجة أن حضور الجلسات كان شكليًا وغير إلزامي، وأن الموظفين لم يُطلب منهم التفاعل أو الاستماع للمحتوى فعليًا. من التحكيم إلى القضاء ورغم رفض هيئة التحكيم طلب وانغ، لم يستسلم، فقرر تصعيد الأمر إلى المحكمة، والتي نظرت في الأدلة المقدّمة، وخلصت إلى أن هذه التدريبات الافتراضية تم تنظيمها خارج أوقات الدوام الرسمي، وبما أن التغيب عنها كان يُقابل بعقوبة مالية، فإن ذلك يجعلها نشاطًا مهنيًا مفروضًا من جهة العمل. وأكدت المحكمة أن مجرد تسجيل الدخول لا ينفي التعدي على الوقت الشخصي للموظف، وأن نظام "التبرع" يُعد دليلًا إضافيًا على إلزامية الحضور، ما يجعل التدريب امتدادًا لواجبات العمل الرسمية. حكم نهائي وتعويض مالي وفي النهاية، قضت المحكمة بأن الشركة مطالبة بدفع تعويض مالي لو وانغ قدره 19 ألف يوان (نحو 2,600 دولار) عن ساعات العمل الإضافية التي قُضيت في تلك التدريبات. ورغم أن المحكمة أشارت إلى أن الموظف لم يكن دائمًا دقيقًا في توقيت تسجيل الدخول، فإن ذلك لا يُلغي حقيقة أن النشاط تمّ خارج ساعات الدوام وتحت ضغط الإلزام. أصداء واسعة للقضية وصفت صحيفة "ووركرز ديلي" الصينية القضية بأنها "تاريخية"، نظرًا لأنها تمثل سابقة في الاعتراف القانوني بأن الأنشطة الرقمية المفروضة خارج أوقات العمل الرسمية تُعد شكلًا من أشكال العمل الإضافي، ومن المتوقع أن تعيد هذه القضية تشكيل النقاش العام حول حدود العمل وحقوق الموظفين في العصر الرقمي.


شبكة النبأ
منذ 10 ساعات
- شبكة النبأ
توازن السوق بإشارة سالبة؟ مشادة أكاديمية صامتة!!
نحن نعيش اليوم في نظام اقتصادي عالمي لا يحتفي بالتوازن الموجب كما ينبغي ان ندرسه، بل يتهيأ لقبول التوازنات السالبة كأدوات للمنافسة والهيمنة، في عالمٍ تذوب فيه مفاهيم السوق التقليدية، ويُعاد كتابتها بلغة الجيوصناعة وفائض القوة. إن الصراع لم يعد على إنتاج السلع فقط، بل على التحكم بوجهتها وتوقيتها وسعرها… حتى لو أصبح سالبًا... انتهى أستاذنا القدير من درس الاقتصاد الجزئي في تلك القاعة الجامعية الأنكلو-سكسونية، التي ضمّت طلابًا من شتى أنحاء الأرض، بعد أكثر من ساعة ونصف قضيناها في تتبّع اشتقاق رياضي معقّد، أراد استاذنا من خلاله، البرهنة على توازن السوق بين سلعتين، مستخدمًا أعنف أدوات الاقتصاد الرياضي فتكًا. وكانت النتيجة التي ختم بها درسه في: توازن السوق… بإشارة سالبة! همس في أذني ذلك الطالب الكوري المتقد ذكاءً (يي جون)، والذي قدم للتو من جامعة سول لمتابعة تعليمه العالي في جامعتنا في شمال أميركا، قائلاً: 'كيف يمكن للسوق أن تنتهي على لوحة أستاذنا بهذا الكم من المعادلات… بإشارة سالبة؟ كان ينبغي، على الأقل، أن تكون نتيجة التوازن صفرًا أو موجبة!' فقلت له هامسًا: 'ربما هناك حالة استثنائية… إنه عالم الرياضيات، واحة مخيفة في أدغالها!' أجابني: 'أتمنى أن أسأله، لكنني… لا أستطيع ، ألا ترى أنه رجل متعجرف، متعالٍ على طلبته على نحو لا يُحتمل؟' قلت له:'حاول أن تستفسر منه!' فجمع الطالب شجاعته، وسأل أستاذنا بصوت خافت: 'هل يجوز أن تحمل حالة السوق المتوازنة إشارة سالبة؟' احتقن وجه الأستاذ، وسكت هنيهة، ثم ازداد حنقه، والتزم الصمت، ونحن بدورنا غرقنا في صمت أشد. ثم كانت إجابته الحاسمة، بكلمة واحدة فقط، توجّه بها إلى الطالب (يي جون )الكوري الجنوبي الذكي المهذّب: 'أخرس!' صمت الجميع، وانتهى الدرس. وانصرفنا ونحن نتقلب على حافات استبدادٍ أكاديمي، لا يصحو من نشوة دكتاتوريته، فيما نحن تائهون في خوفٍ من مجهولٍ لا يرحم. ذهبنا نقلب بطون الكتب، وبدأت نقاشاتنا كخلايا نحل من طلاب قدموا من شمال العالم وجنوبه، لولوج عالم النظرية الاقتصادية الكلاسيكية، حيث يُفترض أن السوق يتوازن عند تقاطع قوى العرض والطلب، أي عندما تتساوى الكمية المعروضة مع الكمية المطلوبة عند سعر موجب، يُمثّل القيمة النقدية للسلعة. ولكن… السؤال الذي ظلّ يراودنا: هل يمكن أن يحدث التوازن بسعر صفري أو حتى بإشارة سالبة؟ نظريًا، لا يُفترض أن يكون السعر التوازني سالبًا، لأن السعر يُعد أداة تخصيص للموارد والتعبير عن الندرة. لكن المفارقة الاقتصادية تكمن في أن السعر السالب لا يعني أن السلعة بلا قيمة، بل أن كلفة التخلص منها قد تكون أعلى من كلفة إنتاجها، أو أن السوق فقد مؤقتًا كفاءته في توزيعها. مرّ أقل من نصف قرن على تلك الجدلية… بين التوازن السالب والموجب والصفر. لقد طويت صفحات من حياتي الأكاديمية والمهنية، ولكن أسئلة ضلت لم تغب عن بالي قط، خصوصًا مع كل ظاهرة اقتصادية نشهدها اليوم في عالم يعجّ بحالات 'التوازن السالب'، كاستثناء لا كقاعدة. فالحادثة الأولى التي أثارت ظاهرة التوازن السالب تجلت في الأسواق المغمورة بالإنتاج الفائض مثل النفط أو الغاز، كما حدث في نيسان 2020، حين انهار الطلب ووصل خام غرب تكساس إلى (سالب 37 دولارًا للبرميل)، بسبب تكاليف التخزين المكلفة جدًا، بحيث اضطر المنتج إلى دفع المال للمشتري كي يأخذ السلعة! وتتكرر هذه الظاهرة في حالات التسعير البيئي أو الاجتماعي السلبي، كأن تكون السلعة غير مرغوبة اجتماعيًا أو ملِوثة (مثل النفايات الصناعية أو انبعاثات الكربون)، فتُولِّد سعرًا سالبًا رمزيًا مقابل نقلها أو تدويرها. أما الاقتصاد الصيني، الموصوف اليوم بمصنع العالم، والذي حقق أعلى معدلات نمو في ناتجه المحلي الإجمالي خلال العقود الماضية، فقد بات يعيش محنة التوازن السالب في أسواقه. اذ تبين مؤشرات الاقتصاد الصيني اليوم بكون الصين 'مملكة العالم الأوسط - حسب النظرية الكونفوشيوسية " إلى أن أسواقها تناطح السعر السالب، الذي لا يعكس توازنًا اقتصاديًا مستقِرًا، بل اختلالًا مؤقتًا في آلية السوق. حيث يرى الصينيون انفسهم حسب معتقدات الصينيون القدماء ان بلادهم مركز العالم حضاريًا وثقافيًا وجغرافيًا، واعتقدوا أن جميع الأمم الأخرى إما 'برابرة' أو تقع في الأطراف المحيطة. هذه النظرة هي جزء من الفكر الكونفوشيوسي والإمبراطوري الصيني، حيث كانت الصين ترى نفسها محورًا للنظام العالمي، خصوصًا في ظل 'نظام الروافد' (Tributary System)وهو شكل من اشكال الحرب الناعمة او الإمبريالية الثقافية والسياسية الصينية' في التاريخ الآسيوي مع محيطها الاقليمي" وحسب مُنظري مدرسة فرانكفورت الفكرية : 'لم يعد الإنتاج هو المشكلة، بل ان المعضلة الحقيقية تكمن في كيفية تعبئة فائض القوة الصناعية لتعزيز أنظمة الهيمنة، والاستهلاك، والانهيار البيئي.' فالتوازن بالسالب هو حالة اضطرارية، تنشأ عندما تتعطل فيها آلية السعر عن تحقيق التوازن بين العرض والطلب، وخصوصًا في ظل الحروب التجارية 'الاترامبية' الاخيرة وفرض تعريفات كمركية إضافية على صادرات الصين إلى الولايات المتحدة بنسبة تجاوزت 50% إضافةً إلى الأزمات الجيوسياسية، وتداعيات تغير المناخ، وحروب المعلوماتية والذكاء الاصطناعي في خضمّ الثورة التكنولوجية الرابعة. وعندما يتحول السعر إلى سالب، لا يعود السوق عقلانيًا، بل نكون أمام حالة نادرة يُصبح فيها التخلص من السلعة أغلى من إنتاجها. تغمر الصين العالم اليوم بسلعها ، اذ جائت وكالة 'بلومبيرغ' تحليلًا بهذا الشأن تحت عنوان : 'فائض الإنتاج يتحول إلى سلاح صناعي' ليست المسألة إخفاقًا صينيًا في ضبط الإنتاج، بل هي، حسب بلومبيرغ، انعكاس لإستراتيجية صناعية متعمدة تقوم على ما يُعرف ب "فائض القوة (Surplus of Power).فحتى وإن بدت النتائج مرهقة على المدى القصير، فإن التوازن السالب هو تكتيك جيو-اقتصادي ستربح الصين من خلاله الحرب العالمية على الأسواق. إذ تُفضل بكين في ميزانها الدقيق بين النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي، الحفاظ على فائض الإنتاج كدرع قومي لمواجهة تحولات السوق العالمية، حتى وإن كان الثمن… هو الانخفاض وتحمل حروب الأسعار داخل الحدود وخارجها. تذكّرت ثانية ' يي جون '، ذلك الطالب الكوري الجنوبي، بعد اكثر من أربعين عامًا. اذ لم يحصل وقتها على جواب من أستاذ الاقتصاد الجزئي الديكتاتور الجامعي الانكلو سكسوني، لكن يبدو أن الجواب جاء مؤخرًا، لا من قاعة الدرس، بل من سياسات النحاس الصينية! إذ قالت بلومبيرغ في تقريرها اليوم إن: 'المشكلة لم تعد فقط في ما يُنتَج، بل في كيف يُستخدم فائض القوة الصناعية.' The challenge today lies not in production per se, but in the deployment of surplus industrial power. فعلى سبيل المثال، لا تزال مصاهر النحاس الصينية تعمل بكفاءة عالية، رغم مواجهتها لما وصفه التقرير بـ'رسوم معالجة سلبية غير مسبوقة'، أي أن الشركات تضطر إلى دفع مبالغ مقابل إنتاجها بدلًا من جني الإيرادات، في انعكاس لمستوى التنافس المحموم الذي يُكبد القطاع خسائر فادحة من أجل الحفاظ على الحصة السوقية. وأخيراً ، عند الانتقال من التوازن الرياضي إلى الجيوصناعة، تتجه الصين اليوم وغيرها من الدول إلى رسم خريطة جديدة للقوة الصناعية، إذ لم تعد الدول تُقاس بإجمالي الناتج المحلي فحسب، بل بـمدى ما تمتلكه من 'قدرة صناعية فائضة قابلة للتوجيه'. لقد بدأت الجغرافيا الاقتصادية تتحول إلى جيوصناعة (Geo-Industry)، يُعاد فيها ترسيم النفوذ العالمي وعلى وفق من يملك القدرة على تصنيع السلع الحيوية، ويتحكم بمفاتيح التكنولوجيا والبنى التحتية الرقمية، وينقل الفائض إلى الخارج دون أن ينهار داخليًا. نحن نعيش اليوم في نظام اقتصادي عالمي لا يحتفي بالتوازن الموجب كما ينبغي ان ندرسه، بل يتهيأ لقبول التوازنات السالبة كأدوات للمنافسة والهيمنة، في عالمٍ تذوب فيه مفاهيم السوق التقليدية، ويُعاد كتابتها بلغة الجيوصناعة وفائض القوة. ختاماً، إن الصراع لم يعد على إنتاج السلع فقط، بل على التحكم بوجهتها وتوقيتها وسعرها… حتى لو أصبح سالبًا. إنه عالم اقتصادي متسارع يعمل بلا توازنات موجبة، في صراع سالب من أجل البقاء.


صدى البلد
منذ يوم واحد
- صدى البلد
الذهب يفقد 30 جنيهًا مدفوعًا بانخفاض سعر صرف الدولار محليًا
شهدت أسعار الذهب في السوق المحلية تراجعًا خلال تعاملات اليوم الإثنين، رغم استقرار الأوقية عالميًا، حيث حدّت تحسنات في معنويات المخاطرة عقب توقيع اتفاق تجاري بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من مكاسب المعدن النفيس، فيما يترقب المستثمرون اجتماع مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي هذا الأسبوع. وأوضح سعيد إمبابي، المدير التنفيذي لمنصة «آي صاغة» لتداول الذهب والمجوهرات عبر الإنترنت، أن أسعار الذهب المحلية انخفضت بنحو 30 جنيهًا مقارنة بختام تعاملات السبت الماضي، ليسجل عيار 21 نحو 4600 جنيه للجرام، بينما استقرت الأوقية عند مستوى 3337 دولارًا. وأضاف، أن جرام الذهب عيار 24 سجل 5257 جنيهًا، وعيار 18 بلغ 3943 جنيهًا، في حين وصل عيار 14 إلى 3067 جنيهًا، وسجل الجنيه الذهب 36800 جنيه. كما أشار إلى أن أسعار الذهب كانت قد هبطت بنحو 20 جنيهًا خلال الأسبوع الماضي، متراجعةً من 4650 إلى 4630 جنيهًا للجرام، بالتزامن مع انخفاض محدود في الأوقية عالميًا بنسبة 0.4% من 3350 إلى 3337 دولارًا. وأوضح أن هذا التراجع في السوق المحلية جاء رغم استقرار الأوقية عالميًا، نتيجة لانخفاض سعر صرف الدولار محليًا، وهو أحد العوامل الثلاثة الرئيسية المحددة لسعر الذهب، إلى جانب سعر الأوقية العالمية وحجم العرض والطلب. وأشار إمبابي إلى أن تحسن الأجواء التجارية عالميًا وارتفاع الدولار الأميركي خفضا الإقبال على الأصول الآمنة مثل الذهب، بعد توقيع اتفاقية تجارية بين واشنطن واليابان، وتحقيق تقدم في المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي، كما ينتظر المستثمرون قرار الفيدرالي الأمريكي وسط توقعات بتثبيت الفائدة ضمن نطاق 4.25% – 4.50% مع احتمالية خفضها في سبتمبر المقبل. وأضاف التقرير أن توقيع الولايات المتحدة اتفاقًا تجاريًا مبدئيًا مع الاتحاد الأوروبي ساعد على تهدئة المخاوف من حرب تجارية أوسع، حيث تم الاتفاق على فرض رسوم جمركية بنسبة 15% بدلًا من 30%، ما عزز شهية المخاطرة في الأسواق ودفع الأسهم الأوروبية إلى أعلى مستوياتها في أربعة أشهر. وتزامن ذلك مع محادثات أمريكية-صينية في ستوكهولم تهدف إلى تمديد هدنة الحرب التجارية لمدة 90 يومًا، وهو ما يعزز حالة التفاؤل ويقلل الطلب على الذهب كملاذ آمن. ورغم هذه العوامل التي تحد من مكاسب الذهب، يبقى احتمال خفض الفائدة الأمريكية في وقت لاحق من العام عنصرًا داعمًا محتملًا للمعدن الأصفر، إذ أن انخفاض العوائد الحقيقية غالبًا ما يعزز جاذبية الذهب. وأشار التقرير أيضًا إلى تراجع استهلاك الذهب في الصين بنسبة 3.5% خلال النصف الأول من 2025، حيث انخفض الطلب على المجوهرات بنسبة 26%، بينما ارتفع الطلب الاستثماري بنسبة 24%، مما يعكس تحولًا في طبيعة الطلب العالمي على المعدن النفيس. ويرى إمبابي أن سوق الذهب يمر حاليًا بمرحلة استقرار نسبي بعد موجة صعود قوية بلغت ذروتها في أبريل الماضي، بدعم من التوترات الجيوسياسية والرسوم الجمركية، إلا أن تراجع المخاطر التجارية وضعف الطلب في أسواق رئيسية مثل الهند، نتيجة ارتفاع الأسعار، حدّا من استمرار هذا الزخم. كما أشار إلى أن مشتريات البنوك المركزية ما زالت توفر دعمًا للسوق رغم انخفاضها في الربع الأول مقارنة بالعام السابق، بينما تشهد صناديق الاستثمار المتداولة اهتمامًا متزايدًا. ويخلص التقرير إلى أن استمرار أي صعود قوي في أسعار الذهب يتطلب محفزات استثنائية مثل تباطؤ اقتصادي عالمي حاد أو تصعيد جيوسياسي، بينما قد يدفع تحسن الأوضاع الاقتصادية وتراجع المخاطر المستثمرين نحو الأصول ذات العوائد الأعلى، ما يزيد الضغوط على الذهب. وتترقب الأسواق الأسبوع المقبل عدة بيانات اقتصادية أمريكية، أبرزها قرار الفيدرالي في 30 يوليو، وتقديرات الناتج المحلي الإجمالي للربع الثاني، وأرقام نفقات الاستهلاك الشخصي الأساسية، إضافة إلى بيانات الوظائف غير الزراعية.