
حين يكون الزواج بناءً لا مظهرا
في كل حضارة تنمو وتزدهر، كانت الأسرة هي الخلية الأولى التي يبدأ بها البناء، والركيزة التي يقوم عليها المجتمع. وإذا ما نظرنا في التاريخ نجد أن أعظم المجتمعات إنما عرفت الاستقرار والتقدم حين اعتنت بالزواج وباركت تكوين الأسرة.
والزواج في الإسلام ليس مجرد ارتباط بين ذكر وأنثى؛ بل هو ميثاق غليظ، وعهد رباني، وسنة كونية وشرعية تحمل في جوهرها مقاصد عظيمة. ولأننا اليوم نعيش زمنًا تتسارع فيه التحديات الاقتصادية والاجتماعية، بات من المهم أن نعيد الحديث عن هذا الركن الثابت، لا لنكرّر ما قيل، بل لنضيء الزوايا التي أهملناها، ونستنهض الوعي حول ما يجب أن يكون.
تحدثنا في موضوع سابق عن "كيف يمكن أن نبني زواجًا ناجحًا"؛ فكان لا بُد أن نوضح ونحث على الزواج، ونتحدث عن أهمية الزواج في الإسلام، حيث شرع الله سبحانه وتعالى الزواج بين جنسي البشر ذكر وأنثى، ووضع له شروطًا وأركانًا، وحث عليه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث النبوي الشريف: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء".
وهذا دليل من السنة على وجوب الزواج وأهميته. وكثيرًا ما تم الحديث عن أسباب تأخر الشباب في الزواج، ومنها ارتفاع المهور، وتكاليف الزواج، وعدم القدرة المالية، وقلة التوظيف، وكثرة التسريح من الأعمال. كلها أسباب مجتمعة تجعل من هذا الموضوع عائقًا أمام الإتمام.
وبالتالي نركز في هذا الموضوع على الأركان الأساسية لتحقيق الزواج كما أشار إليه مصطلح "الباءة"، والذي يعني القدرة على الإنفاق على الزوجة وتحمل تكاليف الزواج من مهر، ومسكن، ونفقة، وكسوة. وهذه أمور أساسية، نعم، قد يشارك الأهل في بعضها وتسهيل البعض الآخر، ولكن يبقى الأساس في ذلك هو "الاستطاعة"، وتشمل كذلك القدرة الجسدية على إقامة علاقة زوجية سليمة، مقرونة بالقدرة المالية على تحمّل أعباء الزواج. وإذا توفرت هذه الأركان يُحثّ الشخص على إتمام الزواج، وإلّا فليُرجع إلى التوجيه والنصح النبوي بالصوم، لكسر جموح الرغبة لدى الإنسان، خوفًا من الوقوع في المعصية، لا قدر الله.
والزواج في الإسلام سُنَّةٌ مؤكدةٌ وعبادةٌ حثّ عليها الأنبياء والرسل؛ حيث يُعد من أفضل الأعمال وأقربها إلى الله تعالى، لما يحققه من مقاصد شرعية واجتماعية. وقد ورد فيه: "تناكحوا تناسلوا فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة". وهذا الحديث فيه حث صريح على الزواج، وهو أمر فطري لاستمرار التناسل، وحتى لا ينقطع التكاثر الإنساني، وهذا هو الأمر الفطريّ للبشرية. فالزواج كما ذكرنا عبادة، ويحقق نصف الدين، وكذلك يمثل الإطار الشرعي الذي يحقق الرغبات المشروعة، ويمنع الانحرافات الفطرية، ويوفر الاستقرار للمجتمع.
كما أنه بناء لمؤسسة عظيمة تقوم على أركان السكينة والمودة والرحمة، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك بقوله تعالى: "
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا، وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً
" (الروم: 21).
وهذه الآية بينت أن الزواج هو الأساس في بناء الأسرة، ويحقق أركانها. وشرع الله سبحانه الزواج منذ بداية الخليقة، عندما خلق سيدنا آدم، إلى أن تقوم الساعة، قال الله تعالى: "
يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ
" (البقرة: 35).
كما إنَّ الزواج يحقق ويقوّي الروابط الأسرية، ويعزّز التواصل الفعّال بين أفراد الأسرة، ويزيد من ممارسة الاحترام المتبادل.
وتُعد الروابط الأسرية هي روابط القرابة بين الأفراد الذين تربطهم صلة الدم أو الزواج، وهي تشكّل علاقات الوحدة الأساسية للمجتمع، وهي أساسية للتنمية الاجتماعية. فنجد أن الأسرة في الأفراح والأتراح مجتمعة بكاملها، تفرح لفرح الجميع، وتحزن لحزنهم، حتى وإن كانوا من قبائل مختلفة، لأن هناك ترابطًا بينهم من خلال تحقيق الزواج بين تلك العوائل. كما ذكرنا، بالإضافة إلى تحقيق الدعم المعنوي، يحقق الزواج أيضًا الدعم المادي لبعضهم البعض، ويتحقق ذلك من خلال إقامة الصناديق العائلية، والمساهمات العينية في جميع المناسبات.
ولله الحمد والمِنَّة، نجد ذلك يتحقق في مجتمعنا العُماني بصور مختلفة باختلاف المحافظات. وحتى نحافظ على تقوية تلك الروابط الأسرية، أود أن أشير إلى بعض النقاط والطرق التي من الممكن أن تساعد وتحقق معنى الترابط الأسري. على سبيل المثال: يمكن تنظيم مناشط عائلية مشتركة، تسهم في تعزيز التواصل الفعّال بين أفراد العائلة الواحدة. كما إنَّ إبداء الاحترام المتبادل، وحلّ الخلافات بطريقة بنّاءة، يسهمان في الاستمرارية الإيجابية لتقوية العلاقات الأسرية. كذلك، فإن الصراحة والإخلاص في العلاقات يبنيان الثقة الكاملة في تلك الرابطة.
ولنتحدث قليلًا عن تأخر الزواج وأسبابه وآثاره الجانبية. إلّا أنني أؤمن بأن تأخر الزواج قد يدل على جوانب تتعلق بالحكمة الإلهية، أو لظروف شخصية أو اجتماعية، أو حتى ظروف اقتصادية من جانب الرجل. وقد يكون السبب أيضًا المبالغة والأنانية في طلبات الزواج. ومع ذلك، فإن هذا التأخر قد يكون فرصة للنضوج والتطوير الذاتي لدى الجانبين.
لكن، من جانب آخر، فإن تأخر سن الزواج يؤدي إلى متغيرات في نمط الإنفاق والاستهلاك لدى الفرد، فتجد عملية الإنفاق غير مسؤولة، والمشتريات ليست لها حاجة ضرورية، أو تكون فقط لحظية. وهذا ما يحدث نتيجة عدم الشعور بالمسؤولية الأسرية. كما لا يخلو التأخير من الآثار النفسية لدى الطرفين، من حيث القلق والتوتر النفسي، الذي قد يؤدي إلى انعدام الثقة، وفقدان الإحساس بالاستمتاع، والقلق، والعصبية، واضطرابات في النوم، وبعض المشاكل الجسدية في شكل أوجاع متفرقة.
ولو رجعنا إلى الخلف قليلًا، لوجدنا تباينًا كبيرًا في المتطلبات والعادات والتقاليد. فبينما كان في الماضي يتم عقد القران بحضور الأهل والأقارب والأصدقاء، مع تناول الحلوى العُمانية، وبعدها تتم مراسم الزواج من خلال الأهازيج والموروث العماني، وكلٌّ حسب محافظته، إلا أنَّ ما أثقل كاهل الشباب اليوم في موضوع الزواج هو إقامة الحفلات.
فهناك حفلة لعقد القران، يتبعها حفلة لِلَبس الدبل، ويتم استئجار القاعات أو الاستراحات مع وجبة عشاء، يتبعها حفلة العرس، وما تحمله من نفقات لا مبرر لها، وتُختتم برحلة تُسمى (شهر العسل). وهذه كلها تكاليف لم يأمر بها الإسلام أبدًا، امتثالًا لقوله صلى الله عليه وسلم: "أقلهن مهرًا أكثرهن بركة".
ومما يدعو للتفاؤل أن هناك مبادرات مجتمعية آخذة في التنامي، تسعى إلى إقامة الأعراس الجماعية تخفيفًا لأعباء تكاليف الزواج، وتعزيزًا لروح التعاون والتكافل الاجتماعي. كما أن استشعار الدولة لأهمية دعم الشباب في هذا الجانب تجسّد في تبنّي الحكومة لصندوق دعم الزواج، المخصص لمن تنطبق عليهم الشروط، وهو ما يعكس وعيًا مؤسسيًا بقيمة الاستقرار الأسري في بناء المجتمع.
ولذلك.. أوجه ندائي للجهات المعنية بالدولة فيما يخص هذا الصندوق، بألا يتم وضع شرط دخل الفرد عائقًا أمام بعض الشباب من الاستفادة منه، أو على الأقل رفع معدل دخل الفرد إلى (1500 ريال عُماني) للحصول على هذا الدعم؛ لأن ما يترتب على الزواج من تكاليف، كما تم ذكره أعلاه، أكبر من أن يتحمّله الشباب وحدهم.
وهكذا، فإن الزواج ليس مجرد عقد وارتباط؛ بل هو بداية رحلة، ومفتاح لبناء حضارة، وتجسيد لمعاني الرحمة والسكن. فلنحمله بالوعي، لا بالمظاهر. ولنجعله عبادة، لا عادة. ولتكن نوايانا فيه خالصة، وقلوبنا مهيأة لحياة تستحق أن تُبنى على الثبات، لا على التكلّف.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشبيبة
منذ 3 ساعات
- الشبيبة
الجمعيةُ العُمانية للعناية بالقرآن الكريم تفتتح فرعها الـ12 في بركاء
افتتحت الجمعية العُمانية للعناية بالقرآن الكريم اليوم مركز بركاء القرآني الذي يُعد الفرع الثاني عشر للجمعية على مستوى سلطنة عُمان في إطار جهودها المتواصلة لنشر علوم القرآن الكريم وتعليمه. رعى حفل الافتتاح سعادة السّيد طارق بن محمود البوسعيدي والي ولاية بركاء. وألقى السيّد الدكتور أحمد بن سعيد البوسعيدي، عضو مجلس إدارة الجمعية، كلمةً أكد فيها على أهمية افتتاح هذا المركز، مشيرًا إلى حرص الجمعية على توفير بيئة تعليمية متكاملة تُعنى بتحفيظ القرآن الكريم وتدريس علومه، من خلال برامج متخصصة تلائم مختلف الفئات العمرية. وتضمّن الحفل عرضًا مرئيًّا بعنوان "برنامج البذرة المباركة"، استعرض بشكل مفصّل البرامج والدورات التي يقدمها المركز ومن أبرزها، برنامج الإجازة القرآني وبرنامج المُرتل الصغير ودورة "سور صلاتي"، إلى جانب عدد من الدورات المكثفة الأخرى الهادفة إلى ترسيخ الثقافة القرآنية. تجدر الإشارة إلى أن الجمعية العُمانية للعناية بالقرآن الكريم تواصل توسّعها في مختلف ولايات سلطنة عُمان، تعزيزًا لدورها الريادي في خدمة كتاب الله، وتوفير فرص تعليمية وتربوية لأبناء المجتمع.


جريدة الرؤية
منذ 18 ساعات
- جريدة الرؤية
والي صحم يطلع على البرامج والفعاليات بالمراكز الصيفية
صحار- خالد بن علي الخوالدي زار سعادة الشيخ الدكتور سلطان بن عبدالله البطاشي والي صحم، عددا من المراكز الصيفية في الولاية، يرافقه عدد من أعضاء اللجنة التنفيذية للمراكز الصيفية بمحافظة شمال الباطنة، للاطلاع على سير البرامج والأنشطة المقدمة ضمن برنامج "صيفنا.. ريادة وإبداع". وشملت الجولة زيارة الكلية المهنية بصحم، حيث اطلع سعادته على الورش التدريبية والبرامج المهنية والتقنية المقدمة لفئة الشباب، والتي تهدف إلى تنمية مهاراتهم وتعزيز جاهزيتهم لسوق العمل، كما التقى بعدد من الطلبة المشاركين واستمع إلى آرائهم حول محتوى البرامج وأثرها على تطوير قدراتهم. كما زار سعادته المركز الصيفي التابع للمديرية العامة للتربية والتعليم بالمحافظة، والمقام في مدرسة خديجة الكبرى للتعليم الأساسي، ضمن برنامج "صيفي.. تواصل ونماء"، واطلع على الأنشطة التربوية والتعليمية والترفيهية المقدمة للطلبة في إطار بيئة محفزة وممتعة. وشملت الزيارة كذلك عددًا من المراكز الصيفية التابعة لإدارة الأوقاف والشؤون الدينية بصحم، لتعليم وتحفيظ القرآن الكريم، حيث تعرف سعادته على جهود هذه المراكز في غرس القيم الإسلامية وتعزيز الوعي الديني لدى المشاركين من مختلف الفئات العمرية. وتجسد هذه الزيارة الاهتمام المتواصل بدعم المبادرات الصيفية المُتنوعة، بما يسهم في تنمية الطاقات الشبابية، وصقل المهارات، وبناء جيل واعٍ قادر على الإسهام في خدمة المجتمع.


جريدة الرؤية
منذ 20 ساعات
- جريدة الرؤية
هجرة الحق
نعيمة السعدية ها قد أقبلت سنة هجرية جديدة في حلة دينية مباركة تذكرنا بشخصية عظيمة قدمت حياتها فداءً لنشر الدين الإسلامي، وكان لها الأثر في بناء الحضارة الإنسانية منذ آلاف السنين.. شخصية لها صولات وجولات في ميدان الدعوة الإسلامية التي استمرت طويلًا على مدار عقدين ونيف من الزمن؛ فقد تحمل رسولنا الكريم أقسى أنواع العذاب من قِبل قومه وأشدها في بدايتها. وكان اشتداد هذا العذاب من أهم الأسباب التي دفعته إلى الهجرة إلى يثرب التي سميت بالمدينة المنورة بعد ذلك؛ فلما اشتد العذاب على المسلمين في مكة بعد البيعة الثانية أذِن النبي لأصحابه بالهجرة إلى المدينة واللحاق بإخوانهم الأنصار. وتعد الهجرة النبوية حدثًا تاريخيًا وذكرى عند المسلمين، وقد اتُخذت بداية للتقويم الهجري. كما كانت خطوة مهمة نحو تأسيس دولة إسلامية في المدينة المنورة قادرة على توسيع نطاق الدعوة الإسلامية وحماية المسلمين الذين فروا لاجئين من أجل المحافظة على دينهم الإسلامي، كما مثلت نقطة تحول في حياة الدولة الإسلامية؛ فقد ساعدت على ترسيخ قواعد الأمة الإسلامية في العالم، وذلك بنشر الإسلام في أرجاء العالم من ذلك قوله تعالى: " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ " (الأنبياء: 107). إن حادثة الهجرة النبوية غيرت مجرى التاريخ تغييرًا عظيمًا كان له أثر قوي في حياة البشرية جمعاء؛ فالمتأمل في أحداثها يجد العديد من الدروس المستفادة والعِبر التي ينبغي للمسلم الاستلهام منها لواقع حياته؛ فقد جسَّدت الهجرة النبوية أصولًا إيمانية في نفوس المسلمين الذين اضطهدوا في مكة منها: التوكل على الله، والصبر على مواجهة الصعاب، والتحديات العنيفة التي تعرضوا لها بمعية رسول الأمة عليه أفضل الصلاة والسلام، والتضحية وهي من أعظم الدروس، فقد ضحَّى النبي لنُصرة دينه وترك داره وبلده التي ترعرع فيها وأهله وعشيرته، كما إن المسلمين قدموا تضحيات كثيرة جبارة في سبيل الله تعالى من أجل نشر الدعوة الإسلامية؛ فقد تركوا أموالهم وديارهم في مكة مهاجرين إلى مكان يأويهم ويكون آمنًا لهم من الأذى الشديد الذي واجهوه من قومهم آنذاك مساندةً لرسول الأمة الأعظم وحبًا له. يقول الحق تبارك وتعالى: " إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ " (التوبة: 40). صدق الله العظيم.