
"تاريخ أوروربا في 29 حدوداً".. طبيعة خطوط الفصل وأصولها
وفيما احتفت فكرة الجسر بدور الحدود كمكان مفتوح للتبادلات، جاءت فكرة الباب في المقابل مستحضرة القدرة على إغلاق الحدود، وعدم السماح بدخول الآخرين إلا بطريقة انتقائية، مع إمكانية حجب الدخول أو حظره على نحو كامل.
والفكرتان في الحقيقة تنطبقان على كل حدود بدرجات وظروف بمختلفة. والمثل الذي يقدمه باستون على ذلك، هو الحدود بين أستونيا وروسيا ولاتفيا. وفي حين ينظر حراس الحدود الأستونيون إلى الحدود الروسية على أنها الباب الخارجي لوطنهم، الباب الذي ينبغي تشديد حراسته، تبقى حدودهم مع لاتفيا في المقابل مفتوحة تماماً.
نهاية البيت - الحدود
حتى أن هناك ملعب ببلدة فالغا فالكا الحدودية بين أستونيا ولاتفيا فيه أرجوحة تنقل الأولاد الذين يركبونها في ثوان، ذهاباً وإياباً بين البلدين. فالحدود تشير إلى النقطة التي يبدأ بها نطاق "البيت"، وفق استشهاد باستون بالكاتبة الأوكرانية فيكتوريا أميلينا (1986- 2023). وذاك لا يعني بالضرورة "الحدود الوطنية"، بل مكاناً أرحب يسود فيه شعور أخوة ووئام قد يتخطى حدوداً وطنية هنا في هذا الجانب، ولا يتخطاها هناك في جانب آخر.
على أن تعيين هذه الحدود الرحبة والفضفاضة ليس سهلاً بالضرورة. وذاك ما دعا أميلينا للسؤال: هل نحن محكومون دائماً بارتكاب أخطاء متعلقة بتعيين نقطة نهاية "بيتنا"، ومكان أماننا الذي يشعرنا بالثقة، وأيضاً بتعيين الجانب من الحدود الذي ينبغي التشدّد في حراسته؟
ويشير باستون في هذا الجانب إلى أن الأمم والقومية والحدود قبل القرن التاسع عشر عملت بطرق مختلفة ممّا يسود اليوم. والقرنان الماضيان اللذان أنتجا تعريفاً أكثر تشدداً للحدود وطرق مراقبتها، كانا اختباريين في هذا المضمار.
فعمليات مراقبة الحدود وحركة الناس عبرها، كانت قليلة في أوروبا الإمبراطوريات قبل العام 1914، وبالتالي لم تكن إمكانية وشروط التنقّل عبر الحدود تتعدى "شروط السوق"، أي تأمين نفقات السفر.
لذا فإن حركة الهجرة كانت حرّة نسبياً حتى قبل "قانون الغرباء" (Aliens Act) سنة 1905، بالنسبة لبريطانيا. وجوازات السفر لم تكن ضرورية في العادة. كما كان هناك إلى جانب الهجرة نظام سفريات سياحية كبير وناشط، يأخذ السياح إلى الشواطئ البحرية والمنتجعات ومناطق الآثار، وحتى إلى ساحات المعارك لهواة النوع، في إطار "السياحة السوداء".
ففكرة الحدود بحد ذاتها ليست قديمة كما نميل للاعتقاد. إذ إن ما نتخيلها دولاً قبل التحولات الكبرى، كمعاهدة "صلح ويستفاليا" سنة 1648، وحروب الثورة الفرنسية، لم تكن في الغالب مسؤولة حصرياً عن أراضيها. بل كانت واجباتها بالدرجة الأولى تتلخص بخدمة التزاماتها الإمبراطورية والدينية، ثم تأمين حقوق اللوردات والاهتمام بالمدن.
وهذا ما جعل معنى "السيادة" المطبقة على المناطق الطرفية في تلك الكيانات السياسية، مغلفاً بالضبابية، من الناحيتين السياسية والجغرافية.
استكشاف الحدود
ينتمي باستون إلى جيلٍ كان ما زال شاباً في مطلع عقد التسعينيات، حين انهار الاتحاد السوفياتي وتفكّك، وانفرج "الستار الحديدي" عن شرقي أوروبا. الرحلة البرية الأولى التي قام بها باستون الشاب في تلك الأنحاء الأوروبية، شبه المحرّمة على سكان غرب القارّة طوال نصف قرن، قادته بالقطار سنة 1990 إلى براغ وبراتيسلافا ما بعد الشيوعية.
بدت له أوروبا فجأة آنذاك، وفق ما يصف، أكبر بكثير مما كان يتخيّل، بناءً على أطالس جغرافيا تلك الحقبة وعلى تكتلاتها الاستقطابية. كما بدا له أمر حصول تحولّات سياسية كبرى يشهدها المرء في حياته وبأم عينيه، أمراً ممكناً، بعد فترة جمود "الحرب الباردة" التي سادت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
الكتاب الشيّق "Borderlines: A History of Europe in 29 Borders" الصادر سنة 2024، عن دار "هودير برس" البريطانية (Hodder press)، يأتي على أساس نظري صلب، وعبر أسئلة بنيوية في طبيعة خطوط الحدود وأصولها، ثم ينطلق بالحال في رحلات عملانية تدمج بسردياتها والملاحظات المتأتية منها أسلوبين: أسلوب بحثي\ تاريخي – اجتماعي، وأسلوب كتابي، يستحضر بقوة صيغة حاذقة من أدب الرحلات.
يقع الكتاب، بعد المقدمة التأسيسية، في أربعة أجزاء. الجزء الأول يغطي غرب أوروبا، بدءاً من المجال الأقرب للمؤلف، حدود ايرلندا\ بريطانيا، ثم حدود البلدان الأوروبية الأقرب؛ فرنسا\ ألمانيا، وهولندا\ بلجيكا (...).
أما الجزء الثاني فيغطي الشمال الأوروبي عبر رحلات بمناطق حدود ليتوانيا وروسيا وبولندا، ثم فنلندا وأستونيا وروسيا (..).
ويغطي الجزئان الثالث والرابع وسط القارة الأوروبية وشرقها، من تشيكيا وسلوفاكيا وألمانيا(..) وصولاً إلى أوكرانيا. في الجزء الرابع، التي تحاذي وتجاور روسيا وبولندا وسلوفاكيا وهنغاريا ورومانيا، والتي تستدعي مقاربة مناطقها الحدودية معظم الأسئلة الصعبة التي يطرحها باستون في كتابه عن العلاقة بين "البيت" (بالمعنى الذي يشير إليه الألمان بعبارة Heimat، المحلة التي يشعر فيها المرء بالانتماء) وبين الأمة، وبين معنى الـ"نحن" في مقابل الـ"هم" أو الآخرين.
على أن الأجزاء الأربعة جميعها، والمكوّن كل منها من أربعة فصول أو خمسة، تنسج مقاربة متشابكة وسردية متداخلة، تعيد ربط بريطانيا بأوروبا، وأوروبا بأنحائها المختلفة، عبر تاريخ سرّي للقارّة، لا تأتي سردياته من العواصم الإمبراطورية، بل من الأطراف والخطوط المحرمة والمناطق المشوّشة والنواحي القصية، حيث يعيش أبناء البلدان المختلفة ويتفاعلون كجيران وأصدقاء وعشّاق وأعداء وشركاء ومهرّبين وعمال شرعيين أو "بالأسود" (..).
التاريخ العام والشخصي
يجمع الكتاب بُعدين متوازيين في مقاربته للتاريخ وأحداثه وأمكنته؛ البعد العام المستل من التاريخ السياسي – الاجتماعي لأوروبا وأطرافها وتماساتها، والبعد الشخصي والمحلي والخاص، المبني على تجربة ذاتية للكاتب في التحصيل والمعاينة والاحتراف والحساسية وبناء الذاكرة، وعلى حبّ خاص للمناطق الحدودية القلقة والمشوّشة أو الملتبسة، واهتمام بأحوالها وتحولاتها.
هذه الصيغة التأليفية المركّبة في الحقيقة، تمتّن بنية الكتاب، وترشّق نصّه المولود من جولات ثاقبة تبدأ من براري إيرلندا وحقولها، وتصل إلى بلدات وقرى غرب أوكرانيا، وذلك في سعي لربط تواريخ تلك المناطق بتواريخ الناس الذين عاشوا فيها طوال قرون، والناس الذين يعيشون فيها اليوم.
مناطق الحدود وتشابه القضايا
في المقاربة التي يعتمدها باستون، والمستندة بداية إلى التحليل التاريخي السياسي للمجالات الإمبراطورية ما قبل نشوء الدول – الأمم، ثمّة استفادة واضحة من تجربته كخبير انتخابات منذ أواخر الثمانينيات.
وتلك تجربة احترافية للكاتب أسهمت في مدّه بحساسية خاصة تجاه التحوّلات والوقائع التي عاشتها المناطق الحدودية، أو مناطق التخوم والتماس بين المجتمعات والأقوام والهويات القديمة والناشئة، والدول المولودة بعد زوال الإمبراطوريات.
فعملية تحليل الحدود والفواصل والتعليق عليها وكتابة التوصيات بشأنها، التي يعتمدها كل خبير انتخابات، بناءً على ما يفرضه كل نظام انتخابي تقريباً، من مهام رسم خطوط غير موجودة في التضاريس الواقعية، على الخرائط الانتخابية بغية تحديد التمثيل السياسي، تناغمت على نحو عملي مع اهتمامات باستون الأصلية بتواريخ وسط أوروبا وشرقها، وبمسألة الحدود الوطنية ومعانيها الجغرافية – التوبوغرافية والاجتماعية.
ذاك المجال الأخير صار بالإمكان استكشافه عملياً على الأرض، عبر رحلات فعلية ومن دون معوقات، حين انضمّت 8 دول من شرق أوروبا إلى الاتحاد الأوروبي سنة 2004، وبدأت على الأثر رحلات الطيران الرخيصة.
أما الاستدعاء المباشر للخوض بتلك الرحلات وتأليف الكتاب، فيردّه باستون إلى الفترة الصادمة، وفق توصيفه، التي شهدتها الحياة السياسية، حين أطل "البريكست" ودونالد ترمب برأسيهما في مسرح الأحداث.
تاريخ منفصل عن هموم أوروبا
إن وقائع العام 2016 جاءت لتجرّد باستون من حماسته السياسية المولودة من رحم تسعينيات أوروبا، وتدعوه في المقابل لمحاولة إيجاد طرق "غير مباشرة"، حسب ما يصف، للنظر إلى الوقائع الراهنة، ووضع مستجداتها في سياق أكبر، ومحاولة قراءة التاريخ البريطاني من منظار أوسع.
وهو في هذا الجانب بدأ بالنظر أولاً إلى حدود بلده (بريطانيا) في إيرلندا، التي خفتت أخبارها منذ توقيع اتفاقية "الجمعة العظيمة" عام 1998. والسؤال الذي انطلق منه عقب انتصار حملة الترويج لفوائد الرقابة الحدودية، تعلق بعواقب هذا الأمر بالنسبة للحدود الفعلية وما يمكن أن ينتج منه في المناطق الحدودية.
ولإيجاد جواب على ذلك، قام برحلة استطلاعية في حقول فيرماناغ وآرماغ (إقليمان في إيرلندا الشمالية يفصلان بريطانيا عن جمهورية إيرلندا)، مروراً بالأسيجة التي تحدّ البلدين.
على أن تلك الرحلة الأولى لم تسهم إلا في توسعة نطاق السؤال، وردّه إلى اهتمامه الشخصي بمسائل المناطق الحدودية والتباساتها، وغموض المساحات الفاصلة وإشكاليات فهمها، وما ينتج منها في أحيان كثيرة من حساسيات كبرى.
وإحدى المشكلات المزمنة بمقاربة هذه المسائل في حالة بريطانيا تتمثل، وفق باستون، بالطريقة التي يلقّن فيها البريطانيون بأن تاريخهم الوطني منفصل عن هموم أوروبا، فيما تُظهر دراسة أحوال وتواريخ أمكنة مثل سيليسيا وسوديتنلاند (منطقتان حدوديتان تفصلان بالأصل بين ألمانيا وبولندا)، والنزاعات التي قامت هناك في مطلع العشرينيات، تشابهات مذهلة مع المسائل المتعلقة بإيرلندا وحدودها مع بريطانيا.
وبالرغم من عدم انهيار الإمبراطورية البريطانية مع باقي الإمبراطوريات الأوروبية بين العام 1917-1918، إلا أن هذه الإمبراطورية لم تبق كما كانت في السابق، وتبدلت كثيراً. كما أن التاريخ الاقتصادي لبريطانيا لا يمثّل تاريخ جزيرة وهو لم يكن مرة كذلك.
فبريطانيا مهما حاولت، لا يمكنها الهرب من سياقها الأوروبي. من هنا فإن الجولات الاستكشافية الأولى التي قام بها باستون عند الحدود الإيرلندية – البريطانية، قادته للشروع بسلسلة من رحلات الاستكشاف لمعاودة نسج السياق الأوروبي المتشابه جداً في هوامشه وأطرافه، من الحدود الروسية – الفنلندية قرب فيبورغ، إلى سهول أوكرانيا الجنوبية، ومن إيرلندا إلى كرواتيا.
"الحدوديون" القدامى
لكن رغم أن معظم الخطوط التي نرسمها على الخرائط التاريخية هي خطوط متخيلة، يبقى هناك بعض خطوط الحدود القديمة التي لها معنى حقيقي ومادي على الأرض. فالصين والإمبراطورية الرومانية قامتا بتشييد تحصينات حدودية قبل ألفي سنة. غير أن تلك الحصينات لم يكن لها المعنى ذاته الذي للحدود الحديثة.
فالإمبراطوريات لم تكن في العادة تعترف بسيادة الكيانات التي تحاذيها في الجانب الآخر. خلف "اللايمز الروماني" (اللايم باللغة اللاتينية تعني الحدود)، كان هناك مناطق حدودية غامضة ومشوشة تقوم فيها أنشطة تجارية ومظاهر سكن واستيطان. من هنا يمكن القول مع باستون إن سكان الحدود، أو "الحدوديون"، وجدوا وتشكّلوا قبل قيام الحدود القانونية بزمن بعيد.
هنا على ذكر خط الـ"لايمز" الروماني الذي مرّ عبر مناطق ألمانيا ووسط أوروبا، فإن غايته كانت تتمثل بضبط التجارة والهجرة المحدودة، ولم يكن خط دفاع إمبراطوري بالمعنى الحقيقي. إذ عادت وثبتت عدم فاعليته بهذا المعنى المذكور عندما بدأ عصر الهجرات الكبرى في أوروبا بالقرنين الرابع والخامس.
لكن باستون يشير هنا إلى أن البريطانيين لديهم فكرة مبالغ فيها تجاه مدى مناعة الحدود الخارجية للإمبراطورية الرومانية، وذلك لأن "سور هادريان"، أحد أكثر خطوط الحدود الرومانية تحصيناً عسكرياً، كان يمر كخط مستقيم عبر شمال إنجلترا. وهذا ربما مدّ البريطانيين بفكرة أكثر تشدداً في النظر إلى خطوط الحدود التاريخية.
الحدود العسكرية
أما الحدود التي يعرف البريطانيون عنها أقل من معرفتهم حتى تجاه "اللايمز الروماني"، فهي "الحدود العسكرية" التي فصلت بين "المسيحية" في النمسا وبين "الإسلام" في السلطنة العثمانية.
هذه الحدود دامت رسمياً طوال ثلاثة قرون تقريباً حتى عام 1881، لكنها كانت وريثة خط حدودي أقدم بنحو قرنين، امتد عبر مناطق غير مستقرة في كرواتيا وهنغاريا وترانسيلفانيا. وما ميّز ذاك الخط الحدودي فعلاً، هي تأثيراته "النفسية"، وفق تعبير باستون، التي تجاوزت وفق قوله التأثيرات النفسية الناتجة من "الستار الحديدي" خلال الحرب الباردة.
إذ إن تصور "خط صدع" بين "الغرب" المسيحي والإسلام، ما زال تصوّراً قوياً، سائداً إلى اليوم. إذ إن نقطة العبور السيكولوجية بين أوروبا والبلقان، كانت ثابتة على مدى قرنين عند بلغراد، تحديداً عند سيملين، آخر بلدة في كرواتيا\ هنغاريا على الجانب الآخر من نهري السافا والدانوب (سيملين اليوم هي ضاحية زيمون في مدينة بلغراد).
إن الوجود الإسلامي هناك تأسس منذ زمن أبعد، وامتدّ عميقاً في بلغراد أكثر مما فعل في المناطق إلى شمالها، كما كان هناك حتى العام 1867 حامية تركية في تلك المدينة الصربية المستقلة، بحكم الأمر الواقع.
الحرية وتوزيع الاثنيات
الحدود العسكرية المذكورة ولشدة وقعها وتأثيرها التاريخيين خلقت أنماطاً اجتماعية جديدة. ويحلل باستون هذه المسألة، فيرى أن تلك الأنماط الجديدة التي عنوانها العريض "الحرية"، لم تأت نتيجة التفاعل والصلات بين "الحدوديين" القاطنين على طرفي الحدود، بقدر ما جاءت من قيام سلطات الإمبراطورية الهابسبورغية بتشجيع فلاحين على السكن في المناطق المتاخمة للحدود العسكرية وإعفائهم من الروابط الاقطاعية والواجبات تجاه ملاك الأراضي والأرستقراطيين مقابل انخراطهم في ميليشيات تدافع عن تلك الحدود.
أوكلت لأولئك الفلاحين الأحرار مهام القيام بدوريات حراسية على طول الحدود، وحماية الخط الحدودي من الهجمات أو الانتهاك، ومساعدة التجار والمسافرين على المرور في المناطق الحدودية بمأمن من اللصوص والعصابات وقطاع الطرق. وعلى مر القرون اسكنت مجموعات اثنية مختلفة في تلك المناطق الحدودية للقيام بهذه المهام، فولدت أمكنة مثل كراجينا الكرواتية التي يسكنها الصرب، كما انتشرت الجماعات الاثنية الألمانية والكرواتية في أنحاء وسط أوروبا.
تلك الحرية الإشكالية للحدود العسكرية شابهت نزعة استعمار الأطراف الحدودية (في الغرب تحديداً) التي كان لها تأثير تكويني في الولايات المتحدة. إذ إن فكرة الملّاك الصغير (والمزارع وراعي البقر ...) الذي يخدم في الميليشيا لحماية عائلته وأرضه، والزود عن المنطقة الحدودية حيث تسود الحرية ممكنة الأشخاص من بناء حياتهم ومصائرهم، كانت في الأصل فكرة أوروبية أولدتها "الحدود العسكرية" والسياسات الإمبراطورية تجاهها، قبل أن تكون فكرة أميركية.
أقوام الحدود
فكرة الأطراف والمناطق الحدودية الاوروبية ومسألة زرعها بأقوام يحرسونها عادت وطبقت بقوة من قبل النازيين الذين تتطلعوا لدعم أقوام فلاحية بغية تأمين الحدود والأطراف الشرقية للإمبراطورية الألمانية الجديدة. كذلك أدت التغييرات الحدودية بتلك المناطق بعد العام 1945 وهزيمة ألمانيا النازية، إلى ولادة مناطق تشبه مناطق "الوايلد ويست" (الغرب المتوحش) الأميركي في بولندا وتشيكوسلوفاكيا الشيوعيتين، حيث عدّت أراضي أبناء الاثنية الألمانية المطرودين من تلك المناطق، متاحة للمصادرة. وكان ثمة في السياق حاجة لسكان يمكن الاعتماد عليهم لحراسة ذلك الطرف من "الستار الحديدي". ويستعرض كتاب باستون بإسهاب هذه التحولات في الأجزاء الثاني والثالث والرابع من كتابه التي تغطي جولاته في شمال ووسط وشرق أوروبا.
معاني وإيحاءات
يكتنز معنى الحدود في اللغة بعدين متوازيين، واحد مشؤوم وآخر تحرري. ويمكن رصد هذا المعنى المزدوج في لغات مختلفة، فلا يقتصر على لغة بعينها. على أن مصدر هذين البعدين المتوازيين لا يأتي فقط من واقع "الفصل" الذي تقوم به الحدود بين بلدين أو كيانين أو طرفين، بل ينبع من تركيبات أعقد، فيرتبط أحياناً بعوامل سيكولوجية متعلقة بالوجود في مساحات الـ "بين بين"، والمناطق المشوّشة التي شهدت صراعات وتبدلات سكانية لا تحصى وإبادات مشهودة.
ويحضر البعد المشؤوم للتعابير المرتبطة باجتياز الحدود على نحو دائم في بعض اللغات، مثل اللغة الإنجليزية، لكن أحياناً ثمّة تلميحات في التعبير الواحد يمكن تفسيرها إيجابياً والتسامح إزاءها.
فتعبير تجاوز الحدود "trespass" الإنجليزي، ورغم ضمه معان سلبية مثل التعدّي والانتهاك والاعتداء على ممتلكات الغير، يتضمن أيضاً معنى "التجاوز" الذي قد يشير أحياناً إلى التعالي والتغاضي والمسامحة.
والأمر نفسه بالنسبة لكلمة "transgress"، التي تعني اختراق الخط وتخطي العلامة والتموضع بموقع خاطئ، من النواحي القانونية والاجتماعية والأخلاقية.
هذه العلاقة بفكرة الانتهاك حين نجتاز الحدود، لا تقتصر على اللغة الإنجليزية. إذ حين قرأ باستون كتاب "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي، لاحظ أن كلمة "الجريمة" بالروسية (преступление - prestupleniye) تأتي أيضاً من فكرة تجاوز الحدود.
إذ إن пре تعني "عبْر" وступление تعنى "خطا". وفي اللغة البولندية فإن كلمة "جريمة" (przetepstwo) لها نفس الجذور أيضاً، والأمر ذاته في البلغارية. ومن ناحيتنا في اللغة العربية حين نقول عن امرئ تجاوز الحدود فإن في ذلك معنى سلبياً.
كذلك فإن "وضع الحد" شرعاً يمثل عقوبة مقدّرة بالشرع، لأجل حق الله. فإن أقيم الحد على شخص فذاك يعني إيقاع العقوبة المقرّرة شرعاً عليه.
من هنا فإن البناء السيكولوجي للأشخاص في ثقافات مختلفة، متأثر بطبيعة الحال بوجود هذه الخطوط الحدودية المتخيّلة والتي تبدو للوهلة الأولى خطوطاً محرّمة. فالسيء في معظم الأحيان موجود في الطرف الأقصى من الحدود، ونحن نميل في العادة لإسقاط المواصفات السلبية على الناس الموجودين عبر الحدود أو على هوامشها.
كما أن تخطّي الحدود واستيطان منطقة حدودية هامشية، يمدّاننا بعذر لترك الضوابط الاجتماعية، أو حتى الأخلاقية، وراءنا في "البيت" وفي الداخل.
فالحدود قد تمثّل خطوطاً كثيفة على خارطة تقسّم الولايات والصلاحيات القضائية، لكنها تبقى محاطة بمناطق ملتبسة يتم فيها كسر القانون الدولي قبل وصوله إلى حدها الجغرافي. وعندما يعبّر المرء في مناطق ملتبسة من هذا النوع، يشعر بأن ما كان غير شرعي قبل الوصول إليها، بات الآن متاحاً وعلى الملأ.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


مباشر
منذ 2 ساعات
- مباشر
مصر وروسيا توقّعان بروتوكولاً وعقداً بشأن محطات الطاقة النووية
القاهرة – مباشر: وقّعت جمهورية مصر العربية وجمهورية روسيا الاتحادية اتفاقية بشأن التعاون فى بناء وتشغيل محطات الطاقة النووية فى مصر. وقّع عن مصر محمود عصمت وزير الكهرباء والطاقة المتجددة وعن روسيا الاتحادية أليكسى ليخاتشوف المدير العام للمؤسسة الحكومية الروسية للطاقة الذرية "روساتوم"، وذلك بمقر الوزارة بالعلمين، بحسب بيان. يأتي ذلك في إطار التعاون الممتد بين جمهورية مصر العربية، وجمهورية روسيا الاتحادية فى مجال الطاقة النووية، وفى ضوء الشراكة وبرنامج العمل والخطة الزمنية لمشروع المحطة النووية بالضبعة. وفى سياق متصل، شهد محمود عصمت ، وأليكسي ليخاتشوف مراسم توقيع الملحق المكمل لعقد إنشاء وتشغيل محطة الضبعة للطاقة النووية. ووقع المحلق، شريف حلمى رئيس هيئة المحطات النووية، واندري بيتروف رئيس شركة اتوم ستروى إكسبورت. ويأتي توقيع البروتوكول والعقد المكمل، في إطار حرص الجانبين المصرى والروسي على تسريع وتيرة تنفيذ مشروع المحطة النووية بالضبعة لتوليد الكهرباء وفقاً للجداول الزمنية المحددة والمعتمد، وذلك فى إطار البرنامج المصرى للاستخدامات السلمية للطاقة الذرية، والاعتماد على الطاقة النظيفة كركيزة أساسية في تحقيق أهداف الاستراتيجية الوطنية المحدثة للطاقة حتى عام 2040. وقال محمود عصمت، إن التعاون والشراكة بين مصر وروسيا تجسد الإرادة السياسية القوية لدى البلدين الصديقين، وعمق العلاقات الثنائية والالتزام المتبادل بتنفيذ هذا المشروع القومي الحيوي الذي يمثل نقلة في قطاع الكهرباء والطاقة. وأوضح، إن توقيع البروتوكول المكمل والملحق التعاقدي اليوم يمثل خطوة مهمة نحو استكمال مشروع محطة الضبعة النووية في مراحله المختلفة، ويمثل انعكاسًا حقيقيًا للتعاون المثمر بين مصر وروسيا، لتنفيذ المشروع القومي بما يتماشى مع استراتيجية مصر للطاقة 2040، التي تهدف إلى تحقيق مزيج متوازن ومستدام من مصادر الطاقة، وتعزيز الاعتماد على الكهرباء النظيفة. ومن جانبه، أكد أليكسي ليخاتشوف على الشراكة الاستراتيجية والتنسيق والتعاون لانجاز مشروع الضبعة العملاق، مشيرًا إلى أن توقيع هذه الوثائق يأتي فى إطار المخطط الزمنى للمشروع ويؤكد التزام روسيا الثابت بدعم جهود مصر العربية في بناء أول محطة للطاقة النووية، مضيفاً: "فخورون بشراكتنا الاستراتيجية مع مصر، ونتطلع إلى مواصلة التعاون المشترك لتنفيذ هذا المشروع الطموح الذي سيسهم في تعزيز أمن الطاقة في مصر وتحقيق أهداف التنمية المستدامة'. حمل تطبيق معلومات مباشر الآن ليصلك كل جديد من خلال أبل ستور أو جوجل بلاي للتداول والاستثمار في البورصة المصرية اضغط هنا تابعوا آخر أخبار البورصة والاقتصاد عبر قناتنا على تليجرام لمتابعة قناتنا الرسمية على يوتيوب اضغط هنا لمتابعة آخر أخبار البنوك السعودية.. تابع مباشر بنوك السعودية.. اضغط هنا لمتابعة آخر أخبار البنوك المصرية.. تابع مباشر بنوك مصر.. اضغط هنا ترشيحات صادرات الغاز الإسرائيلي إلى مصر ترتفع لـ 970 مليون قدم مكعبة يومياً


الشرق السعودية
منذ 2 ساعات
- الشرق السعودية
أكبر ميناء في أوروبا يستعد لحرب محتملة مع روسيا
يستعد أكبر ميناء في أوروبا لاحتمال اندلاع صراع مع روسيا، من خلال تخصيص مساحات للسفن التي تحمل إمدادات عسكرية، ووضع خطط لتحويل مسارات الشحن التجاري في حال نشوب حرب. وقال بودوين سيمونز، الرئيس التنفيذي لهيئة ميناء روتردام، في مقابلة مع صحيفة "فاينانشال تايمز"، إن الميناء يعمل بالتنسيق مع ميناء أنتويرب البلجيكي المجاور، من أجل تنظيم عملية استقبال المركبات والإمدادات البريطانية، والأميركية، والكندية في حال وصولها. وأضاف: "ليست كل المحطات في الميناء مناسبة للتعامل مع المعدات العسكرية.. إذا اضطررنا لشحن كميات كبيرة من المعدات العسكرية، سننظر في نقل بعض الطاقة الاستيعابية إلى ميناء أنتويرب أو موانئ أخرى، والعكس صحيح، ولقد بدأنا نرى بعضنا البعض كمكملين بدلاً من منافسين، وبالطبع نتنافس حين يكون ذلك ضرورياً، لكن نتعاون حيثما أمكن". استعدادات عسكرية أوروبية وتندرج هذه التحضيرات ضمن موجة أوسع من الاستعدادات العسكرية عبر القارة الأوروبية، حيث يعمل الاتحاد الأوروبي على وضع خطة لإعادة التسلّح تصل قيمتها إلى 800 مليار يورو، في محاولة لتعزيز الاعتماد الذاتي في مجال الدفاع، استجابة لمطالب الرئيس الأميركي دونالد ترمب، ورداً على العدوان الروسي المستمر مع دخول غزو أوكرانيا عامه الرابع. وتعهدت هولندا، إلى جانب حلفائها في حلف الشمال الأطلسي (الناتو)، بزيادة الإنفاق الدفاعي ليبلغ 5% من الناتج المحلي الإجمالي. وفي مايو الماضي، أعلنت وزارة الدفاع الهولندية أن ميناء روتردام سيوفر مساحات مخصصة للتعامل مع عدة سفن محمّلة ببضائع عسكرية، بطلب من حلف (الناتو). وأشار بودوين سيمونز إلى أن سفينة واحدة أو أكثر ستظل راسية في الرصيف لمدة عدة أسابيع، حوالي أربع أو خمس مرات في السنة، مشيراً إلى أن الموقع قد يتغير حسب الحاجة، وأوضح أن محطة الحاويات في ميناء روتردام هي الموقع الوحيد الذي يمكن فيه نقل الذخيرة بأمان من سفينة إلى أخرى. وأضاف أن الميناء سيشهد أيضاً تدريبات عسكرية برمائية عدة مرات سنوياً. وسبق للميناء أن تعامل مع شحنات أسلحة من قبل، مع ارتفاع ملحوظ خلال حرب الخليج عام 2003، إلا أنه حتى في ذروة الحرب الباردة، لم يكن يحتوي على رصيف مخصص للشحنات العسكرية. وأشار إلى أن ميناء أنتويرب يستقبل بشكل منتظم إمدادات موجهة للقوات الأميركية المتمركزة في أوروبا. وكان مارك روته، الأمين العام لحلف الناتو، حذّر في، يونيو الماضي، من أن روسيا قد تشنّ هجوماً على أحد أعضاء الحلف بحلول عام 2030. موانئ استراتيجية ويمتد ميناء روتردام على مسافة 42 كيلومتراً على طول نهر الميز في هولندا، ويتعامل سنوياً مع نحو 436 مليون طن من البضائع، ويستقبل 28 ألف سفينة بحرية من ألمانيا وعمق أوروبا القاري. لكن الميناء فقد حوالي 8% من تجارته، خاصة من النفط، بعد أن فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على روسيا، وأما ميناء أنتويرب، فيتعامل مع 240 مليون طن من البضائع سنوياً، مما يجعله ثاني أكبر ميناء في الاتحاد الأوروبي. وأوضح سيمونز أن الميناءين يعملان معاً أيضاً من أجل تعزيز الاكتفاء الذاتي الأوروبيـ ومضى قائلاً: "فرق العمل لدينا تتعاون بشكل متزايد في عدد من المواضيع، بما في ذلك موضوع الصمود". وأشار إلى أن جائحة كورونا كشفت هشاشة أوروبا، واعتمادها المفرط على عدد محدود من الموردين، مثل الصين والهند، خاصة في ما يتعلق بالمعدات الطبية والأدوية. وقال سيمونز إن الانخفاض المفاجئ في تدفقات النفط الروسي بعد غزو أوكرانيا شكل درساً إضافياً لأوروبا، مؤكداً أهمية تخزين الإمدادات الأساسية، تماماً كما تفعل الدول الأوروبية مع النفط. وأشار إلى أن الاتحاد الأوروبي ألزم دوله الأعضاء بالاحتفاظ بمخزون استراتيجي من النفط يكفي لمدة 90 يوماً بعد صدمة النفط في عام 1973، عندما خفّضت الدول العربية الإنتاج للضغط على الغرب أثناء نزاعها مع إسرائيل. وقال إن المناطق المحيطة بالموانئ، التي تتمتع بشبكات توزيع قوية، ستكون مواقع مناسبة لتخزين هذه الاحتياطيات. وأشار إلى أن جزءاً من الاحتياطي النفطي الاستراتيجي الهولندي موجود في ميناء روتردام. ومن المنتظر أن يكشف الاتحاد الأوروبي، الثلاثاء، عن استراتيجية للتخزين الاحتياطي" تشمل: الإمدادات الطبية، والمواد الخام الحيوية، ومعدات الطاقة، والملاجئ، وربما الغذاء والماء أيضاً.

العربية
منذ 2 ساعات
- العربية
الاتحاد الأوروبي يستبعد قطع العلاقات مع الصين بسبب الخلافات التجارية
شددت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، قبيل زيارتها المقررة إلى بكين، على حاجة الاتحاد الأوروبي إلى الانخراط في حوار مع الصين، مع إشارتها في الوقت نفسه إلى وجود العديد من نقاط الخلاف. وقالت فون دير لاين، أمام البرلمان الأوروبي في مدينة ستراسبورج الفرنسية: "أوروبا ملتزمة تمامًا بانخراط قائم على النتائج مع الصين". وأضافت أن قطع العلاقات مع بكين "سيكون غير مجد وغير فعال"، لكنها انتقدت في الوقت نفسه الممارسات غير العادلة في التجارة مع الصين، وفق وكالة الأنباء الألمانية "د ب أ". وتابعت فون دير لاين: "هذا النظام غير نزيه بشكل واضح"، ونددت بتدفق المنتجات الرخيصة والمدعومة من الصين، وداعية إلى إتاحة حرية وصول عادل أمام شركات الاتحاد الأوروبي إلى السوق الصينية. ورحبت رئيسة المفوضية الأوروبية ببدء نقاش داخل الصين حول مشكلة الإفراط في الإنتاج وتشوهات السوق، قبل أن تؤكد في الوقت ذاته قلقها بشأن دعم بكين لروسيا. وأضافت: "كما نعلم أيضًا أن الدعم المتواصل من الصين لروسيا يؤدي إلى زيادة حالة عدم الاستقرار وانعدام الأمن في أوروبا". ومن المقرر أن يعقد كبار ممثلي الاتحاد الأوروبي والصين قمة في بكين في وقت لاحق هذا الشهر، حيث من المتوقع أن تلتقي أورسولا فون دير لاين، رفقة رئيس المجلس الأوروبي أنطونيو كوستا، بالرئيس الصيني شي جين بينغ.