
درس متقن في فنّ الدبلوماسية
سرّ هذه المقاربة فهمٌ واعٍ للحدود مقرونٌ باستخدام دقيق لأدوات الضغط المتاحة. المملكة لا تزعم أنها قادرة على ليّ ذراع قوة عظمى؛ بل تضبط أسواق النفط وتبتعد عن استعراض القوة العسكرية—وهو انضباط يفتح لها أبواب الوزارات والبرلمانات وغرف مجالس الإدارة التي تصوغ سياسات إسرائيل. مَن يفسّر هذا الانضباط على أنه تردّد يخطئ؛ فحكمة التجربة أثبتت أنّ 'التناسب'، لا الاستفزاز، هو ما يورث نتائج تدوم.
بدأ بناء الائتلاف من باريس؛ إذ وجدت فرنسا، الباحثة عن دور أكبر في الشرق الأوسط، ثقلها الإقليمي في السعودية. ثم لحقت لندن انسجاماً مع غضب ناخبيها من حرب غزة، وأعقبتها أوتاوا كي لا تبقى وحيدة في مجموعة السبع. قد يبدو الاعتراف بفلسطين عملاً رمزياً، غير أنّ الرمزية هي ذاتها الأساس الذي استندت إليه إسرائيل لترسيخ صورتها كديمقراطية غربية طبيعية. وكل تصدّع في تلك الصورة يرفع الكلفة المعنوية للاحتلال ويغرسها في صميم حسابات الأمن الإسرائيلي.
ويتجلّى هذا الزخم الهادئ في استطلاعات الرأي: فالدعم الأميركي لعمليات إسرائيل في غزة تراجع بشكل حاد، خصوصاً لدى مَن هم دون الأربعين عاماً. والديموغرافيا قدرٌ لا يُقاوَم. هكذا تلعب الرياض لعبة النفس الطويل—راهنة على الزمن لا على نوبات الغضب، لتهتك الخيوط القديمة التي كانت تربط واشنطن بإجماع غير مشروط. هذا التآكل بات واضحاً في الجامعات، وفي برلمانات الولايات، وفي مجالس إدارة الشركات المنشغلة بمعايير الحوكمة والمسؤولية الاجتماعية.
أكد ولي العهد موقف المملكة بلا مواربة في خطابه أمام مجلس الشورى: لا اعتراف بإسرائيل من دون دولة فلسطينية قابلة للحياة. هذا ليس إحياءً لمغامرات نفطية على غرار 1973—فمثل تلك المغامرات اليوم لن تفعل سوى تسريع تنويع الغرب مصادره وخفض عوائد العرب. بل إن الرياض تُبقي الأسواق مستقرة وتجمّد اندماج إسرائيل الإقليمي إلى أن تنخرط جدياً في حلّ الدولتين؛ فتُطمئن المستهلكين العالميين وتُبقي تل أبيب في حالة من القلق الحسابي.
ويبقى وعد التطبيع مطروحاً—لكن خلف بوابة حلّ الدولتين. فبعد أن فتحت 'اتفاقيات أبراهام' الطريق السهل أمام إسرائيل إلى الخليج، أعادت السعودية رسم الخريطة: رؤوس الأموال السيادية، وصلات البحر الأحمر، والشراكات التقنية المتقدمة كلها في المتناول—لكن بعد التسوية. بذلك ينتقل العبء إلى إسرائيل: عليها أن تفسّر لمواطنيها لماذا ينبغي للأيديولوجيا أن تمنع فرصة تاريخية للتحوّل من دولة محصنة عسكريا إلى لاعب إقليمي طبيعي. وعندما تتقاطع المصلحة الاقتصادية مع الضرورة الاستراتيجية، تنكسر الأيديولوجيا عاجلاً أم آجلاً.
وكان من أبرز المنعطفات إعلان السعودية ودول عربية أخرى ضرورة نزع سلاح حماس وتسلّم السلطة الفلسطينية إدارة غزة. خطوة حاسمة نزعت من إسرائيل ذريعة 'لا شريك للسلام'، وقطعت الطريق على استمرار الحملة العسكرية بحجة الدفاع عن النفس، وأعادت تأكيد المطالب الدولية بإنهاء الاحتلال والانتقال إلى حلّ سياسي.
أما الأصوات العربية والإسلامية التي تنادي بالمقاطعة أو الحصار أو الحرب، فإنها تُخطئ قراءة التاريخ واللحظة معاً. فالقوة اليوم تكمن في الضغط الذكي على نقاط الأعصاب لا في الشعارات المدوّية. الدبلوماسية السعودية دفعت الديمقراطيات الغربية—وهي النادي الأهم بالنسبة لإسرائيل—إلى إعادة النظر جدياً في فكرة الدولة الفلسطينية؛ إنجاز لم تحققه عقود من القمم والخطابات. وما ينبغي على العواصم العربية إلا تعزيز هذا النهج بدلاً من تبديد الجهد في استعراضات لا تسمن ولا تغني.
صحيح أنّ إسرائيل ما تزال تمتلك ورقة الفيتو الأميركي، لكن الفيتو عاجز عن وقف التحولات الديموغرافية في الولايات المتأرجحة، أو كبح ضغوط النواب البريطانيين الحريصين على ناخبيهم، أو تعطيل حسابات الشركات الأوروبية التي توازن بين الأرباح ومخاطر المقاطعة. وفي نهاية المطاف ستواجه إسرائيل اختياراً صارماً: حصارٌ دائم وعزلةٌ متنامية، أم تعايش مع جار فلسطيني ذي سيادة؟ المفاتيح اليوم في يد السعودية—الرافعة الدبلوماسية الحقيقية الباقية لرام الله.
في ساحات 2025—غرف المؤتمرات، مجالس الإدارة، فضاءات التواصل الاجتماعي—تتقدّم المملكة بهدوء واتساق وعلى إيقاعها الخاص. ولمن يقدِّر النتائج فوق المظاهر، لا يُعدّ هذا حذراً بل حكمة.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق الأوسط
منذ 15 دقائق
- الشرق الأوسط
ترمب يؤكد أن ويتكوف سيزور روسيا «الأسبوع المقبل»
أكد الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الأحد، أن مبعوثه الخاص ستيف ويتكوف، سيزور روسيا الأسبوع المقبل، مع اقتراب انتهاء مهلة حددها ترمب لموسكو للقبول بوقف لإطلاق النار وفي ظل تصاعد التوتر مع الكرملين. وفي حديث مع الصحافيين، قال ترمب إن ويتكوف سيزور روسيا «أعتقد الأسبوع المقبل، الأربعاء أو الخميس».

العربية
منذ 21 دقائق
- العربية
المجلس الجديد سيرأسه رئيس الجمهورية، وسيضم قادة القوات المسلحة والوزارات المعنية
أعلنت إيران الأحد إنشاء مجلس دفاعي يهدف إلى تعزيز قدراتها العسكرية بعد حربها الأخيرة مع إسرائيل ، بحسب التلفزيون الرسمي. وأفاد التلفزيون بأن "المجلس الأعلى للأمن القومي وافق على إنشاء مجلس الدفاع الوطني". يأتي هذا الإعلان بعد الحرب التي شنتها إسرائيل على إيران بدعم من الولايات المتحدة في يونيو (حزيران) الماضي، واستمرت 12 يوماً. وأضاف التلفزيون الرسمي أن المجلس الجديد سيرأسه رئيس الجمهورية، وسيضم قادة القوات المسلحة والوزارات المعنية. وأوضح أن مجلس الدفاع "يدرس خطط الدفاع" و"يعزز قدرات القوات المسلحة بشكل مركزي". شنت إسرائيل هجوماً غير مسبوق على إيران في 13 يونيو (حزيران)، بهدف معلن هو منعها من حيازة سلاح نووي، وهو مسعى تنفيه طهران مؤكدة حقها في الحصول على طاقة نووية مدنية. واستهدفت إسرائيل خلال الحرب منشآت نووية وعسكرية خصوصاً، وقُتل خلالها مسؤولون عسكريون كبار وعلماء يعملون على تطوير البرنامج النووي الإيراني. وردت إيران بإطلاق صواريخ ومسيّرات على إسرائيل واستهدفت أكبر قاعدة أميركية في الشرق الأوسط، في قطر. وفي 22 يونيو (حزيران)، قصفت الولايات المتحدة موقع تخصيب اليورانيوم تحت الأرض في فوردو جنوب طهران، ومنشأتين نوويتين في أصفهان ونطنز (وسط). وبعد 12 يوماً من الحرب دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في 24 يونيو (حزيران). وقُتل أكثر من ألف شخص في إيران خلال هذه الحرب بحسب السلطات الإيرانية. من جانبها، أبلغت إسرائيل عن مقتل 28 شخصاً.


عكاظ
منذ ساعة واحدة
- عكاظ
وثيقة تاريخية تكشف تواصل الملك عبدالعزيز مع رجالات الدولة
أبرزت دارة الملك عبدالعزيز وثيقة تاريخية مؤرخة في 25 شوال 1344هـ، تتضمن برقية الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -رحمه الله- يُشيد فيها بما تنعم به البلاد من رخاء في الأسعار، وكثرة في الأمطار، مبتهلاً إلى الله أن يَعمَّ خيرها سائر أرجاء بلاد المسلمين، ومؤكداً أهمية التواصل، والدعاء المتبادل في تلك المرحلة التأسيسية من تاريخ المملكة. وتتضمن البرقية المرسلة إلى عبدالوهاب أبو ملحة -أحد رجالات الدولة آنذاك- يطمئنه فيها على أحواله، ويعرب عن سروره بوصول رسالته، وسؤاله عن حاله، مع دعواته له بالخير والسرور، وتوجيهاً بإبلاغ السلام إلى الأولاد، مع تحيات الإخوة والأبناء من جانب الملك عبدالعزيز، ما يعكس عمق العلاقات الاجتماعية، والروابط الإنسانية التي حرص -رحمه الله- على ترسيخها مع رجالات الدولة ومواطنيه. وتُعد هذه الوثيقة من الشواهد المهمة على أسلوب التواصل القيادي في عهد الملك عبدالعزيز -رحمه الله-، واهتمامه بالشأن الداخلي، والظروف العامة للمجتمع، كما تسلط الضوء على الأجواء العامة في المملكة بما فيها من رخاء واستقرار وأمن. أخبار ذات صلة