
استقلالية الاحتياطي الفيدرالي تنتظر تنفيذ حكم الإعدام
صحيح أن التراجع عن أي من السياسات ما قبل الترمبية، سواء في مجال التجارة أو الموازنة أو السياسة النقدية، ينطوي على مخاطر بحد ذاته، إلا أن ضربها مجتمعة يرفع منسوب التهديد إلى مستوى مختلف تماماً. فمحاولة تقويض سلطات "لاحتياطي الفيدرالي في وقت تتزايد فيه المخاوف من تضخم تغذّيه الرسوم الجمركية، ومن انفلات الدين العام، قد تفتح الباب أمام عاصفة اقتصادية مكتملة الأركان.
تسريبات مدروسة
لم يعد السيناريو القائم على التخلّف الجزئي عن سداد الدين العام عبر التضخم –أو ما يُعرف بسياسة "الهيمنة المالية"– احتمالاً بعيداً، بل عاقبة محتملة، بل حتى مرجّحة. وما إن تبدأ الأسواق في استشراف هذا المسار حتى تتحوّل التوقعات إلى حقيقة. إذ تقفز توقعات التضخم، ومعها أسعار الفائدة طويلة الأجل التي لا يمكن لمجلس الاحتياطي الفيدرالي السيطرة عليها مباشرة. وعندما تبدأ الأسعار بالارتفاع في ظلّ هذه الظروف، سيتطلب كبح التضخم مزيجاً من البطالة المرتفعة وتدابير تقشفية صارمة.
شرح رئيس الاحتياطي الفيدرالي، جيروم باول، أسباب الإبقاء على معدل الفائدة في الوقت الراهن عند مستوى مقيّد بشكل معتدل بين 4.25% و4.5%. فالتضخم لا يزال أعلى بقليل من المستوى المستهدف، وقد يعود للارتفاع قريباً بسبب الرسوم الجمركية، على حدّ قوله، في حين أن معدلات البطالة لا تزال منخفضة، ما يستدعي التريث والترقب. في المقابل، يطالب ترمب بخفض فوري لمعدلات الفائدة بمقدار 2.5 نقطة مئوية، ولكنه لا يكتفي بالتعبير عن اختلاف الرأي مع الفيدرالي بشكل لبق ، بل يكيل سيلاً من الإهانات لباول، على طريقته المعهودة.
اقرأ أيضاً: الاحتياطي الفيدرالي لا يملك بديلاً عن سياسة "الانتظار والترقب"
رغم تأكيد "الاحتياطي الفيدرالي" –وهذا واجبه– أنه يركّز على مهمته ولا ينخرط في التجاذبات السياسية، فإن العداء الذي يبديه الرئيس بدأ يقوّض عملياً حريته في اتخاذ الإجراءات. وحتى إذا لم يُقَل جيروم باول من منصبه (وهو احتمال تعترضه عقبات قانونية وسياسية)، فإن ولايته تنتهي في مايو المقبل، ومن شبه المؤكد أن الرئيس سيعيّن خلفاً موالياً له. وبالفعل، بدأت التسريبات المدروسة بشأن هوية الرئيس المحتمل، وقد لا يطول الأمر قبل أن يبدأ "الخلف المنتظر" في التشكيك بقرارات المجلس، حتى يوصل موقفه لصنّاع السياسات الآخرين.
وحدة الصف داخل المجلس
هل بوسع "الاحتياطي الفيدرالي" أن يتصدّى لهذا المسار؟ الواقع أن قدرته على ذلك محدودة. فحين تعتزم الإدارة السيطرة على المصرف المركزي، هي تنجح في نهاية المطاف، وذلك عبر مزيج من التعيينات والضغوط السياسية. فاستقلالية "الفيدرالي" ليست محصّنة بنص قانوني ملزم، ولا يكفلها الدستور، بل هي مجرد عرف في أفضل الأحوال. وإذا كانت السنوات الأخيرة في السياسة الأميركية قد أثبتت شيئاً، فهو أن الأعراف يمكن وضعها جانباً. ومع ذلك، وعلى أمل ألا يكون الوقت قد فات، بوسع "الاحتياطي الفيدرالي" اتخاذ بعض الخطوات في محاولة لدرء تهميشه المرتقب.
من ِشأن وحدة الصف داخل مجلس الاحتياطي الفيدرالي أن تساعد على هذا الصعيد. ولا يعني ذلك الدخول المباشر في سجال مع الرئيس ترمب حول أهمية استقلالية البنك المركزي، أو تحذيره من الأثر السلبي المحتمل على شعبيته في أوساط الناخبين إن دمّر هذه الاستقلالية. فمثل هذا النهج لن يؤدي إلا إلى استفزازه وتصعيد معركة لا قدرة للفيدرالي على الفوز بها.
سيخسر "الفيدرالي" المواجهة، وذلك في جزء منه على الأقل، لأن مبدأ الاستقلالية هو استثناء من الصعب الدفاع عنه. فرغم أن الاستقلالية أثبتت جدواها ولا شكّ أنها أسهمت في التوصّل إلى سياسات أفضل، إلا أن إبقاء مؤسسة مالية بهذا الحجم محصّنة عن السياسة اليومية لا يتماشى تماماً مع روح "الديمقراطية".
اقرأ أيضاً: غالبية مسؤولي "الفيدرالي" يميلون لعدم خفض الفائدة في يوليو
بدلاً من ذلك، ينبغي لصنّاع السياسات في الفيدرالي أن يتوحدوا حول نهج باول القائم على ضبط النفس اللبق في العلن. كما عليهم تفادي كل ما قد يوحي بأن هناك معسكرين يتشكلان داخل المجلس، أحدهما موالٍ للرئيس، والآخر على خلافٍ معه. فالمحللون يترصّدون عن كثب أي مؤشرات على مثل هذا الانقسام.
ومؤخراً، صرّح اثنان من أعضاء مجلس محافظي الفيدرالي كريستوفر والر وميشيل بومان بأنهما قد يؤيدان خفض أسعار الفائدة في أقرب فرصة، ربما بدءاً من الشهر المقبل، وهو موقف لا ينسجم مع نهج باول، رغم أنهما كانا يُصنّفان سابقاً ضمن "الصقور" المتشدّدين في مواجهة التضخم.
قد يتبيّن لاحقاً أن موقفهما مبرَّر من الناحية الاقتصادية، تبعاً لما ستكشفه البيانات في الأسابيع المقبلة. لكن من الصعب تبرير ما يمكن أن يُفهَم على أنه اصطفاف إلى جانب البيت الأبيض في خلافه مع باول. وإذا كان صنّاع القرار في "الفيدرالي" مقتنعين فعلاً بأهمية الاستقلالية، فلمَ لا يلتزمون الصمت في الوقت الراهن؟
الاستناد إلى القواعد
هناك طريقة أخرى للدفاع عن عرف استقلالية "الاحتياطي الفيدرالي"، والحفاظ في الوقت نفسه على استقرار توقعات التضخم وتحسين قدرة المجلس على إيصال رسائله، وذلك من خلال إحياء أداة طالما همّشها الفيدرالي خطأً لسنوات.
فمن شأن اعتماد "قاعدة بسيطة" لتوجيه السياسة النقدية أن تكون نقطة الانطلاق (وربما نقطة الوصول أيضاً في كثير من الأحيان) عند اتخاذ قرارات معدلات الفائدة.
من أبرز هذه القواعد المعروفة، تلك التي تربط سعر الفائدة بالتغيرات الفعلية والمتوقعة في الناتج المحلي الإجمالي الاسمي. وهناك أيضاً "قاعدة تايلور"، إلى جانب عدد من النماذج المعدّلة عنها، والتي تربط معدل الفائدة بالفجوات بين معدلات التضخم والبطالة الفعلية وتلك المستهدفة.
ورغم أن هذه القواعد لا ينبغي لها –بل ربما لا يجوز لها– أن تملي سعر الفائدة، نظراً لتعدد المتغيرات المؤثرة، فإنها تساعد في رسم "الحالة المركزية"، وتنظيم النقاش، ومنع التحولات المفاجئة والحادة في السياسات. (كأن يُقرَّ خفضٌ فوريٌ بمقدار 2.5 نقطة مئوية مثلاً).
في عام 2018، طمأن جيروم بأول المعيّن حديثاً آنذاك، مراقبي الاحتياطي الفيدرالي المتمسكين بالقواعد حين قال أمام الكونغرس إنه يراجع هذه الحسابات بانتظام ويجدها مفيدة.
لكن منذ ذلك الحين، لم يصدر عن "الفيدرالي" ما يُشير إلى أي متابعة فعلية لهذه المقاربة.
زوال استقلالية الفيدرالي بات حتمياً
سُئل من باول خلال شهادته أمام الكونغرس الأسبوع الماضي عن سبب إبقاء "الاحتياطي الفيدرالي" على معدل الفائدة دون تغيير في اجتماعه الأخير، رغم أن أحد القواعد التي لم يحددها العضو الذي طرح السؤال، وإن بدا أنه يؤيدها، كانت تدعو إلى خفض الفائدة.
رد باول بأن المجلس يراقب خمس قواعد من نوع "قاعدة تايلور"، وأن أربعاً منها حالياً توصي بعدم تغيير المعدل، بينما تدعو واحدة فقط إلى رفعه.
مرّ هذا التبادل دون أن يثير اهتماماً يُذكر، كما تضمّن أحدث تقرير رفعه الفيدرالي إلى الكونغرس ملحقاً يشرح القواعد الخمس وتوصياتها، لكن المجلس لم يسلّط الضوء عليه، ولم يلقَ أي اهتمام يُذكر. ورغم أنها أداة لإشراك الرأي العام في فهم السياسات النقدية، فإن وجود هذه القواعد من عدمه بات سيّان. مع ترمب أو من دونه، وهذا مؤسف.
ومع ذلك، كما سبق أن قلت، في ظلّ رئيس بهذه الدرجة من الحدة والتهوّر، وحدة الفيدرالي أو تقديمه إرشادات رزينة للرأي العام لن يحدث فرقاً.
يبدو أن وقت تحسين التواصل وصناعة السياسات العقلانية المستندة إلى القواعد قد ولّى.
عصر استقلالية "الاحتياطي الفيدرالي" يقترب من نهايته، والأجدى الاعتياد على ذلك.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الرياض
منذ ساعة واحدة
- الرياض
الذهب يستقر وسط ترقب بيانات أمريكية
استقرت أسعار الذهب اليوم الأربعاء في ظل ترقب المستثمرين لبيانات الرواتب الأمريكية وموقف جيروم باول رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي (البنك المركزي الأمريكي) الحذر بشأن خفض أسعار الفائدة، في حين قدم ضعف الدولار وإقرار مشروع قانون الضرائب والإنفاق الأمريكي بعض الدعم. وسجل الذهب في المعاملات الفورية 3338.22 دولار للأوقية (الأونصة)بحلول الساعة 0036 بتوقيت جرينتش، واستقرت العقود الأمريكية الآجلة للذهب عند 3347.80 دولار. وتراجع مؤشر الدولار إلى أدنى مستوى له في أكثر من ثلاث سنوات، مما يجعل المعدن الأصفر أكثر جاذبية لحائزي العملات الأخرى. وبالنسبة للمعادن النفيسة الأخرى، استقرت الفضة في المعاملات الفورية عند 36.07 دولار للأوقية، وصعد البلاتين 0.7 بالمئة إلى 1359.78 دولار، وارتفع البلاديوم واحدا بالمئة تقريبا إلى 1108 دولارات.


الشرق للأعمال
منذ 2 ساعات
- الشرق للأعمال
أسعار النفط تستقر بعد مكاسب محدودة وسط تركيز على توترات الشرق الأوسط
استقرت أسعار النفط بعد ارتفاع طفيف، في وقت يتركز فيه اهتمام السوق على التوترات في الشرق الأوسط، وبيانات المخزونات الأميركية. تداول خام "برنت" قرب 67 دولاراً للبرميل بعد أن ارتفع بنسبة 0.6% يوم الثلاثاء، بينما تجاوز خام "غرب تكساس" الوسيط 65 دولاراً. هناك أنباء أن إيران أوقفت التواصل مع مسؤولين رئيسيين من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مما يعمّق الغموض بشأن برنامجها النووي، ويزيد من تعقيد المواجهة الدبلوماسية مع واشنطن. في غضون ذلك، قال الرئيس الأميركي دونالد ترمب إن إسرائيل وافقت على الشروط اللازمة لوقف إطلاق النار لمدة 60 يوماً في غزة. مخاوف من اشتعال الصراع مجدداً اعتبرت جون غو، كبيرة محللي سوق النفط في "سبارتا كوموديتيز" في سنغافورة أن "الحروب لا تسير في خط مستقيم، وأي خطوة صغيرة قد تتحول إلى شرارة في نهاية المطاف. وقف إطلاق النار بين إيران وإسرائيل قد لا يدوم طويلاً، والسوق ستكون سريعة في التفاعل مجدداً، إذا ما استؤنف النزاع". في الولايات المتحدة، أفاد "معهد البترول الأميركي" بانخفاض قدره 1.4 مليون برميل في المخزونات الأسبوع الماضي في مركز التخزين النفطي في كوشينغ، وهي نقطة تسعير خام غرب تكساس الوسيط، وذلك رغم ارتفاع طفيف في المخزونات على مستوى البلاد، بحسب أشخاص مطلعين على البيانات. وإذا ما تأكد ذلك من خلال البيانات الرسمية المنتظر صدورها في وقت لاحق من يوم الأربعاء، فسيكون هذا الانخفاض هو الأكبر منذ يناير، وسيدفع بالمخزونات في المركز إلى أدنى مستوى موسمي لها منذ عام 2005. وتراجعت وتيرة التداول في عقود النفط الآجلة منذ اندلاع آخر موجة من الأعمال العدائية بين إسرائيل وإيران، فيما عادت التقلبات إلى مستويات ما قبل الحرب. ومن المرجح أن تعود المخاوف المرتبطة بتوقعات تخمة المعروض في وقت لاحق من هذا العام، مع ترقب اجتماع لتحالف "أوبك+" نهاية هذا الأسبوع، قد يسفر عن زيادة كبيرة أخرى في الإنتاج.


الشرق الأوسط
منذ 2 ساعات
- الشرق الأوسط
لقاء حاسم بين ترمب ونتنياهو... وغزة تنتظر
يستضيف الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الأسبوع المقبل، في البيت الأبيض، رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في لقاء يبدو حاسماً بخصوص وقف الحرب في قطاع غزة. وعزز ترمب نفسه المؤشرات إلى أهمية اللقاء مع نتنياهو المفترض أن يحصل الاثنين، إذا قال أمس: «سأكون حازماً جداً مع نتنياهو بشأن إنهاء الحرب»، مضيفاً أن نتنياهو نفسه «يريد إنهاء الحرب»، وقال: «أعتقد أننا سنتوصل إلى اتفاق بشأن غزة الأسبوع المقبل». بدوره، أكد نتنياهو، أمس (الثلاثاء)، أن زيارته تأتي «عقب النصر الكبير الذي حققناه في عملية الأسد الصاعد (ضد إيران). إن استثمار النجاح لا يقل أهمية عن تحقيقه». ويبدو واضحاً أن نتنياهو يريد أن يستثمر في «النجاحات» التي حققها الإسرائيليون خلال الشهور الماضية، سواء ضد «حماس» في غزة، أو لجهة التغيير الذي حصل في سوريا، وكذلك بالنسبة إلى ضرب المشروع النووي الإيراني. ووصل وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر إلى واشنطن لإجراء اجتماعات مع مسؤولين أميركيين، تمهيداً لوصول نتنياهو الذي استعد أيضاً للزيارة بسلسلة اجتماعات مع كبار مساعديه ووزرائه بشأن مفاوضات وقف إطلاق النار في غزة.