
"لا أعرف من يمكن الوثوق به"، دروز سوريا قلقون من التهميش ما بعد الحرب
لساعات، كانت ترتجف خوفاً، فيما كان مقاتلون يرتدون زياً عسكرياً مموّهاً يتجولون في شوارع الحي. كانت هناك رشاشات ثقيلة منصوبة على مركبة عسكرية أسفل شرفة منزلها.
"جهاد ضد الدروز"، و"سنقتلكم أيها الدروز"، كانت تلك بعض العبارات التي صرخ بها المهاجمون.
لم تكن لمى تعرف من هم هؤلاء الرجال: هل هم متطرفون؟ عناصر من قوات الأمن الحكومية؟ أم طرف آخر تماماً؟- لكن الرسالة كانت واضحة: لأنها درزية، لم تكن آمنة.
ولطالما شغل الدروز، وهم طائفة لها معتقداتها وممارساتها الخاصة، وانبثقت ديانتهم من رحم الإسلام الشيعي، وشغلوا تاريخياً موقعاً هشّاً في النظام السياسي السوري.
تحت حكم الرئيس السابق، بشار الأسد، حافَظ كثير من الدروز على ولاء هادئ للدولة، على أمل أن يوفر لهم هذا الموقف حماية من حمّام الدم الطائفي الذي اجتاح مناطق واسعة من سوريا خلال الحرب الأهلية التي استمرت 13 عاماً.
شارك عدد من أبناء الطائفة في الاحتجاجات الشعبية، لا سيما في السنوات اللاحقة. لكن، وفي محاولة لتقديم نفسه كحامٍ للأقليات من خطر التطرف الإسلامي، تجنّب الرئيس بشار الأسد استخدام القبضة الأمنية ذاتها ضد المتظاهرين الدروز، كما فعل في مدن أخرى ثارت ضد حكمه.
شكّل الدروز جماعة مسلحة للدفاع عن مناطقهم في وجه "جماعات سنية متشددة" كانت تعتبرهم "مُنشقّة عن العقيدة"، فيما تجنّبت القوات الموالية للأسد التدخل في مناطقهم.
لكن بعد الإطاحة بالأسد على يد فصائل سنية إسلامية قادت تشكيل حكومة مؤقتة، بدأت تلك المعادلة غير المعلنة تتفكك، وبدأ القلق يتصاعد في أوساط الدروز من احتمال تهميشهم واستهدافهم في سوريا ما بعد الحرب.
وساهمت هجمات شنتها مؤخراً جماعات مسلحة إسلامية مرتبطة بشكل غير مباشر بالحكومة في دمشق على تجمعات درزية، في تعزيز حالة انعدام الثقة المتنامية تجاه الدولة.
بدأت القصة أواخر أبريل/نيسان، عندما سُرّب تسجيل صوتي يُقال إنّه لرجل دين درزي يسيء فيه إلى النبي محمد. ورغم نفي الشيخ المعني أن الصوت يعود إليه، وتأكيد وزارة الداخلية السورية لاحقاً أن التسجيل مفبرك، إلا أنّ الضرر كان قد وقع بالفعل.
انتشر مقطع فيديو لطالب في جامعة حمص وسط البلاد، دعا فيه المسلمين إلى "الانتقام الفوري" من الدروز، مما أجّج "عنفاً طائفياً" في أنحاء متفرقة من البلاد.
وقال المرصد السوري لحقوق الإنسان، ومقرّه بريطانيا، إن ما لا يقل عن 137 شخصاً قُتلوا في عدة أيام من القتال في أشرفية صحنايا وجرمانا جنوب دمشق، وفي كمين على طريق السويداء- دمشق. وشملت الحصيلة 17 مدنياً، و89 مقاتلاً درزياً، و32 عنصراً من قوات الأمن.
وقالت الحكومة السورية إن العملية الأمنية التي نفّذتها في أشرفية صحنايا هدفت إلى استعادة الأمن والاستقرار، وإنّها جاءت رداً على هجمات استهدفت عناصرها أسفرت عن مقتل 16 منهم.
في هذه الأثناء، كانت لمى زاهر الدين، وهي طالبة صيدلة في جامعة دمشق، على وشك إنهاء دراستها عندما وصلت أعمال العنف إلى قريتها. ما بدأ كقصف بعيد، تحوّل إلى هجوم مباشر، وإطلاق نار وقذائف وفوضى اجتاحت الحي.
وصل عمّها في حافلة صغيرة، وطلب من النساء والأطفال الفرار تحت القصف، فيما بقي الرجال للدفاع عن القرية بأسلحة خفيفة.
تقول لما: "المهاجمون كانوا يملكون رشاشات ثقيلة وقذائف هاون. أما رجالنا فلم يكن لديهم ما يضاهي ذلك".
ولم تتوقف أعمال العنف عند حدود قريتها. فقد جرى اقتحام غرف سكن الطلاب في جامعة دمشق، وتعرض بعضهم للضرب بالسلاسل.
وفي إحدى الحالات، طُعن طالب بعد أن سُئل ببساطة إن كان درزياً.
BBC
قالت لمى: "هم يقولون إننا تركنا جامعاتنا بإرادتنا. لكن كيف لي أن أبقى؟ كنت على بُعد خمس محاضرات ومشروع تخرج واحد فقط من إنهاء شهادتي. لماذا كنت سأتركها لو لم يكن الوضع خطيراً؟".
ومثل كثيرين في طائفتها، لا يقتصر خوف لمى على الاعتداءات الجسدية، بل يمتد إلى ما تعتبره فشلاً من الدولة في حمايتهم.
وأضافت: "تقول الحكومة إن هؤلاء مجرد خارجين عن القانون لا علاقة لهم بها. حسنٌ، متى سيحاسبون إذن؟".
وتابعت أن ثقتها اهتزت أكثر حين سخر منها بعض زملائها في الجامعة، من بينهم طالبة أرسلت لها رمزاً تعبيرياً ضاحكاً رداً على منشور كتبته تحكي فيه عن فرارها من قريتها.
"أنت لا تعرف حقاً كيف يراك الناس. لم أعد أعرف من يمكن الوثوق به".
ولا أحد يعرف على وجه التحديد إلى من ينتمي هؤلاء المهاجمون، لكن ما بات واضحاً هو أن كثيراً من أبناء الطائفة الدرزية باتوا يخشون من أن تنزلق سوريا نحو نظام تهيمن عليه الطائفة السنية، ولا مكان فيه للأقليات الدينية.
قال هادي أبو حسّون لبي بي سي: "نحن لا نشعر بالأمان مع هؤلاء الناس".
كان هادي أحد رجال دروز السويداء الذين دُعوا لحماية أشرفية صحنايا اليوم الذي اختبأت فيه لمى في الحمام.
وقد تعرّضت القافلة التي كان فيها لكمين، هاجمتهم فيه جماعات مسلّحة باستخدام قذائف الهاون والطائرات المسيرة. أُصيب هادي برصاصة في الظهر، اخترقت رئته وتسببت في كسر عدة أضلاع.
ويقول إن ذلك بعيد كل البعد عن سوريا التي تضم الجميع التي كان يحلم بها في عهد ما بعد الأسد.
وأضاف: "هؤلاء يتحركون بدافع ديني، لا وفقاً للقانون أو الدولة. ومن يتصرف بدافع كراهية دينية أو طائفية لا يمثلنا".
"ما يمثلنا هو القانون والدولة. القانون هو الذي يحمي الجميع... أريد حماية القانون."
وتؤكد الحكومة السورية مراراً على سيادة الأراضي السورية ووحدة مكونات المجتمع السوري، بما في ذلك الطائفة الدرزية.
ورغم تراجع حدّة الاشتباكات والهجمات، فإن الثقة في قدرة الحكومة على حماية الأقليات تضاءلت.
وخلال أيام القتال، نفّذت إسرائيل ضربات جوية في محيط أشرفية صحنايا، وقالت إنها كانت تستهدف "عناصر" يهاجمون الدروز لحماية هذه الأقلية.
كما شنّت غارات قرب القصر الرئاسي السوري، مؤكدة أنّها "لن تسمح بانتشار قوات جنوب دمشق أو بأي تهديد يستهدف المجتمع الدرزي".
وتضم إسرائيل عدداً كبيراً من المواطنين الدروز، إضافة إلى دروز يعيشون في مرتفعات الجولان السورية المحتلة.
وفي أشرفية صحنايا، قالت لمى الحسنية إن الأجواء تغيّرت، وباتت "أهدأ، لكن يسودها الحذر".
وتابعت أنّها عادت لرؤية جيرانها، لكن مشاعر القلق لم تغب.
"الثقة انكسرت. هناك أشخاص في البلدة الآن لا ينتمون إليها، جاؤوا خلال الحرب. من الصعب أن نعرف من هو من بعد الآن".
ولا تزال الثقة في الحكومة ضعيفة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الحركات الإسلامية
منذ 4 ساعات
- الحركات الإسلامية
التيارات السلفية تستغل قضية غزة في شوارع برلين للمطالبة بالشريعة
تحولت المسيرات في شوارع برلين الداعمة لغزة إلي عمليات كر وفر مع رجال الشرطة، وأصبح هناك اعتقالات لبعض المشاركين في ظل رفع شعارات محظورة، يأتي ذلك في الوقت الذي استغلت فيه جماعات سلفية المشهد لرفع شعاراتها للمطالبة بالشريعة الإسلامية، وهو الأمر الذي استفز الأحزاب السياسية، وليس حزب البديل من أجل ألمانيا فقط. وخلال يومين السبت والأحد شهدت برلين مظاهرات ومسيرات للتضامن مع غزة، لكن رصدت الشرطة خروقات كثيرة الأمور المتفق عليها، وفقا التصاريح التي حصلت عليها الجهات المنظمة، بعد إصرار المتظاهرين علي رفع شعارات محظورة للمطالبة بالشريعة، واحتقار الدستور الألماني، إلي جانب الاصرار علي تنظيم مسيرات متحركة، رغم أن التصريح ساري لمكان ثابت. يأتي ذلك في الوقت الذي دعا فيه حزب الاتحاد المسيحي الديموقراطي اغلق جمعية مسجد النور في برلين باعتباره ملتقي الجماعات السلفية، ورغم أنه يخضع لرقابة مكتب حماية الدستور- جهاز الاستخبارات الداخلية - إلا أن عملية إغلاقه قد تستغرق أشهر أو سنوات. غالبا ما تصدّر المسجد الواقع في حى نيوكولن الشهير العرب والمهاجرين عناوين الصحف بانتظام، حيث ينتقد السياسيون الخطابة فيه، مدّعين أنها تُمجّد العنف وتزدري الإنسانية والمرأة، ويظهر دعاة الكراهية مرارًا وتكرارًا في المبنى غير الملحوظ. ودعا واعظ ضيف إلى المسجد إلى قتل جميع اليهود في صلاة. يُعتبر المسجد ملتقىً للسلفيين - أتباع فرع إسلامي متشدد يرفض القوانين والقيم الغربية. وتُعتبر السلفية مرتعًا للإرهاب الإسلامي. ويدعو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي إلى إغلاق مسجد النور، ، ونص اقتراح رئيسي لمؤتمر الحزب في الولاية على أنه "يجب منع المتطرفين الإسلاميين من إيجاد ملاذ آمن لهم هنا، يُدار المسجد من قِبل جمعية "الجماعة الإسلامية في برلين"، التي يسعى الحزب الديمقراطي المسيحي إلى حظرها. من جانبها قالت أوتيلي كلاين الأمينة العامة لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي"نحن عازمون بشدة على مكافحة الإسلام السياسي، من المنطقي المطالبة بإغلاق ملتقى السلفيين. كما تمت الإشارة إلي أن"السلفية تُشكل تهديدًا للنظام الأساسي الحر والديمقراطي". ووصف الاقتراح بأنه "جرس إنذار صغير للسلطات". لكن مراقبون يرون أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي لن يتمكن من إغلاق المسجد، فهذه مسؤولية وزارة الداخلية، ولا يعتقد دريجر أن حظر الجمعية سيحدث بسرعة، قد يستغرق جمع الأدلة بعض الوقت، لقد أصبحت الجمعية أكثر حذرًا وحذرًا بسبب التقارير الإعلامية".


موقع كتابات
منذ 9 ساعات
- موقع كتابات
عاشوراء بين التضحية والإيمان
يحلّ علينا يوم عاشوراء، بكل مسمياته ومعانيه، حاملاً في طياته أعظم دروس الفداء والصبر والإيمان، حاملاً كل معاني التضحية الحقيقية لنصرة الدين الإسلامي. ذلك اليوم الذي ارتبط فيه ضمير العالم الحر مع الوجدان الإسلامي بملحمة تاريخية لا يمكن وصفها بكلمات، لأنها بقيت خالدة على مر العصور. إنها ملحمة كربلاء، عندما وقف الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) بوجه الظلم والفساد، رافعًا راية الحق ضد الباطل، مضحيًا بنفسه وأهله وأصحابه في سبيل المبادئ التي آمن بها. نعم، إنهم آل بيت رسول الله، ومن منهجه الطاهر الشريف يستلهمون العبر… لم تكن واقعة كربلاء مجرد معركة عادية عابرة التقت فيها السيوف مع صهيل الخيول، بل كانت اختبارًا للإرادة الإنسانية، ومعنىً حقيقيًا للتضحية في أسمى صورها. فالإمام الحسين لم يخرج طلبًا للسلطة أو رغبة في الدنيا، بل خرج ليُصلح في أمة جده، ويُعيد روح الإسلام إلى مسارها الحقيقي، بعد أن عبث بها الطغاة. لم يكن يطلب كرسي السلطة لأنه من الأشخاص الذين طهرهم الله وأبعدهم عن كل منافع الدنيا ومغرياتها، وها نحن اليوم نستفيد الدروس الكثيرة ونتعلمها من يوم عاشوراء، وخاصة عندما نرى الإيمان وقد تجلّى في أبهى صوره، حين اختار الامام الحسين أن يواجه الموت على أن يبايع الظالم، حين حمل السيف وهو يعلم أنه ذاهب إلى الشهادة، لا النصر، لكنه نصرٌ من نوع آخر.… نصر المبادئ على المصالح، ونصر الكرامة على الذل. نصر المظلوم على الظالم ونصر الفقراء على الجبابرة. في هذا اليوم، لا نبكي الحسين فقط دون أن نستفيد من ذلك الدرس العظيم الذي تركه لنا لتتعلمه كل الأجيال، ونستلهم من موقفه الشجاعة في قول الحق، والثبات على المبدأ، والتضحية لأجل القيم التي نؤمن بها. فهو لم يُقتل ليُحزننا، بل ليستنهض فينا الضمائر، ويُذكّرنا أن الإيمان الحق لا يكتمل إلا حين يُختبر في ميدان الفعل، ليعطينا درسًا في القيم الأخلاقية ويجدد فينا مبادئ الإسلام الحنيف. إن يوم عاشوراء هو درسٌ خالد في الإباء، ونداءٌ مستمر لكل الأحرار في العالم. نداء نسمع كلماته وصيحاته وهو ينادي جميع المسلمين بمشارق الأرض ومغاربها، ينادي شجعان العالم بحكمته وهو يقول للطواغيت كافة وعلى مر العصور الزمنية: 'هيهات منا الذلة'.


موقع كتابات
منذ 9 ساعات
- موقع كتابات
الحسين النور الذي بدد الظلمات في عاشوراء وإلى آخر الزمان
في العاشر من محرّم عام 61 للهجرة، وقف جيش الإيمان كلّه أمام جيش الكفر والنفاق والظلم كلّه. جيش الإيمان كان قليلا في عدته، نحيلاً في قوامه، معدودا في صفوفه كفتيل نورٍ نحيلٍ وسط ظلام دامس. أما جيش الظلم والنفاق فكان كبير الحجم، سمين العدة، عديد الصفوف متخماً بالسواعد والسلاح والخيول؛ يختلط غبار جلبته بالظلام فيرسم وجه عسكره ومنهم مجتمعين يرسم وجه السلطة التي قادتهم، في مشهدٍ موحشٍ مظلمٍ مغبرٍ، كأنّ الجيشُ المظلم وحشٌ خارجٌ من أصقاع جهنم يعيثُ في الأرض فساداً وخرابا. كانت هذه السلطة الشيطانية، وبجلبة جيشها الدامس، رغم ضخامتهما و وحشيتهما وقوتهما، خائفين من ذلك الوميض النحيل من النور، فخبطاه خبط عشواء بمخالب النفاق والظلم والجحود، يريدان طمسه، لينطفئ إلى الأبد ويكون الظلام في الأرض سرمدا، فيكون إحتفال الظلم والظلام إحتفال الجحيم الأبدي على أنغام إبليس، في عالمنا الدنيوي! حين بُعث الرسول برسالة الإسلام، وقف الأموييون بكل قوتهم ضد النبي وأتباعه القلائل. فعمدوا كل مكرٍ حازوه، وكل سبيل بصروه، ليطفئوا نوره إطفاء الشيطان نور الله بنفخته. فتدرجوا في القوة من شديد إلى أشد، وخداعٍ إلى أحط منه سبيلا. وما مكروا مكراً إلا وكان عاقبة مكرهم أنهم دُمروا، فلاذوا بالإسلام وهم يتهاوون فيفنون، ليتشبثوا بالبقاء فينظروا مكراً ويدبروا من جديدٍ أمرا. وحين فتح المسلمون مكة، لم يبق أمام كبير الأمويين وقومه سوى أن يدخلوا الإسلام مرغمين أذلاء، بعد أن حاربوه ثلاثة وعشرين سنة بكل ما أوتوا من قوة وعديد وعناد. وما لبث أن اشتدت سواعد الإسلام، وانكفأت ثعابين الشرك، وتوارت ضباع الكفر والظلم نحو جحور الظلام. وحين دخل المسلمون مكة فاتحين مزهوين بالنصر والإباء، وقد طُردوا منها قبل عشرٍ أذلاء، تحت وطأة الضرب والملاحقة وسلب كل ما ملكوا، وفي لحظة فوران الغضب والإنتقام وإلحاح العدالة، إذْ واتتهم الفرصة؛ أصدر النبي عفواً عاماً عن الظالمين المعتدين، الذين أذاقوا المسلمين صنوف الشر وأنواع الظلم وألوان العذاب. كان هذا فريداً في التأريخ كلّه، وسابقة في عالم السياسة والحروب، وخيراً وليداً لم تر عيون الأرض مثله أبدا. الظلمة والمعتدون الذين عفى النبي عنهم، سمّوا بالطلقاء ومسلمة الفتح. وما مرّ الكثير من الوقت، حتى دبّ هؤلاء الطلقاء بين المسلمين يستجمعون قواهم، ويلملمون غزل نسيجهم المنقوض، ويرممون أوكارهم وجحورهم. وحيث أوصى النبي المسلمين مراراً وتكراراً، وهو يذكرهم على مر السنون والأيام، يضع لهم القواعد ويرسخ البنيان، أصبح مقصده واضحا كالشمس لا يختلف عليه إثنان، أن النبي بوحي من ربه يريد علياً خليفة له من بعده ووصيا على المسلمين، وأنّى لهم أفضل منه علماً و ورعاً وتقوىً وحكمة؟! وإذْ لم يكن للطلقاء دورٌ في المجتمع الجديد، ولم تكن لهم كلمة في تقرير مصائر الدولة والمجتمع، فنسجوا كرّة أخرى في الخفاء مكرهم الجديد القديم، على منوال معاداة النبي وأهل بيته، فعمدوا إلى رجال كان لهم عليهم سطوة ومنّة ومكانة تبجيل في نفوسهم كانت قد نمت من عرى و وشائج القبلية وطبقيتها، منذ أيام الجاهلية حيث كان الأموييون جبّارين غشماء. وفي لحظة حرجة ومؤلمة وحاسمة، آوان وفاة النبي وإنشغال علي وقرابة النبي بتجهيز كفنه، ذهب الناس إلى السقيفة تحت أنظار ومراقبة الطلقاء، ليشكلوا النظام السياسي الجديد الذي لم يُحسب فيه لأهل بين النبوة أدنى حساب، بل وتعرضوا للإجحاف والإقصاء ومصادرة الحقوق، حتى بلغ بالقوم الإستيلاء على أرض ميراثٍ كان النبي تركها لبنته فاطمة وهي أم الحسين الذي كان النبي يشم رأسه ريحانةً يرويها بدموعه، مدركاً أن أمته ستذبحه وتهدر دمه كما أخبره الوحي. وكان المشهد مؤلماً، حيث جلبة الرجال عمدت بيت بنت رسول الله المفجوعة برحيل والدها الأعز الأكرم، وفي يدهم أعواد كالرماح تشتعل رؤوسها ناراً، وهم يطوقون بيت المفجوعة يريدون جرّ بعلها والمعتصمين ببيتها، للإقرار بنظام سياسي صنعوه على عكس ما أمر به النبي! فكانت الكارثة، إذْ سالت المصائب تتوالى، ودوائر الفتنة تتسع كقطع الليل المظلم. و وقعت المصيبة الأعظم فوق رؤوس عترة النبي الذين كساهم أمام الناس برداءٍ ليشرح لهم آية التطهير التي نزلت فيهم خصيصا، قلادةً حول أعناقهم، يُعرفون بها على مر الدهور والأزمان. وعبر سنين، ندم الذين صنعوا النظام السياسي وتمنوا لو أنهم لم يفعلوا، لأنهم رأوا بأم العين كيف تخرج الفتن بقرونها عقابيلَ لمقدمة لم يرسمها الوحي الإلهي. المصيبة كانت عظيمة فوق رؤوس أهل بيت النبوة، فماتت فاطمة مفجوعة حزينة، لم تتحمل مشهد وفاة والدها وأي والدٍ يأتيه الوحي من السماء، يشير إلى فاطمة ويقول لها: أنتِ بضعة مني فمن آذاك فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله. وبموتها، بُعيد وفاة النبي بشهور قلائل، تركت فاطمة ريحانتي النبي، الحسن والحسين، يتامى وهما طفلان لهما أقل من ثمانية أعوام من العمر! وحيث عاد الطلقاء أقوياء، وهم يتسترون بعباءة الإسلام، وأخذوا مدناً وأمصارا، يهيئون الواقع لتلقف كرة الخلافة بأي ثمن فكان لهم ما أرادوا؛ دبّروا الحرب والإغتيال والموت لعلي وأهل بيته وأصحابه، كما دبرّوا للنبي وأهل بيته وأصحابه في أمس غير بعيد. وحين استتب لهم الأمر والحكم، بدأ الوجه الحقيقي لهم خلف قناع الإسلام الذي لم يقتنعوا به يوما وهم يحاربونه لربع قرن في مكة والمدينة. وتجلّى ذلك في تبديلهم سنّة النبي، وهو أمرٌ أنبأه الرسول إلى المسلمين في حياته، أن رجلاً من بني أمية سيكون أول من يبدل سنته. وتوالى التبديل في الدين، وتعاظم الظلم والجهر بالعصيان والذنوب، وصار الإسلام بعد عزٍ ذليلا غريبا، حتى بكى أنس حزنا وكمداً على تبديل الدين قائلا: لم أعد أعرف شيئا مما كان على عهد النبي غير الصلاة التي أحدثوا فيها ما أحدثوا! وتمت ملاحقة الصالحين الأتقياء، وأبعدوا وعذبوا وقتلوا تقتيلا. وكان على رأسهم أبا ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، وإبن مسعود، والحجر بن عدي وآخرون كُثر دفعوا حياتهم ثمناً للتمسك بخط النبي. كان نور النبي ورسالته بعد متقدين يتشعشعان، لكن قطع الليل المظلم، وغيوم الظلم والإنحراف، والتبديل في الدين بالإتكاء على السلطة والقوة قد هيمنّ في سماء الإسلام، وكأنّ الجاهلية عادت فخيمت على الناس، وكأنّ مشركوا أمس المحاربون للنبي ورسالته في طريقهم نحو نصر نهائي. في ثنايا هذه الظلمات والغيوم والتقهقر، وتحت أثقال الآلام والحيف والإجحاف الذي لحق ببيت النبوة، وإذْ تراكم الخوف والحزن واليأس والإستياء لما فعله الطلقاء وأعوانهم، من ظلم وتبديل وإطلاق للشر وقتلٍ للخير، وحيث قل أنصار الحق وعمّ الخوف والجبن والوهن، إمتطى الحسين نور رسالة جدّه، وخلفه أهل بيته يحملون مشاعل هداية الإسلام، وبضعة أعوان على الحق انضموا إليهم على مضض بعد أن كادوا لا يعرفون أن هذا هو نور الحق، فكان موكب الحسين إلى كربلاء قافلة من نور نبوي يشتعل بنبض الإيمان والعزم على تبديد الظلام وإشراق الحق، لتزول قطع الليل المظلم، فكانت ملحمة عاشوراء الحد الفاصل بين النور والظلمات، كسورٍ ضُرب بينهما باطنه في الرحمة وظاهره من قبله العذاب. في عاشوراء انقسم العالم الإسلامي، وكان العالم الحي الوحيد في الكرة الأرضية، إلى ثلاثة دوائر. الدائرة الأولى الظلمة وأعوانهم، وكانت الدائرة الأكبر والأعم. ودائرة أصغر بكثير، وهم اليائسون الذين فضلوا الصمت والإنزواء، لأنهم كانوا فقدوا الأمل وأرادوا إقناع الحسين لينضم إلى دائرتهم. وكانت هناك دائرة صغيرة جداً، تكاد لا ترى من شدة صغرها وضعفها الظاهر، في أحشاء إمبراطورية مترامية الأطراف، بعظيم قوتها وأساطيلها وجيوشها وأموالها وعدتها. هذه الدائرة الصغيرة الأصغر هي دائرة الحسين وأهل بيته. فكانت المواجهة الملحمية الكبرى في عاشوراء بأرض كربلاء، بين فئة قليلة من نحو سبعين فتيةٍ آمنوا بربهم وزادهم هدى يقودهم الحسينُ قامة نور وإيمان، وإمبراطورية تمتد من جزيرة العرب إلى آسيا شرقاً وإلى أصقاع أفريقيا وإلى تخوم أوروبا، وكانت أعظم دولة في الأرض قاطبة. في هذه المواجهة التي لم يكن فيها أدنى موازين التكافؤ والتوازن، ولا حتى بصيص أملٍ بتقبل أدنى معقولية للمشهد، انتصر ذلك الفتيل النحيل من النور على الجيش العرمرم من الظلم والظلمات، في بطولة مازالت مستمرة، ونورٍ مازال يشع، ونبض مازال حيّا بينما تلك الإمبراطورية ليست سوى أطلال رماد، ولا حتى رماد! في عاشوراء، سجل الكون أعظم مفارقة في تأريخ البشرية، حيث جيش كبير من الظلمات يبارز وميض نور نحيل ليطمسه وليطفئه بمخالب الظلم. على أرض المعركة كسب الظلام جولة الضرب، فظن أنه طمس النور إلى الأبد. لكن دم الحسين وأصحابه تناثر في الفضاء، ليشعل السماء نورا وشهباً بدد الظلام الذي غطى أعين الناس، وأظهر الدين من جديد وفق صورته النبوية، بعدما كاد يناله التشويه والإنحراف والتبديل. وبينما بقي النور يشع السماء، بدأ يرسل الشهب على تلك الإمبراطورية حتى أحرقها وحوّلها رماداً، وطغاتها جثثا تلاحقهم اللعنات على مر العصور. أما الحسين فمازال نور هداية يهدي الناس إلى الحق وشهاباً رصداً للطغاة والظالمين، يبدد الظلمات ويرسم الحدود بين الحق والباطل في كل زمان ومكان.