
اللوفر "لصٌّ جميل".. أن تكتب الشعر وتُغفل النهب
لطالما شكّلت المتاحف مصدر
إلهام للشعراء
في العالم الغربي، وأثارت لديهم تساؤلات فلسفية عميقة عن الجمال والذاكرة والتاريخ. وقد تباينت مواقفهم منها بين الاحتفاء والرفض، بحسب نظرتهم إلى دور
المتحف
في تشكيل الوعي البشري. من بين هؤلاء، الشاعر الإنكليزي الكبير دبليو. إتش. أودن، الذي كتب في عام 1938 قصيدته الشهيرة "متحف الفنون الجميلة" بعد زيارته متحف الفنون الملكي في بروكسل. لاحظ أودن كيف يُعبَّر عن أهوال الألم البشري في الأعمال الفنية دون الانتباه إليها، كما في لوحة بروغل "مشهد سقوط إيكاروس"، حيث يواصل الفلاح حرث أرضه غير آبهٍ لغرق الشاب في البحر. كانت الرسالة الفلسفية هنا عميقة: المأساة الإنسانية غالباً ما تُهمَل وسط انشغالات الحياة اليومية، ويُحوّلها المتحف، بحكم طبيعته، إلى مادة جمالية تجرّدها من أبعادها الوجودية.
في المقابل، هناك شعراء نظروا إلى المتحف بعين الريبة، ورفضوا رمزيّته السلطوية. فالشاعرة الأميركية أدريان ريتش، على سبيل المثال، رأت في المتحف مؤسسة مرتبطة بالسلطة والمال، تعيد إنتاج التاريخ من منظور المنتصر، وتقصي أصوات المهمّشين. في هذا الإطار، ما يُغيَّب عن المتحف لا يقل أهمية عمّا يُعرض فيه، بل قد يكون الغياب دليلاً على صراع شرس حول الذاكرة والهوية، ومن يُسمح له بالحضور في السرد التاريخي ومن يُقصى منه.
يمكن أن نذكر هنا أيضاً الشاعرة الأميركية كارولين فورشي، التي تخيّلت في قصيدتها الشهيرة "متحف الحجارة" متحفاً بديلاً مصنوعاً من بقايا شخصية وسياسية: حجارة منازل مدمّرة، وشظايا من ذاكرة الحرب. فورشي، التي عايشت أهوال العنف والقمع، رفضت فكرة المتحف التقليدي الذي يجمّل الماضي، ودعت إلى ذاكرة صادقة ومفتوحة، حتى لو كانت مؤلمة، مشيرة إلى أن الحفظ الحقيقي لا يتطلب التجميل والتمويه، بل الاعتراف بالخراب.
قصائد كتبها للمتحف شعراءٌ ينتمون إلى ثقافات في خمس قارات
وسط هذا التباين، تواصَل التفاعل بين الشعر والمتاحف في الغرب، واستمرت تجربة الكتابة عن المتاحف بوصفها مرايا لأسئلة الإنسان المعاصر. وفي هذا السياق، صدرت أخيراً عن منشورات مجلة نيويورك ريفيو أوف بوكس (2024)، بالتعاون مع متحف اللوفر، الترجمة الإنكليزية لكتاب بعنوان "في متحف اللوفر: قصائد لمئة شاعر معاصر من العالم".
كان الكتاب قد صدر أولاً بالفرنسية، وهو أنطولوجيا شعرية طموحة تضم قصائد كتبها خصيصاً للمتحف شعراء ينتمون إلى ثقافات مختلفة في خمس قارات، واستُلهمت كل قصيدة من عمل فني أو فضاء معماري أو تجربة جمالية داخل أروقة اللوفر. حرّر الكتاب أنطوان كارو، وإدوين فرانك، ودوناتيان غرو، واحتوى على مقدمة بقلم مديرة المتحف لورانس دي كار.
تُرجمت القصائد من لغات عدّة كالعربية، والفرنسية، والألمانية، والصينية، والهولندية، ما يعكس الامتداد الكوني للوفر بوصفه مؤسسة ثقافية عالمية. وشارك في الكتاب شعراء عرب بعضهم يكتب باللغة العربية والبعض الآخر باللغة الفرنسية، مثل: اللبنانية فينوس خوري غاتا، والفلسطيني نجوان درويش، والمغربيين عبد اللطيف اللعبي والطاهر بن جلون، والعراقي علي العطار، والإماراتية نجوم الغانم، إضافة إلى غيرهم.
لحظة شعرية تحتفي بالفن داخل قاعات الارتكابات الكولونيالية
ماذا تعني الكتابة عن متحف بوزن اللوفر شعرياً؟ يمكن القول إن الشاعر يقرأ الحاضر بعدسة الماضي، والماضي بعدسة الحاضر، ويستحضر جماليات حضارات قديمة بما تثيره من أفكار عن عظمة فنية، وما تطرحه من تساؤلات في زمن مضطرب يتسم بالسرعة والتقلّب. فالمتحف مكان للجمع والعرض، مؤلَّفٌ من طبقات تنتمي إلى عصور وبلدان مختلفة. ويُعدّ متحف اللوفر من أبرز المعالم الثقافية في العالم، لكن الكثير من مجموعاته، ولا سيما القادمة من العالم العربي، تعكس تاريخاً طويلاً من النهب والاستحواذ في أثناء فترات التوسع الاستعماري الفرنسي.
بدأت علاقة فرنسا بالآثار العربية مع حملة نابليون على مصر عام 1798، التي، رغم ادعاءاتها العلمية، أسّست لعملية ممنهجة لسرقة الآثار ونقلها إلى باريس، ومن ثم توسعت البعثات الفرنسية إلى العراق وسورية ولبنان. وفي القرن التاسع عشر، أرسلت فرنسا بعثات أثرية إلى بلاد الرافدين، نقلت من خلالها تماثيل ونقوشاً ضخمة من مواقع مثل نينوى إلى متحف اللوفر. وحدث ذلك في بعض الأحيان بموافقة سلطات الدولة العثمانية. ولاحقاً، في ظلّ الانتداب الفرنسي على سورية ولبنان، أصبحت عملية النقل أكثر تنظيماً، وعُرضَت آثار مهمة مسروقة من مواقع مثل تدمر في اللوفر خارج سياقها التاريخي والثقافي. ورغم أن المتحف يبرّر احتفاظه بهذه القطع بأنها تخدم "التراث الإنساني"، فإن المطالب العربية باستعادة الآثار تزايدت في ضوء وعي متنامٍ بقضية العدالة الثقافية.
وبينما بدأت فرنسا بإعادة بعض الآثار الأفريقية، لا تزال مسألة استعادة الآثار العربية حساسة ومعقّدة. فاللوفر، رغم مكانته الثقافية، يظل شاهداً على تاريخ من الهيمنة الثقافية، ونهب التراث الإنساني في العالم العربي، وهو إرث لا يمكن تجاهله في النقاشات المعاصرة حول الاسترداد والتصالح مع الماضي الاستعماري.
يغيب الإيحاء القوي بالتاريخ الاستعماري للوفر والنهب المصاحب له في الكتاب، كذلك تغيب أسماء مهمة لشعراء عرب آخرين من دول عربية تعرّضت لسطو ثقافي ممنهج. كان بإمكان هذا التنوع أن يُغني الكتاب شعرياً، عبر الغوص في طبقات هذا التاريخ. يتوقف شعراء الكتاب عند الاحتفاء بتماثيل وأصص ولوحات وقطع في المتحف، ويبنون قصائدهم عليها، في محاولة لتوليد المعنى في لحظته المعاصرة من خلال الانتقال من الشيء إلى الكلمة، والبحث عن صلة بين الحاضر والماضي، أو عن طريق سفر في الأعماق الأسطورية للمرئي.
تغيب أسماء لشعراء عرب من دول تعرّضت لسطو ثقافي ممنهج
في مقدمتها للكتاب، تقول لورانس دي كار إن قصر ومتحف اللوفر يشكّلان جزءاً من تاريخ الشعر، لهذا يحاول الكتاب أن يعكس الهويات المتعددة لهذا الفضاء. فالمتحف مكان يضم مئات الغرف، وكلّ منها قد تتيح كشفاً شخصياً. وهو أيضاً مكان يتتبع مسيرة البشرية من القرن الثامن قبل الميلاد حتى يومنا هذا، ما يجعل استكشاف الزمن العابر جزءاً جوهرياً من تجربة المتحف والشعر معاً. وتوضح دي كار أن الهدف من الكتاب مواصلة العلاقة بين المتحف والشعر، ولهذا جرت دعوة مئة شاعر معاصر من قارات العالم الخمس لكتابة قصائد عن اللوفر، الذي أصبح "ربة إلهامهم"، لكونه مستودعاً للفن. وتضيف دي كار أن كتاب "في اللوفر" لا يشكّل أنطولوجيا خارجية، بل هو تجلٍّ لشيء ينبع من داخل المكان ذاته.
لكن اللوفر ليس فضاءً ثقافياً بريئاً، ورغم تنوّع القصائد وأهمية الأسماء التي نُشر لها في كتاب "في اللوفر" وتباين أساليبها الفنية وقدومها من لغات متعددة، إلا أنها تظل انعكاساً للحظة شعرية تحتفي بالفن داخل قاعات فارغة من التاريخ والارتكابات الكولونيالية. وقد نحتاج إلى جزء ثانٍ يضم شعراء يستحضرون في قصائدهم القطع المسروقة ويستلهمون قصصها وجمالياتها كي يحاولوا إعادة بناء ذاكرة ثقافية مقطعة الأوصال. لم يغب هذا عن أحد الشعراء المشاركين في الكتاب، الهندي فيفيك نارايانان، المختص في الأنثروبولوجيا الثقافية، الذي قال في قصيدته: "إن المتحف هو أجمل اللصوص/ كلّ ما أعرفه يتّفق معي على ذلك/ إنه يصنعُ وجبةً طيّبة ورائعةً من الأحزان ويستيقظُ في كَرَمٍ غريب".
* شاعر ومترجم سوري مقيم في الولايات المتحدة
آداب
التحديثات الحية
محمد شكري في مناهج جامعة ييل

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


العربي الجديد
منذ 21 دقائق
- العربي الجديد
عقارات الموت في مصر... أنقاض المنازل تدفن سكانها
انهار عقار مكون من خمسة طوابق على رؤوس ساكنيه في حي حدائق القبة الواقع في قلب القاهرة صباح 20 يونيو/حزيران الماضي، وتبعه بعد أقل من 24 ساعة انهيار العقار المجاور ، مخلفين مأساة جديدة تُضاف إلى السجل المصري المثقل بكوارث " عقارات الموت " التي تحول أحلام السكان في لحظات إلى كوابيس، إذ باتت رائحة التراب الممزوج بالموت تملأ المكان الذي كان قبل ساعات يعج بالحياة. تتكرر الحوادث، إذ انهار يوم الاثنين 23 يونيو، عقار مكون من ثلاثة طوابق في حي شبرا، وعقار ثان في حي السيدة زينب، ما يجعلها أعراضا واضحة لأزمة بنيوية عميقة تهدد بكارثة أوسع، في ظل غياب شبه تام للإحصائيات الرسمية، وتعامل حكومي يراه كثيرون قاصراً، ومجرد رد فعل من دون استراتيجية وقائية حقيقية. وكشف تقرير برلماني، قبل أسبوع، عن وجود نحو 5000 منزل آيل للانهيار في العاصمة القاهرة، ونحو نصف هذا الرقم في مدينة الإسكندرية، ثاني أكبر مدن البلاد، وجميعها توصيفها القانوني "عقارات آيلة للسقوط الفوري، وشديدة الخطورة على من فيها". وأكدت دراسة سابقة لكلية الهندسة في جامعة القاهرة ، صدرت في عام 2015، لا تزال أرقامها تتردد بمثابة جرس إنذار، وجود ما يقرب من مليون عقار آيل للسقوط في مصر، وأن هناك 132 ألف قرار إزالة صادرة بحق مبانٍ خطرة، لم ينفذ منها سوى نسبة ضئيلة، ما يجعلها قنابل موقوتة موزعة على الخريطة السكانية، يمكن أن تنفجر في أي لحظة. وخلف كل انهيار قصص إنسانية مفجعة. طاولت كارثة عقار حدائق القبة المنهار أسرة الرائد في الجيش المصري ضياء مصطفى، والذي لقي حتفه تحت الأنقاض، تاركاً خلفه طفلين وزوجة. بينما يقول رجل أربعيني بالقرب من الركام: "خرجت من البيت صباحاً إلى العمل، وعدت لأجده كومة تراب. زوجتي وأطفالي لا أعرف عن مصيرهم شيئاً". ولا تنتهي المأساة عند انتشال الضحايا والمصابين. ففي كل عقار منهار عدد من الأسر الناجية التي تجد نفسها في العراء. وتشير التقديرات الأولية لحوادث شهر يونيو الحالي، إلى تشريد ما لا يقل عن 30 أسرة فقدت كل ما تملك، المأوى، والأثاث، ومدخرات العمر، والذكريات. قرب العقار المنهار في السيدة زينب، يقول السبعيني سيد، الذي نجا بأعجوبة: "كل ما أملكه الآن هو ملابسي التي أرتديها. 50 سنة من الشقاء ذهبت في لحظة. أين أذهب بأولادي الآن؟". انهيار المنازل يتكرر في القاهرة، 10 ديسمبر 2024 (فرانس برس) في المكان نفسه، تقول الشابة حياة: "نطالب الدولة بالإسراع في تدبير سكن بديل للإيواء العاجل، حتى لا نبقى في الشارع. سنبقى عند الجيران لحين تدبير سكن آخر، لكني أخشى من الانتظار لسنوات، إلى أن يحين موعد للحصول على شقة من الدولة، مثلما حدث مع الأهالي الذين انهارت منازلهم خلال العقدين الماضيين". وتمول الحكومة المصرية برنامجاً لحماية الأسر المتضررة من تهدم المنازل، ضمن مشروع "تكافل وكرامة" الممول من الاتحاد الأوروبي، لكن تظل قدرته على إنقاذ المتضررين من التشرد محدودة في ظل تكرار حالات الانهيار، وغالبيتها ناتجة من عدم صيانة المنازل القديمة، حيث يتنازع الملاك والمستأجرون على تكاليف الصيانة، بينما يرغب الملاك في هدم بيوتهم للتخلص من أعباء صيانة عقارات محدودة العائد. يقول الاستشاري الهندسي، إسلام أحمد، لـ "العربي الجديد": "ندور في حلقة مفرغة، فالأسباب واضحة ومعروفة للجميع منذ سنوات. أولاً، لدينا آفة التعليات المخالفة، إذ يقوم ملاك العقارات القديمة بإضافة طوابق من دون أي دراسة إنشائية، ما يضع أحمالاً قاتلة على أساسات وهياكل متهالكة أصلاً. ثانياً، غياب الصيانة الدورية؛ فالقانون يلزم اتحادات الشاغلين بالصيانة، لكن هذا لا يحدث في غالبية العقارات القديمة. وأخيراً، هناك غش واضح في مواد البناء في قطاع المقاولات غير الرسمي، والكارثة أننا نتعامل مع كل انهيار بما هي حالة منفصلة، بينما هي في الحقيقة عرض لمرض واحد يصيب جسد العمران في مصر". قضايا وناس التحديثات الحية مصرع 10 مصريين وإصابة 4 آخرين جراء انهيار عقار في كرداسة يضيف: المشكلة ليست هندسية فقط، بل هي أزمة اجتماعية واقتصادية بامتياز، مشيرا إلى وجود طلب هائل على السكن في المدن الكبرى لا تقابله الدولة ببدائل آمنة وبأسعار معقولة، ما يدفع محدودي الدخل للقبول بالسكن في عقارات متهالكة أو مخالفة لأنها الخيار الوحيد المتاح والمناسب لهم مالياً. ضعف أجهزة الرقابة في المحليات وفساد بعض الموظفين يسمح لهذه المخالفات بالانتشار كورم سرطاني، و"قانون التصالح في مخالفات البناء، الصادر مؤخراً، رغم أنه أدخل مليارات الجنيهات إلى خزينة الدولة، إلا أنه قونن أوضاع مبانٍ خطرة، ما أعطى شعوراً خاطئاً بالأمان لسكانها". ويتكرر السيناريو الحكومي مع كل كارثة، إذ يهرع مسؤولو الحماية المدنية إلى الموقع، ويتم تشكيل لجنة هندسية لمعاينة العقار المنهار والعقارات المجاورة، وتصدر توجيهات بصرف تعويضات عاجلة لأسر الضحايا والمصابين، وتوفير وحدات سكنية مؤقتة للأسر المشردة. ورغم أهمية هذه الإجراءات، إلا أنها تظل "مسكنات" لأزمة تتطلب "عملية جراحية" كبرى. تقول أم محمد، وهي إحدى المتضررات من انهيار عقار: "أعطونا شقة في مساكن بديلة بعيدة عن عملي ومدارس أولادي، والتعويض المالي لا يكفي لشراء أبسط الأجهزة التي فقدناها. لم نكن نريد تعويضاً، كنا نريد أن تمنع الدولة الكارثة قبل وقوعها".


العربي الجديد
منذ 21 دقائق
- العربي الجديد
الفروسية في التشكيل المغربي.. التبوريدة بين سحر اللوحة وأسطورة الأرض
اليوم، في العديد من المدن المغربية ، تزيّن تماثيل الفرسان الشوارع الكبرى شاهدة على المكانة التي يحتلها ركوب الخيل في بلد تقترن أعياده الوطنية، الدينية والفلاحية بعروض التبوريدة، وهي طقس احتفالي يستحضر بفنون الفروسية ملاحم المجاهدين في قتال المستعمر. في الفن المغربي، تُعدّ التبوريدة (الخيالة) موضوعاً مفضلاً لدى عدد من التشكيليين الذين أسرتهم حالة التآلف بين الإنسان وجواده وبسالة الفارس وجسارة فرسه. بالتوازي، ألهم جمال الخيول البربرية والعربية الأصيلة وهيبتها، وقد امتطاها فرسان يرتدون أبهى الحلل، العديد من الفنانين المستشرقين الذين سعوا لاقتناص سحر الشرق واستكشاف فتنة عوالمه. في لوحاتهم، يغدو العرض الفروسي أقرب إلى مشهد بطولي مقتبس من ساحة الوغى. يتكرّر الحصان كعنصرٍ تصويري للدلالة على بأس الفارس وعنفوانه، كما في لوحات التبوريدة للفنان الفرنسي أوجين دولاكروا الذي شهِد عروض الفروسية خلال رحلته إلى المغرب. متأثرين بجمالية المدرسة الاستشراقية، يصور بعض الفنانين المغاربة مشاهد الفروسية التي تتسم بجاذبية بصرية. في أحد أعماله، يمثل التشكيلي العربي بلقاضي فارساً مغربياً على جواد وسط أجواء حالمة، وقد التفّت حولهما زوابع ريح تجسدها أشكال حلزونية توحي بلولبيتها على شجاعة الثنائي أمام عدائية المكان. تحمل هذه الدوّامات الريحية دلالة رمزية أيضاً، إذ تُحيل إلى أصل الحصان الذي خُلق، بحسب الحديث النبوي، من ريح الجنوب. من الناحية الجمالية، فإن هذه التموجات، التي تبثّ الحيوية في اللوحة، تتناغم بانسياب مع تضاريس جسد الحصان، من استدارة ردفه وانحناءة عنقه إلى الخطوط المتمايلة لذيله، في تشكيل بصري يذكر بالطابع الزخرفي المنحني الذي يميّز العديد من المنتجات الحرفية المغربية. ألهمت الخيول والمشاهد الفروسية عدداً من الفنانين المستشرقين في لوحة أكثر صخباً، يرسم الفنان عبد الحق أرزيمة محارباً مغربياً على جواد منطلق في العدو، حاملاً مكحلته، في صورة تنبض بالقوة والحركة وتختزل مزيجاً من الحماسة والبطولة. يُجسّد الفنان الفارسَ وجواده من منظور أمامي وقد امتدّ أحدهما في الآخر حتى شكّلا معاً كائناً واحداً "حيواناً إنسانياً غامضاً" (بتعبير جيروم غارسان)، تُضفي عليه الظلال القاتمة مزيداً من الهيبة والرهبة. مشاهد الفروسية الهادرة حاضرة أيضاً في لوحات عبد اللطيف الزين. في محاولة منه للإمساك بروعة العرض الفروسي، يُخضع الفنان شخوصه لصياغة تشكيلية تمزج بين التجريد والتصوير، بعيداً عن الدقة التصويرية التي تتسم بها لوحات الرسامين المستشرقين وتثبت الحصان وفارسه في إيماءة محددة. تضفي المقاربة الفنية المزدوجة التي يعتمدها الزين على اللوحة طاقة تشكيلية نابضة، محولة بذلك العرض الفروسي إلى عرض مبهر من اللون والضوء يبرز الانسجام بين الإنسان وفرسه. أما حسن الكلاوي، وهو نجل أحد أبرز الباشوات في تاريخ المغرب، فتأثر بعروض التبوريدة التي كان ينظّمها والده، لدرجة أنه سخّر كل فنه لتصوير أجوائها. في إحدى لوحاته، يظهر الكلاوي ثلاثة خيول وفرسانها على خلفية زرقاء مخططة بلمسات بنية. يُقترح المنظور في اللوحة من خلال ترتيب العناصر بشكل مائل، ما يمنح الخيول المصوّرة في حالة عدوٍ مظهراً طائراً وكأنها تحلّق في سماء زرقاء. أما الشخصيات التي رُسمت على الأرجح من وحي اللحظة، فتفقد في أعمال الكلاوي ملامح وجوهها ودقة خطوطها، ذلك أن الفنان لم يكن مشغولاً بتفاصيل المشهد بقدر ما كان يحرص على نقل الأجواء الساحرة التي تنبع من عروض التبوريدة. يُضفي المظهر الشبحِي لتلك الخيول الهوائية، التي تبدو كأنها تتحدى بثباتها في الدرجات اللونية الزرقاء جاذبية الأرض، على اللوحة طابعاً حالِماً يفتح أمام عين المتلقي أفقاً بصرياً يتجاوز حدود المنطق المرئي. * أكاديمي وكاتب من المغرب فنون التحديثات الحية الفن التشكيلي المغربي وإشكاليات التقييم والتقنين


العربي الجديد
منذ 21 دقائق
- العربي الجديد
مجلة الموقف الأدبي.. تفكيك "ثقافة البعث" واستعادة سامي الجندي
في عدد هو الأول بعد سقوط نظام الأسد في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الماضي، صدر عن اتحاد الكتّاب العرب في دمشق العدد المزدوج (648 - 649) من مجلّة الموقف الأدبي تحت عنوان "ثقافة البعث"، مرفقاً بكتاب "البعث" (دار النهار للنشر، 1969) للمفكر والأديب السوري الراحل سامي الجندي (1921-1995) الذي ظلّ ممنوعاً، حتى صدور هذه الطبعة الورقية الأولى للكتاب في سورية، باعتباره يقدم مراجعة نقدية لتجربة البعث السلطوية. وقّع افتتاحية العدد "ثقافة فُرضت بالإكراه"، رئيس التحرير محمد منصور، موضّحاً أنّ العدد يسعى لـ"مراجعة إرث البعث ثقافياً وسياسياً كوجه من وجوه نظام استبدادي شمولي فرض على المجتمع السوري أن يردد شعاراته كل صباح، وأن يحفظ قصائد شعرائه، وأن يطالع صحفه ومجلاته، وأن يلوّن المجتمع والثقافة والحياة بلون واحد، وصبغة مسيطرة تلتهم هوامش التنوع، وتقيد نوازع الاختلاف الطبيعية في الرؤى والتوجهات والأفكار". في عالم اللامعقول ضمّ الباب الأول من العدد "مقالات ودراسات" لمجموعة من الكتّاب والباحثين، حيث يقرأ الأستاذ في جامعة دمشق عبد النبي اصطيف "الثقافة العربية السورية في سني البعث"، ويبيّن كيف "مهّدت السلطة في سورية لسلطتها المطلقة الغاشمة بإعلاء قيمة الولاء المطلق لها، بديلاً ملائماً من قيمتي الكفاءة والنزاهة الضروريتين في بناء المجتمع الحديث". أمّا أحمد برقاوي، فيكتب عن "الثقافة السورية في عالم اللامعقول: الأسدية وتحطيم البنية الثقافية" لافتاً إلى أنّ "الأسدية بالتعريف سلطة عسكرية أمنية طائفية، ساعدت على وجودها عدة عوامل بعد عام 1963، ولأنها في جوهرها على هذا النحو، فهي ظاهرة لا معقولة ولا واقعية". "جمهورية الأسد الفاضلة" عنوان مقال للروائي فواز حداد أكّد فيها أنّ "حزب البعث انصاع لدكتاتورية الأسد الذي أدرك أن لديه حزباً موالياً، لكن من دون مفكرين في دولة يُطلق عليها دولة البعث، فالحزب كان خاوياً من الثقافة والمثقفين، وإن غصّ بالعُملاء الذين يقدمون الخدمات لأي حاكم على أمل الانتفاع من السلطة". بدوره تساءل الكاتب علي سفر : "لماذا لم يُنتج البعث أدباً حقيقياً؟ الظلّ الطويل الهزيل للحزب". كذلك تضمّن هذا الباب، من مجلة الموقف الأدبي، العناوين الآتية: "بعثيون لم يسمع بهم بريخت" لمحيي الدين اللاذقاني، والبعث: من فكرة إلى ماركة سلطوية لخلف علي الخلف، و"ثقافة البعث: بين الاصطفاف والاندثار" لفارس الذهبي، و"جرائم البعث الثقافية" لمحمود تركي الداوود، و"ثقافتنا على المذبح البعثي: حزب البعث.. مرّ من هنا" لنوار الماغوط، و"محاربة العقل اليقظ: حزب البعث والتشويه الثقافي" لفدوى العبود، و"عن البعث وسنواته: تحليل نفسي لحقبة متأزمة" لأحمد عسيلي، و"البعث بين امتلاك الوسيلة الثقافية والتحكم بالانتشار". شهادات وتجارب وكتب ممنوعة أما باب "شهادات وتجارب" فاحتوى على ثلاث منها: يكتب جورج جبور تحت عنوان "مؤسستان ورسالة دكتوراه.. هل عرف بعث السلطة كيف يتعامل بنجاح مع بعث الفكر؟"، وتقرأ الباحثة فطيم دناور في "ثقافة من واسطتك؟.. عن الفساد والمحسوبيات في زمن البعث"، أما عبد السلام الشبلي، فيكتب: "فولار مدرسي بائس.. بقايا طلائع البعث، معسكرات تدجين الطفولة". وفي باب "الديوان"، ضمّ العدد مختارات شعرية لعدد من شعراء البعث الذين راجت قصائدهم تعبيراً عن سطوة الأيديولوجيا على الشعر، كما جاء في تقديم هذه المختارات التي وضعها وقدّم لها مهنا بلال الرشيد. وفي باب "المكتبة" يتناول محمد منصور "تاريخ الكتب الممنوعة من التداول"، واللافت في هذا أن أغلبية الكتب قد وضعها بعثيون مثل "حزب البعث: مأساة المولد، مأساة النهاية" لمطاع الصفدي، و"التجربة المرّة" لمنيف الرزاز، و"حزب البعث العربي الاشتراكي" لجلال السيد، و"البعث" لسامي الجندي، بالإضافة إلى كتب لشخصيات معارضة مثل "من الأمة إلى الطائفة: سورة في حكم البعث والعسكر" ل ميشيل كيلو . كذلك استعادت "الموقف الأدبي" مقالاً للصحافي الراحل حكم البابا، وخصصت الصفحة الأخيرة لمهنا بلال الرشيد. "البعث" بمراجعة سامي الجندي يقع كتاب "البعث" لسامي الجندي، في 163 صفحة، موزّعة على مقدّمة وسبعة فصول: "نشوء البعث العربي"، و"البدايات"، و"من الحناوي حتى الشيشكلي"، و"ضد الشيشكلي حتى الوحدة"، و"عهد الوحدة"، و"28 أيلول إلى 8 آذار"، و"الوحدة الثلاثية والخلاف الداخلي". ومن مقدّمته نقرأ: "من كان يحسب سنة 1940-1941 المدرسية أن البعث ينتهي إلى كلّ هذا العبث؟ من كان يحسب منا أن تُصبح كلمة بعثي تهمة يدفعها بعضنا عنه بسخر مرّ؟". آداب التحديثات الحية ممارسات ثقافية تبحث عن معنى... أسئلة المرأة وملامح الفن في سورية