logo
مهندس المعجزات.. كيف يتمكن النمل الأبيض من بناء مدن فائقة الدقة؟

مهندس المعجزات.. كيف يتمكن النمل الأبيض من بناء مدن فائقة الدقة؟

الجزيرةمنذ 4 أيام
قد لا يتجاوز حجم النملة البيضاء الواحدة حجم ظفر الإصبع، وهي مخلوق هش، شفاف الهيكل، وشديد الحساسية لأشعة الشمس، بل يكفي أن يطأها شخص بقدمه دون أن يشعر لينهي وجودها.
ومع ذلك، حين تجتمع ملايين من هذه الكائنات الدقيقة فإنها تتحول إلى مهندس معماري بارع، قادر على بناء تلال طينية شاهقة. وبعض هذه التلال يرتفع حتى 5-8 أمتار، أي ما يعادل بالنسبة لحجم النمل الأبيض بناء ناطحات سحاب أو مدن تمتد لكيلومترات، إذا ما قورنت بجسم الإنسان.
إنها ليست مجرد كتل ترابية ضخمة، بل هي مدن بمعنى الكلمة، تحتوي على شبكة معقدة من الغرف والأنفاق والقنوات التي تعمل على تنظيم درجة الحرارة والرطوبة وتدفق الهواء، بما يضمن بقاء المستعمرة والفطريات التي تزرعها لتقتات عليها.
لكن ما يثير الذهول حقًا أن كل هذا يُبنى دون مخطط هندسي أو قائد مركزي. ولا توجد "نملة معمارية" ترسم التصاميم أو توزّع الأوامر على العمال، بل تُبنى هذه التلال عبر قواعد بسيطة مطبقة محليًا من كل فرد، وتترابط تلك التصرفات الفردية الصغيرة لتشكل في النهاية أنماطًا معمارية مذهلة.
هندسة بلا عقول مركزية
تبدأ العملية بمزيج من التربة واللعاب والروث، حيث تبني النملة الواحدة كرة صغيرة من الطين، وتضعها في مكان مناسب. وقاعدة البناء هنا بسيطة "إذا رأيت نملة قد وضعت كرة طينية، ضع أنت الأخرى فوقها أو بجانبها" ومن هذه التكرارات الصغيرة ينشأ مع مرور الوقت برج شاهق ومعقد.
ولكن النمل الأبيض لا يكتفي بتكرار أعمى، فهو حساس للغاية لتغيرات بيئته، ويستجيب لها لحظة بلحظة.
فالرطوبة، مثلًا، تلعب دورًا رئيسيًا في توجيه عمليات البناء، ففي دراس ات حديثة أجريت على النمل الأبيض، اكتشف الباحثون أن عاملات البناء في النمل الأبيض تستشعرن الفقاعات الرطبة المتسربة من شقوق العش، فإذا شعرن بفقاعة رطوبة، تضعن كرات طينية عند حافتها، مما يدفع الفقاعة إلى الامتداد تدريجيًا، فيواصلن البناء للأعلى. أما إذا تسرب هواء جاف أو هبت رياح قوية فجأة، تتلاشى الفقاعة الرطبة ويتوقف البناء فورًا.
وإذا ارتفع مستوى ثاني أكسيد الكربون داخل التل بشكل خطير على الفطريات (التي تتغذى عليها قطعان النمل الأبيض) تهرع العاملات لفتح فتحات تهوية جديدة أو توسيع الأنفاق لتجديد الهواء.
وإذا ارتفعت درجة الحرارة، بنى النمل الأبيض أبراجًا تعمل مثل المداخن لتسريب الهواء الساخن للخارج. وإذا كان الجو باردًا، أغلق الفتحات وعزل الجدران بالطين للحفاظ على الدفء.
وتمثل تيارات الهواء أيضًا إشارات، فإذا شعر الأفراد بتدفق قوي مفاجئ، تعاملوا معه كإشارة خطر وسدوا الفتحة على الفور. أما التيار اللطيف فيستغلونه لإنشاء نظام تهوية طبيعي أشبه بمكيف هواء ذاتي التشغيل، بحسب دراسة نشرت عام 2024 بدورية "إي-لايف".
المستعمرة ككائن حي فائق
يظهر ما سبق أنه حينما نراقب سلوكيات النمل الأبيض، يبدو كما لو أننا أمام كائن واحد ضخم وليس ملايين الكائنات الصغيرة.
ولا تعرف أي نملة بشكل فردي التصميم النهائي للتلة، تمامًا كما لا تعرف أي خلية عصبية في دماغك أنك تفكر الآن. لكن عبر شبكة معقدة من التفاعلات المحلية، يظهر ذكاء جماعي يسمح للمستعمرة بحل مشاكل معقدة مثل تنظيم التهوية والدفاع عن النفس وبناء الهياكل.
ويطلق علماء الأحياء على هذا النوع من الكائنات اسم "الكائنات الفائقة" فالمستعمرة، بكل أفرادها، تعمل كأنها جسد واحد، والتلة هي "جلدها ورئتها". والفطريات المزروعة بداخلها تمثل جهازها الهضمي، أما النمل الفردي فهو مثل خلايا متناثرة داخل هذا الكائن الأكبر.
وبحسب هانتر كينغ الباحث من مختبرات ل. ماهاديفان بجامعة هارفارد، يمكننا تخيل التل ككائن حي ضخم، يتكون من ملايين النمل، لكل فرد وظيفة مثل عضلة أو خلية دم.
ويعد ذلك، في علوم التعقد، نموذجا مثاليا على ظاهرة الانبثاق، فنحن أمام أفراد يعملون بقوانين بسيطة وبشكل مستقل، لكن هذه القوانين تجعلهم يتفاعلون مع الجيران، بشكل يؤدي لنشوء نظام معقد يحمل صفات أكبر من مجموع أفراده، ويطور ذلك ما نسميه سلوكا أو ذكاء جمعيا.
سؤال البشر
إن ما يفعله النمل الأبيض لم يعد يثير إعجاب علماء الأحياء فقط، بل أصبح مصدر إلهام للهندسة والروبوتات. فقد طوّر مهندسون معماريون مباني ذكية بنظام تبريد سلبي مستوحى من تلال النمل الأبيض، وتبنى خبراء الروبوتات خوارزميات بناء جماعي مستوحاة من هذه الحشرات لبناء منشآت بلا حاجة لتوجيه مركزي.
وعلى سبيل المثال، يمكن أن تتأمل مشروع "ترمس" وهي روبوتات صغيرة صممتها مجموعة بحثية من جامعة هارفارد لتقليد الطريقة التي يبني بها النمل الأبيض مساكنه. والفكرة الأساسية بسيطة، فكما أن النمل الأبيض يبني أعشاشًا ضخمة دون قائد أو خطة مركزية، كذلك تتم برمجة هذه الروبوتات لتعمل بشكل جماعي وتبني هياكل معقدة دون الحاجة إلى التحكم عن بُعد أو أوامر مباشرة من البشر.
ولا يعرف كل روبوت بسيط جدًا شكل البناء النهائي لكنه يعتمد على قواعد محلية بسيطة مثل "إذا وجدت حجارة في مكان معين، ضع فوقها لبنة جديدة، وإذا كان المكان مزدحمًا، انتظر حتى يفرغ الطريق، وإذا لاحظت فراغًا في مستوى معين، ابدأ بتعبئته".
وإلى جانب ذلك، فكل روبوت يحتوي على حساسات لرؤية البيئة القريبة جدًا منه (مثل مستشعرات الحركة) وذراع ميكانيكي لحمل ووضع الطوب، إلى جانب برنامج يتحكم بخطواته وفق القواعد البسيطة السابقة. وقد لاحظ الباحثون أنه عندما يعمل عشرات الروبوتات معًا، يظهر شكل معقد تدريجيًا مثل أقواس أو جدران أو أبراج.
وقد صمم العلماء هذه التجارب لفهم كيف يبني النمل الأبيض مجتمعاته بشكل ذاتي التنظيم، ولاستخدام الفكرة في مشاريع حقيقية مثل بناء هياكل في أماكن يصعب وصول البشر إليها (مثلا على القمر أو المريخ) وعمليات الإنقاذ بعد الكوارث (بناء ممرات أو جسور بسرعة) وطبعا تطوير تقنيات الذكاء الجماعي في الروبوتات.
وإلى جانب التطبيق العملي لهذه الهندسة المدهشة، يبقى سؤال فلسفي يلوح في الأفق: هل النمل الأبيض "ذكي" لأنه يبني تلالًا متقنة ؟ أم أنه مجرد منفذ لقواعد غريزية بسيطة؟ ربما تكمن الإجابة في أن الذكاء لا يحتاج إلى وعي بالضرورة، بل قد يكون خاصية ناشئة عن تفاعل مكونات بسيطة جدًا، كما يتصور بعض الباحثين إنه ما يحدث في عقولنا البشرية.
وفي النهاية فإن هذه التلال ليست مجرد أكوام طين، بل هي كتب مفتوحة تخبرنا عن عالم لم نكن لنتصور وجوده في حياتنا، وعن إمكانية ظهور أنماط معقدة من أبسط القواعد، وعن قوة التعاون التي تتجاوز حدود الأفراد لتصنع عقولًا جماعية تفكر وتخطط وتبني.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الجفاف يعصف بألمانيا.. غذاء مهدد واقتصاد في مأزق
الجفاف يعصف بألمانيا.. غذاء مهدد واقتصاد في مأزق

الجزيرة

timeمنذ 2 أيام

  • الجزيرة

الجفاف يعصف بألمانيا.. غذاء مهدد واقتصاد في مأزق

لم تعد تأثيرات تغير المناخ في ألمانيا مجرد تحذيرات نظرية، بل تحولت إلى واقع ملموس تتجلى آثاره في تراجع الأمطار، وتصحر الحقول، وتدهور الغابات. ففي مناطق واسعة من البلاد، غابت الأمطار لأيام وأسابيع، وهذا ألحق أضرارا مباشرة بالمحاصيل الزراعية، وأثر على حركة الشحن النهري، وسط تحذيرات متزايدة من تداعيات اقتصادية وخدمية مقلقة. الزراعة والمياه في مواجهة الخطر الدكتور يورغ ريشينبيرغ، رئيس قسم المياه والأراضي في الهيئة الاتحادية للبيئة، أوضح في حديثه لموقع "الجزيرة نت" أن تداعيات الجفاف لا تقتصر على تراجع نمو النباتات، بل تمتد إلى فقدان التربة لخصوبتها. وأضاف: "إذا انخفضت احتياطيات المياه في التربة نتيجة فترات جفاف سابقة، فإن أي نقص جديد في الأمطار يؤدي إلى خسائر فادحة في المحاصيل الزراعية". كما حذر من تعرية التربة بفعل الرياح، والتي تتسبب في فقدان الطبقة العلوية الغنية بالمواد العضوية. وأشار ريشينبيرغ إلى أن تغير أنماط هطول الأمطار وتراجع منسوب المياه الجوفية والسطحية يُخلّ بالتوازن بين العرض والطلب على المياه. ونتيجة لذلك، تزداد حدة التنافس بين القطاعات المختلفة مثل الطاقة، الزراعة، الصناعة، وإمدادات مياه الشرب، بالإضافة إلى تأثيرات ذلك على استقرار الأنظمة البيئية. وتراجع منسوب المياه الجوفية والسطحية يعني أن الكميات المتاحة لا تكفي لتلبية الحاجات اليومية، وهذا قد يؤدي إلى اضطرابات في توفير المياه للمزارع والمنازل والمصانع، خاصة في أوقات الذروة. الغابات تحترق.. والقيود تتوسع تزايد الجفاف جعل الغابات، خصوصا في شرق ألمانيا، أكثر عرضة لخطر الحرائق. وتُعد ولاية براندنبورغ، ذات الغطاء الكثيف من غابات الصنوبر وتربتها الرملية الخفيفة، من أكثر المناطق تهديدا. وفي خطوة احترازية، فرضت السلطات المحلية قيودا صارمة على سحب المياه من الأنهار والبحيرات والآبار في 8 مقاطعات ببراندنبورغ، فضلا عن مناطق أخرى في ولاية ساكسونيا أنهالت. أندريه بيرغر، المدير العام للرابطة الألمانية للبلديات، شدد على أن هذه الإجراءات ضرورية لتفادي فرض حظر شامل على استخدام المياه، قائلا: "بهذه الطريقة فقط يمكننا منع اتخاذ تدابير أكثر صرامة في المستقبل". الراين يجف.. وقلق في قلب الصناعة ويعد نهر الراين شريانا اقتصاديا رئيسيا في ألمانيا، إذ يربط موانئ الشمال بالمراكز الصناعية في الجنوب. ومع تراجع منسوب مياهه إلى مستويات حرجة، تصاعدت المخاوف من انعكاسات اقتصادية جسيمة. نيلس يانزن، رئيس قسم التحليل الاقتصادي في معهد كيل للاقتصاد العالمي (IfW)، حذر في تصريحات لصحيفة "هاندلسبلات" من التبعات، قائلا: التجارب السابقة أظهرت أن انخفاض منسوب مياه الراين لفترة طويلة قد يؤدي إلى تراجع الإنتاج الصناعي بنسبة تصل إلى 1% شهريا. في حين اعتبرت وزيرة الاقتصاد في ولاية شمال الراين-وستفاليا، منى نويباور أن الوضع أصبح مقلقا للغاية، مشيرة إلى أن مارس/آذار الماضي كان من أكثر الشهور جفافا منذ بدء تسجيل بيانات المناخ، وفقا لهيئة الأرصاد الألمانية. خسائر تتكرر.. وشركات تتألم ولا تزال تجربة عام 2018 حاضرة في الذاكرة الاقتصادية، عندما أدى انخفاض منسوب الراين إلى تراجع الناتج المحلي الإجمالي الألماني بنسبة 0.4%. كما تكبدت شركات كبرى مثل "باسف" للصناعات الكيميائية خسائر كبيرة نتيجة تعطل سلاسل الإمداد. وفي عام 2022، ارتفعت أسعار الوقود بشكل ملحوظ في جنوب البلاد بسبب تعطل حركة الشحن النهري، إذ لم تتمكن السفن من نقل الوقود من موانئ الشمال إلى مناطق الجنوب. وتشير بيانات القياس في مدينة كاوب إلى أن بقاء منسوب المياه تحت مستوى 78 سنتيمترا لأكثر من 30 يوما يؤدي إلى تراجع الإنتاج الصناعي بنسبة 1%. وهو ما يعني أن النهر يصبح غير صالح للملاحة الكاملة عندما ينخفض منسوب المياه إلى أقل من هذا الحد، وهذا يعيق مرور السفن التجارية التي تحمل البضائع الثقيلة. وقال الخبير الاقتصادي جوزيف لابشوتس في حديثه لموقع "الجزيرة نت": "إذا استمر انخفاض منسوب المياه، فستعاني المصانع من نقص في المواد الخام، وقد تضطر إلى خفض الإنتاج أو حتى إيقافه مؤقتا". داعيا الحكومة الألمانية إلى تحرك عاجل لمعالجة هذا التهديد المتفاقم. حلول مؤجلة.. المال وحده لا يكفي شركات مثل "باسف" بدأت بالفعل بالبحث عن حلول بديلة، من بينها شراء سفن ذات تصميم خاص للإبحار في المياه الضحلة. إلا أن هذه الإجراءات تبقى حلولا مؤقتة، إذ إن الموقع الصناعي الرئيسي للشركة في لودفيغسهافن يستقبل يوميا حوالي 15 سفينة، وهي كميات لا يمكن تعويضها بسهولة عبر الشحن البري أو السكك الحديدية. ورغم أن الحكومة الألمانية السابقة وضعت خطة لتعميق مجرى نهر الراين بنحو 20 سنتيمترا في مناطق ضيقة تمتد لمسافة 50 كيلومترا، فإن المشروع لا يزال متعثرا بسبب التعقيدات البيروقراطية. وعلّق وزير النقل السابق فولكر فيسينغ بالقول: "المال وحده لا يكفي لحل مشاكل البنية التحتية، بل نحتاج إلى سرعة في التنفيذ". الوقاية أولا.. رؤية إستراتيجية مفقودة ويرى الخبير في مواجهة الكوارث المناخية، جوزيف لابشوتس أن ما يجري اليوم هو إدارة لأعراض الأزمة، وليس معالجة لأسبابها الجذرية. ويضيف: "على مدى السنوات الماضية، تم اتخاذ العديد من الإجراءات على المستويات الأوروبية والألمانية، وتم تعزيز التعاون الأوروبي من خلال برامج مثل "كوبرنيكوس" التي تقدم الدعم للدول عندما تعجز عن المواجهة منفردة". ويشدد لابشوتس على أن الوقاية طويلة الأمد هي الأساس في التصدي لهذه الكوارث المتكررة. ويقول: "يجب إعادة تشجير الغابات وتغيير أنماط إدارتها، واستخدام تقنيات حديثة مثل أجهزة الاستشعار لمراقبة الغطاء النباتي، إلى جانب أنظمة إنذار مبكر، والمراقبة عبر الأقمار الصناعية". ويختم بالقول: "لا بد أن تكون هذه الجهود شاملة وعادلة اجتماعيا. تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون ضرورة لا يمكن التخلي عنها، وهي مسؤولية جماعية تقع على عاتق الحكومات، والشركات، والمجتمع المدني". أزمة متشابكة تنتظر إرادة سياسية الجفاف في ألمانيا لم يعد ظاهرة عابرة، بل تحول إلى أزمة مركبة تمس الأمن الغذائي، واستقرار الاقتصاد، وسلامة النظم البيئية. وبينما تتخذ السلطات تدابير مؤقتة لاحتواء الآثار، تظل المعالجة الجذرية معلقة بين بطء التنفيذ وضعف الإرادة السياسية. ما يحتاجه الوضع ليس فقط تمويلا أو معدات، بل رؤية متكاملة طويلة الأمد تضع البيئة في قلب السياسات الاقتصادية، وتمنح الاستدامة أولوية تتناسب مع حجم الخطر.

حل مناخي.. بعض أشجار التين تحول ثاني أكسيد الكربون إلى حجر
حل مناخي.. بعض أشجار التين تحول ثاني أكسيد الكربون إلى حجر

الجزيرة

timeمنذ 3 أيام

  • الجزيرة

حل مناخي.. بعض أشجار التين تحول ثاني أكسيد الكربون إلى حجر

أثبتت دراسة حديثة أن بعض أشجار التين في كينيا يمكنها تحويل كميات هائلة من ثاني أكسيد الكربون إلى حجارة، مما يضمن بقاء الكربون في التربة لفترة طويلة بعد موتها، ويعني ذلك أن أشجار التين المزروعة بالغابات يمكن أن تقدم فوائد مناخية إضافية من خلال عملية عزل الكربون. وأشارت الدراسة إلى أن جميع الأشجار تمتص ثاني أكسيد الكربون من الهواء، وينتهي معظم هذا الكربون عادة كجزيئات هيكلية تُستخدم لبناء النبات، مثل السليلوز، لكن 3 أنواع من أشجار التين الأصلية في مقاطعة سامبورو في كينيا يمكنها أيضا صنع كربونات الكالسيوم من ثاني أكسيد الكربون. وتُحوّل بعض الأشجار ثاني أكسيد الكربون إلى مركب بلوري يُسمى أوكسالات الكالسيوم، والذي يمكن للبكتيريا الموجودة في الشجرة والتربة تحويله إلى كربونات الكالسيوم، المكون الرئيسي للأحجار مثل الحجر الجيري أو الطباشير. يمكن أن يبقى الكربون في شكل معدني داخل التربة لفترة أطول بكثير مما يمكن أن يبقى في المادة العضوية للشجرة. وتشمل الأشجار المعروفة بتخزين الكربون بهذه الطريقة شجرة "إيروكو إكسيلسا" (Milicia excelsa)، التي تنمو في أفريقيا الاستوائية وتستخدم للأخشاب، ولكنها لا تنتج الثمار. ووجد الباحث الرئيسي مايك رولي في جامعة زيورخ في سويسرا وزملاؤه أن 3 أنواع من أشجار التين الأصلية في مقاطعة سامبورو في كينيا يمكنها أيضا صنع كربونات الكالسيوم من ثاني أكسيد الكربون. يقول رولي: "جزء كبير من الأشجار تصبح كربونات الكالسيوم فوق الأرض، لكننا نرى أيضا هياكل جذرية كاملة تحولت إلى حد كبير إلى كربونات الكالسيوم في التربة حيث لا ينبغي أن تكون، وبتركيزات عالية". وحدد فريق الدراسة لأول مرة أنواع أشجار التين التي تنتج كربونات الكالسيوم عن طريق رش حمض الهيدروكلوريك الضعيف على الأشجار والبحث عن الفقاعات، وهي علامة على إطلاق ثاني أكسيد الكربون من كربونات الكالسيوم. كما قام الباحثون بقياس المسافة التي تمكنوا من اكتشاف كربونات الكالسيوم في التربة المحيطة بها، وحلّلوا عينات من الأشجار لمعرفة أين يتم إنتاج كربونات الكالسيوم في جذوعها. ويقول رولي: "ما كان حقا مفاجأة كبيرة، هو أن كربونات الكالسيوم قد ذهبت حقا أعمق بكثير في الهياكل الخشبية مما توقعنا، فقد ظننا أن تكون العملية سطحية تشمل الشقوق ونقاط الضعف داخل الهيكل الخشبي فقط". وسيحتاج الباحثون إلى القيام بمزيد من العمل لحساب كمية الكربون التي تخزنها الأشجار، وكذلك كمية المياه التي يحتاجونها ومدى مرونتها في المناخات المختلفة. ولكن إذا كان من الممكن دمج أشجار التين في مشاريع إعادة التحريج المستقبلية، فيمكن أن تكون مصدرا للغذاء وحوض الكربون، كما يقول رولي. وكانت معظم الأبحاث العلمية السابقة قد ركزت على قدرة الأشجار على التقاط ثاني أكسيد الكربون وإنتاج الأكسجين من خلال عملية التركيب الضوئي، لكن هذه الدراسة ذهبت أبعد من ذلك. وقد يمثل امتلاك أشجار التين هذه القدرة الفريدة من نوعها على تخزين الكربون داخل التربة لفترات زمنية طويلة حلا مناسبا للأزمة المناخية المتفاقمة، في وقت يسعى الباحثون لتوسيع الدراسة لاكتشاف أنواع نباتية أخرى يمكنها تخزين الكربون.

مهندس المعجزات.. كيف يتمكن النمل الأبيض من بناء مدن فائقة الدقة؟
مهندس المعجزات.. كيف يتمكن النمل الأبيض من بناء مدن فائقة الدقة؟

الجزيرة

timeمنذ 4 أيام

  • الجزيرة

مهندس المعجزات.. كيف يتمكن النمل الأبيض من بناء مدن فائقة الدقة؟

قد لا يتجاوز حجم النملة البيضاء الواحدة حجم ظفر الإصبع، وهي مخلوق هش، شفاف الهيكل، وشديد الحساسية لأشعة الشمس، بل يكفي أن يطأها شخص بقدمه دون أن يشعر لينهي وجودها. ومع ذلك، حين تجتمع ملايين من هذه الكائنات الدقيقة فإنها تتحول إلى مهندس معماري بارع، قادر على بناء تلال طينية شاهقة. وبعض هذه التلال يرتفع حتى 5-8 أمتار، أي ما يعادل بالنسبة لحجم النمل الأبيض بناء ناطحات سحاب أو مدن تمتد لكيلومترات، إذا ما قورنت بجسم الإنسان. إنها ليست مجرد كتل ترابية ضخمة، بل هي مدن بمعنى الكلمة، تحتوي على شبكة معقدة من الغرف والأنفاق والقنوات التي تعمل على تنظيم درجة الحرارة والرطوبة وتدفق الهواء، بما يضمن بقاء المستعمرة والفطريات التي تزرعها لتقتات عليها. لكن ما يثير الذهول حقًا أن كل هذا يُبنى دون مخطط هندسي أو قائد مركزي. ولا توجد "نملة معمارية" ترسم التصاميم أو توزّع الأوامر على العمال، بل تُبنى هذه التلال عبر قواعد بسيطة مطبقة محليًا من كل فرد، وتترابط تلك التصرفات الفردية الصغيرة لتشكل في النهاية أنماطًا معمارية مذهلة. هندسة بلا عقول مركزية تبدأ العملية بمزيج من التربة واللعاب والروث، حيث تبني النملة الواحدة كرة صغيرة من الطين، وتضعها في مكان مناسب. وقاعدة البناء هنا بسيطة "إذا رأيت نملة قد وضعت كرة طينية، ضع أنت الأخرى فوقها أو بجانبها" ومن هذه التكرارات الصغيرة ينشأ مع مرور الوقت برج شاهق ومعقد. ولكن النمل الأبيض لا يكتفي بتكرار أعمى، فهو حساس للغاية لتغيرات بيئته، ويستجيب لها لحظة بلحظة. فالرطوبة، مثلًا، تلعب دورًا رئيسيًا في توجيه عمليات البناء، ففي دراس ات حديثة أجريت على النمل الأبيض، اكتشف الباحثون أن عاملات البناء في النمل الأبيض تستشعرن الفقاعات الرطبة المتسربة من شقوق العش، فإذا شعرن بفقاعة رطوبة، تضعن كرات طينية عند حافتها، مما يدفع الفقاعة إلى الامتداد تدريجيًا، فيواصلن البناء للأعلى. أما إذا تسرب هواء جاف أو هبت رياح قوية فجأة، تتلاشى الفقاعة الرطبة ويتوقف البناء فورًا. وإذا ارتفع مستوى ثاني أكسيد الكربون داخل التل بشكل خطير على الفطريات (التي تتغذى عليها قطعان النمل الأبيض) تهرع العاملات لفتح فتحات تهوية جديدة أو توسيع الأنفاق لتجديد الهواء. وإذا ارتفعت درجة الحرارة، بنى النمل الأبيض أبراجًا تعمل مثل المداخن لتسريب الهواء الساخن للخارج. وإذا كان الجو باردًا، أغلق الفتحات وعزل الجدران بالطين للحفاظ على الدفء. وتمثل تيارات الهواء أيضًا إشارات، فإذا شعر الأفراد بتدفق قوي مفاجئ، تعاملوا معه كإشارة خطر وسدوا الفتحة على الفور. أما التيار اللطيف فيستغلونه لإنشاء نظام تهوية طبيعي أشبه بمكيف هواء ذاتي التشغيل، بحسب دراسة نشرت عام 2024 بدورية "إي-لايف". المستعمرة ككائن حي فائق يظهر ما سبق أنه حينما نراقب سلوكيات النمل الأبيض، يبدو كما لو أننا أمام كائن واحد ضخم وليس ملايين الكائنات الصغيرة. ولا تعرف أي نملة بشكل فردي التصميم النهائي للتلة، تمامًا كما لا تعرف أي خلية عصبية في دماغك أنك تفكر الآن. لكن عبر شبكة معقدة من التفاعلات المحلية، يظهر ذكاء جماعي يسمح للمستعمرة بحل مشاكل معقدة مثل تنظيم التهوية والدفاع عن النفس وبناء الهياكل. ويطلق علماء الأحياء على هذا النوع من الكائنات اسم "الكائنات الفائقة" فالمستعمرة، بكل أفرادها، تعمل كأنها جسد واحد، والتلة هي "جلدها ورئتها". والفطريات المزروعة بداخلها تمثل جهازها الهضمي، أما النمل الفردي فهو مثل خلايا متناثرة داخل هذا الكائن الأكبر. وبحسب هانتر كينغ الباحث من مختبرات ل. ماهاديفان بجامعة هارفارد، يمكننا تخيل التل ككائن حي ضخم، يتكون من ملايين النمل، لكل فرد وظيفة مثل عضلة أو خلية دم. ويعد ذلك، في علوم التعقد، نموذجا مثاليا على ظاهرة الانبثاق، فنحن أمام أفراد يعملون بقوانين بسيطة وبشكل مستقل، لكن هذه القوانين تجعلهم يتفاعلون مع الجيران، بشكل يؤدي لنشوء نظام معقد يحمل صفات أكبر من مجموع أفراده، ويطور ذلك ما نسميه سلوكا أو ذكاء جمعيا. سؤال البشر إن ما يفعله النمل الأبيض لم يعد يثير إعجاب علماء الأحياء فقط، بل أصبح مصدر إلهام للهندسة والروبوتات. فقد طوّر مهندسون معماريون مباني ذكية بنظام تبريد سلبي مستوحى من تلال النمل الأبيض، وتبنى خبراء الروبوتات خوارزميات بناء جماعي مستوحاة من هذه الحشرات لبناء منشآت بلا حاجة لتوجيه مركزي. وعلى سبيل المثال، يمكن أن تتأمل مشروع "ترمس" وهي روبوتات صغيرة صممتها مجموعة بحثية من جامعة هارفارد لتقليد الطريقة التي يبني بها النمل الأبيض مساكنه. والفكرة الأساسية بسيطة، فكما أن النمل الأبيض يبني أعشاشًا ضخمة دون قائد أو خطة مركزية، كذلك تتم برمجة هذه الروبوتات لتعمل بشكل جماعي وتبني هياكل معقدة دون الحاجة إلى التحكم عن بُعد أو أوامر مباشرة من البشر. ولا يعرف كل روبوت بسيط جدًا شكل البناء النهائي لكنه يعتمد على قواعد محلية بسيطة مثل "إذا وجدت حجارة في مكان معين، ضع فوقها لبنة جديدة، وإذا كان المكان مزدحمًا، انتظر حتى يفرغ الطريق، وإذا لاحظت فراغًا في مستوى معين، ابدأ بتعبئته". وإلى جانب ذلك، فكل روبوت يحتوي على حساسات لرؤية البيئة القريبة جدًا منه (مثل مستشعرات الحركة) وذراع ميكانيكي لحمل ووضع الطوب، إلى جانب برنامج يتحكم بخطواته وفق القواعد البسيطة السابقة. وقد لاحظ الباحثون أنه عندما يعمل عشرات الروبوتات معًا، يظهر شكل معقد تدريجيًا مثل أقواس أو جدران أو أبراج. وقد صمم العلماء هذه التجارب لفهم كيف يبني النمل الأبيض مجتمعاته بشكل ذاتي التنظيم، ولاستخدام الفكرة في مشاريع حقيقية مثل بناء هياكل في أماكن يصعب وصول البشر إليها (مثلا على القمر أو المريخ) وعمليات الإنقاذ بعد الكوارث (بناء ممرات أو جسور بسرعة) وطبعا تطوير تقنيات الذكاء الجماعي في الروبوتات. وإلى جانب التطبيق العملي لهذه الهندسة المدهشة، يبقى سؤال فلسفي يلوح في الأفق: هل النمل الأبيض "ذكي" لأنه يبني تلالًا متقنة ؟ أم أنه مجرد منفذ لقواعد غريزية بسيطة؟ ربما تكمن الإجابة في أن الذكاء لا يحتاج إلى وعي بالضرورة، بل قد يكون خاصية ناشئة عن تفاعل مكونات بسيطة جدًا، كما يتصور بعض الباحثين إنه ما يحدث في عقولنا البشرية. وفي النهاية فإن هذه التلال ليست مجرد أكوام طين، بل هي كتب مفتوحة تخبرنا عن عالم لم نكن لنتصور وجوده في حياتنا، وعن إمكانية ظهور أنماط معقدة من أبسط القواعد، وعن قوة التعاون التي تتجاوز حدود الأفراد لتصنع عقولًا جماعية تفكر وتخطط وتبني.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store