logo
رفاعة الطهطاوي (1801-1873): مُعلّم الأمة وعميد النهضة

رفاعة الطهطاوي (1801-1873): مُعلّم الأمة وعميد النهضة

الجزيرةمنذ 7 أيام
سيظل الرائد الكبير الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي رمزا حضاريا شامخا، يقف كتفا بكتف مع مؤسسي النهضة، وبناة المجتمعات، وفلاسفة المجتمع الكبار، من أمثال الفارابي، وابن خلدون، وجان جاك روسو، ومونتسكيو. وهو رجل النهضة الذي يقف أمام الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا وحسن البنا ، وسائر المؤسسين والمصلحين. وسيبقى أسبق عين معاصرة للشرق على الغرب، وطليعة للحوار الحضاري في العصر الحديث.
ذهب زعيم النهضة العلمية الحديثة إلى فرنسا إماما لأول بعثة مصرية كبيرة إلى أوروبا سنة 1826م، لدراسة العلوم الحديثة، وكانت مكونة من 44 طالبا، نصفهم من أصل مصري، يتقدمهم إمامهم الشاب، العالم الأزهري المتوثب، الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي.
وحسبما أوضح محمد علي باشا سبب هذه البعثات، في حديثه إلى الدكتور بورينغ (Bowring)، مندوب الحكومة الإنجليزية، حيث قال له الباشا بشأن الغرض من ابتعاث هؤلاء الطلائع الرواد:
"ينظرون إلى الأشياء بعيونهم، ويتمرنون على العمل بأيديهم، وعليهم أن يختبروا مصنوعاتكم جيدا، وأن يكتشفوا كيف ولم تفوقتم علينا، حتى إذا ما قضوا وقتا كافيا بين شعوبكم، عادوا إلى وطنهم وعلموا شعبي، فإن أمامي الشيء الكثير لأتعلمه أنا وشعبي".
ولعل هذا ما دعا كارل ماركس — وكان معاصرا — إلى أن يقول: "إنه صاحب العمامة الوحيدة في الدولة العثمانية ، التي تحتها رأس يفكر". حيث شاءت إرادة الله، وعزم رفاعة، أن يكون إمام الصلاة.. إماما للنهضة العلمية المعاصرة.
وقد أرسلت في عهد محمد علي سبع بعثات، كانت أولاها إلى إيطاليا عام 1809م، ثم تنوعت بعد ذلك إلى فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وإنجلترا، لدراسة الهندسة، والبحرية، والطب، والحقوق، والإدارة، والكيمياء، والترجمة، والزراعة، والفيزياء، والعلوم الرياضية، والطباعة، والفنون. وكانت آخرها عام 1848م، قبل رحيل محمد علي في 12 أغسطس/آب 1849م، الذي لم يكن متطرفا في النقل عن الغرب، ولا تابعا له بالكلية كما يردد البعض، وإلا لترك الأجانب في بلادنا، ولم يوفد أبناءنا إلى أوروبا.
لكنه حاول سد هذه الفجوة العلمية الهائلة إلى حين، ليحل أبناء هذه الفرق العلمية محل الأساتذة، والضباط، والمهندسين الأجانب. وبذلك احتفظت مصر بهويتها وشخصيتها، بعدما ثبتت أقدامها في تاريخها وتراثها، ثم ملأت رأسها بعلوم أوروبا.
وكان عثمان نور الدين باشا أول مبعوث مصري إلى أوروبا، حيث عاد من بعثته لترجمة الكتب والمراجع، والفنون الحربية المختلفة، وسائر الصنائع المتعلقة بها. كما أن عبد الرحيم أفندي قد عاد لترجمة كتب معامل الأقطان، وصناعتها، وآلاتها.
ولعل تلك الخصوصية التي وعاها محمد علي، تبرز من قصة أدهم بك، رئيس المدفعية بورش المهمات الحربية، الذي أرسل إلى إنجلترا، فتزيا بزيهم، وحاكاهم في أقوالهم وعاداتهم. فلما علم الباشا محمد علي بذلك، غضب غضبا شديدا، وأرجعه فورا مغضوبا عليه، وقال: "إنني ابتعثته ليعاين الفبريقات، ويقف على صناعتها، وليعود بها إلى مصر، لا ليقلدهم في ملابسهم وعاداتهم".
في الأزهر الشريف
كان الأزهر الشريف حينئذ يفرك عينيه في أعقاب رحيل الفرنسيين، حيث اطلعت طلائعه على ما يملكه الفرنسيون من العلوم الحديثة والأسلحة المتطورة، وأيقنوا أن الأمر يحتاج إلى إعادة النظر في علوم الدنيا، وعلى رأسهم العلامة الشيخ حسن العطار، الذي تولى مشيخة الأزهر حينئذ.
إذ رأى نفسه مطالبا بالإجابة الواقعية على سؤال الحضارة الواقعي الملزم، وصدمتها التي حلت بالمحروسة، بوجوب الاطلاع على علوم العصر، وحتمية استكمال الحصانة الحضارية، بدراسة الرياضيات والكيمياء وسائر علوم العصر. فحصلها حتى صار حجة فيها، وخطا بكل همة وعزيمة إلى تبني صفوة من شباب النخبة، لقراءة شريعتهم بعيون المصلحين الأحياء.
وكان من يمن طالع الشيخ رفاعة، أن كان من أوائل هذا الفريق الذي تتلمذ مباشرة على يد العطار. بل إن الشيخ العطار هو الذي قرأ فيه الأهلية، لاختياره إماما بالجيش، ثم اختياره إماما للبعثة المصرية الكبرى إلى باريس، حيث كان قد وضع يده على طاقته في البحث، ورغبته في الطموح، وعزيمته في التفوق، فاختاره إماما للصلاة، فصار إمام الصلاة، إماما للحركة العلمية في مصر في العصر الحديث. شأنه في ذلك شأن نظيره الشيخ محمد عياد الطنطاوي، الذي شرق إلى روسيا ، بينما غرب الشيخ رفاعة إلى فرنسا.
ثم عاد رفاعة إلى وطنه، خيرا مما غادره، فكان: الشيخ، الإمام، الفقيه، المترجم، المؤسس، الرائد، الأميرالاي، الشاعر، المفكر.
عِصاميٌّ طريفُ المجدِ سعيًا
عِظاميٌّ شريفٌ بالتِّلادِ
سِوى نَسَبِ العلومِ لي انتسابٌ
إلى خيرِ الحواضرِ والبوادي
وحسبي أنني أبرَزتُ كتبًا
تُبيدُ كَتائبًا يومَ الطِّرادِ
فمِنها منبعُ العِرفانِ يجري
وكم طِرْسٍ تُحُبِّرُ بالمدادِ
على عددِ التواترِ مُعْرَبَاتي
تَفِي بفُنونِ سِلمٍ أو جِهادِ
ولقد كان من بين الإلهامات العجيبة أن يتفرس الشيخ الصوفي الشريف، الشيخ السادات، في وجه هذا الشيخ الشاب، رفاعة الطهطاوي، ثم يهتف به، مانحا إياه هذا اللقب: "اذهب فأنت أبو العزم"، وسط ما كان الشيخ السادات يخلعه من ألقاب ومنح على من لديه من الطلاب، والعلماء، والأولياء، والتجار، والوجهاء المترددين على مجلسه الوقور، ببيته بـ "بركة الفيل".
فكان هذا المفتاح النفيس سرا فاتحا لمجمع عزائم الطهطاوي، من الأزهر، إلى باريس، إلى التعليم، إلى القانون، إلى الطب والهندسة، إلى العلوم العسكرية، واللغات، إلى التحرير والترجمة، إلى مصر وفرنسا والسودان ، إلى كل موقع أو مهمة حل بها الطهطاوي وارتحل.
مشوار الحضارة
ولد الطهطاوي في طهطا عام 1216 ه / 1801 م، وإليها ينسب. وبها تفتحت عيونه على الدنيا، وصافحت أنظاره الناس والحروف والكلمات، وبها تأسس بالقرآن وعلومه، وتأهل لدخول الأزهر الشريف.
وفي عام 1232 هـ / 1817 م، وفد إلى القاهرة والتحق بالأزهر الشريف، ومكث به خمس سنوات، ختم بها درسه، وأكمل بحثه، متخصصا في المذهب الشافعي. ونبغ في كل علم كان يدرس بالأزهر، حتى بلغ منزلة التدريس فيه، وهو ابن الحادية والعشرين.
فكان كما قال تلميذه الفذ، الشاعر المؤرخ، صالح مجدي: "حسن الإلقاء، ينتفع بتدريسه كل من أخذ عنه، وكان درسه غاصا بالجم الغفير من الطلبة، وما منهم من أحد إلا استفاد منه، وبرع في كل ما أخذ عنه".
وأضاف: "يقوم بتدريس البيان، والبديع، والعروض، والحديث، والمنطق، والنحو، والصرف، سهل التعبير، حسن الأسلوب، مدققا محققا، قادرا على الإفصاح عن المعنى الواحد بطرق مختلفة، بحيث يفهم درسه الصغير والكبير، بلا مشقة ولا تعب، ولا كد ولا نصب".
رفاعة في باريس
في يوم الخميس من شهر رمضان 1241هـ / 24 أبريل/نيسان 1826م، أبحرت من الإسكندرية سفينة العلم والنور، تحمل الشيخ رفاعة وإخوانه. وفي التاسع من شهر شوال، وصلت بهم إلى مرسيليا، بعد أن رشحه أستاذه العلامة حسن العطار للعمل واعظا في العساكر الجهادية أولا، ثم إماما للبعثة العلمية إلى فرنسا ثانيا، صحبة "الأفندية" المبعوثين لتعلم العلوم والفنون الموجودة بفرنسا، والتي كشفت عنها صدمة الحملة الفرنسية الأثيمة على مصر عام 1798م، بهدف تحصيلها والعودة بها إلى بلادنا.
وقد أحسن العلامة العطار، في وعيه الحضاري، الذي نبه فيه تلميذه رفاعة، بأن "يدون كل ما تقع عليه عينه، وأن يسجل ما يصادفه من الأمور الغيرية، والأشياء العينية، وأن يقيده ليكون كاشفا في كشف القناع عن ماهية هذه البقاع، التي يقال لها (عروس المدائن)".
كما كان رفاعة واعيا أشد الوعي بما يصنع، حيث قال: "حسب ظني لم يظهر في اللغة العربية شيء في تاريخ باريس".
وكان صحبة الشيخ رفاعة في هذه البعثة: حضرة "عهدي أفندي المهردار"، الذي تخصص في الأمور الملكية، يليه حضرة "مصطفى أفندي الدويدار"، الذي تخصص في الأمور العسكرية، والثالث "حسن أفندي الإسكندراني"، الذي تخصص في القبطانية والبحرية.
يقول الشيخ رفاعة: "والحق أنني مدة إقامتي في هذه البلاد، في حسرة على تمتعها بذلك، وخلو بلاد الممالك الإسلامية منه".
وقال: "ومن المعلوم أني لا أستحسن إلا ما لم يخالف نصوص الشريعة المحمدية، على صاحبها أفضل الصلاة وأشرف التحية".
وقال: "وليست هذه الرحلة مختصرة على ذكر السفر ووقائعه، بل هي مشتملة على ثمرته وغرضه، وفيها إيجاز العلوم والصنائع المطلوبة، والتكلم عليها، وعلى طريقة تدوين الأفرنج لها، واعتقادهم فيها، وتأسيسهم لها".
الديوان النفيس بإيوان باريس
كان هذا هو الاسم الأول لكتاب رفاعة الأشهر "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، جريا على سجع عناوين كتب الوقائع المشهورة، مثل: "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" لابن تغري بردي، و"التبر المسبوك في نصيحة الملوك" للغزالي، و"بدائع الزهور في وقائع الدهور" لابن إياس، وغيرها من آلاف الكتب والمراجع التي يزخر بها إرثنا وتراثنا.
وتكلم الشيخ رفاعة في كتابه عن العلوم والفنون المطلوبة، والحرف والصنائع المرغوبة، وأوفى الحقوق الثلاثة قدرها (الطبيعية، والبشرية، والوضعية)، وتناول علوم تدبير العسكرية، والقبطانية، والبحرية، والعلاقات الدولية، والسفارات، وفنون المياه، وصناعات القناطر والجسور، والصناعات الفنية، والميكانيكا، والهندسة البحرية، والمدفعية (الطوبجية)، وصناعة المعادن، والكيمياء، والورق، والتحاليل، والطب، وصناعة البارود، والسكر، والأنسجة، والتشريح، والبيطرة، وعلوم الزراعة، والصرف، وعلوم النبات، والحيوان، وصناعة النقش والحفر، والترجمة، والجغرافيا، والفلك.
حيث بسط الحديث في مقدمة كتابه عن جغرافيا العالم، ثم تحدث بعد ذلك عن مدينة الإسكندرية وتاريخها منذ نشأتها على يد الإسكندر المقدوني، إلى اليوم الذي تركها فيه رفاعة. لكنه تورط في هذا السرد في خطأ تاريخي فاحش، حين ذكر ما نصه: "ومن عجائب ما فيها.. خزانات الكتب التي حرقها عمرو بن العاص رضي الله عنه، على ما كان فيها من الكتب، ما قدره 700,000 مجلد".
وهذا الخطأ مردود عليه بالأدلة التاريخية والشواهد الواقعية، ولعل أقوى الكتب التي تناولت هذه القضية بوضوح، تلك الدراسة الماتعة التي صدرت مؤخرا للعالم الباحث الدكتور المهندس ربيع الزواوي: "مكتبة الإسكندرية.. هل أحرقها عمرو بن العاص؟" (القاهرة، 2007م).
وفي الطريق إلى باريس، تكلم الشيخ رفاعة عن جزيرة كريت، التي وصل إليها في اليوم السابع من السفر، ثم جزيرة صقلية، ثم مسينا ببوغاز إيطاليا، ثم إلى نابولي، وهي إحدى البنادر الأربعة الأصلية في البلاد الإفرنجية، ثم إلى مرسيليا، ودخولهم إلى "الكرنتينة"، وما يذكره من طرائف التحليل والتحريم للحجر الصحي، بناء على فهم القضاء والقدر، وما دار بين العلامة الشيخ محمد المناعي التونسي المدرس بجامع الزيتونة، والشيخ محمد البيرم شيخ الحنفية. وما إن وصل إلى مرسيليا، حتى اشتغل مع المبتعثين بتعلم تهجي الحروف الفرنساوية، وهم ما زالوا في الكرنتينة.
ثم دخلوا باريس، فتكلم عن تخطيطها، ووصفها الجغرافي، وأهلها، وعاداتهم، وزروعها، وشوارعها، ومقاهيها، ودور العلم بها، وكل شيء فيها، حتى كأنك تراه رأي العين. وهنا انفتحت العين الناقدة، والبصيرة الشاهدة للشيخ رفاعة على اتساع محيطها، وامتداد قطرها، فقال:
لَئِنْ طلَّقْتُ باريسَ ثلاثًا،
فما هذا لغيرِ وصالِ مِصْرِ.
فكُلٌّ منهُمُ عندي عروسٌ،
ولكنْ مِصْرُ ليستْ بنتَ كُفْرِ.
ومثلما قال في قصيدته الطويلة، مادحا مصر أم الدنيا من قلب باريس، عروس أوروبا، حيث لم يتخل عن حبه لبلده ساعة من نهار، فقال:
زمنٌ عليّ به لمصرَ (فدَيتُها)
حقٌّ وثيقٌ عاطلُ النكرانِ
فلكَمْ بأزهرِها شموسٌ أشرقتْ
وأنارتِ الأكوانَ بالعرفانِ
فشذا عبيرِ علومِهم عَلَمُ الورى
وسرتْ مآثرُهم لكلِّ مكانِ
قد شبّهوها بالعروسِ وقد بدا
منها (العروسيُّ) بهجةَ الأكوانِ
قالوا تعطّرَ روضُها فأجبتُهم
(عطّارُها حَسَنٌ) شذاهُ معانِ
حبرٌ له شهدتْ أكابرُ عصرِه
بكمالِ فضلٍ لاحَ بالبرهانِ
ولئنْ حلفتُ بأنَّ مِصْرَ (لجنّةٌ)
وقطوفُها للفائزينَ دوانِ
والنيلُ كوثرُها الشهيُّ شرابُهُ
لأبرُّ كلَّ البرِّ في أيماني
ثم تحدث بعد ذلك عن أهل باريس، وتدبير الدولة الفرنساوية، واقتصادياتها، وما يتعلق بها من أمور المعاش، والصحة، والتعليم، والإدارة، والسياسة، والقانون، والعلوم. ثم قام بترجمة المنطق لأرسطو، وعلم الحساب.
وفي 19 أكتوبر/تشرين الأول عام 1830م، تقدم للامتحان النهائي في ختام الدراسة، وقدم للجنة الامتحان 12 كتابا قام بترجمتها خلال السنوات الخمس، تشمل علوم الاجتماع، والهندسة، والقيادة العسكرية، والميثولوجيا، والصحة، وتقويم البلدان، والجغرافيا، والتعدين، والفلسفة، والقانون، وفنون الأدب، بالإضافة إلى مخطوطة كتابه "تخليص الإبريز"، الذي يقدم فيه اكتشافه للحضارة الغربية وإضاءتها من داخلها، ناقدا واعيا مستبصرا، وهو ما زال ذلك الطالب الذي منتهى غايته أن يرضي أساتذته، وأن ينظر إلى كل شيء بعيونهم، لا بعيونه!
لكنه كان غير ذلك تماما، حتى عاد إلى داره، ومداره، مصر المحروسة، عام 1831م، وقد تحول من إمام للدين والصلاة، إلى إمام للنهضة والحياة.
الشيخ الأميرالاي
عاد الشيخ رفاعة عام 1246هـ ليعمل مترجما في مدرسة الطب بتزكية من أستاذه مسيو جومار، المشرف العلمي على البعثة. مكث بها سنتين، ثم نقل عام 1249ه مترجما في مدرسة الطوبجية. ثم انتقل أستاذا في مدرسة الإدارة الملكية، ثم عين عام 1250هـ ناظرا لمدرسة التاريخ والجغرافيا.
ثم أخذ يقنع الباشا بإنشاء مدرسة للإدارة الملكية، حتى أقنعه بتلك الفكرة، فكانت النواة التي نشأت عنها بعد ذلك "مدرسة الألسن" عام 1835م، باسم "مدرسة الترجمة" أولا، ثم تطورت إلى "مدرسة الألسن"، ومقرها السراي المعروفة باسم "بيت الدفتردار" بحي الأزبكية، حيث كان يقوم فندق شبرد القديم. وقد أنشئت مدرسة الألسن – كما رفع الشيخ رفاعة إلى الجناب العالي – "لينتفع بها الوطن ويستغنى بها عن الدخيل".
وقد بدأت أولا بثمانين طالبا، ثم ازداد عددهم ليصل إلى 150، وقد تخرجت الدفعة الأولى منها عام 1255هـ / 1839م. وقام الشيخ رفاعة بوضع منهج المدرسة الدراسي، وكان على رأس إدارتها والتدريس فيها بكل حزم وإخلاص. وكان يدرس إلى جانب المقررات الدراسية الأدب، والفقه، والشريعة الإسلامية، ويقوم بالواجب القومي لترجمة مراجع النهضة العلمية المعاصرة من سائر العلوم والفنون.
وفي هذه الفترة، عهد إلى رفاعة إعادة تنظيم صحيفة الوقائع المصرية، والإشراف على تحريرها عام 1257هـ، فقام بذلك على خير وجه لمدة ثلاث سنوات.
وقد عاشت مدرسة الألسن نحو 15 عاما، وهي جوهرة النهضة وطليعة الحضارة، إلى أن أغلقها عباس الأول، الذي لم يكن على وفاق مع رجال جده محمد علي وعمه إبراهيم. فلم تمض أيام على ولاية عباس حتى ألغاها في المحرم 1266هـ / نوفمبر/تشرين الثاني 1849م.
رفاعة في السودان
لما ولي عباس الأول الأمر بعد وفاة جده محمد علي في 12 رمضان 1265هـ / 12 أغسطس/آب 1849م، وكان شديد التحفظ والانغلاق، كما لم يكن مطمئنا إلى رجال جده محمد علي ولا عمه إبراهيم، وعلى رأسهم الشيخ رفاعة، فأمر بإرساله إلى السودان ناظرا لمدرسة الخرطوم الابتدائية، التي قضى بها ثلاثة أعوام، وعاد منها بعد وفاة عباس الأول وتربع سعيد على عرش مصر عام 1854م، فعين وكيلا للمدرسة الحربية، ثم ناظرا لها بعد إحالة ناظرها سليمان باشا الفرنساوي. ولكن حنينه للألسن ما زال يلح عليه في العودة إليها، كدار واسعة للتربية والإعداد والإصلاح والنهضة.
والذين نعوا على المصلح المجدد رفاعة الطهطاوي بعض قوله الشاكي في السودان، الذي أبعد إليه لجفوة بينه وبين عباس الأول، عليهم أن يعلموا أن رفاعة قد عانى الأمرين بالسودان، لا لمكرهة بينه وبين أهله، إنما لتعطل المشروع الإصلاحي الذي قضى حياته من أجله، وأن كل جهوده الإصلاحية قد داسها عربة عباس الأول دون ترو. ولكنه يلخص ذلك المشهد حيث يقول:
وما خِلْتُ العزيزَ يريدُ ذلِّي
ولا يُصغي لأخصامٍ لِدادِ
لديهِ سعَوْا بألسنةٍ حِدادِ
فكيف صغى لألسنةٍ حِدادِ؟
مهازيلُ الفضائلِ خادعوني
وهل في حربِهم يكبو جوادي؟
وزخرفُ قولِهم إذ موّهوهُ
على تزييفِهم نادى المنادي
فهل من صيرفيِّ المعنى بصيرٍ
صحيحِ الانتقادِ والاقتصادِ
قياسُ مدارسٍ قالوا عظيمٌ
بمصرَ، فما النتيجةُ في بِعادي؟
وما السودانُ قطُّ مقامَ مثلي
ولا سَلمايَ فيهِ، ولا سُعادي
بها ريحُ السَّمومِ يُشَمُّ منهُ
زفيرُ لظىً، فلا يُطفيهِ وادِ
رحلْتُ بصبغةِ المغبونِ عنها
وفضلي في سواها في المزادِ
يقول العلامة الدكتور أحمد أمين: "وكان الشيخ كما ترى، قد صاغ قصيدته على وزن وقافية القصيدة الشهيرة: لقد أسمعتَ إذ ناديتَ حيًّا / ولكن لا حياة لمن تنادي"، يقصد بذلك الغاية من الملاومة والتبكيت، بحيلته الأدبية البلاغية تلك.
وهكذا قضى الشيخ رفاعة في السودان نحو ثلاث سنوات، قاسى فيها شدائد الحرّ والإقصاء والتهوين، لا كرهًا في السودان، إنما رفضًا للمظلمة، وحزنًا على تعطيل مشروعه النهضوي الفريد.
إلى ما سبق، فإن الشيخ رفاعة قد فقد في تلك المبعدة معظم أصدقائه، خاصة بيومي أفندي، أستاذ الرياضيات في مدرسة المهندسخانة، والذي نعاه ضمن القصيدة السابقة بقوله: "وحسبي فتكها بنصيفِ صحبي / كأن وظيفتي لبسُ الحدادِ".
والشيخ رفاعة نفسه كان قطعة حية من الجسد المصري السوداني الحضاري العريق، فهو القائل على لسان مصر والسودان:
نحن غصنانِ ضمّنا عاطفُ الوجدِ
جميعًا في الحبِّ ضمنَ نطاقِ
في جبينِ الزمانِ منكَ ومنِّي
غُرّةٌ.. كوكبيةُ الإطلاقِ
ومع ذلك، فقد أثمر الشيخ رفاعة في منفاه في السودان خير ثمرة، بحسن إدارة مدرسة الخرطوم، والنجاح في تخريج جيل من المصريين والسودانيين على خير ما يرام، ثم بترجمة قصة "تليماك"، التي وضعها بعد ذلك تحت عنوان "مواقع الأفلاك في وقائع تليماك".
حسنات حضارية
ذهب الطهطاوي إلى فرنسا وهو مزود بالأصالة الأزهرية، ومفعم بالنصر الذي حققه الشعب المصري على الحملة الفرنسية التي قدمت إليه عام 1798م، والتي دنست خيلها الأزهر الشريف، ثم انجلت غمتها عام 1801م، بعد ثلاث سنوات من المقاومة والجهاد العام. وهو نفس عام مولد السيد الشريف، رفاعة رافع الطهطاوي، الذي تفتحت عيونه وإدراكه للحياة على هذا الثأر المبيت.
فدخل الطهطاوي فرنسا وهو محصن بأزهريته الأصيلة، وتربيته الواعية، وأصله الشريف، وعوده الصلب، ووعيه المسبق على يد شيخه الأثير، العلامة الشيخ حسن العطار، شيخ الأزهر الشريف، الذي سبقت له معرفة بالفرنسيس واحتكاك علمي وحضاري بهم، حال حلولهم بالمحروسة، والذي عزم على سد الفجوة بتربية جيل واع واثق متوثب مخلص من شباب الأزهريين النوابغ، من أمثال: إبراهيم الدسوقي، ومحمد عياد الطنطاوي، ومحمد عمر التونسي، والشيخ رفاعة وغيرهم، ليكونوا طليعة لبشائر النهضة.
فذهب الطهطاوي وهو الشيخ الأزهري المعبأ برغبة شعبه في النهضة، وتربية شيخه في الوعي، وصلابة أصله في التحمل، وتزكية خلقه في التصوف، وعلو محتده في الشرف، وعزيمة واليه في البناء، ورغبة الطهطاوي نفسه في التحدي، وقدرته الهائلة على الإنجاز والتحصيل.
يقول زميله في البعثة، ومنافسه في الزعامة، أبو التعليم المصري (علي مبارك): "ولم تؤثر إقامته بباريز أدنى تأثير في عقائده، ولا في أخلاقه وعوائده". (الخطط التوفيقية ج 13 ص 54)
تبدو الثقة بالنفس والشرع من كل ملاحظات الشيخ رفاعة، من أول يوم في بعثته إلى آخر يوم في حياته، حتى في ترويحاته واستملاحاته، وفي تسريته وتسليته، بغنائه وإنشاده، ومنظوماته ومقاماته، وهو ما زال بسفينة الذهاب. حيث تصادف دخولهم مع احتفال القوم ببعض أعيادهم، بالابتهاج وطرق النواقيس، فقال:
أصبو إلى كلِّ ذي جمالِ
ولستُ من صبوتي أخافُ
وليس بي في الهوى ارتيابٌ
وإنما شيمتي العفافُ
يعكس "تخليص الإبريز" إجادة الطهطاوي للفرنسية، وإلمامه بالعلوم العصرية الحديثة، كما يعكس كفاءة عقلية باهرة، حيث انخرط الطهطاوي حتى أذنيه في معاملة المستشرقين الكبار، من أمثال سيلفستر دي ساسي بالكوليج دي فرانس، وكوسان دي برسفال بمدرسة اللغات الشرقية، وجوزيف رينو بدار الكتب، ومسيو جومار، وجول سالدان، منذ الأيام الأولى للبعثة. ولكن تلك العلاقة الوثيقة تعكس خلاصتها ثقة تراثية، وموسوعية ثقافية عند رفاعة.
يقول أستاذه شوفالييه (وكان قد اتصل به أربعة أعوام كاملة): "إنما كان طلعة، يلتهم كل جديد في كل صوره المادية والمعنوية، ويتمثله التمثل الذي أقض مضاجع بعض أولي الأمر في مصر". فقد يأخذ ويعطي، ويؤثر ويتأثر، ويتعلم ويعلم، وما شابه أدنى اهتزاز أو تراجع، فضلا عن تبعية أو ذيلية قط. فهو القائل: "يجب على من أراد الخوض في لغة الفرنساوية، المشتملة على شيء من الفلسفة، أن يتمكن من الكتاب والسنة، حتى لا يغتر بذلك، ولا يغتر عن اعتقاده، وإلا ضاع يقينه". (ص 179-180)
انتقاده الواضح لما تحويه الثقافة الفرنسية من "الحشوات الضلالية المخالفة للكتب السماوية"، حيث قال قوله الحاسم، المؤسس لفلسفة العقل والنقل: "إن تحسين النواميس الطبيعية لا يعتد به إلا إذا أقره الشارع، والتكاليف الشرعية التي عليها نظام العالم مؤسسة على التكاليف العقلية الصحيحة، الخالية من الموانع والشبهات، لأن الشريعة والسياسة مبنيان على الحكمة المعقولة لنا، أو التعبدية التي حكمتها إلى المولى سبحانه وتعالى.. وليس لنا أن نعتمد على ما يحسنه العقل أو يقبحه، إلا إذا ورد الشرع بتحسينه أو تقبيحه". (د. محمد عمارة: الأعمال الكاملة للطهطاوي، ج 2، ص 159). "والذي يرشد إلى تزكية النفس، هو سياسة الشرع". (المرجع السابق، ص 32).
عاش الطهطاوي سنواته الخمس معتزا بدينه، أمينا على علمه، واعيا برسالته. فهو يتتبع أخبار نصارى مصر والشام الذين خرجوا مع الفرنسوية، خصوصا المماليك الجورجية والجركسية، وكذلك سعى إلى تتبع أخبار النساء اللواتي أخذهن الفرنسيس صغار السن.
يقول: "وقد وجدت امرأة عجوزا باقية على دينها.. وممن تنصر إنسان يقال له عبد العال، ويقال إنه كان قد ولاه الفرنسيون بمصر (أغا الإنكشارية) في أيامهم، ثم تبعهم وبقي على إسلامه خمس عشرة سنة، ثم بعد ذلك تنصر والعياذ بالله. ولقد رأيت له ولدين وبنتا، أتوا إلى مصر وهم على دين النصرانية، أحدهم معلم الآن في أبي زعبل". (ص 120-121).
ويصف الطهطاوي موقعا أسماه "البستان" يحتوي على عدد من المحنطات الحيوانية، وفي رواق يسمى "بستان التشريح"، يوجد بعض الشيء من جثة المرحوم الشيخ "سليمان الحلبي" الذي استشهد بقتله الجنرال "كليبر"، القائد الثاني للحملة الفرنسية. (ص 187).
ما أقدم رفاعة في بعثته على شيء، إلا وهو يعي هدفه من وراء ذلك بكل وضوح. وما ملاحظاته على لبس المرأة الفرنسية، وحقوقها وطريقتها في الحياة، وانبهاره ببعض الأمور والتدابير التي رآها لأول مرة في حياته، وكذلك وصفه للمقاهي والعاديات الحياتية والسلوكية عند الفرنسيس، إلا تطورا طبيعيا لمشواره في سبر أغوار الحياة والناس والعلوم، وتعرفه إلى كبار الأساتذة بالجامعات وغيرها، وهضم ذلك كله، وإعادة تمثله وعيا جديدا صالحا مفيدا.
يشهد له كل ذلك بقمة التيقظ، والقدرة على الفرز الحضاري الواثق، فهو القائل: "ومعلوم أن الشرع لا يحظر جلب المنافع، ولا درء المفاسد، ولا ينافي المتجددات المستحسنة، التي يخترعها من منحهم الله تعالى العقل وألهمهم الصناعة". (الأعمال الكاملة، ص 387). "فإن بحر الشريعة الغراء، على تفرع مشارعه، لم يغادر من أمهات المسائل صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأحاطها بالسقي والري، ولم تخرج الأحكام السياسية عن المذاهب الشرعية، لأنها أصل، وجميع مذاهب السياسة عنها بمنزلة الفرع". (ص 370). بل إنه اكتشف منذ الساعات الأولى في كتابة "تخليص الإبريز" أن القوانين التجارية الفرنساوية مأخوذة برمتها من الفقه المالكي، وهو الشيخ الأزهري الشافعي المذهب.
عمل رفاعة مع محمد علي سبعة عشر عاما، وعلى الرغم من جبروت محمد علي واستبداده بالأمر، إلا أن الشيخ رفاعة قد انتقده بقوله: "ولو أنه أعلى منار الوطن ورقاه.. لم يستطع إلى الآن أن يعمم أنوار هذه المعارف المتنوعة بالجامع الأزهر الأنور".
ما ذهب رفاعة إلى مكان، أو حل بموقع، إلا وحلت به الهمة، وارتفع صوت العمران. فكان مع التخطيط والتنفيذ والإنشاء، يضع المناهج ويقوم بالتدريس والتأسيس. فعل ذلك في كل مكان حل به، وفي كل مهمة كلف بها، وفي أي علم قام بتدريسه، أو معهد قام بتأسيسه. وعلى سبيل المثال، حين كلف بتدريس اللغة العربية بالمدارس الأميرية، ألف لهم منظومته "جمال الأجرومية" وكتابه "التحفة المكتبية لتقريب اللغة العربية"، وهو أول كتاب في النحو العربي ذي سمات تجديدية.
شبهات وردود
عاد الشيخ رفاعة من باريس عام 1246هـ، حيث كان على رأس مستقبليه إبراهيم باشا، ابن محمد علي، ذلك القائد العسكري التاريخي الجبار. ثم التقى بعده محمد علي، وانخرط بكليته في البناء والتأسيس، من موقع إلى موقع، ومن مكان إلى مكان، وهو "قليل النوم، كثير الانهماك على التأليف والترجمة"، كما يقول تلميذه صالح مجدي: "وذهب إلى باريس، وعاد خيرا مما ذهب".
وحين أنشأ علي مبارك مجلة "روضة المدارس" النصف شهرية عام 1870م، أسند رئاسة تحريرها إلى رفاعة الطهطاوي، فجعلها مجالا لرواد العمل الثقافي في مصر، من أمثال علي مبارك نفسه، وعبد الله فكري، وإسماعيل صبري، وقدري باشا القانوني، وإسماعيل باشا الفلكي، وصالح مجدي من تلاميذ الشيخ رفاعة، والشيخ حمزة فتح الله اللغوي الشهير.
وأصدر معها على عدة حلقات متتابعة كتابه "القول السديد في الاجتهاد والتقليد"، و"نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز" الذي لم يقتصر فيه على السيرة، بل تناول تاريخ صدر الإسلام بأسلوب جديد تماما. وكان قد كتب من قبل في التاريخ المصري القديم كتابه "أنوار توفيق الجليل"، فأفاد فيه لأول مرة في اللغة العربية من الكشوف الأثرية الحديثة. (في فكرنا الحديث والمعاصر، الجزء الأول، د. حسن الشافعي، القاهرة، 2024، ص 98).
والذين يأخذون على رفاعة ترجمته للقانون التجاري الفرنسي الذي ترجمه عام 1868م، وتعريبه للقانون المدني الفرنسي الذي طبع في مجلدين عام 1868م، فما صنع الرجل ذلك من عندياته أولا، ولا صنعه ليحكم به محل الشريعة ثانيا. فقد كان الرجل من أساطين الفقه والشريعة المعدودين.
إنما ترجم القانون التجاري ليحل مشكلة المشاكل في التعاملات التجارية مع الأجانب، الذين أغرقوا البلاد بالديون لحساب قانونهم في بلادهم، فأراد الرجل التبصير بهذا الأمر الخطير "حتى لا يجهل أهل هذا الوطن أصول الممالك الأخرى، لاسيما وأن علاقات الاقتضاء، ومناسبات الأخذ والعطاء، تدعو إلى الإلمام بمثل تلك الأصول الوضعية، ليكون من يتعامل معهم في تسوية الأمور على بصيرة". (الأعمال الكاملة، ص 367).
وما ترجم القانون المدني رفقة طلابه –عبد الله السيد، وصالح مجدي، ومحمد قدري– إلا وقد اجتهد قدر الطاقة في سبر أغوار الفقه والشريعة الإسلامية، للإتيان بالمصطلح المناسب الذي يفي بقدرة الشريعة وكفايتها. وقد تنبه لذلك مبكرا حين أنشأ بمدرسة الألسن قسما لدراسة الشريعة الإسلامية والفقه على مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان ، وهو المذهب الذي كان يتبناه العثمانيون طوال مدة حكمهم لأكثر من ستة قرون.
رحمة الله ورضوانه على الطهطاوي الشيخ، المسيو، الأميرالاي، الذي أوقف عن العمل، وتعرض للبطالة عدة مرات، استمر بعضها إلى سنوات، ولم ينل رتبة الباشوية، في حين نالها من هم دونه بكثير. الناثر، الشاعر، المترجم، ناظر ومؤسس مدرسة الألسن، ووكيل وناظر المدرسة الحربية، وناظر مدرستي الهندسة الملكية والعمارة. العالم المعلم، صاحب "مباهج الألباب المصرية في مناهج الآداب العصرية"، و"المرشد الأمين للبنات والبنين"، و"نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز".
وصاحب ريادات: تعليم المرأة، والحوار الحضاري، والصحافة العامة، والصحافة المدرسية، ودراسات الاستشراق، ودراسة اللغات، والثقافة الحضارية، وتأسيس النهضة، وتقنين الشريعة الإسلامية. الذي عاش في باريس خمس سنوات، تعدل في منتوجها خمسين عاما من العلم والوعي، واسترداد الثقة الحضارية، وتفعيل التراث، واستحضار العصر والدين معا. والذي لخص لنا رسالته بقوله: "لا تحصيل إلا بتعليم أحكام الدين، الواجب معرفتها على كل إنسان، وذلك بالاعتماد على الكتاب والسنة وبصائر العقول". و"إذ لا شك أن رسالة الرسل بالشرائع، هي أصل التمدن الحقيقي الذي يعتد به، وأن الذي جاء به الإسلام، من الأصول والأحكام، هو الذي مدن بلاد الدنيا على الإطلاق".
ورحمة الله على الرجل الذي نعى باريس وما قدمت من "حشوات ضلالية" في بهرجها الحضاري الفاتن، فقال:
أيوجدُ مثلَ باريسٍ ديارُ
وليلُ الكفرِ ليس له صباحٌ
أما هذا وحقكمُ عجيبُ
وقضى عمره كسن الرمح، حتى لقي ربه في غرة ربيع الآخر سنة 1290هـ / 27 مايو/أيار 1873م، وهو يناهز الخامسة والسبعين من عمره النافع الميمون. فاهتزت مصر كلها لموته، على حد قول العلامة الدكتور أحمد أمين: "واحتشد لجنازته الألوف المؤلفة من المعارف والأمراء والنبلاء وتلاميذ المدارس، وازدحمت الشوارع بالناس يردّدون بعض جميله… يذكره الأزهريون على أنهم ابنهم، والمتعلمون المدنيون على أنه أبوهم، والجالية الفرنسية على أنه أخوهم، والمصريون كلهم على أنه مؤسس نهضتهم، وكلهم يتوجع لفقده، ويشيد بذكره".
يا ابنَ الذي أيقظتْ مصرُ معارفَهُ
أبوكَ كان لأبناءِ البلادِ أبا
وسلام على الصادقين.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

علماء يكتشفون ما يحدث عندما يمر الضوء عبر الضوء
علماء يكتشفون ما يحدث عندما يمر الضوء عبر الضوء

الجزيرة

timeمنذ ساعة واحدة

  • الجزيرة

علماء يكتشفون ما يحدث عندما يمر الضوء عبر الضوء

لطالما اعتبر العلماء أن الضوء كيان لا يتفاعل مع ذاته، فأي شعاعين من الضوء سيمران عبر بعضهما دون أدنى أثر، كما لو أن كلا منهما لا يعترف بوجود الآخر، هذا هو ما تمليه قوانين الفيزياء الكلاسيكية، إلا أن الفيزياء الكمومية لها رأي آخر. بحسب نتائج جديدة كشفت عنها دراسة تعتمد على بيانات من مصادمات الجسيمات في منشأة سيرن (المجلس الأوروبي للبحوث النووية)، فإننا أمام فهم جديد كليا يقول إن الضوء قد يؤثر على نفسه، ويخوض تفاعلات ذاتية في ظل ظروف خاصة جدا تحكمها قوانين ميكانيكا الكم. وفقا لميكانيكا الكم، لا تسير الأمور دوما كما تبدو على السطح، فالفوتونات، وهي الجسيمات التي تحمل الضوء، يمكنها في ظروف معينة أن "تصطدم" ببعضها، أو بالأحرى تؤثر في مسارات بعضها بعضا، من خلال عمليات غير مباشرة تُعرف باسم "التبعثر الكمومي للضوء عبر الضوء". جسيمات "افتراضية" في هذه الظاهرة النادرة، لا تتفاعل الفوتونات مباشرة، بل تنشئ فيما بينها جسيمات افتراضية، وهي جسيمات تحمل طبيعة خاصة جدا وغير مفهومة بشكل كامل بعد، لا ترى ولا تقاس بشكل مباشر، وتنشأ لفترة وجيزة في الفراغ من الزمن كزوج من جسيمات متعاكسة الشحنات، يفني كل منها الآخر، لكن يبدو أن هذه الجسيمات تترك بصمتها في سلوك الفوتونات، قبل أن "تختفي" بعد أجزاء صغيرة جدا من الثانية. يقول جوناس ماجر من معهد الفيزياء النظرية بجامعة فيينا للتكنولوجيا، والمؤلف الرئيسي للدراسة في تصريح حصلت الجزيرة نت على نسخة منه: "على الرغم من استحالة رصد هذه الجسيمات الافتراضية مباشرةً، فإن لها تأثيرا قابلا للقياس على الجسيمات الأخرى". ويضيف: "إذا أردنا حساب سلوك الجسيمات الحقيقية بدقة، فعلينا مراعاة جميع الجسيمات الافتراضية التي يمكن تصورها بدقة. هذا ما يجعل هذه المهمة صعبة للغاية، ومثيرة للاهتمام أيضًا". ولفترة طويلة، ظن الفيزيائيون أن التبعثر بين الفوتونات يهيمن عليه ظهور واختفاء أزواج من الإلكترون والبوزيترون (الجسيمات الافتراضية المتضادة في الشحنة)، حيث يقوم أحدهما أو كلاهما ببعثرة فوتونات الضوء، قبل أن يصطدم برفيقه ويفنيا تماما. غير أن الدراسة الجديدة التي نشرها الباحثون في دورية "فيزيكال ريفيو لينرز" بيّنت أن نوعًا آخر من الجسيمات الافتراضية، يُعرف باسم "الميزيونات ذات النمط التنسوري"، قد يؤدي دورًا أكبر مما كان يُعتقد في عملية تبعثر الضوء، بل وتؤثر على الخواص المغناطيسية لجسيمات تسمى "الميونات". نتائج مهمة في قلب النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات، يعد الميون جسيما مثيرا للجدل، فنتائج التجارب الحديثة حول عزمه المغناطيسي لا تتطابق تمامًا مع التوقعات النظرية، ما يثير احتمال وجود فيزياء جديدة. لكن كي يثبت العلماء ذلك، يجب أن يكونوا متأكدين من أن النموذج الحالي قد تم حساب قوانينه وتعقيداتها بدقة تامة، بما في ذلك جميع التفاعلات النادرة والمخفية، كالتي كشفت عنها هذه الدراسة. إضافةً إلى ذلك، فإن فهم كيفية تفاعل الضوء مع نفسه -ولو بشكل غير مباشر- يعد من أعمق الأسئلة في فيزياء الكم، ويرتبط ارتباطا وثيقا بمفاهيم مثل الفراغ الكمومي، والجسيمات الافتراضية، وحتى طبيعة الزمكان ذاته. هذه النتائج إذن لا تغير فقط ما نعرفه عن الضوء، بل تضيف إليه طبقة جديدة من الفهم. فبينما يبقى سلوك الضوء كما نعرفه صحيحًا على المستوى اليومي، تظهر هذه الدراسة أن في قلب الفراغ، وفي أعماق التفاعلات الكمومية، يخوض الضوء حوارا خفيا مع نفسه. كما تدفع هذه الدراسة الباحثين إلى إعادة النظر في الحسابات الدقيقة للتفاعلات دون الذرية، وربما تقربنا أكثر من اكتشافات تتجاوز النموذج القياسي، نحو فيزياء جديدة، أكثر اتساعا وشمولا.

"مفارقة الشفافية".. هل تزيد ثقة الناس في العلم عبر الكذب؟
"مفارقة الشفافية".. هل تزيد ثقة الناس في العلم عبر الكذب؟

الجزيرة

timeمنذ 2 أيام

  • الجزيرة

"مفارقة الشفافية".. هل تزيد ثقة الناس في العلم عبر الكذب؟

لطالما كانت الشفافية حجر الزاوية في بناء الثقة بين العلماء والجمهور، فقد اعتقد فريق من الفلاسفة والعلماء أن كلما كانت المؤسسات البحثية أكثر شفافية في تقاريرها، زادت ثقة الناس في العلوم. لكن دراسة جديدة نشرتها جامعة بانغور في ويلز تكشف عن ظاهرة غير متوقعة، حيث تقول الدراسة إن الشفافية قد تؤدي إلى تقليص الثقة في العلوم بدلا من تعزيزها. ووفقا للدراسة التي نشرها بايرون هايد، فيلسوف العلوم في الجامعة، في دورية "ساينس آند سوسايتي" تحت عنوان "الكذب يزيد الثقة في العلم"، لا يمكن النظر إلى الشفافية كعامل واحد يؤدي إلى زيادة الثقة بشكل دائم. في الواقع، بينما تعتبر الشفافية أداة لتعزيز الثقة في العلوم حينما تنشر الجامعات أخبارا عن كشف أو ابتكار أو إنجاز علمي جديد، قد يؤدي الإفصاح عن الأخبار السيئة مثل الفشل في التجارب العلمية أو وجود تضارب في المصالح أو إعادة النظر في نموذج أو نظرية راسخة، إلى تقليص هذه الثقة. مفارقة الشفافية يطلق هايد اصطلاح "مفارقة الشفافية" على هذا الأمر، وهو الظاهرة التي تشير إلى أن الشفافية تؤدي إلى زيادة الثقة وفقدانها كذلك، بحسب طبيعة نتائج العملية. وبحسب الدراسة، تُظهر بعض الحالات الواقعية كيف يمكن أن يعمل التناقض الشفاف. فعلى سبيل المثال، في فضيحة "كلايمت جيت"، تم تسريب رسائل إلكترونية من علماء المناخ في جامعة "إيست أنغليا" في نورويتش في بريطانيا، مما أدى إلى اتهامات بالتلاعب بالبيانات. ورغم أن التحقيقات أظهرت أنه لا يوجد خطأ في العمل العلمي، فإن الكثير من الجمهور فقدوا الثقة في علم المناخ، لأنهم كانوا يحملون صورة مثالية للعلم وعندما تبينت لهم "فوضى" العملية العلمية، تزعزعت ثقتهم. أحد الأمثلة على ذلك أيضا، عندما يعيد العلماء النظر في نموذج بحثي قائم أو كان راسخا على مدى عقود، وليكن مثلا التصورات عن "المادة المظلمة" أو "الطاقة المظلمة" في الفيزياء ضمن نموذج علم الكونيات القياسي الحالي (لامبدا-سي دي إم)، هنا يتصور الناس أن العلماء يمشون خطى للأمام ثم يعودون فيها، وكأن تلك هي طبيعة العلوم. ويطرح ما سبق تساؤلا محوريا وهو: هل يجب أن تتجنب المؤسسات العلمية الإفصاح عن الأخبار السيئة لتحافظ على الثقة في المؤسسات العلمية؟ هذا ببساطة نوع من الكذب، مهما كان السياق. ويشير هايد إلى أن الحل القائل بإخفاء النتائج السلبية غير مستدام وغير أخلاقي، ومن ثم يقترح أن الحل يكمن في معالجة سبب المشكلة من جذوره. فوفقا لهايد، تكمن المشكلة في أن الجمهور يبالغ في تقدير العملية العلمية، بسبب الإنجازات العظيمة للعلوم على مدى عقود. ومن ثم يرجع فقدان الثقة في العلوم، وفقا للباحث، إلى أن الناس لديهم تصور مغلوط عن العلماء، فهم لا يرون العلماء كأشخاص معرضين للأخطاء أو التأثر بالتحيزات، بل يعتقدون أنهم أشخاص عظماء بطبيعة الحال، يملكون الإجابات الحاسمة دائما. صورة الكتب الخيالية هذه الصورة المثالية التي يمكن أن يطلق عليها "صورة الكتب الخيالية"، تجعل الجمهور يفقد الثقة عندما لا تتماشى نتائج العلم مع توقعاتهم. ويشرح هايد في دراسته أنه يجب على العلماء والمؤسسات التعليمية أن يعيدوا تعريف العلاقة بين الجمهور والعلم، فمن المهم أن يعي الناس أن العلم يعتمد على فرضيات وتحليلات دقيقة ولكنه لا يقدم إجابات مطلقة، كما أن العلماء هم بشر، وهم معرضون للأخطاء والتأثيرات الخارجية، مثل أي شخص آخر. وبحسب الدراسة، فبدلا من إخفاء الحقيقة عن الأخطاء، يرى هايد أن الحل يكمن في تعليم الناس عن العلم، فالتعليم الصحيح حول كيفية عمل العلوم وكيفية وصول العلماء إلى استنتاجاتهم قد يساعد على تقليل هذا التوقع غير الواقعي، وفي هذا السياق يجب أن نفهم أن العلم ليس عملية مثالية، بل هو عملية مستمرة من الاستكشاف والتجربة، بما في ذلك الأخطاء. على سبيل المثال، للوهلة الأولى تظن أن العلم هو كيان منتظم في خط سيره، لكن هنا يمكن أن نتأمل قليلا قول بيتر مدوّر، العالم الجائزة نوبل في الطب لعام 1960 مناصفة مع الأسترالي السير فرانك بورنت لاكتشافهما التحمل المناعي المكتسب، إن الأبحاث العلمية هي "نوع من الغش"! بالطبع لا يقصد مدوّر الغش الذي تفهمه، وإنما يقصد أنها تظهر لنا في صورة نهائية أنيقة ومرتبة (مقدمة، وآليات، ونتائج، ومناقشة، واستنتاج، ومراجع) لكن الطريقة الحقيقية التي يعمل بها العلماء تتعلق أكثر بالخيال والارتباك والخطأ والتصحيح المستمر وهي عملية عاطفية في جانب منها، ومن ثم فالورقة العلمية تدفعنا للظن أن العملية العلمية باردة تماما، خالية من الخطأ. في الواقع فإن ما يعطي العلم قوته لا علاقة له بورقة بحثية محددة أو خطأ محدد، بل بطبيعة العملية العلمية ككل، فهناك دائما قدرة على تصحيح الخطأ، وهنا يمكن أن نتأمل مفهوم ابتكره عالم الاجتماع الأميركي روبرت ميرتون وهو "التشكك المنظم". حينما أقول لك إنني قد حللت مشكلة مفارقة المعلومات في الثقب الأسود فلن تصدقني حتى ترى تلك الأفكار مرفقة ببرهان أو دليل دامغ على صحة الادعاء. يحتاج العلماء دائما للتحقق من كل الحقائق، والاحتمالات المطروحة، والآليات المستخدمة، والأدوات التجريبية، كل شيء يجب أن يخضع للتحقق. بناء على ما سبق، فإن العالم يمكن أن يخطئ أو يتحيز أو يكذب، لكن ليس العالم أو ورقته البحثية هما معيار تقدم العلم، بل الصورة الكلية التي يُمارس فيها التشكك المنظم بشكل مستمر، ومن ثم تنكسر "البارديغمات" العلمية، أو قل النماذج الإرشادية التي بنيت عليها العملية العلمية خلال فترة زمنية، مهما طال بها الزمن، وهنا يتقدم العلم للأمام. الحل في التعليم ويقول هايد في تصريح رسمي حصلت الجزيرة نت على نسخة منه "يدرك العلماء وقادة الحكومات أهمية ثقة الجمهور بالعلم لأنه يمكن من اتخاذ قرارات مستنيرة، ويوجه السياسات العامة، ويدعم العمل الجماعي في قضايا حرجة مثل الصحة والمناخ والتكنولوجيا. إذا لم يمنح العلم الثقة، يصبح المجتمع أكثر عرضة للتضليل وأقل قدرة على الاستجابة بفعالية للتحديات المعقدة مثل الأوبئة" ويضيف: "إذا أردنا أن يثق الجمهور بالعلم إلى الحد الذي يجعله جديرا بالثقة، فعلينا التأكد من فهمهم له أولا". في هذا السياق، فإن هايد يشدد على ضرورة تغيير الطريقة التي يتم بها تدريس العلوم في المدارس والجامعات، وكذلك الطريقة التي يتم بها نقل المعلومات العلمية للجمهور، قائلا إن التعليم الذي يركز على القيم الأساسية للعلم مثل التجريب والاختبار المستمر والتفاعل مع الأخطاء قد يكون هو المفتاح لتعزيز الثقة. طبيعة العلم ليست هذه المرة الأولى التي يشير فيها فلاسفة علم وعلماء إلى العلاقة المضطربة بين العلم والجمهور، على الرغم من كل الجهود الحثيثة لنقله. فمثلا في كتابه "طبيعة العلم غير الطبيعية"، يشير لويس ولبرت، الأستاذ الفخري بقسم علم الأحياء الخلوي والنمائي في كلية لندن الجامعية، إلى نقطتين أساسيتين لا يتمكن الجمهور من فهمهما، الأولى هي قدر اختلاف العلم عما نتصور أنه بديهي، والثانية هي أن العلم لا يحل كل المشكلات، ولا يمكنه توقع المستقبل بدقة. التصورات الخاطئة عن هاتين النقطتين هي ما يدفع الناس إلى اتخاذ مواقف متناقضة من العلم، تتضمن مخاوفنا من هذا الشيء الغريب غير المفهوم والقوي جدا، والمرتبط بكوارث قد حدثت بالفعل مثل هيروشيما وناجازاكي، أو أخرى متوقعة كهواجس سيطرة الآلة والذكاء الاصطناعي وخلق وحوش بشرية عبر التكنولوجيا الحيوية وتقنيات كريسبر لتحرير الحمض النووي. ويمتزج هذا الموقف مع شعور بالهيبة والثقة الشديدة تجاه العلم، فأنت مثلا تثق بأن ما يصفه لك الطبيب هو الدواء المناسب لك، رغم علمك أن ذلك القرص يحتوي على مادة كيميائية قد تكون قاتلة. ويتفق وولبرت وهايد على أن المحاولات الحثيثة لتقريب العلوم للجمهور، على الرغم من نجاحات كبيرة حققتها، فإن الأمر يجب أن يكون أعمق من ذلك، ويدخل بجرأة لتعليم الجمهور عن طبيعة العملية العلمية، وتوضيح أنه على الرغم من دقتها الشديدة، فإن لها سقطات، التجارب تفشل، وقد يتحيز العلماء فهم بشر لا شك، يأتي ذلك في سياق عصر تنتشر فيه الأخبار الكاذبة ونظريات المؤامرة بشراسة، بشكل مضاد تماما للعلوم، يستغل "صورة الكتب الخيالية" لتمرير سرديته. التوسل بالمرجعية هذا النوع من التعليم ضروري، لأنه على الأقل يعلم الناس أن يفصلوا بين العلم والعلماء، وهي نقطة غاية في الأهمية، لأن الناس عادة ما يقعون في مغالطة شهيرة تسمى "التوسل بالمرجعية". وتجري المغالطة كالتالي: شخص ما يقول إن الادعاء "س" صحيح، هذا الشخص يعد خبيرا في النطاق الذي يتخصص في دراسة "س"، بالتالي فإن الادعاء "س" صحيح لا شك! لوهلة، تظن أن هذا الكلام خال من الخطأ، لكن في العلم فإن الحكم على ادعاء ما بالصدق يكون بناء على الحقائق وإجماع العلماء، وليس من خلال علم أو خبرة قائله. إعلان الناس عادة ما يساوون بين "العالِم" و"العلم"، لكن العالِم هو إنسان مثلك، يمكن أن يخطئ، ويمكن أن يتحيز لعشرات الأسباب التي قد تكون سياسية أو دينية أو حتى شخصية بحثا عن الشهرة الإعلامية. وستجد ذلك واضحا في حالات مثل أندرو ويكفيلد مثلا، وهو طبيب وباحث بريطاني سابق في أمراض الجهاز الهضمي والذي قاد حملة اعتمدت على العلوم الزائفة ضد اللقاحات، ولينوس باولنغ، العالم الحاصل على نوبل لكنه روج لأفكار خاطئة تماما عن دور فيتامين سي في حياتنا، وغيرهم من العلماء الذين آمنوا بالخرافات، بل بعضهم روج للأبراج، والعلاجات بالطاقة، ووصولا إلى القناعات -غير المدعمة بالأدلة- بوجود كائنات فضائية تعيش بيننا. بل إن بول نيرس، الحاصل على نوبل في الطب لعام 2001، يحذر رفاقه الحاصلين على نوبل من "مرض نوبل"، وهو أن الحاصل على نوبل -بسبب الثقة التي تعطى إليه- يكون مستعدا للتعبير عن آراء حول معظم القضايا بثقة كبيرة، من علوم المناخ حتى قضايا الطاقة ومشكلات اللاجئين، محميا بالسلطة التي تمنحها له جائزة نوبل. الواقع يقف تماما على النقيض من ذلك، أو كما قال ريتشارد فاينمان، الفيزيائي واسع الشهرة والحاصل على نوبل ذات مرة: "إذا تحدث فيزيائي ما في غير شأن الفيزياء، فهو أحمق بنفس قدر الشخص الجالس بجانبه". العلم فعال.. لكنه قد يكون بطيئا يجري ذلك في سياق فهم خاطئ لقوة العلم، فمثلا حينما نحاول صناعة دواء جديد، فإننا بحاجة إلى فترة تمتد من 3 إلى 6 سنوات من البحث العلمي وتطويره حول اختيار المادة الفعّالة من بين آلاف أخرى يمكن أن تخدم الهدف نفسه. ثم بعد ذلك، يتطلَّب الأمر تحديد أيّ من تلك المواد سوف نبدأ باستخدامه في التجارب الأولية، بعد ذلك نحتاج إلى مدة تقترب من العام من أجل عمل الاختبارات الكيميائية الأولية والتجريب على الحيوانات. ويحتاج التجريب الحذر على البشر إلى نحو 7 سنوات، ونحتاج بعد إطلاق الدواء إلى سنتين من أجل رصد تطور استجابة البشر لهذا الدواء، مما يعني أن مادة فعّالة واحدة، كالباراسيتامول الموجود في قرصَيْ بنادول، تحتاج إلى ما يقترب من 10 سنوات لكي تصل إلى يديك. كما أن المرض معقد ولا يمكن فهمه بسهولة، خذ السرطان على سبيل المثال، يسأل الناس: لم لا يعالج العلماء السرطان بعد عقود من البحث ومليارات الدولارات؟ في الواقع، فإن السرطان ليس مرضا واحدا بل 200 مرض مختلف، حيث يبدأ من خلية واحدة وقد يصيب أنواعا متعددة من الخلايا في الجسم، مما يجعله معقدا للغاية ويختص كل نوع من السرطان بنوع محدد من الخلايا. أضف لذلك أن الخلايا السرطانية قد تكون غير متشابهة حتى داخل الورم نفسه، كما أن الخلايا السرطانية تتطور مع مرور الوقت وتكتسب قدرة على مقاومة العلاجات. لذلك، علاج السرطان ليس أمرا بسيطا، بل يتطلب تقنيات متعددة ومتنوعة لمكافحة مقاومة الخلايا للأدوية. حينما يتعلم الناس عن هذا الأمر، فإنهم يخففون في كثير من الأحيان من تحفزهم ضد العلم، وهو تحفز عادة ما يكون مدعوما بأفكار مؤامراتية تقول إن شركات الأدوية تتلاعب بالنتائج "للتحكم في مرضى السرطان" وأن "العلاج موجود لكنهم يخفونه". لكن على الجانب الآخر، حينما يتعلم الناس عن مدى تعقيد وصعوبة العملية العلمية، وإمكانية حدوث أخطاء وتحيزات، فإنهم يخففون من نظرتهم المؤامرتية للعلم، وقد تزيد ثقتهم به.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store