
تيودور تشوموفسكي.. روسي شغف بتاريخ الملاحة العربية
الرحالة الأجانب الذين اهتموا بدراسة أحوال الخليج والجزيرة العربية لأسباب مختلفة، وجلهم الأعظم من غرب أوروبا، أكثر من أن يحصوا، لكن نظراءهم من شرق أوروبا أقل بكثير. ولهذا لم يُكتب سوى القليل عن هؤلاء وعن جهودهم واهتمامهم بالعلوم الاستشراقية الخاصة بمنطقتنا.
فعلى سبيل المثال، لا نجد أبحاثاً كثيرة، كتبت بأقلام خليجية عن إسهامات المستشرقين الروس في التدوين الجغرافي والتاريخي والاجتماعي والملاحي لدول المنطقة ودول المشرق العربي بصفة عامة. ومن هنا ارتأينا تسليط الضوء على أحد المستشرقين الروس الأكثر شهرة ضمن قافلة الرحالة والبحاثة الذين وجهوا جهودهم وأبحاثهم وكتاباتهم نحو تاريخ منطقتنا وتطورها السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
هذا المستشرق أو المستعرب الروسي هو «تيودور آدموفيتش تشوموفسكي» الذي كرس حياته لدراسة القرآن الكريم وترجمته شعراً، والتنقيب في الكتب والمخطوطات والترجمات المعنية بالملاحة العربية والبحار والمحيطات المشاطئة لأقطار الخليج وشبه الجزيرة العربية، ونشر الإصدارات الخاصة بحياة الملاح الإماراتي العربي الأشهر أحمد بن ماجد (1421 ــ 1500)
وقبل أن نتعرف على سيرة تشوموفسكي بالتفصيل، يجدر بنا الإشارة إلى أن الروس أمة مجبولة منذ القدم على الترحال والتجوال في العالم لأغراض الاستكشاف والكتابة عن الأمم والشعوب والأماكن المجهولة، وإن قيدت تحركاتهم بعد قيام الاتحاد السوفييتي.
فعلى يد البحار القوقازي الروسي «شمعون دزنوف» مثلاً تم في عام 1648 اكتشاف مضيق «بيرين» الفاصل بين قارة آسيا وقارة أمريكا الشمالية، وفي عام 1820 اكتشف الرحالان الروسيان «فاديم بيلينس» و«ميخائيل فلازيريف» المحيط المتجمد الشمالي، الذي ينسب اكتشافه أيضاً إلى آخرين.
ولد تشوموفسكي في الثاني من فبراير عام 1013، بمدينة «جيتومير» الأوكرانية، ابناً لأسرة من أصول بولندية، حيث كانت أمه «أماليا فومينسكايا» عازفة بيانو، ووالده «آدم تشوموفسكي» موظفاً في أحد المصارف. ولأنه أمضى طفولته في بلدة «شيماخي»، العاصمة القديمة لإمارة «شروان»، التي كانت قائمة بوسط وغرب أذربيجان الحالية حيث المساجد والمعالم الإسلامية والخطوط والنقوش العربية، فقد تولع صاحبنا منذ طفولته بتلك النقوش والخطوط وأبدى شغفاً بتعلم العربية، وحلم مذاك بأن يصبح مستعرباً.
بدأ تشوموفسكي مسيرته الدراسية بالالتحاق بكلية التعدين في إقليم الدونباس بشرق أوكرانيا، وهي كلية تاريخية تأسست سنة 1899 لتخريج متخصصين في مجال الجيولوجيا والتعدين. وبعد تخرجه عمل في مناجم الفحم الأوكرانية بالمنطقة نفسها.
ويبدو أن الرجل كان مضطراً لذلك لأسباب معيشية، أو مجبراً عليه من قبل حكومته، بدليل أنه لم ينس حلمه في التحول إلى مستعرب، وراح يكتب خطابات إلى «نيقولاي مار» عميد الكلية الشرقية بمعهد التاريخ والدراسات اللغوية في لينينغراد (سانت بطرسبورغ حالياً)، ملتمساً قبوله في الكلية. وحينما جاءه القبول، سارع بالانتقال من الدونباس إلى لينينغراد للالتحاق بالكلية المذكورة، حيث تخصص في دراسة اللغة العربية وآدابها وتاريخ الشرق الأوسط.
هذا الحدث في حياته، شكل منعطفاً مهماً في مسيرته، لأنه أتاح له فرصة التعرف والإطلاع على ما لم يكن يعرفه من تاريخ ومعارف المنطقة العربية. وبدأت رحلته مع الاستشراق تحديداً، حينما أطلعه أستاذه المستشرق الروسي «أغناطيوس كرانشكوفسكي» (1883 ــ 1951) على مخطوطة تتعلق بالملاح الجلفاري (نسبة إلى جلفار وهو الاسم القديم لإمارة رأس الخيمة) أحمد بن ماجد ودوره في مرافقة الرحالة البرتغالي «فاسكو دي غاما» في رحلاته الاستكشافية.
كان كرانشكوفسكي وقتها قد أطلع على أحد أعمال المستشرق الفرنسي «جبراييل فيران»، وتبين له أن الأخير عثر في المكتبة الوطنية بباريس على مخطوطة للرحالة البرتغالي فاسكو دي غاما تحت اسم «ماليمو لانكا» حول أول رحلة للبرتغاليين في المحيط الهادي سنة 1498. فعمل كرانشكوفسكي على فك لغز هذه المخطوطة الفريدة.
وبعد مكاتبات واتصالات عدة بالمستشرق الفرنسي تبين له أن المخطوطة منقولة عن «كتاب الفوائد في أصول علم البحر والقواعد» لأحمد بن ماجد، فراح يشتغل على قراءته ودراسته بتمعن، ليكتشف أنه مكون من ثلاثة مصنفات في إرشاد الملاحة، كرس أوله للبحر الأحمر، وثانيه لمياه شواطئ أفريقيا الشرقية، وثالثه للمحيط الهندي.
وفي عام 1937 وقعت المخطوطة في يد تشوموفسكي، فهيأ نفسه لفحصها مع ترجمة «كتاب الفوائد» لابن ماجد من أجل المقارنة، لكن قيام الحرب العالمية الثانية حال دون أن ينفذ عمله البحثي بنفسه، فعهد بالمهمة لتلميذه تشوموفسكي، فأقبل الأخير بشغف ونشاط منذ عام 1938على تنفيذ المهمة الموكلة إليه من أستاذه، لكن ما حال دون إتمام عمله هو اعتقاله من قبل حكومة ستالين والزج به في المعتقل من عام 1938 إلى 1948 بتهمة زائفة هي الاشتراك مع آخرين في تشكيل تنظيم سري ضد الدولة، فيما كان السبب الحقيقي هو قيامه بنشر مقال دافع فيه عن أستاذه كرانشكوفسكي، بعيد اعتقال الأخير بتهمة «عبادة الغرب والسجود له».
في السجن، اعتمد صاحبنا على ذاكرته في مواصلة عمله العلمي، كما انتهز الفرصة للانشغال بلغات الشعوب العربية والشرقية ودراستها، وبأعمال الترجمة والتأريخ. ليس هذا فحسب، وإنما قام أيضاً بدراسة مبادئ الطب والتمريض، ما مكنه من العمل مساعداً لطبيب المعتقل.
وبعد الإفراج عنه من المعتقل الستاليني سنة 1948، عاد إلى مواصلة أبحاثه ودراسته، لكن سرعان ما صدر قرار بنفيه مع الآلاف من مواطنيه إلى سيبيريا، حيث أمضى ثمانية أعوام انتهت بالإفراج عنه في عام 1956، ليعود إلى أبحاثه، ويضع اللمسات الأخيرة لرسالة دكتوراه أنجزها في منفاه السيبيري الموحش بعنوان «ثلاث رسائل مجهولة لابن ماجد»، وهي الأطروحة التي نوقشت لاحقاً بجامعة لينينغراد وحصل بموجبها على درجة الدكتوراه.
ومما لا شك فيه أن تشوموفسكي بذل جهداً خارقاً في ترجمة وتفسير «كتاب الفوائد» في النصف الثاني من خمسينات القرن العشرين. وفي هذا السياق، دعونا نقرأ النص التالي الذي كتبه الرجل بنفسه: «.. وكنت كمن يحرث أرضاً بكراً لم يمسها أحد من قبل مما اضطرني إلى التشبث بالخيط الذي يربط بين أفكار المؤلف، ما أن يفلت من يدي حتى أعود ثانية لقراءة ما قطعته من النص. وإذا ما وفقت بالإمساك بطرفه ثانية أثبته بالترجمة حالاً.
وتذكر أخي القارئ أنك قد تصطدم في مثل هذه الحالة بوضع يذكرك أن الفكرة بين يديك قد وردت في النص سابقاً، آنذاك عليك أن تشرع في البحث عنها في طيات صفحات كثيرة سبق وأنجزتها، وعندما تجد الفكرة أو ما يشبهها أعد قراءتها وقارنها بما أنت عليه. ثم أعد القراءة وأعد المقارنة كيلا تخطئ وخلال فترة 10 إلى 12 ساعة يومياً من العمل الشاق المتوتر والمتواصل كنت أتقدم أحياناً بضعة أسطر لا غير..».
ولعل أبلغ دليل على ضخامة عمل تشوموفسكي هو أن ترجمة وشرح «كتاب الفوائد» الواقع في 177 صفحة فقط، تطلبت منه كتابة 2722 ملاحظة توضيحية.
وحينما أنجز عمله كتب: «ما أنجزناه من البحث يتيح ليس للمنطق فحسب، بل وللخبرة الإنسانية أيضاً أن ترى وراء هذا العمل الموسوعي ثقافة بحرية عريقة ومتطورة شكلت مهداً للملاحة الأوروبية. لكن غزاة الشرق الأوروبيين أبادوها في القرن السادس عشر».
في عام 1963، وبعد انتهاء الحقبة الستالينية السوداء، تم إعادة الاعتبار إليه نهائياً، كنتيجة لرسائل وتظلمات كثيرة تقدم بها إلى السلطات، طالباً تبرئته من التهم التي وجهت إليه. وعلى إثر ذلك، انصرف كلياً إلى النشر والتأليف.
والملاحظ أن التنقيبات البحثية لتشوموفسكي إبان كتابة أطروحته للدكتوراه عن ابن ماجد أغرقته في لجج البحار والمحيطات وجعلته عاشقاً لكل ما يمت بصلة إلى الملاحة البحرية القديمة في الخليج.
إذ أقدم على كتابة أطروحة دكتوراه ثانية بعنوان «الموسوعة البحرية العربية في القرن الخامس عشر»، اعتمد فيها على ترجمة «كتاب الفوائد في أصول علم البحر والقواعد» لأحمد ابن ماجد، وهو كتاب انتهى ابن ماجد من تأليفه في عام 895 للهجرة، ووصفه الدكتور أنور عبد العليم بـ «دستور البحر» كناية عن احتوائه على أبعاد قيمية وأخلاقية وإنسانية وقانونية كانت تضبط عمل الملاحين المسلمين وتميزهم عن غيرهم.
قلنا إن صاحبنا بعد أن رد إليه الاعتبار، انصرف إلى النشر والتأليف، حتى وفاته في عام 2012، فنشر أطروحتيه للدكتوراه في كتابين، ثم أضاف إليهما في عام 1975 كتاب «في بحر الاستعراب»، ثم كتاب «مذكرات مستعرب» في عام 1978، وجميعها مؤلفات أثارت انتباه الأوساط الأكاديمية، بل أثارت الكثير من الجدل كونها احتوت على وجهات نظر جديدة وجريئة حول موضوع الاستعراب والاستشراق في الاتحاد السوفييتي السابق.
وبعد إحالته إلى التقاعد، وجد أوقات فراغ أطول، فراح يستغلها في رفد المكتبة السوفييتية بالمزيد من المؤلفات. فأصدر في عام 1986 طبعة منقحة من كتابه «الموسوعة البحرية العربية»، وأصدر كتابين جديدين هما: «على أثر السندباد البحري» سنة 1986، و«آخر أسود بحار العرب» سنة 1990.
يمكن القول إن من مآثر تشوموفسكي أن أبحاثه وكتاباته كانت سبباً في أن يستأثر تاريخ عمان والإمارات وتاريخ جنوب الجزيرة العربية القديمين باهتمام كبير في روسيا، خصوصاً في أعقاب اكتشاف علماء الآثار لمدينة «أوبار» الأسطورية التي ورد ذكرها في كتاب أبو التاريخ «هيرودوت»، وفي كتابات العالم الإغريقي «بطليموس»، وأسماها لورنس العرب بـ «أطلنطس الرمال».
وأوبار، أو المدينة المفقودة، ظلت طوال قرون من أكبر أسرار الشرق الأوسط الغامضة، إلى أن ساهمت اكتشافات علماء الآثار الأجانب في تسعينات القرن الماضي في معرفة مكانها وتاريخها ودورها في الماضي، حيث تم تحديد موقعها في محافظة ظفار العمانية في منطقة تعرف باسم شصر، وتحديد تاريخها بخمسة آلاف عام قبل الميلاد، وتبين أنها لعبت دوراً محورياً في الماضي لجهة مرور القوافل البرية عبرها إلى مناطق الجزيرة العربية، وفي تجارة المر واللبان والصمغ العربي والعطور.
كما وأن دراسات وأبحاث تشوموفسكي عن الملاحة البحرية دفعت علماء وبحاثة روس آخرين إلى الاهتمام بإنجازات العمانيين والإماراتيين في ميدان الملاحة البحرية ومراكز التجارة البحرية القديمة التي ازدهرت إبان حضارتي «ماجان» العمانية، و«جلفار» الإماراتية.
ومن هؤلاء العالم الروسي «أندريه شغاكوف» الذي سجل عنه قوله: «إن أبناء عمان وإمارات الساحل كانوا أول أمة عبرت المحيط الهندي، وقد فعلوا ذلك قبل الفينيقيين والمصريين والفرس والهنود والصينيين واليونانيين والرومان بزمن بعيد». وهذه المقولة لا تحمل في طياتها أي مبالغة.
فالسفن العمانية والإماراتية والكويتية، ذات المواصفات العالية لجهة الحجم والسرعة والمرونة، ظلت تبحر لقرون طويلة إلى إندونيسيا وجنوب الصين وموانئ شبه القارة الهندية ومدغشقر وزنجبار، وكانت سبباً في تركز التجارة والنقل البحري في أيدي التجار والبحارة العرب.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


البيان
منذ 3 ساعات
- البيان
حيرة المالح.. بين تراثنا واليونيسكو
لقد وجدت خلال بحث استمر أكثر من 40 عاماً أن الإمارات تحتفظ بما يزيد على 300 حرفة رئيسية وفرعية، تتوزع بين البحر والجبل، وبين البادية والساحل، ولكل منها لغتها وتقنيتها ومناسباتها. من «المطوع» في التعليم الشعبي إلى «النهّام» في البحر، ومن «الزري» في تزيين الملابس النسائية إلى «المبخرة»، التي تستخدم في الطقوس والمجالس. دعونا نتصور «هيئة وطنية للتراث غير المادي» تُعنى حصرياً بهذا الجانب، توثق، تصنف، تسجل، وتفعّل، بحيث لا يبقى تراثنا حبيس المناسبات.


صحيفة الخليج
منذ 3 ساعات
- صحيفة الخليج
«أمريكية رأس الخيمة».. الأقل بالانبعاثات الدفيئة
أظهرت تقارير أولية، أن حرم الجامعة الأمريكية في رأس الخيمة يُصدر أقل نسبة انبعاثات للغازات الدفيئة بين جامعات الإمارات، نحو تحقيق أهداف الاستدامة المحددة في خطة عمل الاستدامة الخمسية للجامعة. وأشار التقرير إلى أن الجامعة تمتلك أقل انبعاثات من الغازات الدفيئة للفرد الواحد، والتي تبلغ 3.67 طن متري من مكافئ ثاني أكسيد الكربون، على عكس ثلاث جامعات أخرى، التي تراوحت انبعاثاتها بين 5.68 إلى 7.59 طن متري. هدف طموح حددت الجامعة هدفاً طموحاً لخفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بنسبة 20% بحلول عام 2030، عبر استخدام المركبات، التي تعتمد على مصادر وقود الطاقة البديلة، وتقليل الاعتماد على المولدات الاحتياطية في الموقع، والتوسع في مصادر الطاقة المتجددة بالحرم الجامعي. وقال البروفيسور ستيفن ويلهايت، نائب الرئيس الأول للشؤون الأكاديمية، إن الجامعة تأخذ الاستدامة على محمل الجد، وتلتزم بمواءمة إجراءات الاستدامة لديها مع المبادرة الاستراتيجية «صافي صفر بحلول عام 2050»، عن طريق الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، بالاستخدام المكثف للطاقة الشمسية، واعتماد وسائل النقل النظيفة، والالتزام بلوائح المباني الخضراء، وتطبيق أنظمة النفايات الدائرية، ودمج الزراعة مع الحلول القائمة على الطبيعة. فيما قال البروفيسور تحسين أنور، العميد المشارك للأبحاث والاستدامة ومدير مركز الابتكار وريادة الأعمال بالجامعة، إن خطة عمل الاستدامة تعد مخططاً لتقليل بصمتها الكربونية، والمساهمة في تحقيق الهدف 13 من أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة: العمل المناخي. وتؤكد نتائج التقرير التزام الجامعة بأن تكون مساهمة فاعلة في الجهود الدولية للحد من الاحتباس الحراري، مع مشاركتها في أبحاثتركز على إيجاد حلول بديلة للحفاظ على البيئة.


البيان
منذ 8 ساعات
- البيان
تيودور تشوموفسكي.. روسي شغف بتاريخ الملاحة العربية
الرحالة الأجانب الذين اهتموا بدراسة أحوال الخليج والجزيرة العربية لأسباب مختلفة، وجلهم الأعظم من غرب أوروبا، أكثر من أن يحصوا، لكن نظراءهم من شرق أوروبا أقل بكثير. ولهذا لم يُكتب سوى القليل عن هؤلاء وعن جهودهم واهتمامهم بالعلوم الاستشراقية الخاصة بمنطقتنا. فعلى سبيل المثال، لا نجد أبحاثاً كثيرة، كتبت بأقلام خليجية عن إسهامات المستشرقين الروس في التدوين الجغرافي والتاريخي والاجتماعي والملاحي لدول المنطقة ودول المشرق العربي بصفة عامة. ومن هنا ارتأينا تسليط الضوء على أحد المستشرقين الروس الأكثر شهرة ضمن قافلة الرحالة والبحاثة الذين وجهوا جهودهم وأبحاثهم وكتاباتهم نحو تاريخ منطقتنا وتطورها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. هذا المستشرق أو المستعرب الروسي هو «تيودور آدموفيتش تشوموفسكي» الذي كرس حياته لدراسة القرآن الكريم وترجمته شعراً، والتنقيب في الكتب والمخطوطات والترجمات المعنية بالملاحة العربية والبحار والمحيطات المشاطئة لأقطار الخليج وشبه الجزيرة العربية، ونشر الإصدارات الخاصة بحياة الملاح الإماراتي العربي الأشهر أحمد بن ماجد (1421 ــ 1500) وقبل أن نتعرف على سيرة تشوموفسكي بالتفصيل، يجدر بنا الإشارة إلى أن الروس أمة مجبولة منذ القدم على الترحال والتجوال في العالم لأغراض الاستكشاف والكتابة عن الأمم والشعوب والأماكن المجهولة، وإن قيدت تحركاتهم بعد قيام الاتحاد السوفييتي. فعلى يد البحار القوقازي الروسي «شمعون دزنوف» مثلاً تم في عام 1648 اكتشاف مضيق «بيرين» الفاصل بين قارة آسيا وقارة أمريكا الشمالية، وفي عام 1820 اكتشف الرحالان الروسيان «فاديم بيلينس» و«ميخائيل فلازيريف» المحيط المتجمد الشمالي، الذي ينسب اكتشافه أيضاً إلى آخرين. ولد تشوموفسكي في الثاني من فبراير عام 1013، بمدينة «جيتومير» الأوكرانية، ابناً لأسرة من أصول بولندية، حيث كانت أمه «أماليا فومينسكايا» عازفة بيانو، ووالده «آدم تشوموفسكي» موظفاً في أحد المصارف. ولأنه أمضى طفولته في بلدة «شيماخي»، العاصمة القديمة لإمارة «شروان»، التي كانت قائمة بوسط وغرب أذربيجان الحالية حيث المساجد والمعالم الإسلامية والخطوط والنقوش العربية، فقد تولع صاحبنا منذ طفولته بتلك النقوش والخطوط وأبدى شغفاً بتعلم العربية، وحلم مذاك بأن يصبح مستعرباً. بدأ تشوموفسكي مسيرته الدراسية بالالتحاق بكلية التعدين في إقليم الدونباس بشرق أوكرانيا، وهي كلية تاريخية تأسست سنة 1899 لتخريج متخصصين في مجال الجيولوجيا والتعدين. وبعد تخرجه عمل في مناجم الفحم الأوكرانية بالمنطقة نفسها. ويبدو أن الرجل كان مضطراً لذلك لأسباب معيشية، أو مجبراً عليه من قبل حكومته، بدليل أنه لم ينس حلمه في التحول إلى مستعرب، وراح يكتب خطابات إلى «نيقولاي مار» عميد الكلية الشرقية بمعهد التاريخ والدراسات اللغوية في لينينغراد (سانت بطرسبورغ حالياً)، ملتمساً قبوله في الكلية. وحينما جاءه القبول، سارع بالانتقال من الدونباس إلى لينينغراد للالتحاق بالكلية المذكورة، حيث تخصص في دراسة اللغة العربية وآدابها وتاريخ الشرق الأوسط. هذا الحدث في حياته، شكل منعطفاً مهماً في مسيرته، لأنه أتاح له فرصة التعرف والإطلاع على ما لم يكن يعرفه من تاريخ ومعارف المنطقة العربية. وبدأت رحلته مع الاستشراق تحديداً، حينما أطلعه أستاذه المستشرق الروسي «أغناطيوس كرانشكوفسكي» (1883 ــ 1951) على مخطوطة تتعلق بالملاح الجلفاري (نسبة إلى جلفار وهو الاسم القديم لإمارة رأس الخيمة) أحمد بن ماجد ودوره في مرافقة الرحالة البرتغالي «فاسكو دي غاما» في رحلاته الاستكشافية. كان كرانشكوفسكي وقتها قد أطلع على أحد أعمال المستشرق الفرنسي «جبراييل فيران»، وتبين له أن الأخير عثر في المكتبة الوطنية بباريس على مخطوطة للرحالة البرتغالي فاسكو دي غاما تحت اسم «ماليمو لانكا» حول أول رحلة للبرتغاليين في المحيط الهادي سنة 1498. فعمل كرانشكوفسكي على فك لغز هذه المخطوطة الفريدة. وبعد مكاتبات واتصالات عدة بالمستشرق الفرنسي تبين له أن المخطوطة منقولة عن «كتاب الفوائد في أصول علم البحر والقواعد» لأحمد بن ماجد، فراح يشتغل على قراءته ودراسته بتمعن، ليكتشف أنه مكون من ثلاثة مصنفات في إرشاد الملاحة، كرس أوله للبحر الأحمر، وثانيه لمياه شواطئ أفريقيا الشرقية، وثالثه للمحيط الهندي. وفي عام 1937 وقعت المخطوطة في يد تشوموفسكي، فهيأ نفسه لفحصها مع ترجمة «كتاب الفوائد» لابن ماجد من أجل المقارنة، لكن قيام الحرب العالمية الثانية حال دون أن ينفذ عمله البحثي بنفسه، فعهد بالمهمة لتلميذه تشوموفسكي، فأقبل الأخير بشغف ونشاط منذ عام 1938على تنفيذ المهمة الموكلة إليه من أستاذه، لكن ما حال دون إتمام عمله هو اعتقاله من قبل حكومة ستالين والزج به في المعتقل من عام 1938 إلى 1948 بتهمة زائفة هي الاشتراك مع آخرين في تشكيل تنظيم سري ضد الدولة، فيما كان السبب الحقيقي هو قيامه بنشر مقال دافع فيه عن أستاذه كرانشكوفسكي، بعيد اعتقال الأخير بتهمة «عبادة الغرب والسجود له». في السجن، اعتمد صاحبنا على ذاكرته في مواصلة عمله العلمي، كما انتهز الفرصة للانشغال بلغات الشعوب العربية والشرقية ودراستها، وبأعمال الترجمة والتأريخ. ليس هذا فحسب، وإنما قام أيضاً بدراسة مبادئ الطب والتمريض، ما مكنه من العمل مساعداً لطبيب المعتقل. وبعد الإفراج عنه من المعتقل الستاليني سنة 1948، عاد إلى مواصلة أبحاثه ودراسته، لكن سرعان ما صدر قرار بنفيه مع الآلاف من مواطنيه إلى سيبيريا، حيث أمضى ثمانية أعوام انتهت بالإفراج عنه في عام 1956، ليعود إلى أبحاثه، ويضع اللمسات الأخيرة لرسالة دكتوراه أنجزها في منفاه السيبيري الموحش بعنوان «ثلاث رسائل مجهولة لابن ماجد»، وهي الأطروحة التي نوقشت لاحقاً بجامعة لينينغراد وحصل بموجبها على درجة الدكتوراه. ومما لا شك فيه أن تشوموفسكي بذل جهداً خارقاً في ترجمة وتفسير «كتاب الفوائد» في النصف الثاني من خمسينات القرن العشرين. وفي هذا السياق، دعونا نقرأ النص التالي الذي كتبه الرجل بنفسه: «.. وكنت كمن يحرث أرضاً بكراً لم يمسها أحد من قبل مما اضطرني إلى التشبث بالخيط الذي يربط بين أفكار المؤلف، ما أن يفلت من يدي حتى أعود ثانية لقراءة ما قطعته من النص. وإذا ما وفقت بالإمساك بطرفه ثانية أثبته بالترجمة حالاً. وتذكر أخي القارئ أنك قد تصطدم في مثل هذه الحالة بوضع يذكرك أن الفكرة بين يديك قد وردت في النص سابقاً، آنذاك عليك أن تشرع في البحث عنها في طيات صفحات كثيرة سبق وأنجزتها، وعندما تجد الفكرة أو ما يشبهها أعد قراءتها وقارنها بما أنت عليه. ثم أعد القراءة وأعد المقارنة كيلا تخطئ وخلال فترة 10 إلى 12 ساعة يومياً من العمل الشاق المتوتر والمتواصل كنت أتقدم أحياناً بضعة أسطر لا غير..». ولعل أبلغ دليل على ضخامة عمل تشوموفسكي هو أن ترجمة وشرح «كتاب الفوائد» الواقع في 177 صفحة فقط، تطلبت منه كتابة 2722 ملاحظة توضيحية. وحينما أنجز عمله كتب: «ما أنجزناه من البحث يتيح ليس للمنطق فحسب، بل وللخبرة الإنسانية أيضاً أن ترى وراء هذا العمل الموسوعي ثقافة بحرية عريقة ومتطورة شكلت مهداً للملاحة الأوروبية. لكن غزاة الشرق الأوروبيين أبادوها في القرن السادس عشر». في عام 1963، وبعد انتهاء الحقبة الستالينية السوداء، تم إعادة الاعتبار إليه نهائياً، كنتيجة لرسائل وتظلمات كثيرة تقدم بها إلى السلطات، طالباً تبرئته من التهم التي وجهت إليه. وعلى إثر ذلك، انصرف كلياً إلى النشر والتأليف. والملاحظ أن التنقيبات البحثية لتشوموفسكي إبان كتابة أطروحته للدكتوراه عن ابن ماجد أغرقته في لجج البحار والمحيطات وجعلته عاشقاً لكل ما يمت بصلة إلى الملاحة البحرية القديمة في الخليج. إذ أقدم على كتابة أطروحة دكتوراه ثانية بعنوان «الموسوعة البحرية العربية في القرن الخامس عشر»، اعتمد فيها على ترجمة «كتاب الفوائد في أصول علم البحر والقواعد» لأحمد ابن ماجد، وهو كتاب انتهى ابن ماجد من تأليفه في عام 895 للهجرة، ووصفه الدكتور أنور عبد العليم بـ «دستور البحر» كناية عن احتوائه على أبعاد قيمية وأخلاقية وإنسانية وقانونية كانت تضبط عمل الملاحين المسلمين وتميزهم عن غيرهم. قلنا إن صاحبنا بعد أن رد إليه الاعتبار، انصرف إلى النشر والتأليف، حتى وفاته في عام 2012، فنشر أطروحتيه للدكتوراه في كتابين، ثم أضاف إليهما في عام 1975 كتاب «في بحر الاستعراب»، ثم كتاب «مذكرات مستعرب» في عام 1978، وجميعها مؤلفات أثارت انتباه الأوساط الأكاديمية، بل أثارت الكثير من الجدل كونها احتوت على وجهات نظر جديدة وجريئة حول موضوع الاستعراب والاستشراق في الاتحاد السوفييتي السابق. وبعد إحالته إلى التقاعد، وجد أوقات فراغ أطول، فراح يستغلها في رفد المكتبة السوفييتية بالمزيد من المؤلفات. فأصدر في عام 1986 طبعة منقحة من كتابه «الموسوعة البحرية العربية»، وأصدر كتابين جديدين هما: «على أثر السندباد البحري» سنة 1986، و«آخر أسود بحار العرب» سنة 1990. يمكن القول إن من مآثر تشوموفسكي أن أبحاثه وكتاباته كانت سبباً في أن يستأثر تاريخ عمان والإمارات وتاريخ جنوب الجزيرة العربية القديمين باهتمام كبير في روسيا، خصوصاً في أعقاب اكتشاف علماء الآثار لمدينة «أوبار» الأسطورية التي ورد ذكرها في كتاب أبو التاريخ «هيرودوت»، وفي كتابات العالم الإغريقي «بطليموس»، وأسماها لورنس العرب بـ «أطلنطس الرمال». وأوبار، أو المدينة المفقودة، ظلت طوال قرون من أكبر أسرار الشرق الأوسط الغامضة، إلى أن ساهمت اكتشافات علماء الآثار الأجانب في تسعينات القرن الماضي في معرفة مكانها وتاريخها ودورها في الماضي، حيث تم تحديد موقعها في محافظة ظفار العمانية في منطقة تعرف باسم شصر، وتحديد تاريخها بخمسة آلاف عام قبل الميلاد، وتبين أنها لعبت دوراً محورياً في الماضي لجهة مرور القوافل البرية عبرها إلى مناطق الجزيرة العربية، وفي تجارة المر واللبان والصمغ العربي والعطور. كما وأن دراسات وأبحاث تشوموفسكي عن الملاحة البحرية دفعت علماء وبحاثة روس آخرين إلى الاهتمام بإنجازات العمانيين والإماراتيين في ميدان الملاحة البحرية ومراكز التجارة البحرية القديمة التي ازدهرت إبان حضارتي «ماجان» العمانية، و«جلفار» الإماراتية. ومن هؤلاء العالم الروسي «أندريه شغاكوف» الذي سجل عنه قوله: «إن أبناء عمان وإمارات الساحل كانوا أول أمة عبرت المحيط الهندي، وقد فعلوا ذلك قبل الفينيقيين والمصريين والفرس والهنود والصينيين واليونانيين والرومان بزمن بعيد». وهذه المقولة لا تحمل في طياتها أي مبالغة. فالسفن العمانية والإماراتية والكويتية، ذات المواصفات العالية لجهة الحجم والسرعة والمرونة، ظلت تبحر لقرون طويلة إلى إندونيسيا وجنوب الصين وموانئ شبه القارة الهندية ومدغشقر وزنجبار، وكانت سبباً في تركز التجارة والنقل البحري في أيدي التجار والبحارة العرب.