logo
أيها العائد إلى الماضي.. ارجع من حيث أتيت

أيها العائد إلى الماضي.. ارجع من حيث أتيت

الجزيرةمنذ 5 أيام

أهذا أنت يا صاح؟ أم هو طيفك انجلى ويحلق فوق المكان؟
هل عدت حقًا؟ هل شدك الحنين إلى غزة؟ هل مالت نفسك لنسيمها، وموج بحرها؟ هل اشتقت للتمدد فوق رمال شواطئها وتسريح بصرك في الأفق؟ أم تراك افتقدت عبق الزهر والأقحوان، وتقت لأحاديث البحارة وصخب الأطفال وضجيج الأسواق؟ ما بالك عدت إلى الجحيم بعد أن حملت الوطن في حقيبة؟ أطردت من الجنة أم إنك لم تهنأ في النعيم؟
اعذرني يا صاح، بالكاد أتبين ملامحك وقسمات وجهك بين أعمدة الدخان وظلال السراب.. وكوفيتك، هل تخليت عنها؟ اعذرني لأن عيني غائرتان وتعلوهما الغشاوة؛ فما عدت أرى إلا أشباحًا تتراقص هنا وهناك، وظلالًا تتلاطم كالموج الهادر، ومواكب تشييع صامتة.
هل تعرفت على الديار.. على جباليا، وتل الزعتر، وحي السلطان؟ كيف تلمست دربك بين الظلمة والسواد؟ كيف اخترقت الموت والصمت؟ أم تراك تهت أنت أيضًا في بطن الصحراء، وتعثرت بين الركام؟
اعذرني، إذ لن أقوى على النهوض لاستقبالك، إنه الوهن نال مني، وأصابني الخور.. أصخ السمع جيدًا! هل وصلك صدى صوتي المبحوح؟ هل سمعت قرقرة أمعائي الفارغة، وهدر الكلاب الضالة، ومواء القطط الجائعة من حولي؟ أرأيت حمم الموت القادمة من السماء بسخاء؟
إن أخذتني سِنة من النوم أيقظني، ودعني أحدق مليًا في بياض الجدران وزرقة السماء، علها تخلصني من كوابيسي المفزعة، وتمحو من مخيلتي المشوشة وجوه الأطفال البريئة، ونواح الأرامل، ومشاهد الأشلاء المتطايرة
هل أتاك حديث الفاجعة؟ هل تناهت إلى مسامعك مذبحة أهلنا في غزة هاشم؟ أبلغك ما آل إليه حالنا؟ فادحة هي تراجيديا غزة، ندب عميق في جسدنا وفي ذاكرتنا.. وصمة عار في جبيننا! ما كان خيال إيسخيلوس ليشطح إلى هذا الحد، ولا أن يجمح فيتمثل في مسرحيات محرقة مرعبة كهذه، ولا الفراعنة وبني كنعان، ولا حتى الإغريق والرومان.. وكل عابر سبيل ارتوى من ماء هذه الأرض وشبع من زرعها.
اعذرني يا صاح إن أثقلت عليك بالسؤال تلو السؤال، إذ استغربت عودتك ونحن على هذا الحال! لقد صرنا أمواتًا بين الأحياء، وأحياء بين الأموات، وبيننا أجساد لا تأكلها الأرض، وأرواح لا تقيدها أغلال، وشلالات دماء لا تتوقف! هل صادفت في مسيرك قوافل الأيتام والثكالى؟ هل مررت بطوابير الحفاة والجياع وقد اجتمعوا على موائد اللئام؟
إعلان
مذ غادرتنا ذات صباح وأيامنا باتت تتشابه، تتواتر، وأخبارنا ذاعت في العالم ولاكتها الألسن.. صرنا نذبح فرادى وجماعات في مصائد الموت، نساق إليها في صمت كما تساق الشياه وقطعان الأنعام، تتربص بنا المنون في كل ساعة وحين. نحن يا صاح قوم لا نحيا إلا لنموت! وقاتلنا يطل من شرفة بيتنا، يشحذ سكينه ويبتسم!!
أيها العائد إلى الماضي، رجاء عد من حيث أتيت.. أستحلفك بالله أن تعود إلى منفاك، إلى غربتك، إلى مستقبلك. يا صاح، أما زلت بيننا؟ أم هو طيفك يترنح؟ ما بالك تسير الهوينى؟ أما عافت نفسك كل هذا الدمار وهذا الكم من الغم والأحزان؟
لقد بحت أصواتنا بكاءً وعويلًا، جف ريقنا طلبًا واستجداءً، وما من مجيب ولا مغيث.
اعذرني إذ فاتني في حمأة الأسى والوجع أن أخبرك أننا صرنا -في غفلة من أمرنا- عبيدًا في مملكتنا، غرباء في أرضنا وأذلة بلا عزة. اعذرني يا صاح!!
فإن أخذتني سِنة من النوم أيقظني، ودعني أحدق مليًا في بياض الجدران وزرقة السماء، علها تخلصني من كوابيسي المفزعة، وتمحو من مخيلتي المشوشة وجوه الأطفال البريئة، ونواح الأرامل، ومشاهد الأشلاء المتطايرة.
أيها العائد إلى الماضي، رجاء عد من حيث أتيت.. أستحلفك بالله أن تعود إلى منفاك، إلى غربتك، إلى مستقبلك. يا صاح، أما زلت بيننا؟ أم هو طيفك يترنح؟ ما بالك تسير الهوينى؟ أما عافت نفسك كل هذا الدمار وهذا الكم من الغم والأحزان؟
احمل ما شئت من حبات الرمل، وما وسعت يداك من أغصان الزيتون والزعتر، واجمع شتات أحلامك وآمالك وارحل. ودع من شئت وارحل، فلا مستقبل في غزة للأحياء!!
أما أنا، أنا من أدمن الحزن، فسأبقى هنا لمؤانسة الشهداء في قبورهم، وأسقي زهور السوسن والقرنفل الحزينة بدمي وعبراتي.. فذاك قدري، لا خياري!!

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

"أثر الصورة".. تاريخ فلسطين المخفي عبر أرشيف واصف جوهرية الفوتوغرافي
"أثر الصورة".. تاريخ فلسطين المخفي عبر أرشيف واصف جوهرية الفوتوغرافي

الجزيرة

timeمنذ 20 ساعات

  • الجزيرة

"أثر الصورة".. تاريخ فلسطين المخفي عبر أرشيف واصف جوهرية الفوتوغرافي

يمضي كتاب "أثر الصورة.. الفوتوغرافيا وتاريخ فلسطين المهمش" أبعد مما هو مألوف في دراسات الأرشيف البصري. هذا العمل، الذي وضعه الباحثون عصام نصار وإسطفان شيحا وسليم تماري، ليس بحثا في الصور بقدر ما هو تدخل منهجي في خطاب ما بعد الاستعمار؛ يعامل الصورة بوصفها وسيلة لإنتاج المعنى، واستعادة المعارف المضطهدة، وتخيل ما كان يمكن أن يكون تاريخا محتملا لم تتح له فرصة التحقق على الأرض. الكتاب، الصادر حديثا عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية بترجمة سعود المولى، يتمحور حول أرشيف الفلسطيني واصف جوهرية (1897-1973)، الذي جمع نحو 900 صورة في مشروع بدأه عام 1924 وانتهى عام 1948. ووزع الموسيقي صوره على سبعة ألبومات معنونة بـ"تاريخ فلسطين المصور"، رافقتها مذكرات مكتوبة بخط اليد تقع في ثلاثة مجلدات، إلى جانب فهرس مرجعي للصور. نجا هذا الأرشيف بأعجوبة من النهب أثناء الاحتلال، إذ أخفاه جوهرية داخل جدار في منزله بالقدس. ثم بمساعدة زوج ابنته تمكّن من استعادته، حيث أسهمت العائلة، بالتعاون مع مؤسسة الدراسات الفلسطينية، في إتاحته لأغراض هذا البحث. لكن هذا ليس أرشيفا بالمعنى الحيادي، فلم يكن صاحبه مجرد جامع للصور، بل راويا بصريا انتقائيا يعنون ويختار ويشرح ويحذف. ورغم عمله موظفا في الإدارة البريطانية، فإنه يحتفي بالعهد العثماني ويكرسه في صوره، كما لو أنه يرفض الاعتراف بأفوله. في المقابل، حين تصل عدسته إلى زمن الانتداب البريطاني، تتكثف المفارقات؛ فتتجاور صور طقوس وأعياد وحفلات موسيقية مع صور مشانق وموكب جنرالات وتفاصيل يومية للحياة الحضرية. يقارب كل فصل من فصول الكتاب هذه المادة الأرشيفية الضخمة من زاوية مختلفة. إذ يقول الكتاب الثلاثة في المقدمة "استخدمنا أدوات تحليل تستند إلى تخصصاتنا في مجالات التاريخ والاجتماع والدراسات البصرية، وإلى اهتمامنا بتوثيق فلسطين في النصف الأول من القرن العشرين وتحليله ونقده". ويقدم العمل ككل صورة للعلاقات الاجتماعية في زمن واصف في القدس، ولدور الموثق والجامع للمواد الأرشيفية، ولإمكان تحول المقتنيات الخاصة إلى مادة لنقد الاستعمار بصورة نظرية. كما أن الكتاب بحسب المؤلفين "هو إعادة اعتبار الفلسطيني كإنسان ضمن سياق اجتماعي وبلد عادي تماما". عصام نصار.. الفوتوغرافيا بوصفها سردًا تكتسب "المجموعة الجوهرية"، كما أسماها صاحبها، أهمية زائدة بسبب "الخسارة المادية لموضوعها الأصلي: القدس كما كانت في عصره"، وفقًا لنصار. ولعل القيمة الأبرز لهذه الألبومات تكمن في قدرتها على منازعة رواية المنتصر، فهي تحضر كذاكرة مضادة لما أراده المشروع الصهيوني من محوٍ تامّ لمشهد التعدّد الثقافي والديني الذي طبع فلسطين ما قبل النكبة كما رآها ساكنوها، لا كما أرّخها المنتصرون. في ألبومه الأول، يفتتح جوهرية بمجموعة صور لا تخصه شخصيا. نرى، مثلا، زيارة القيصر الألماني فيلهلم الثاني إلى القدس عام 1898، أي حين لم يكن واصف قد تجاوز عامه الثاني. إن بداية مثل هذه لا يكون فيها جوهرية شاهدًا مباشرا تكشف أنه لم يكن معنيا بالتأريخ الشخصي بل بالذاكرة الجمعية. ومن بين الصور لقطة دخول الضباط البريطانيين القدس عام 1917، التُقطت بعدسة مصور من الكولونية الأميركية، وروِّجت عالميًّا بوصفها لحظة مجد استعماري. بيد أن جوهرية لا يذكر أسماء الجنرالات فيها، بل يكتب ببساطة "كنت في هذا اليوم (..) بضيافة أختنا عفيفة.. أذكر أن جميع الطوائف المسيحية دقت الأجراس..". لا تتكلم الصور، في تعليقاته، عن السلطة ولا الحدث، بل عن الحضور الفلسطيني. يلحظ نصار التحول في الألبومات من سجلّ اجتماعي لطبقة وسطى عثمانية إلى سردية وطنية ضمنية تتقاطع فيها مشاهد الموسيقى والأعياد مع لحظات الحرب والمآسي. صور من انتفاضات ومذابح، حفلات راقية وجماهير غاضبة، جميعها تتساوى في الألبوم. لكن نصّار يتوقف بشكل خاص عند مشهد نادر من الألبوم الثاني، حيث يخصّص واصف مساحة لضحايا مجزرة الخليل من اليهود، حيث يقول إن مفهوم "الانتماء" في فلسطين ما قبل النكبة كان أكثر تعقيدًا وأقل اختزالاً مما يروج له. وفي زمن تُختصر فيه الذاكرة الفلسطينية في مشاهد الدمار والنكبة، تُذكّرنا ألبومات واصف بأن ثمة حياة سبقت هذا الخراب، وأن في الأرشيف الشخصي ما يمكن أن يكون سيرةً موازية للتاريخ الرسمي. يقول نصار إن في سرد جوهرية إضافة لما لا يُرى: انطباع، تذكّر، اعتراض، أو حنين، فالصورة تصبح مساحة تأويل لا وثيقة. في إحدى الصور، يكتب "هذا حي السعدية"، رغم أن بيته لا يظهر في الكادر، يرسم سهمًا يشير إلى مكان بيت طفولته. هكذا، لا نقرأ التاريخ فقط، بل نقرأ الطريقة التي يُحب واصف أن يُروى بها. سليم تماري.. الفرجة والحرب في فصل بعنوان "مشهدية الفرجة ومشهدية الحرب"، يستلهم تماري فكرة للأميركية سوزان سونتاغ عن المسافة التي تخلقها الصورة وتُجسِّرها. وهذه المسافة في حالة أرشيف جوهرية، بحسب تماري، تتجلى في التصدع البصري بين صور القدس قبل الحرب العظمى وبعدها، من خلال هذا المنظور يقترح أن "فلسطين الحقيقية" في وعي جوهرية كانت تلك التي سبقت النكبة. يتناول تماري العالم المتعدد الطبقات والغني بالتفاصيل لجوهرية؛ موسيقي ومؤرشف فوتوغرافي في القدس في أوائل القرن العشرين. مكنته خلفيته من التنقل بين دوائر النخبة والعامة. تلقى تعليمه في مؤسسات أرثوذكسية وتبشيرية وعثمانية. علاقته بالموسيقى أتاحت له التحرك بسهولة بين المجتمعات المسيحية والمسلمة واليهودية، مقدمًا بذلك مثالًا حيًّا يناقض التصور الشائع للقدس كمدينة مقسمة بشكل صارم. تقاطعت حياته مع عوالم كثيرة: المهرجانات الدينية، والابتكارات المسرحية مثل "الكراكوز"، وفن السينما الناشئ، وعمالقة الموسيقى مثل سلامة حجازي وبديعة مصابني. من هنا، يُقسّم الكاتب مشاهد جوهرية إلى ثلاثة أنماط: مشاهد احتفالية (كموكب النبي موسى و"سبت النور")، ومشاهد أدائية (كالخيال الظلّ والعروض السينمائية)، ومشاهد الحرب (كاستسلام القدس والإعدامات). هذا التقسيم يسمح بقراءة مزدوجة: بصرية واجتماعية. لا يغيب الشارع من "المجموعة الجوهرية"، بما فيه من البنائين ونحاتي الحجارة والشرطة والفنانين، كل هؤلاء يحضرون جنبًا إلى جنب مع القادة الدينيين والسياسيين. تضفي هذه الدمقرطة الفوتوغرافية طبقة من التاريخ الاجتماعي غالبًا ما تُمحى من السجلات القومية أو الاستعمارية. إضافة إلى ذلك، فإن توثيقه للحياة العسكرية خلال الحرب العالمية الأولى (حفر الخنادق، وأسرى الحرب البريطانيين، وصور الضباط العثمانيين) يوفر سجلاً بصريا مضادًا للروايات الرسمية. وفي وقت تحضر فيه كل هذه الطبقات والفئات، تغيب النساء من ألبومات جوهرية باستثناءات قليلة جدًا مثل مظاهرة النساء عام 1929، بينما تفيض مذكراته بهن من كل الأوصاف من محظيات ومطربات وفنانات. يصف تماري ألبومات جوهرية بأنها "جولة حسية في القدس"، يرسم فيها الأصوات وروائح الأطعمة ودكاكين البهارات وأغاني بائعي المواد الغذائية وألحانهم. بل إن جوهرية نفسه ألف قصيدة خلال المجاعة الكبرى عام 1915 بعنوان "كرشات محشية" أصبحت تعرف فيما بعد بالنشيد الوطني لفلسطين، ويوجد نسخة منها اليوم في أرشيف راديو بيروت. إسطفان شيحا.. الألبوم كمجال حسيّ أما إسطفان شيحا، فيذهب في تأملاته المعنونة "في المجال الحسي ورفض التقسيم" إلى ما هو أبعد من التحليل النصي أو البصري، إذ يرى في الصورة الاستشراقية عملية "سرقة فهرسية"، لا تُصادر الأرض فقط، بل تختزل الهوية والمعنى. يقول شيحا إن ألبوم جوهرية ضمّ جنبًا إلى جنب الصور الاستشراقية والاستعمارية مع الصور المنتجة والمتداولة محليًا، متسائلًا "عما ينتج حين تتحد هذه الصور، وربما تخفي إحداها الأصول الاجتماعية للأخرى في أرشيف فلسطينيٍّ". يطرح شيحا صور "المكتبة الخالدية" كمثال على أن الاستشراق شكل من أشكال "الاستيلاء الفهرسي بالقوة"، و"تحول الصورة إلى سلعة لمصلحة القوة الاستعمارية". تظهر المكتبة في صورة التقطها مصور من "الكولونية الأميركية" مرتين في ألبومات جوهرية، في الأولى خمسة علماء يقفون أمام بابها، ثم صورة لهم يجلسون داخلها. أزاح مصور الكولونية (مشروع تبشيري بروتستانتي) معنى الصورة من خلال إعادة إنتاجها كبطاقة بريدية شرحها "شيوخ وأفندية مسلمون" مجهولون، مختزلًا شخصيات حقيقية مثل الحاج راغب الخالدي وطاهر الجزائري في صور نمطية استشراقية صالحة للاستهلاك الغربي. أصبحت هذه الصورة دارجة عالميًا، مما أدى إلى محو السياق السياسي والاجتماعي لمواضيعها واستبداله بخيال استعماري عن "الأرض المقدسة". لكن جوهرية، حين يدرج الصورة نفسها في ألبوماته، يكتب متى التقطت ومن هؤلاء وأين كانوا وماذا يمثلون؟ أي أنه يعيد للصورة تفسيرها المحلي والمعرفي، ويعارض ابتلاعها الاستشراقي الذي يرمي إلى صياغة الإدراك نفسه، فيحدد من يَرى؟ وما الذي يُرى؟ وأي المعاني يُسمح لها بالظهور؟ تقاوم ألبومات جوهرية هذا الابتلاع بإصرارها على الحضور الفلسطيني، وتواجه ممارسات استبعاده من التاريخ والأرض ومن مجال الرؤية على يد الاستشراق والصهيونية والاستعمار. فأرشيفه -الذي جمعه في بداياته فنان يتسكع في مدينته ويعشقها ويراقب تحولاتها ويسكنها بكل ما في كلمة سكن من معنى- يكتسب اليوم معنى آخر بوصفه رفضًا سياسيا ومعرفيًّا للمحو.

غزة.. بقلم صحفية!
غزة.. بقلم صحفية!

الجزيرة

timeمنذ 2 أيام

  • الجزيرة

غزة.. بقلم صحفية!

ليس سهلًا على فتاة اختارت أن تكون قويةً في كل استحقاق أن تكتشف في أعماقها مكامن الخوف التي خلفتها طبول الحرب، التي بقيت تدق على مدى أكثر من عام ونصفٍ. في كل صباح، تدخل مكتبها، تتابع أخبارَ غزة التي لا تنتهي: أحداثًا حمراء مضرجة بالدماء، ودموعًا تسيل من الشاشات كأنما هي نهر بلا ضفاف، وعدادًا يرتفع، ونحيبًا يعبر من غزة إلى لبنان عبر الأثير، ومنه إلى كل العالم بلا حدود ولا قيود ولا هوامش. خبر عاجل ونشرة أخبار.. قصف مميت يتنقل وبيان إدانة يتيم.. وصاروخ باليستي قادم من اليمن أطلق عليه اسم "فلسطين"، هي وجبة دسمة ليوم طويل، تنتظر أن ينتهي بخبر عاجل تعلن فيه مذيعة شقراء مطبعة نبأ اندحار الاحتلال تنتظر العنوان الساخن من مديرها، وتبتلع الخبر الذي سيتحول بعد قليل إلى نص يحبس أنفاس القراء.. تفكر أنها بحاجة إلى اختيار صورة عميقة بحجم الفاجعة، وجملة افتتاحية تمهد لحكاية موجعة جديدة. تدرك أن الكتابة عن القصف المتواصل والقتل باتت عبئًا يتكرر كل يوم، وأن الطفل الذي يصرخ من تحت الركام لن يسكت في ذاكرتها. تسابق الوقت لتنقل التفاصيل، وتخبّئ بين السطور وجعًا شخصيًّا لا يمكن أن يذاع. خبر عاجل ونشرة أخبار.. قصف مميت يتنقل وبيان إدانة يتيم.. وصاروخ باليستي قادم من اليمن أطلق عليه اسم "فلسطين"، هي وجبة دسمة ليوم طويل، تنتظر أن ينتهي بخبر عاجل تعلن فيه مذيعة شقراء مطبعة نبأ اندحار الاحتلال، بعد اقتحام الجيوش العربية كل الحدود، وفك الحصار، ودخول قوافل الصمود، وعودة الأهالي الذين أتعبهم النزوح، وحمل حقائب الذكريات إلى بيوتهم.. لكن النبأ لم يأتِ بعد. وبالانتظار.. تقرير واحد كان كفيلًا بأن تنتمي قلبًا وروحًا إلى غزة! هناك ما يقارب 400 تقرير آخر، شاهدت من خلالها جنازات، وتشييعًا، ومآتم لآلاف الشهداء، بحثت مع الأطفال عن ألعابهم التي بترت القذائف أطرافها تحت الركام.. تقارير أدخلتها إلى خيام الهاربين من الموت إلى موت أبشع، عايشت أنين الجائعين الذين يسكنون على قارعة الموت، وهم يزحفون تحت الشمس إلى أقرب تكية.. فتصيبها أصوات أواني الطعام الفارغة بالصداع، وأزيز القصف بالذعر حتى الهذيان من صمت يلف العالم. وما بين تقرير وآخر، تمسك القلم كأنها تمسك نبض المدينة، تتلمس جراحها، تكتب بدمعها، لا بحبر عابر.. تسهر على حروف لا تنام، وتسائل الصور التي تصلها: هل مات هذا الطفل فعلًا؟ هل ستنجو شقيقته من بين الأنقاض؟ هل أكل الأطفال وجبة العشاء؟ ماذا عن محمد وسوسو الصغيرة وريم وليان؟ ماذا عن حجارة غزة وكل ما فيها؟ إعلان وتسأل: كيف صمد هؤلاء كل هذا الوقت؟ كيف ثبتوا زهاء العشرين شهرًا من الألم والمآسي؟! لا بد أن قوةً إيمانيةً عظمى تحرك أرواحهم، وأن نورًا داخليًّا لا ينطفئ يضيء لهم الطريق في ظلام الحرب القاتم. رحلة مؤلمة هي، لكنها مملوءة بالمسؤولية: تشاهد، تنقل، توثق، تحكي، وتعاني معهم.. تحيي بقلمها أو بأزرار هاتفها وبشاشة حاسوبها أصواتهم، وتحاول أن تمنحهم صوتًا آخر في وجه الصمت العالمي، رغم التعب ورغم الألم. لكنها في كل مساء، حين تخلع عنها معطف القوة وتسدل الستائر على يوم آخر من المجازر، تجد نفسها تنهار أمام طفل أضاع أمه، ورضيع لا يجد الحليب، ومريض لم يضمد جرحه بعد، وأم أثكلها الفقد! هي غزة الألم والأمل.. غزة التي لا تنكسر؛ فعظامها كأغصان زيتون، ودماؤها رائحة غار، وفي قلبها مقام شهيد يحبو نحو الحرية، على ركبتي الزمن.. من الأمس وحتى تختم الرواية!

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store