
"إسرائيل" وصناعة الزومبي في غزة
لم تعد الحرب مقتصرة على القصف والتجويع والعزل، بل باتت تستهدف البنية التحتية الأهم لأي مقاومة أو مشروع تحرّر: النسيج الاجتماعي. في قلب هذا النسيج، يتحرك التخريب المنظّم، لا في شكل انفجارات، بل كتحوّل زاحف يعيد إنتاج العشيرة مكان الدولة، والمختار مكان القانون، والغريزة مكان الوعي الجمعي.
تسير هذه الخطة بهدوء قاتل: تُحرم الناس من ضروريات الحياة، تُغذّى الفوضى، تُهمّش المؤسسات الوطنية، تُقيّد المبادرات الجامعة، وتُفتح الأبواب للعائلة والعشيرة كملاذ أخير. ومع الوقت، تتكاثر الحوادث التي تُدار فيها المساعدات بقانون الدم، وتُحلّ فيها النزاعات بحكم العُرف والقوة لا القانون والعدل، ويُمنح فيها الولاء للعشيرة بدل الوطن. هي حرب "الكلّ على الكلّ" في ثوب اجتماعي، تُنتجها الضرورة وتغذّيها السياسة الإسرائيلية بدقة بالغة.
هذا الانحدار لم يكن عشوائيًا. فمنذ عقود، أدركت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وخاصة جهاز الأمن العام "الشاباك"، أن إخضاع الفلسطينيين لا يتحقق بالقوة الصلبة فقط، بل بالمعرفة الدقيقة لتكوينهم النفسي والاجتماعي والاقتصادي. فالمجتمع الفلسطيني كان ولا يزال تحت المجهر، ليس فقط لرصد تهديداته الأمنية، بل لتفكيكه من داخله.
يعمل الشاباك، بالتنسيق مع مراكز الأبحاث الأمنية والاستراتيجية الإسرائيلية، على دراسة البنية العائلية والعشائرية، وخرائط النفوذ المحلي، وأنماط السلوك والانتماء، لتحديد نقاط القوة التي تمنح الفلسطينيين القدرة على المقاومة، ونقاط الضعف التي يمكن استخدامها كرافعة للاختراق. ومع كل جولة قتال أو أزمة معيشية، تتجدد محاولات تغذية العصبيات الفرعية، وفتح خطوط تماس اجتماعية داخلية تُضعف البنيان الوطني، وتُجهض إمكانات الوحدة أو الصمود الجماعي.
هذه الاستراتيجية ليست وليدة حرب غزة الأخيرة، بل تستند إلى تجربة استعمارية عميقة الجذور. ففي أعقاب نكبة عام 1948، ومع بقاء جزء من الفلسطينيين في أراضيهم داخل حدود الكيان الجديد، لم تكتفِ "إسرائيل" بمحاولة صهرهم في "الدولة"، بل عمدت إلى تفكيكهم هوياتيًا عبر تصنيفات رسمية: دروز، بدو، مسلمون، مسيحيون.
لم يكن الهدف فقط توصيفًا إداريًا، بل مشروعًا ممنهجًا لـطمس الهوية الوطنية الجامعة، وزرع الهويات الدينية والطائفية والقبلية كبديل.
- تم تجنيد الدروز قسرًا كأداة لخلق قطيعة بين الانتماء القومي والواجب العسكري.
- عُزل البدو في تجمعات مُهمّشة وحرمتهم "الدولة" من أبسط مقومات الحياة.
وجرى تفتيت الحضور السياسي للمسلمين والمسيحيين من خلال رعاية زعامات محلية عميلة وتطويق التيارات الوطنية.
لقد نجحت "إسرائيل" – نسبيًا – في تحويل فلسطينيي الداخل إلى "أقليات"، تعيش في ظلال "الدولة" لا في مواجهتها، وتخوض صراعات داخلية صغيرة بدل الانخراط في مشروع تحرّر وطني شامل.
اليوم، تُعيد "إسرائيل" تصدير هذه المعادلة إلى غزة، ولكن بطريقة أشد قسوة، لأن السياق مختلف والأدوات أكثر تعقيدًا. فالاحتلال لم يعد بحاجة إلى تجنيد مباشر، بل يكفيه تجويع الناس، وتهميش المؤسسات، وتحويل المساعدات إلى أدوات صراع أهلي، لإحياء العشائرية لا كهوية اجتماعية، بل كأداة تحكّم وسلطة بديلة.
وهنا، تكمن خطورة المرحلة: أن يتحوّل الفلسطيني الغزّي، بقوة القهر اليومي، من مواطن مقاوم يسعى لبناء دولته المستقلة، إلى فرد معزول يبحث عن حماية عشيرته، ومن حامل لمشروع تحرر وطني إلى مستهلك للمعونة المفقودة، ومن صاحب حق إلى تابع في صراع بقاء فرضته سياسة التجويع الإسرائيلي.
اليوم 11:00
اليوم 09:20
ولا يكتمل مشهد التفكيك الممنهج للمجتمع الفلسطيني من دون التوقف عند الهجوم المتصاعد على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، الذي لا يأتي بمعزل عن السياق العام، بل يُشكّل ركيزة مركزية في مشروع إلغاء الهُوية الجماعية للاجئين، وتفكيك ما تبقّى من بنى إنسانية جامعة في القطاع.
لقد شكّلت "الأونروا"، رغم كل ما يُقال عنها، العنوان المؤسسي الأهم الذي حافظ على مفهوم "اللاجئ الفلسطيني" كهوية قانونية وسياسية وإنسانية، وأبقت حكاية النكبة حيّة في الوعي الدولي. والأهم، أنها كانت – وما زالت – أداة مركزية في ربط الغالبية الساحقة من أبناء غزة، الذين ينحدرون من عائلات لاجئة، بهوية جامعة تتجاوز العائلة والعشيرة والمخيم والحي.
من هنا، فإن تفكيك "الأونروا" أو استبدالها بكيانات بديلة غير محايدة أو ذات طابع سياسي أو مناطقي لا يعني فقط تدمير جهاز خدماتي، بل نسف أحد آخر الجسور الجامعة للشعب الفلسطيني، واستبدالها بآليات توزيع تكرّس الزبائنية، والتبعية، والانقسام، وتفتح الباب لهيمنة الهويات الدنيا (العائلية والعشائرية والمناطقية) تحت الرعاية الأمنية الإسرائيلية، على حساب الوطنية والكرامة الجمعية.
إضافة إلى ذلك، فإن "الأونروا" كانت – ولا تزال – الجهة الأكثر قدرة وكفاءة على توزيع المساعدات بشكل منظم، سريع، عادل، ويحفظ الحد الأدنى من الكرامة الإنسانية. ضربها لا يُقوّض فقط الخدمات، بل يفتح المجال أمام حالة من الفوضى والتمييز والتلاعب في المعونات، ما يُفاقم مناخات الانقسام والشك والتنازع.
من المشاهد الأكثر إيلامًا، والتي تختصر فصول الحرب المجتمعية على غزة، ما نشاهده يوميًا من تدافع طوابير الناس على المساعدات، لا أمام مقار فلسطينية، ولا مؤسسات دولية حيادية، بل أمام مساعدات الذل والقتل الأميركية (جمعية غزة الإغاثية)، التي تحرسها دبابات الاحتلال، وكأننا في مشهد مستعار من أفلام الزومبي الأميركية، حيث يتحوّل البشر إلى كائنات فاقدة للوعي، مدفوعة فقط بغريزة الجوع.
هذا هو النموذج الذي تريده "إسرائيل": فلسطيني لا يطمح إلا للفتات، لا يطالب بدولة مستقلة، ولا يسعى لتحرير، ولا يرى في الوطنية سوى عبئاً على البقاء. إنسان منزوع الطموح، حلمه الهجرة، منسلخ عن الجماعة، لا يسعى إلا لملء معدته، ولو على حساب أخيه وجاره وكرامته.
لكن الأخطر من ذلك، أن داخل هذه الكتلة من الجوعى، تعمل "إسرائيل" على خلق نمط أكثر توحشًا من "الزومبي" نفسه: زعماء الميليشيات والعصابات التابعة للشاباك. هؤلاء لا يقتاتون من الجوع، بل يعتاشون عليه، يمسكون بخيوط المساعدات، ينهبونها، ويعيدون توزيعها وفق منطق هندسة الفوضى، بمساعدة وتوجيه مباشر من الشاباك، الذي يرى فيهم أدوات مثالية لتفتيت ما تبقّى من نسيج، ومنع أي إمكانية للتعافي أو النهوض.
بهذا الشكل، تتحوّل غزة من ساحة صمود إلى مختبر اجتماعي للاستعمار الحديث: حيث الزومبي يمثّل الشعب المُجَوَّع، والزعماء المتوحشون أدوات الاحتلال، والمساعدات وقود الانهيار الجماعي.
ومع أن الاحتلال هو العامل الرئيسي لهذا التفكيك، إلا أن فشل النخب الفلسطينية في حماية الفضاء العام، وتوظيف بعض القوى المحلية في صراعات زبائنية ضيقة، ساهم في تسهيل هذه المخططات، وإنْ بوعي متفاوت.
لذا، إن ما يجري في غزة اليوم ليس فقط حربًا على الجغرافيا، بل على الهوية والانتماء والعقل الجمعي. وإذا كانت "إسرائيل" تسعى بكل ما أوتيت من أدوات إلى تفكيك الإنسان الفلسطيني، فإن الرد لا يكون فقط بالمقاومة المسلحة، بل ببناء منظومة وعي جديدة تُعيد الاعتبار للهوية الوطنية، وللمجتمع كحاضنة للمشروع، لا كساحة للاقتتال والانكفاء.
فلا مشروع تحرر بلا مجتمع متماسك.
ولا وطن يُبنى على أطلال العشيرة.
ولا مقاومة تُثمر في صحراء من العنف الأهلي والتفتت الاجتماعي،
ما يُراد لغزة ليس فقط أن تسقط، بل أن تُعيد إنتاج ذاتها كفراغ… وما نملكه الآن هو أن نمنع هذا الفراغ من أن يتحوّل إلى قدر.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


LBCI
منذ ساعة واحدة
- LBCI
برّاك لجعجع: لا علاقة لنا بمشاكلكم (الأخبار)
إلى جانب اللقاءات مع الرؤساء الثلاثة، عقد المبعوث الأميركي توم برّاك اجتماعات مع قيادات سياسية بعيداً عن الإعلام. وكان البارز اجتماعه مع قائد «القوات اللبنانية» سمير جعجع الذي طلب منه بإلحاح أن تتدخّل واشنطن لمنع السلطات في لبنان «من تسويف» الملف، فيما أكّد له الموفد الأميركي أن «هذه المسألة تخصّكم أنتم اللبنانيين». يشار إلى أن جعجع سارع بعد زيارة برّاك إلى قصر بعبدا إلى انتقاد الردّ اللبناني. وقال إنه غير دستوري وغير قانوني أو حتّى رسمي. فالمطلوب من رئيس الحكومة أن يدعو مجلس الوزراء إلى الاجتماع من دون إبطاء، بعد أن يكون قد أطلع الوزراء على ورقة برّاك، وأن تتم مناقشة الورقة في اجتماع، أو اجتماعات متتالية لمجلس الوزراء مكتملاً لاتّخاذ الموقف الدستوري الرسمي منها، بحسب صحيفة " الاخبار". ومن المُفترض أن يعقد برّاك اجتماعات إضافية قبل ظهر اليوم، على أن يُجري مقابلة مع قناة «LBCI» قبل أن يغادر بعد الظهر.


LBCI
منذ 2 ساعات
- LBCI
واشنطن تطلق مساراً دبلوماسياً لنزع سلاح «حزب الله» (الشرق الأوسط)
أطلقت واشنطن «مساراً دبلوماسياً» لنزع سلاح «حزب الله» عبر موفدها إلى بيروت توم برّاك الذي تسلّم من المسؤولين اللبنانيين رؤية «الحل الشامل»، واعداً الحزب بـ«مستقبل سياسي». وقالت مصادر رسمية لبنانية لـ« الشرق الأوسط » إن برّاك الذي أشاد في تصريحاته بـ«الرد اللبناني المدروس»، سيعمد إلى دراسة متأنية له، ويرسل ملاحظاته عبر السفارة الأميركية في بيروت خلال أيام، على أن يعود إلى العاصمة اللبنانية خلال أسبوعين. وأتى الرد اللبناني باسم رئيس الجمهورية جوزيف عون، ورئيسَي البرلمان نبيه بري، والحكومة نواف سلام، خالياً من موقف «حزب الله»، غير أن اللافت أن بري قدم لاحقاً ملاحظات منفصلة باسم «الثنائي الشيعي»؛ أي «حركة أمل» التي يرأسها و«حزب الله». وقالت مصادر بري لـ«الشرق الأوسط» إن رئيس البرلمان شدد على «تثبيت وقف إطلاق النار وضمان التزام إسرائيل به قبل أي شيء آخر».


LBCI
منذ 2 ساعات
- LBCI
نتانياهو يقول إنّه رشّح ترامب لجائزة نوبل للسلام
أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الإثنين أنّه رشّح الرئيس الأميركي دونالد ترامب لنيل جائزة نوبل للسلام، مقدّما للملياردير الجمهوري خلال اجتماع في البيت الأبيض نسخة عن رسالة الترشيح التي أرسلها إلى لجنة الجائزة. وقال نتانياهو خلال عشاء مع ترامب في البيت الأبيض إنّ الرئيس الأميركي "يصنع السلام في هذه الأثناء، في بلد تلو الآخر، في منطقة تلو الأخرى". وخلال السنوات الماضية تلقّى ترامب من مؤيّدين ومشرّعين موالين له العديد من الترشيحات لنيل نوبل السلام، الجائزة المرموقة التي لم يُخفِ يوما انزعاجه من عدم فوزه بها. وكثيرا ما اشتكى الرئيس الجمهوري من تجاهل لجنة نوبل النروجية للجهود التي بذلها في حلّ النزاعات بين الهند وباكستان، وكذلك أيضا بين صربيا وكوسوفو.