
وعي الجوع.. وشبق الهروب
عصرنا الحديث لا يبدو جديدا بحداثة المعنى، بل باحتقان المغزى في واقع الوصف من حيث إن إنسانه أصبح حرا، لكنه معزول في ذات الوقت؛ بخلاف العصور الوسطى التي كان الفرد فيها جزءا من الكل، فيما أضحى هذا الموسوم بالإنسان في عصر الحداثة عددا تحكمه صراعات هامشية، ووسيلة لتبييض النقد المتعفن، فكان الوسيلة وليس الغاية.
فعصرنا الموصوف بالمزدهر يعيش بين متناقضات متشابكة تدفع الفرد جبرا إلى الانغماس في حضيض الضياع وفق هندسة اجتماعية تتسلل أفعالها بشيء من الخلاف ثم تتدرج إلى سلوك مقبول، حتى تصل إلى عادات وتقاليد يجب الحفاظ عليها بحكم أنها متطلبات راهنة تحكم علاقة الفرد بالقطيع، وعلاقة القطيع بعنجهية وتسلط فرد، أو مجموعة تتحكم في سلطة القرار.
شكّل التغير في المسار المفاهيمي للحرية التباسا من حيث ممارسة السلوك المفضي إلى تشكل قيمة البعد الفردي في المجتمع، إذ إن الحرية لم تعد تلك المساحة التي تعطي ضمانات فكرية، بل تجزأت إلى سلوكيات سلبية تحت إطار التحرر من قيود الذات إلى قيود التسلط.
هل نعيش تحت إطار الحرية السلبية؟ سؤال يطل على خجل عندما نجد من يريد العيش في شكليات من الكتل الإسمنتية محكمة الغلق، مهلهلة الداخل، لا يمكن أن تكون ستارا عند حلول النوائب.
لم تمنح الحرية "السلبية" وفق أدبيات الفلسفة النفسية معتنقيها تحررا من القيود الجبرية بل حولت توجهاتهم إلى أفراد موالين لسلطة القوة التي أرادت إبقاءهم في حيز واحد من التبعية العمياء التي تشعرهم ببصيص من الانتماء لا يحيد قِيد أنملة عن فكرة "التعبيد" التي لازمت البشرية بأشكال متعددة.
هل نحن نفكّر؟ وهل هناك ما يدفعنا إلى إشعال فتيل الفكرة لفهم ذواتنا؟ أو بالأحرى أو كما قال ديكارت: "أنا أُفكر إذًا أنا موجود"، وهل وجودنا مرهون بنوعية التفكير؟
إن الدلائل المفضية إلى تحقيق الذات والشعور بالوجود، هو التفكير المليء بالأسئلة المتعمقة في حيثيات ما يحيط بنا، والذي يمنحنا التموضع الواضح للمشاركة المجتمعية بفاعلية دون الانسياق خلف الأفكار المعلبة المصدرة لنا في ثوب الحرية المطلقة؛ بهدف إقصائنا عن الحقيقة.
لذا فإن التحرر من التبعية التي شكلتها هيمنة القوة وخذلان الذوات تحوّل إلى عبء ثقيل؛ لأنه لم يرنُ إلى تحقيق الذات وفق مأسسة الحرية الإيجابية، لذلك كان العنوان العريض الذي أطاح بفكرة الانعتاق أو الذهاب بعيدا عن نكران التبعية هو الشعور بالاغتراب الذي جعل الأفراد يهرعون إلى التسلط والخضوع لتحكم الآخرين، بما يحقق الامتثالية الآلية؛ بهدف إذابة ما تبقى من جسد داخل المجتمع من حيث الشكل فقط.
غزة تعيش حالات الجوع المسيسة في بقعة تفيض بالكرامة ودروس الحرية الواعية، وهي وعي ناضج تجاوز الغريزة بذوات متماسكة لا تقبل العار، وهي رمز جمعي يعيش على الفكرة التي لا تموت بانتهاء الفرد
فالتحول هنا يدور حول صراع الوعي مع الصمت الكوني، وهذا ليس مرده بقيمة الفهم من عدمه، وإنما هناك من لا يبالي إن فهمنا أو لم نفهم، بل تلك هي النتيجة التي تقودنا إلى التحلل القيمي ثم إلى فقدان الغاية، للوصول إلى الاستسلام خارج فضاء التمرد على العبث بوجدانية الفرد.
على هوس اللقاء في أفق الحوار كانت تلحّ في طرح الأسئلة التي تجرنا إلى بؤرة تكوّن وعي الجوع الذي يقابله شبق الخوف، فكيف لها أن تعزل نفسها؟ وكيف تقاوم لتبنّي الفكرة؟
فهي بحد ذاتها الأسئلة التي لا تنتهي وهي الأجوبة على إنسان هرب من الحرية بالتجني على نفسه، لأنه كذب على نفسه متجنبا تحمل المسؤولية، وربما يكون ذلك توترا أزليا؛ "وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا".
هنا تباغته بسؤال يحمل ألغاما تنهش في شبق خوفه؛ وهل بلوغ الجوع بطولة في عالم تكثر فيه نفاياته؟ فأجابها: لا تكترثي، فكم من بطن شبع جرته الغريزة الشبقة إلى الهروب، وكم من وعي جائع علمنا صمود المقاومة، لكنني: "وإن مضيت.. فقولي لم يكن بطلا، لكنه لم يقبل جبهة العار"!
غزة حصار الجوع ووعي الكرامة
في بقعة آمنة تهوي إليها الأفئدة؛ شيخ يعتلي المنبر يحمد ويثني ويتعثر، فيبعثر الكلمات من ورقة تحملها يده المرتجفة من الخوف والمشبعة برائحة ما تبقى من سقط مائدة كانت عيدا لأولهم وآخرهم؛ فيقول: أيها الجمع إن الجوع صحة للجسد يساعدنا في حمية بدنية تذيب شحومنا وتعلمنا الصبر، فجوعوا إن لم تجدوا ما تسدون به رمقكم، واضربوا بالخمس إذا امتدت الموائد دون همس، ولا تنسوا اللمس ولعق الأصابع فإنها من السنن الخمس".
فعلى الرغم من حالة الشبع القصوى ماديا فإن الخوف الغريزي ينفي الوعي، والشبق المادي ينهي الكرامة البشرية، فتحوّل فيها الشيخ وأقرانه إلى آلة تدار بسيادة القلق تدفع إلى التماثل والتوافق النظري، فهي التبعية العمياء والذوبان في منظور الأنظمة التي تفكر وفق خوارزمياتها بالنيابة عنهم.
إن صمود الإنسان في غزة نابع من عمق الوعي والإحساس بمعنى الحرية الإيجابية، فهم ينتهجون حرية ما يريدون وليس ما يملى عليهم، لذا قادهم ذلك إلى دفع ثمن باهظ وهو جوع الجسد
تلك هي الذات المفككة التي تبحث عن أمان زائف لا يتداعى مع الجسد الواحد، بل يبرهن ويطوع الذل بالاتكاء على القائد المنقذ، مما جعل تلك الفئة تتمرغ في وفرة المعروض ماديا، لكنها قيميًّا ميتة، ووجوديا مستعبدة بالجبن والخوف.
إعلان
أما غزة؛ فهي حالات الجوع المسيسة في بقعة تفيض بالكرامة ودروس الحرية الواعية، وهي وعي ناضج تجاوز الغريزة بذوات متماسكة لا تقبل العار، وهي رمز جمعي يعيش على الفكرة التي لا تموت بانتهاء الفرد، بل باقية ببقاء الفكر المقاوم والوعي الموجه والداعم للبقاء متحملة مسؤوليتها الحقيقية.
إن حصار الجوع الذي اشتركت فيه جميع الأنظمة الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية حتى الأنظمة البائدة أو تلك المسماة اللاأنظمة يصور لنا الضعف الحقيقي الموجه إلى إسكات الصوت الجمعي، باعتبار غزة كاشفة للزيف والنفاق السياسي، فاضحة لرخاوة الأنظمة العربية، مغربلة للقوى الدينية وممتحنة صدق دعواها.
إن صمود الإنسان في غزة نابع من عمق الوعي والإحساس بمعنى الحرية الإيجابية، فهم ينتهجون حرية ما يريدون وليس ما يملى عليهم، لذا قادهم ذلك إلى دفع ثمن باهظ وهو جوع الجسد، الذي يمارس الجهاد بكل تجلياته، ممثلا للحق الذي يعلو في وجه العالم المستبد الجائر.
ذلك الحصار المتجدد تجاوز أن يكون قرارا تتلاعب به القوى المهزومة، ليصبح بنية فكرية ومؤسسة دولية ومؤامرة متعمدة تستهدف طمس الشعوب التي تنتهج الوعي والكرامة على حساب استقرار زائف، من أجل تفريغ العالم من قيمه.
فها هي تتأهب للرحيل وقد حز قيد الجوع في معصمها متكئة على منسأة الكرامة وتقول: سقط زيف الأقنعة وتهاوت شعارات التشدق بحقوق الإنسان، وكرامتنا لا تموت بل تشتد باشتداد الجوع فتتحول إلى جذوة لا تخبو.
وقبل أن تتوارى تطلق العنان لأسئلة حرة: هل قميص غزة قُدّ من دبر أم من قُبل؟ وهل تجدون ريح النصر؟ وهل غيابة الجوع سيطول قعرها؟ أما أنا وأينما حللت فلا أرجع سهام قلمي. قال غازي القصيبي:
فأنا جائع إذًا أنا حرٌ.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 6 دقائق
- الجزيرة
قائد إسرائيلي سابق: حرب التجويع ضد غزة قادتنا إلى الدفاع والفشل
قال اللواء المتقاعد إسرائيل زيف، رئيس قسم العمليات السابق في جيش الاحتلال الإسرائيلي، إن حرب التجويع ضد قطاع غزة أدت إلى تحول إسرائيل من المبادرة العسكرية والهجوم إلى الدفاع والفشل السياسي الكبير. وفي تصريحات له اليوم الاثنين، اعتبر زيف أن الحكومة الإسرائيلية لا تريد تحقيق أهداف الحرب بل تريد استمرارها فقط، وأضاف أن تلك الحكومة "تبيع عامة الإسرائيليين وهم نصر لا يتضمن هزيمة حماس ولا عودة الرهائن"، وفق تعبيره. ورأى القائد السابق بالجيش الإسرائيلي أن المواجهة الحتمية بين رئيس الأركان إيال زامير والقيادة السياسية تشير لانهيار الثقة بين من يقاتلون ومن يقررون. وأشار إلى أن رئيس الأركان مضطر للتعامل مع حكومة لا تعرف وجهتها. من جانبها، تحمّل تلك الحكومة الجيش مسؤولية تحقيق انتصار بحرب تمنع وقفها. واعتبر زيف أن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو -المطلوب ل لمحكمة الجنائية الدولية – يتهم حركة "حماس" بعرقلة صفقة تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار لكنه "هو من يفعل ذلك ويمنح العدو نصرا دبلوماسيا كبيرا". وتتزايد الانتقادات داخل إسرائيل لاستمرار الحرب على قطاع غزة التي يصر نتنياهو على استمرارها رغم أنها لم تحقق أيا من أهدافها وزادت من عزلة تل أبيب وعززت من صورتها السلبية أمام العالم. وقالت وزارة الصحة في غزة، السبت الماضي، إن حصيلة الضحايا المجوّعين من منتظري المساعدات بالقطاع بلغت 1422 شهيدا، وأكثر من 10 آلاف إصابة منذ 27 مايو/أيار الماضي، في حين توفي ما يزيد على 150 شخصا جراء المجاعة وسوء التغذية جراء الحصار وحرب التجويع التي تشنها إسرائيل ضد سكان قطاع غزة. وخلّفت حرب الإبادة الإسرائيلية، بدعم أميركي منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 أكثر من 60 ألفا و199 شهيدا وأكثر من 150 ألف جريح معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين.


الجزيرة
منذ 6 دقائق
- الجزيرة
مؤسسات حقوقية تنتقد تنكر ويتكوف للمجاعة بغزة
أعربت مؤسسات حقوقية دولية عن استنكارها الشديد لتصريحات المبعوث الأميركي لشؤون الشرق الأوسط ستيف ويتكوف ، التي أنكر فيها وجود مجاعة في قطاع غزة ، ووصفتها بأنها تجاهل تام للحقائق الميدانية الموثقة والتقارير الدولية التي تؤكد وجود كارثة إنسانية غير مسبوقة تهدد حياة أكثر من مليوني إنسان في القطاع. وكان ويتكوف قال في تل أبيب قبل أيام إن "هناك صعوبة ونقصا، ولكن ليس هناك جوع في غزة". وأكد البيان المشترك للمؤسسات الحقوقية اليوم الاثنين "أن الأدلة لا تُمحى بالتصريحات؛ إن المجاعة في غزة حقيقة ملموسة أودت بحياة 159 إنسانا، من بينهم 90 طفلا، وهو رقم موثق يعكس حجم الجريمة التي لا يمكن تبريرها أو نفيها، كما أن هذه الأزمة الإنسانية تطال الجميع بلا استثناء، بمن فيهم الأسرى الإسرائيليون". ودعت تلك المؤسسات الأمم المتحدة إلى تشكيل لجنة دولية مستقلة "للوقوف بشكل مباشر على الأوضاع الكارثية التي يعيشها السكان المدنيون، والتحقيق في سياسة التجويع الممنهج، باعتبارها جريمة حرب". كما طالبت المؤسسات المحكمة الجنائية الدولية بتسريع تحقيقها في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية المرتكبة في قطاع غزة، بما في ذلك جريمة التجويع، ومساءلة جميع الأطراف المتورطة. كما دعت المجتمع الدولي إلى فرض وقف فوري ودائم لإطلاق النار، وضمان وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق وحماية المدنيين وفرق الإغاثة والعاملين في المجال الطبي. وطالبت المؤسسات الحقوقية بالضغط على الاحتلال الإسرائيلي للسماح بدخول الصحفيين إلى غزة، بعد أكثر من 10 أشهر من الحظر الإعلامي الذي يهدف إلى التعتيم على جرائم الإبادة الجماعية والتجويع. وشددت على أن الدول الداعمة للتجويع، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، تتحمل مسؤولية قانونية وأخلاقية في استمرار الكارثة، وعليها ضمان وصول المساعدات الإنسانية بشكل فوري وكامل.


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
الاحتلال يفرج عن 9 أسرى فلسطينيين من غزة
أعلن مكتب إعلام الأسرى في غزة أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي أفرجت اليوم الاثنين عن 9 أسرى كانوا محتجزين لديها. وقال المكتب إن الأسرى التسعة وصلوا إلى مستشفى شهداء الأقصى عبر بوابة كيسوفيم شرق دير البلح في وسط قطاع غزة. وفيما يلي أسماء الأسرى الذين تم الإفراج عنهم: أمجد عاطف إبراهيم محسن (31 عاما) من سكان مدينة رفح. محمد عليان رمضان شباري (56 عاما) من سكان بلدة بيت حانون. محمد عطا الله حسن النجار (38 عاما) من سكان جباليا. محمد محمد رمضان أبو بنات (40 عاما) من سكان بلدة بيت لاهيا. علي يوسف مصطفى جابر (33 عاما) من سكان بلدة بيت لاهيا. محمد محمود سعيد يوسف (42 عاما) من سكان مدينة رفح. رامي جهاد محمد الحناوي (31 عاما) من سكان جباليا. نافذ نافذ محمد العجلة (61 عاما) من سكان حي الشجاعية. وسام جميل محمد أبو عرار (23 عاما) من سكان مدينة رفح. وتصنف سلطات الاحتلال نحو 1747 أسيرا من غزة كـ"مقاتلين غير شرعيين"، وهو توصيف خطير يُستخدم لتجريدهم من الحماية القانونية الدولية، ويُتيح احتجازهم في معسكرات عسكرية مغلقة لا تخضع لأي رقابة. وتؤكد إفادات الأسرى المحررين وجود انتهاكات جسيمة، تشمل التعذيب الجسدي والنفسي والإهمال الطبي المتعمد والحبس الانفرادي والحرمان من الغذاء والرعاية الصحية، في إطار سياسة عقابية ممنهجة تشرف عليها جهات عليا في حكومة الاحتلال، وفي مقدمتها وزير الأمن القومي المتطرف إيتمار بن غفير. وتعد هذه الممارسات، حسب خبراء في القانون الدولي، انتهاكات صريحة لمعاهدة جنيف الرابعة، وقد ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، في ظل صمت دولي مطبق وتواطؤ غربي واضح. وأمس الأحد، أظهر تقرير فلسطيني أن إجمالي عدد الأسرى بسجون إسرائيل حتى بداية يوليو/تموز الماضي بلغ نحو 10 آلاف و800، منهم 49 سيدة، و450 طفلا، وهو العدد الأعلى منذ انتفاضة الأقصى (الانتفاضة الثانية) عام 2000. إعلان