logo
كتابةٌ بلونٍ أبيض على جرحٍ لم يلتئم!

كتابةٌ بلونٍ أبيض على جرحٍ لم يلتئم!

البوابة١٣-٠٧-٢٠٢٥
في الأدب الكوري الحديث، تبرز الكاتبة "هان كانغ" كصوتٍ متفرّد، يكتب بلغة جديدة وبأسلوب مُبتكر.
ذاع صيتها عالميًا بعد روايتها "النباتية"، التي حصدت جائزة مان بوكر الدولية عام 2016، وتُرجمت إلى أكثر من عشرين لغة. وتلتها أعمال أخرى مثل "الدرس الإنساني" و"الكتاب الأبيض"، وكلها تؤكد رؤيتها الجمالية المشبعة بحسٍّ وجوديّ دافق.
وفي عام 2024، تُوّج هذا المسار الأدبي الفريد بأرفع وسام عالمي، وهو جائزة نوبل في الأدب. وجاء في حيثيات الجائزة أنها "تقديرًا لنثرها الشعري المكثّف الذي يواجه الصدمات التاريخية ويكشف هشاشة الحياة البشرية"، فكانت الجائزة تتويجًا لمسيرةٍ أدبية نادرة، وشهادةً بقدرة اللغة الهامسة على أن تُلامس أعماق الإنسانية.
وكما هو معلوم، فهي أول كاتبة كورية جنوبية تنال جائزة نوبل، وأول امرأة آسيوية تفوز بها منذ سنوات طويلة.
وقد كان يمكنني أن أتحدث عن روايتها الشهيرة "النباتية"، أو عن تأملاتها في "الدرس الإنساني"، لكن شيئًا في رواية "الكتاب الأبيض" استوقفني على نحو خاص، بعد أن انتهيت من قراءتها.
لم أجدها رواية تسرد أحداثًا وتتحدث عن مواقف ومشاعر، لكنها عملٌ يشتبك مع الوجع بهدوء، ويتأمل الوجود من زوايا ما لم يحدث.
اللون الوحيد المسيطر في هذا العمل هو الأبيض. لكنه بياض لا يُبشّر، بل يحتشد بالفقد، والتطهّر، والحنين إلى خلاصٍ غامض. عملٌ شخصيٌّ وعالميٌّ في آنٍ معًا؛ بسيطٌ وعميق، هامسٌ وصارخ، كأنه صلاة داخلية كتبتها روحٌ تقف على حافة الحياة.
"الكتاب الأبيض" – الذي بلغ القائمة القصيرة لجائزة مان بوكر الدولية عام 2018، وصدرت ترجمته العربية عن الأستاذ محمد نجيب – ليس رواية بالمعنى التقليدي، بل أقرب إلى تراتيل حزينة، مكتوبة بلونٍ أبيض، كلون البراءة، والغياب، والولادة التي لم تكتمل، والكتابة التي تحاول تضميد الزمن، لا وصفه.
في مقدمته، تروي الكاتبة "هان كانغ" كيف قررت في أحد فصول الربيع أن تكتب عن "الأشياء البيضاء": القماط، ثوب وليد، ملح، جليد، قمر، ورقة بيضاء، كفن... لكنها لم تكن تكتب عن الأشياء بذاتها، بل عمّا تثيره فيها من فيضٍ شعوريّ قديم. لقد كتبت وكأنها تمسك ببلسمٍ أبيض، لتضعه فوق جرحٍ دفين لم يندمل.
وسألت نفسها حينها: هل أريدُ حقًا أن أختبئ بين الكلمات؟ وهل يمكن لشاشٍ أبيض أن يُخفي هذا الألم؟
البياض عندها لم يكن تأمّلًا جماليًّا فحسب، بل استدعاءً لفقدٍ شخصيّ موغل في الطفولة؛ أختها الكبرى التي ماتت بعد ولادتها بساعات قليلة، وكانت هذه الرواية محاولة لمنح تلك الطفلة الغائبة حياةً رمزية على الورق، وردّ اعتبارٍ لها، ولو بلونٍ خافت.
تتوقف الكاتبة عن مشروع كتاباتها، وتغادر إلى مدينة غريبة لم تطأها من قبل. تمشي فيها كمن يزرع نفسه من جديد في تربةٍ أخرى، وتواجه الوحدة والبرودة والصداع النصفيّ الذي يلازمها منذ مراهقتها. وتكتب بأنه في ليلة شتائية، يصبح الزمن ملموسًا كالإبر، تخترق قلبها لحظةً بلحظة، وتجبرها على التوقف... لا لشيء، إلا لتحمّل الألم.
دعني أنقل لك، عزيزي القارئ، فقرةً من مقدمة "الكتاب الأبيض" لتشارك مشاعرها المتدفقة والمخبوءة في ثنايا خلاياها:
"كلُ لحظةٍ هي قفزةٌ إلى الأمامِ من فوقِ جرفٍ غير مرئيّ، حيث تتجدّدُ حوافُ الزمنِ باستمرارٍ. نرفعُ أقدامَنا من على الأرضِ الصلبةِ للحياةِ التي عشناها حتى الآن، ونأخذُ الخطوةَ التالية المحفوفة بالمخاطرِ نحو المجهول، نحو الهواءِ الفارغِ. لا نفعلُ ذلك كي نثبتَ امتلاكَنا لشجاعةٍ من نوعٍ خاصٍّ، بل لأنه لا يوجد أمامنا طريقٌ آخرُ... الآن، في هذه اللحظة، أشعرُ بإثارةٍ مُدَوِخَةٍ تسري في داخلي، بينما أخطو بتهوّرٍ نحو زمنٍ لم أعشه بعد، نحو كتابٍ لم أكتبْه بعد."
لا أريد أن أستمر في كتابة الفقرة حتى لا أدخلك عنوة إلى أحزانها...
الأسبوع القادم، بإذن الله، أستكمل القراءة في هذا العمل الفريد، للكاتبة التي لا تكتب فحسب، بل تُصغي للألم، وتدوّنه.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الاعترافات الجريئة
الاعترافات الجريئة

البوابة

timeمنذ 2 أيام

  • البوابة

الاعترافات الجريئة

عندما بدأت قراءة رواية "الحدث" للكاتبة الفرنسية آني إرنو، شعرت بأنني لا أقرأ عملًا أدبيًا بقدر ما أتلقى اعترافًا إنسانيًا جريئًا، يخترق الزمان والمكان ليصطدم بجدار الصمت الذي يُحيط بتجربة الإجهاض — لا في فرنسا فقط — بل في مجتمعات كثيرة حول العالم. وقبل أن تسألني: ومن هي آني إرنو؟ أقول لك: إنها واحدة من أبرز الأصوات النسائية في الأدب الفرنسي المعاصر، كتبت من داخل الجسد، ومن داخل الطبقة الاجتماعية، ومن عمق التجربة النسوية، بمزيج نادر من السيرة الذاتية والتحليل الاجتماعي، وتطرقت إلى موضوعات الذاكرة، والرغبة، والأمومة، والعار، بلغة شديدة التكثيف والصدق...! كتاباتها تُشبه ما يسميه بعض النقاد "الاعترافات العارية"؛ إذ تكتب بلا مساحيق، ولا مجاز، ولا تبحث عن الزينة الأدبية، بل عن الحقيقة كما حدثت، لا كما ينبغي أن تُروى. بدأت آني إرنو الكتابة الأدبية في عام 1974 برواية "خزائن فارغة"، وهي رواية جريئة عن سيرتها الذاتية، وقالت الأكاديمية السويدية عن هذا الكتاب: إنه أكثر مشاريعها طموحًا، والذي أكسبها شهرة دولية، ومجموعة كبيرة من المتابعين، وتلاميذ محبين للأدب. كما فازت بجائزة «رينودو» عن عمل آخر من أعمالها في السيرة الذاتية، وهو «المكان»، ويركّز على علاقتها مع والدها، وتجاربها التي نشأت في بلدة صغيرة في فرنسا، وعملية انتقالها اللاحقة إلى مرحلة البلوغ، بعيدًا عن موطن والديها الأصلي. وقد تُوِّج هذا المسار بنيلها جائزة نوبل في الأدب عام 2022، ووصفتها الأكاديمية السويدية بأنها تملك "شجاعة نادرة، ووضوحًا سريريًا، في كشف الجذور، والقيود، والضوابط الجماعية للذاكرة الشخصية". ومن أبرز مؤلفاتها: السنوات، عشق بسيط، امرأة، شغف، وصولًا إلى روايتها الصادمة "الحدث"، التي تُرجمت للعربية أكثر من مرة، من بينها ترجمة الأستاذة هدى حسين، والتي تقول في مقدمة ترجمتها: "بعد أكثر من عام، أترجم الآن رواية الحدث لآني إرنو. وأتذكر هذه التجربة التي حدثت أيضًا للكثيرات هنا، في مجتمع ما زال يحمل قانونه تجريم الإجهاض على الطبيب، وعلى المرأة التي تجهض نفسها... وبسبب هذا القانون، وهذا العرف الاجتماعي، الذي لا يدين سوى المرأة في الجنس غير المشروط بالزواج، وبالتالي في توابعه، التي قد يصل الأمر معها أحيانًا إلى قتل الفتاة الحامل، أو حبسها وتعذيبها... دون الالتفات إلى تلك القوى الخارجية التي تدفعها للإجهاض، وتلك المشاعر المختلطة التي تنتاب المرأة، التي يضطرها المجتمع أن تقتل طفلها المستقبلي، وأن ينمو بداخلها بدلًا منه كُرهٌ لا حدود له لمجتمع لا يساوي حتى بينها وبين حبيبها في العقاب... داخل مجتمع يعتبر الحب وتوابعه جريمة لا تُغتفر..." كما ذكرت في فقرة أخرى: "أشكر لآني إرنو شجاعتها، وتشجيعها غير المباشر لي، عبر كتابتها ونشرها لهذا العمل... وأنا إذ أترجم هذا العمل، أشعر بسعادة شديدة، إذ أستضيف آني إرنو للمرة الثالثة في لغتي ومجتمعي، بعد أن استضفتها سابقًا عبر ترجمتي لروايتيها "امرأة" و"عشق بسيط"... علّ استضافتها تساهم في تثوير هذا المجتمع بدرجة أو بأخرى، مادامت ساهمت في تثويري على نفسي أنا شخصيًا..." هنا يتضح أن اختيار إرنو لهذا الموضوع لم يكن عشوائيًا، بل نابعًا من إيمانها بأن الكتابة فعل سياسي، وكتابة الجسد مقاومة... أن تكتب عما يُصنّف كـ"فضيحة" هو موقف في حد ذاته؛ هو رفض للصمت، ولمجتمع يُحاكم النساء وحدهن على الرغبة، والوحدة، والخوف... رواية "الحدث" ليست فقط عن الإجهاض، بل عن السلطة، عن الجسد، عن حدود الحرية، عن الألم الذي لا يُروى إلا بواقعية قاسية، لا تستدرّ العطف، بل تفتح أعيننا على ما نخشى رؤيته... وما يُدهشك في أسلوب إرنو ليس فقط جرأتها، بل طريقتها في السرد... لغة خالية من الزينة، جمل قصيرة، ذاكرة لا تبكي بل تُواجه، تكتب وكأنها تمسك عدسة مكبرة على جرح لا يلتئم... لا لتندب، بل لتفهم... بإذن الله الأسبوع القادم، أكمل القراءة في رواية "الحدث" للكاتبة الفرنسية المبدعة آني إرنو.

الاهتمام الزائد.. يفسد النَص!
الاهتمام الزائد.. يفسد النَص!

البوابة

time٢٠-٠٧-٢٠٢٥

  • البوابة

الاهتمام الزائد.. يفسد النَص!

حين تضيق بنا الحياة، ونثقل بحمولٍ لا تُحتمل، نلجأ إلى لغة لا تُرهقنا، نبحث بين الحروف عن مهرب، لا لنُفصح، بل لنجد سلامًا داخليًا في حضرة الصمت. من هنا انطلقت الكتابة لدى "هان كانغ"، الكاتبة الكورية التي نالت نوبل... أنت تعرف أنها ليست مجرد اسم لامع، بل صوت خافت يسير عكس التيار، لا تصرخ، بل تهمس... في روايتها "النباتية" كتبت عن الجسد، وفي رواية "الدرس الإنساني" كتبت عن الكرامة، لكنها في رواية "الكتاب الأبيض" تجاوزت اللغة، وكتبت عن شيء لا يُروى: أخت ماتت بعد ساعة من الولادة، طفولة انكسرت قبل أن تبدأ، وجرح لا يزال يتنفس في ذاكرة أمها، تلك الأم التي ما زال صوتها يطارد الكاتبة: "يا صغيرتي، من أجل الرب، لا تموتي..." "الكتاب الأبيض" ليس رواية تقليدية، بل ترياق شفاف يُكتَب بصمت، في عالم يعج بالحركة والضجيج، اختارت "هان كانغ" أن تكتب عن السكون، عن البياض، عن الجراح الخفية التي لا يراها أحد، لكنها تنزف باستمرار في داخلها... ليست "هان كانغ" كاتبة عادية في كوريا الجنوبية؛ هي تجربة وجودية تكتب الألم قطرة قطرة، كأن الكلمات نفسها تمارس فعل الشفاء... منذ بداياتها، لم تسعَ للشهرة، ولم تغرِها العوالم الخيالية، بل ظلت تمسك بتلك اللحظة الدقيقة بين الحياة والموت، بين الحضور والغياب، بين ما كُتب وما ظلّ عالقًا في الأعماق. أعمالها المتعددة تميزت بخصوصيتها، وأبرزها رواياتها "النباتية" التي أثارت جدلًا عالميًا وحازت جائزة "مان بوكر" الدولية عام 2016، وتلتها رواية "الدرس الإنساني"، إلى أن وصلت إلى أكثر أعمالها صفاءً وخصوصية: رواية "الكتاب الأبيض"... هذه الرواية لا تُقرأ كما تُقرأ الروايات، بل تُشعر كما تُحسّ القصيدة،تبدو كدفتر تأملاتٍ هادئ، أو كطقس ربيعي مكتوب تسير فيه الكاتبة عبر دروب الفقد، ممسكة بالخيط الأبيض الذي يشدّ بين الحداد والرجاء، بين أخت لم تُمنح من الحياة سوى ساعة واحدة، وصورة لم تغادر ذاكرة أمها...اقرأ: "استلقى الجسدان على أرضية المطبخ، الأم على جنبها، والطفلة ملتصقة بصدرها...شعرت الأم ببرودة تتسلل إلى جسد صغيرتها، فأدركت أنها سترحل فورًا إلى عالمٍ آخر..." ولذا فان البياض لم يكن مجرد لونٍ في هذا الكتاب، بل بطل فى الرواية، بياض القماط، الثلج، الكفن، الورقة، الضوء... كلها رموز تكررت، كأنها طقس تطهير داخلي، تُهدئ به الكاتبة أوجاعًا لم تتكلم عنها من قبل... ولفهم رؤيتها وأعماقها، لا بد من التوقف عند حوار أجرته معها صحيفة "الجارديان" البريطانية، كانت إجاباتها صافية، مثل صوتها في الرواية، تحدّثت فيه عن الطقوس والكتابة والصداع الذي علمها التواضع...! عندما سُئلت: تكررين في صفحاتك الأولى أنكِ "ترغبين في أن تكتبي"... هل هذا الكتاب تحوّل جذري؟أجابت: "الأسلوب الذي كتبته به كان كطقس صغير أمارسه يوميًا، تطهير ذاتي،شعرت بأنني أقترب يومًا بعد يوم من شيءٍ في داخلي لا يُدمَّر، لا يُشوَّه... ثم جاء السؤال الشخصي عن الصداع النصفي: "يُذكرني بأني إنسانة. حين يهاجمني، يُجبِرني على التوقّف، ويجعلني متواضعة دائمًا. لولاه، لو كنتُ في صحة ممتازة، ربما لم أكن لأصبح كاتبة...! وحين سُئلت: ومتى أدركتِ أنكِ كاتبة؟ "في الرابعة عشرة. كنت أبحث عن إجابات، ثم أدركت أن كل الكتّاب يكتبون بحثًا عن أجوبة لا يصلون إليها. فقلت: لماذا لا أفعل مثلهم؟" وعن والدها الروائي، أجابت ببساطة: "كان في بيتنا الكثير من الكتب... هذا كل شيء." لكن أكثر الإجابات دهشة جاءت حين سُئلت عن الكُتاب الذين تتمنى لقاءهم أجابت: "لا أرغب في لقائهم، لقد التقيتُ بهم بالفعل عبر كتبهم، إن شعرتُ بشيء وأنا أقرأ، فهذا لا يُقدّر بثمن، الكاتب يُقدّم أفضل ما عنده في كتابه، وهذا يكفيني." أما عن أثر فوزها بجائزة "البوكر"، فقد كانت صادقة حين قالت: "ساعدني على الوصول إلى جمهور أوسع، لكنه جلب معه اهتمامًا زائدًا... وبعد شهور قليلة، تمنيت أن أستعيد خصوصيتي، لأن الاهتمام الزائد...ليس جيدًا للكاتب." نلتقي الأسبوع القادم بإذن الله، مع قراءة مختلفة، وكتاب آخر.

كتابةٌ بلونٍ أبيض على جرحٍ لم يلتئم!
كتابةٌ بلونٍ أبيض على جرحٍ لم يلتئم!

البوابة

time١٣-٠٧-٢٠٢٥

  • البوابة

كتابةٌ بلونٍ أبيض على جرحٍ لم يلتئم!

في الأدب الكوري الحديث، تبرز الكاتبة "هان كانغ" كصوتٍ متفرّد، يكتب بلغة جديدة وبأسلوب مُبتكر. ذاع صيتها عالميًا بعد روايتها "النباتية"، التي حصدت جائزة مان بوكر الدولية عام 2016، وتُرجمت إلى أكثر من عشرين لغة. وتلتها أعمال أخرى مثل "الدرس الإنساني" و"الكتاب الأبيض"، وكلها تؤكد رؤيتها الجمالية المشبعة بحسٍّ وجوديّ دافق. وفي عام 2024، تُوّج هذا المسار الأدبي الفريد بأرفع وسام عالمي، وهو جائزة نوبل في الأدب. وجاء في حيثيات الجائزة أنها "تقديرًا لنثرها الشعري المكثّف الذي يواجه الصدمات التاريخية ويكشف هشاشة الحياة البشرية"، فكانت الجائزة تتويجًا لمسيرةٍ أدبية نادرة، وشهادةً بقدرة اللغة الهامسة على أن تُلامس أعماق الإنسانية. وكما هو معلوم، فهي أول كاتبة كورية جنوبية تنال جائزة نوبل، وأول امرأة آسيوية تفوز بها منذ سنوات طويلة. وقد كان يمكنني أن أتحدث عن روايتها الشهيرة "النباتية"، أو عن تأملاتها في "الدرس الإنساني"، لكن شيئًا في رواية "الكتاب الأبيض" استوقفني على نحو خاص، بعد أن انتهيت من قراءتها. لم أجدها رواية تسرد أحداثًا وتتحدث عن مواقف ومشاعر، لكنها عملٌ يشتبك مع الوجع بهدوء، ويتأمل الوجود من زوايا ما لم يحدث. اللون الوحيد المسيطر في هذا العمل هو الأبيض. لكنه بياض لا يُبشّر، بل يحتشد بالفقد، والتطهّر، والحنين إلى خلاصٍ غامض. عملٌ شخصيٌّ وعالميٌّ في آنٍ معًا؛ بسيطٌ وعميق، هامسٌ وصارخ، كأنه صلاة داخلية كتبتها روحٌ تقف على حافة الحياة. "الكتاب الأبيض" – الذي بلغ القائمة القصيرة لجائزة مان بوكر الدولية عام 2018، وصدرت ترجمته العربية عن الأستاذ محمد نجيب – ليس رواية بالمعنى التقليدي، بل أقرب إلى تراتيل حزينة، مكتوبة بلونٍ أبيض، كلون البراءة، والغياب، والولادة التي لم تكتمل، والكتابة التي تحاول تضميد الزمن، لا وصفه. في مقدمته، تروي الكاتبة "هان كانغ" كيف قررت في أحد فصول الربيع أن تكتب عن "الأشياء البيضاء": القماط، ثوب وليد، ملح، جليد، قمر، ورقة بيضاء، كفن... لكنها لم تكن تكتب عن الأشياء بذاتها، بل عمّا تثيره فيها من فيضٍ شعوريّ قديم. لقد كتبت وكأنها تمسك ببلسمٍ أبيض، لتضعه فوق جرحٍ دفين لم يندمل. وسألت نفسها حينها: هل أريدُ حقًا أن أختبئ بين الكلمات؟ وهل يمكن لشاشٍ أبيض أن يُخفي هذا الألم؟ البياض عندها لم يكن تأمّلًا جماليًّا فحسب، بل استدعاءً لفقدٍ شخصيّ موغل في الطفولة؛ أختها الكبرى التي ماتت بعد ولادتها بساعات قليلة، وكانت هذه الرواية محاولة لمنح تلك الطفلة الغائبة حياةً رمزية على الورق، وردّ اعتبارٍ لها، ولو بلونٍ خافت. تتوقف الكاتبة عن مشروع كتاباتها، وتغادر إلى مدينة غريبة لم تطأها من قبل. تمشي فيها كمن يزرع نفسه من جديد في تربةٍ أخرى، وتواجه الوحدة والبرودة والصداع النصفيّ الذي يلازمها منذ مراهقتها. وتكتب بأنه في ليلة شتائية، يصبح الزمن ملموسًا كالإبر، تخترق قلبها لحظةً بلحظة، وتجبرها على التوقف... لا لشيء، إلا لتحمّل الألم. دعني أنقل لك، عزيزي القارئ، فقرةً من مقدمة "الكتاب الأبيض" لتشارك مشاعرها المتدفقة والمخبوءة في ثنايا خلاياها: "كلُ لحظةٍ هي قفزةٌ إلى الأمامِ من فوقِ جرفٍ غير مرئيّ، حيث تتجدّدُ حوافُ الزمنِ باستمرارٍ. نرفعُ أقدامَنا من على الأرضِ الصلبةِ للحياةِ التي عشناها حتى الآن، ونأخذُ الخطوةَ التالية المحفوفة بالمخاطرِ نحو المجهول، نحو الهواءِ الفارغِ. لا نفعلُ ذلك كي نثبتَ امتلاكَنا لشجاعةٍ من نوعٍ خاصٍّ، بل لأنه لا يوجد أمامنا طريقٌ آخرُ... الآن، في هذه اللحظة، أشعرُ بإثارةٍ مُدَوِخَةٍ تسري في داخلي، بينما أخطو بتهوّرٍ نحو زمنٍ لم أعشه بعد، نحو كتابٍ لم أكتبْه بعد." لا أريد أن أستمر في كتابة الفقرة حتى لا أدخلك عنوة إلى أحزانها... الأسبوع القادم، بإذن الله، أستكمل القراءة في هذا العمل الفريد، للكاتبة التي لا تكتب فحسب، بل تُصغي للألم، وتدوّنه.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store