
غزة تكشف حقيقة اليسار الفرنسي
"كانت فرنسا دوما إلى جانب إسرائيل منذ اليوم الأول، وتأسيسها عام 1948 كان فرحة كبيرة".
الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند
يجمع كلًّا من فرانسوا ميتران وفرانسوا هولاند الكثير من القواسم المشتركة، فهما رئيسان فرنسيان يساريان، وهما صديقان مُقرَّبان من إسرائيل، وخذلتهما إسرائيل في الوقت نفسه.
ميتران، الذي أصبح في مارس/آذار 1982 أول رئيس فرنسي يزور دولة الاحتلال منذ 35 عاما، وألقى خطابا حينها في الكنيست أكَّد فيه ضرورة وجود إسرائيل وعيشها في أمن وأمان، كان قد انتقد في الخطاب نفسه الاستيطان في الضفة الغربية، وقال إن "حق إسرائيل في الوجود" يجب ألا يكون على حساب حقوق الشعب الفلسطيني.
كان ذكر حقوق الشعب الفلسطيني يعني مباشرة في تل أبيب الدخول إلى حقل ألغام "معاداة إسرائيل". وقد ازداد الأمر سوءا بعد أشهر قليلة حين غزا جيش الاحتلال لبنان عام 1982، إذ صرَّح ميتران في مؤتمر صحفي عُقد في باريس بأن الهجوم الإسرائيلي على لبنان تهديد خطير للسِّلم في الشرق الأوسط، وأنه لا يمكن قبول قتل المدنيين وتحطيم عاصمة مثل بيروت، واصفا اجتياح إسرائيل للبنان بـ"العدوان المفرط" و"انتهاك القانون الدولي"، وما أشبه اليوم بالبارحة.
أما الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، فله كلام كثير في مدح إسرائيل، منه ما صرَّح به أثناء زيارته الرسمية لدولة الاحتلال في نوفمبر/تشرين الثاني 2013، حين قال برومانسية شديدة إنه لو قيل له إن عليه الغناء للتعبير عن حبه الكبير لإسرائيل ومسؤوليها لفعل ذلك: "كنت سأفعل ذلك من أجل الصداقة بيني وبين بنيامين، من أجل إسرائيل وفرنسا، حتى لو كنت أُغني بشكل سيئ".
بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أعلن هولاند تعاطفه وتضامنه اللا مشروط مع دولة الاحتلال ضد ما وصفه بـ"المذبحة التي ارتكبتها منظمة إرهابية"، دون أن "يُغنّي بالضرورة"!. بيد أن إسرائيل سرعان ما خذلته بسبب الدم الذي سال في غزة إثر رغبة جيش الاحتلال المحمومة في الانتقام من كل مظهر للحياة في القطاع المحاصر.
في مقابلة مع إذاعة "فرانس إنتر" في 4 أبريل/نيسان 2024، قال هولاند إن الوقت قد حان لكي تتوقف إسرائيل، لأن الأمر لم يعد مقبولا ولا محتملا: "لقد عبَّرنا عن تضامننا مع إسرائيل بعد السابع من أكتوبر، وبعد هذه المجزرة غير المحتملة، نعم، لكن أن نسمح الآن بتجويع السكان المدنيين، وأن تُحرم النساء حتى من العلاج، فهذا أمر لا يُحتمل. ولذلك، يجب الآن ممارسة نوع من الضغط".
في فبراير/شباط 2025، قال هولاند في تدوينة على موقع "إكس" إن الوضع في غزة أصبح "لا يُطاق"، ودعا إلى فرض عقوبات أوروبية على إسرائيل.
ليست تلك إلا نبذة مبسطة عن علاقة إسرائيل الغريبة والمتوترة مع قطاع من اليسار الفرنسي، وذلك لأن اليسار الفرنسي لطالما شكَّل طيفا واسعا ومتنوِّعا. فحتى اليوم، هناك يسار صهيوني، وهناك يسار يُعتبر "معاديا للسامية" من وجهة نظر إسرائيل.
مثله مثل اليسار في شتى أنحاء العالم، تُشكِّل اليسار الفرنسي مجموعة أفكار ثورية تغيَّرت وتنوَّعت مع سقوط الاتحاد السوفياتي ، حتى أصبحت هناك اختلافات جوهرية فيما بين الاتجاهات اليسارية المختلفة، حول الاقتصاد والعلاقات الخارجية، وحتى ملفات مثل الوقوف ضد إسرائيل.
اليسار واليسار الآخر
ما انعكاس كل ذلك على العلاقة المعقدة مع دولة الاحتلال؟ في مايو/أيار 2023، رفضت الجمعية الوطنية الفرنسية مقترح قرار تقدم به الحزب الشيوعي الفرنسي وحزب فرنسا الأبية (أقصى اليسار) لإدانة نظام الفصل العنصري الذي تمارسه دولة الاحتلال ضد الفلسطينيين، وضمَّ هذا المقترح دعوة الحكومة الفرنسية لوضع حدٍّ للاستيطان ومقاطعة إسرائيل اقتصاديا.
وقد أحدث الاقتراح انقسامات في صفوف اليسار الفرنسي، فقالت النائبة إيرسيليا سوديه عن حزب فرنسا الأبية إنه لا يمكن التقدم في الديمقراطية الداخلية في إسرائيل دون نجاح في إنهاء الفصل العنصري والاستعمار، معتبرة أنه لا يجب الخوف من استعمال كلمة "الفصل العنصري" في مواجهة إسرائيل وفي وصف الوقائع على الأرض.
في المقابل، حيث يجلس نواب الحزب الاشتراكي الفرنسي، ساد الحرج إلى حدٍّ جعل النائب جيروم غيدي يقول إن ما يُطالب به رفاقه اليساريون يُقوِّض القضية التي يدافعون عنها.
وقد أتى التعليق في السياق نفسه الذي سار فيه الحزب الاشتراكي، الذي أصدر بيانا صحفيا قال فيه إنه يرفض استخدام كلمة "الفصل العنصري"، ويرفض الدعوة إلى تقنين مقاطعة المنتجات الإسرائيلية لأنه يُعَد تمييزا، ومن ثمَّ انضم الحزب الاشتراكي إلى قائمة رافضي القرار، وهم الكتلة الرئاسية ذات السياسات اليمينية، ثم اليمين الكلاسيكي ومن بعده اليمين المتطرف، مما ترتَّب عليه رفض المقترح.
تعمَّق الخلاف من داخل التيار اليساري إلى داخل الحزب الاشتراكي نفسه، وذلك بعد نشر بيان بعنوان "دائرة أصدقاء إسرائيل" في السادس من مايو/أيار 2024 على الموقع الرسمي للحزب.
وكان النص مثيرا للجدل، حتى إنه مُسِح بعدها بفترة وجيزة. ويقول البيان إن "الحزب الاشتراكي في فرنسا لا يُعقَل ألا يكون صهيونيا وهو الذي يدافع عن حق الشعوب في تقرير مصيرها".
إعلان
ولذلك، بعد هجمات السابع من أكتوبر، رأى الحزب (أو مجموعة منه) أن من الضروري تأسيس دائرة أصدقاء إسرائيل، كما فعل حزب العمال البريطاني.
في البيان نفسه قال الموقِّعون إن الامتناع عن دعم إسرائيل بوضوح يعني خيانة الشرعية الاشتراكية وفقدان الأمل في الفوز بالانتخابات، التي كانت على الأبواب آنذاك.
وقد كتب "أصدقاء إسرائيل" أيضا أن هناك تناقضا في مطالبة الكثيرين بوقف إطلاق النار دون المطالبة باستسلام حركة حماس، وهو ما يشبه سياسة استرضاء الديكتاتوريات، وذلك لأن الحزب لم يعلن الدعم للرهائن الإسرائيليين، ومن بينهم مزدوجو الجنسية الذين يحملون الجنسية الفرنسية.
وقد دعا الموقِّعون إلى دعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، مع التفريق بين النقد الحكومي والانسحاب الكامل من دعم إسرائيل، فاليسار الفرنسي وإن كان يدعم اليسار الإسرائيلي، فإنه يدعم أيضا إسرائيل ذاتها بوصفها دولة. لم يقف البيان هنا، بل ذهب إلى ما هو أبعد في دعم نتنياهو نفسه، حينما قال إن الجميع يعلم بأن إسرائيل تتخذ خطوات فريدة للحد من الخسائر المدنية. كيف ذلك؟ باستخدام قنابل دقيقة، وتحذير المدنيين وإخلائهم.
كان البيان مُفرطا في الحماس لصالح إسرائيل، وصحيح أنه واجه معارضة داخلية قوية أجبرت كُتَّابه على حذفه، لكنه جاء بمنزلة تطور طبيعي لبيان نُشِر قبله في 27 مايو/أيار 2024، واختار له الحزب عنوان: "معاداة السامية في صفوف اليسار: بين الإقرار والفهم والمجابهة".
وقد استهل الحزب البيان المُطوَّل بالحديث عن العودة المُقلِقة لمعاداة السامية التي شهدتها فرنسا مؤخرا، حيث أشار إلى تسجيل 1576 واقعة مُعادية لليهود مقارنة بـ476 واقعة عام 2022، مما يدفع للتساؤل حول قدرة الجمهورية على وضع أسس "العيش المشترك".
ويقول الحزب الاشتراكي إن معاداة السامية لم تعد مقتصرة على اليمين المتطرف، فقد ظهرت داخل اليسار، الذي من المفترض أنه حصن تاريخي للقيم الإنسانية والكونية. وقد وجَّه رفاق فرانسوا هولاند اتهاماته مباشرة لكلٍّ من حزب فرنسا الأبية والحزب الجديد المناهض للرأسمالية في استخدام الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ذريعةً لاستهداف اليهود داخل فرنسا ووصف "حماس" بالحركة المقاومة.
خرج البيان بمجموعة توصيات لحماية إسرائيل، وهي رفض الخلط بين مناهضة الصهيونية وإنكار شرعية إسرائيل، ورفض تصوير اليهود على أنهم طبقة مهيمنة ومن ثمَّ غير مُعرَّضة للتمييز، ورفض التساهل مع بعض خطابات الكراهية باسم الدفاع عن القضية الفلسطينية.
وقد رفض الاشتراكيون أشياء كثيرة أخرى، منها التمييز بين النقد السياسي المشروع لإسرائيل ومعاداة السامية، ورفض التشبيهات المتطرفة التي تُشيطن إسرائيل، وعدم التحالف مع مَن يرفضون إدانة الإرهاب أو يبررونه.
فرنسا الأبية
عادة ما ينقسم الطيف السياسي في فرنسا إلى ثلاثة اتجاهات حين يتعلَّق الأمر بإسرائيل: اليمين واليمين المتطرف، وهما داعمان لجميع تحركات إسرائيل، ويتبنيان فكر بنيامين نتنياهو الذي يقول إن الكيان لا يدافع عن نفسه فحسب، بل يُمثِّل خط الدفاع الأول في وجه "الإرهاب الإسلامي". وهناك فريق ثانٍ يضُم الفريق الرئاسي واليسار الاشتراكي ، الذي يرى أن إسرائيل أخطأت وأسالت دماء كثيرة، وأن ما يحدث في غزة فظيع، بيد أنه يرفض إدانة إسرائيل صراحة ويكتفي بانتقاد سياسات الحكومة. أما الفريق الثالث فهو ما يُعرف إعلاميا بـ"اليسار الراديكالي" ، الذي لا يبدو متحمسا لإسرائيل، وهو أكثر انفتاحا على استعمال مصطلح "الإبادة العِرقية" لوصف ما يحدث في غزة وفي فلسطين عموما.
قبل حرب يونيو/حزيران 1967، كانت إسرائيل تُصوَّر في بعض أوساط اليسار الفرنسي بوصفها دولة تقدُّمية، مستوحاة من الاشتراكية الجماعية التي تجلَّت في نموذج مستوطنات الكيبوتس. ولكن بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان، وترسُّخ التحالف مع الولايات المتحدة، تغيَّر هذا التصور جذريا، وباتت إسرائيل تُرى على أنها قوة استعمارية توسُّعية، وممثلة للمشروع الأميركي في الشرق الأوسط.
ومن هنا تبنَّت الدولة الفرنسية ذاتها مواقف مغايرة، وحاولت أن تستفيد من التحوُّل في التيار اليساري، وفي الوقت نفسه أن تبني وجودا مستقلا خاصا بها في المنطقة العربية بعيدا عن النفوذ الأميركي. كانت ذروة هذا الاتجاه أثناء رئاسة شارل ديغول في منتصف الستينيات، الذي تحفَّظ على التحالف المفتوح مع واشنطن وسحب بلاده من القيادة العسكرية لحلف الناتو عام 1966، ثم أدان العدوان على الدول العربية عام 1967، بل وأوقف أي صفقات تسليح لصالح إسرائيل بعد أن كانت الأخيرة حليفة وثيقة لباريس طيلة الخمسينيات.
في هذا السياق، تبنّت العديد من منظمات اليسار الراديكالي، مثل "الرابطة الشيوعية الثورية" و"اليسار البروليتاري"، خطابا داعما للمقاومة الفلسطينية، ورأت في النضال الفلسطيني تجسيدا جديدا لحركات التحرُّر في العالم الثالث. ولم يكن هذا الدعم معنويا فقط، بل شمل تنظيم مظاهرات، وحملات توعية، وطباعة منشورات، وفي بعض الحالات إقامة علاقة مباشرة مع منظمات فلسطينية.
لم يكُن التضامن مع الفلسطينيين محصورا في مناهضة الاحتلال، بل ارتبط برؤية أيديولوجيا تعتبر القضية الفلسطينية رمزا للثورة الأممية، وترى في منظمة التحرير الفلسطينية وريثة للنضالات العالمية، مثل الثورة الكوبية والفيتنامية. في المقابل، نظر هذا التيار إلى الصهيونية بوصفها أداة استعمارية تمارس القمع باسم "الذاكرة اليهودية".
ولكن هذا الخطاب لم يكن خاليا من الإشكالات، إذ كان غالبا ما يتجاهل التفرقة الضرورية بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية، مما فتح المجال لاتهامات سياسية وإعلامية بتبنِّيه مواقف ملتبسة تجاه اليهود.
يشير الكاتب والسياسي الشيوعي الفرنسي آلان غريش إلى عدد من التناقضات التي صاحبت هذا الالتزام السياسي.
أولا ، لم يُعِر هذا التيار اهتماما كافيا لمعاداة السامية في السياق الفرنسي، وهي قضية كانت حيَّة بالفعل في فرنسا بعد أقل من عقديْن على نهاية الحرب العالمية الثانية وما شهدته من استفحال الظاهرة تحت حكومة فيشي الموالية للنازيين. وثانيا ، كان تركيز اليسار آنذاك على البُعد الخارجي وحده، ولم يلتفت كثيرا إلى معالجة التحديات الداخلية مثل العنصرية والهويات الدينية والتمييز الاجتماعي في فرنسا.
كما أن الكثير من تحركاته بقيت رمزية ومحدودة التأثير داخل الفضاء السياسي الفرنسي، مما جعل حضوره قويا في الميدان النضالي لكنه ضعيف في المؤسسات. ولعل غيابه عن النقاشات الوطنية حول السياسات العامة قد عزَّز من صورته بوصفه تيارا احتجاجيا أكثر منه بديلا سياسيا حقيقيا.
طرح مقال غريش تساؤلا مهما: كيف يمكن أن يظل تيار سياسي أممي يدافع عن قضايا الشعوب المضطهدة، دون أن يتفاعل بعمق مع السياق المحلي الذي يعيش فيه؟ وهل يمكن الدفاع عن القضية الفلسطينية دون الوقوع في الخطاب الهوياتي أو الطعن في الذاكرة اليهودية؟ يرى غريش أن هذه التوترات ظلت قائمة، وأحيانا مكبوتة، في قلب خطاب اليسار الراديكالي الفرنسي. وقد خلص إلى أن علاقة اليسار بالقضية الفلسطينية كانت من أبرز ملامح هويته السياسية منذ نهاية الستينيات، لكنها كانت مرآة لتناقضاته في الوقت ذاته.
بعد انحسار اليسار الراديكالي الجزئي في التسعينيات ومطلع الألفية، عادت أفكاره من جديد على خلفية تعثُّر الرأسمالية العالمية، ومن ثمَّ ظهر حزب فرنسا الأبية بقيادة جان-لوك ميلانشون ، الذي جعل من القضية الفلسطينية محورا لحملته الانتخابية العام الماضي، إلى جانب محاولات اشتباكه مع الأزمة الاجتماعية الفرنسية، في سعي ربما لرأب الصدع القديم بين الانحياز للقضايا الخارجية والاهتمام بالداخل.
وقد أدان الاشتراكيون رفض فرنسا الأبية وصف حركة حماس بالمنظمة الإرهابية. وحين حلَّت الذكرى الأولى للهجمات التي شنَّتها حماس على إسرائيل في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تسبَّبت مواقف فرنسا الأبية من حرب غزة في انقسام عميق داخل اليسار الفرنسي. فقد امتنع ميلانشون عن إبداء أي تعاطف تجاه الرهائن الإسرائيليين الذين لا يزالون محتجزين لدى حماس أكثر من مرة. بل على العكس، دعا يوم الجمعة 4 أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى رفع "أعلام فلسطين في كل مكان ممكن".
جاء ذلك ردا على تعميم صدر في اليوم نفسه عن الوزير باتريك هيتزل، حذَّر فيه رؤساء الجامعات وذكَّرهم بمسؤوليتهم في "الحفاظ على النظام" قبيل الذكرى السنوية لهجوم حماس. وقد أدان الوزير "بحزم" التظاهرات المؤيدة لفلسطين، معتبرا أنها تتعارض مع مبادئ الحياد والعلمانية في مؤسسات التعليم العالي. ورد ميلانشون بالقول: "هذا استغلال للسلطة. أنا أدعو شباب الجامعات إلى التمرُّد وعدم قبول هذا المنع".
ألوان الإدانة المتعدِّدة
إنه جدل جديد يُضاف إلى سلسلة طويلة من الجدل حول فرنسا الأبية منذ عام. فبعيدا عن الزلزال الجيوسياسي، شكَّل رد فعل هذا التيار تجاه هجمات 7 أكتوبر تحوُّلا عمَّق الشروخ داخل اليسار وجعلها جراحا مفتوحة. ففي أعقاب الهجوم، أدان الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي الفرنسي وحزب الخضر بوضوح "الهجمات البشعة" التي شنَّتها حماس، واصفين إياها بـ"الإرهابية". أما ميلانشون، فاختار وضع "المجازر" في سياقها، وقال على منصة إكس إن "العنف لا يولد إلا العنف".
وقد ظهرت اللهجة ذاتها في بيان حركة "فرنسا الأبية"، إذ وصفت ما حدث بـ"هجوم مسلح نفذته قوى فلسطينية بقيادة حماس"، وذلك "في سياق تصاعد سياسة الاحتلال الإسرائيلي في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية". وقد أعطت هذه المواقف انطباعا بتقليل مسؤولية حماس، مما أثار موجة تنديد واسعة في الأوساط السياسية، لا سيَّما داخل اليسار. وفي 17 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أُعلن عن القطيعة رسميا حين انسحب الحزب الاشتراكي من تحالف الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد (NUPES).
تمسَّكت فرنسا الأبية بمناورات قانونية آنذاك لتفادي استخدام كلمة "إرهابية" عند الحديث عن حماس، متذرّعةً بأنها تتحدث بلغة القانون الدولي. ولكن في الواقع، كان الهدف هو إظهار أنها أكثر انحيازا للقضية الفلسطينية من الآخرين، بحسب ما ذكره أحد أعضاء الحركة. ولذا فإن ميلانشون، الذي ظل طوال حياته بعيدا عن الانخراط المباشر فيما يتعلَّق بالشرق الأوسط، جعل من الدفاع عن القضية الفلسطينية الخط الناظم الجديد لسياساته.
وإن كان تبني ميلانشون لهذا النضال التاريخي محل ترحيب لدى البعض، فإن ما يُؤخذ عليه هو غياب التعاطف مع الشعب الإسرائيلي ومع يهود فرنسا، إذ إن تصريحاته أعادت إحياء تهم "معاداة السامية" التي لطالما نفاها عن نفسه.
ففي 22 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وأثناء قيام رئيسة الجمعية الوطنية بزيارة تضامنية إلى إسرائيل، اتهمها ميلانشون بأنها تُخيِّم في تل أبيب لتشجيع المجازر في غزة، وبأنها لا تتحدث باسم الشعب الفرنسي. وقد اعتبر رئيس المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا، يوناتان عرفي، أن هذه التصريحات تُمثِّل خطابا معاديا للسامية، مما أثار عاصفة سياسية امتدت من الحكومة إلى الحزب الاشتراكي.
في 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، رفض ميلانشون المشاركة في مسيرة ضد معاداة السامية، بحجة وجود حزب التجمُّع الوطني فيها، مخالفا بذلك بقية أطياف اليسار.
وفي أبريل/نيسان، شبَّه رئيس جامعة ليل السابق رئيسها الحالي بالنازي أدولف أيخمان، بعد أن ألغى مؤتمرا عن فلسطين. وقد رفعت الحكومة آنذاك دعوى قضائية ضده بسبب تصريحه الذي عُدَّ مُسيئا. في هذه الأثناء، أصبحت ريما حسن، المحامية الفرنسية-الفلسطينية، رمزا لحزب فرنسا الأبية، إذ أخذت تتنقل بين الجامعات رفقة ميلانشون، وتدافع بقوة عن الشعب الفلسطيني وتصف أفعال إسرائيل بأنها بشاعة لا توصف.
على الأرض، تبذل فرنسا الأبية جهدا كي تظهر على أنها الحامي الوحيد للفلسطينيين، ففي فبراير/شباط 2024، زار وفد من نوابها مدينة رفح المصرية، على الحدود مع غزة، لتأكيد تضامنهم. وعلى مدار أسابيع، أخذ أنصارها يتظاهرون كل يوم سبت دعما للشعب الفلسطيني.
وقد لاقت هذه التعبئة استحسانا لدى بعض سكان الضواحي وبين الشباب. وفي مساء 9 يونيو/حزيران 2024، عندما أُعلنت نتائج الانتخابات الأوروبية، اعتبر قادة فرنسا الأبية أن تركيزهم على غزة آتى ثماره، فقد حصلت الحركة على 9,9% من الأصوات، بزيادة مليون صوت مقارنة بعام 2019، وقال منسق الحركة مانويل بومبار في سبتمبر/أيلول الماضي إن "هذه الحملة كانت الأكثر وضوحا من حيث الرسائل، وقد نجحنا في التمركز حول قضايا محددة".
ولكن بعد عام على هذا التحوُّل، لا تزال المرارة قائمة لدى البعض. فمن جهته، يقول النائب الاشتراكي جيروم غيدي -وهو من تلاميذ ميلانشون السابقين-: "خطأ وجريمة لا تُغتفر جلب الصراع إلى الداخل الفرنسي. ولولا الانتخابات الأوروبية، لما طُرحت مسألة غزة". ويضيف المؤرخ ميشيل دريفوس، مؤلف كتاب "معاداة السامية لدى اليسار"، قائلا إن "هجمات 7 أكتوبر تسببت في تصعيد التوترات داخل اليسار، وإن فرنسا الأبية راهنت على النقد اللاذع لإسرائيل من أجل كسب جمهور أوسع بين المسلمين".
منذ الانتخابات الأوروبية، تراجع زخم التعبئة حول القضية الفلسطينية في خطاب فرنسا الأبية، وتأجلت النقاشات الحسَّاسة داخل اليسار ربما من أجل الحفاظ على وحدة الجبهة الشعبية الجديدة.
لكن الخلافات لا تزال قائمة، وبعد أن تبنَّت الحركة أخيرا مصطلح "إرهابي" عند الحديث عن حماس، ظهر انقسام لغوي جديد حول استخدام مصطلح "الإبادة الجماعية". ففي 28 سبتمبر/أيلول الماضي، صرَّح ميلانشون في مدينة مند بأن الإبادة الجماعية مستمرة في غزة، مما أثار الجدل من جديد حول الموقف من العملية العسكرية الإسرائيلية.
حين توسَّعت الحرب إلى لبنان العام الماضي، ظهرت ساحة جديدة للخلافات المكتومة بين شتى أطياف اليسار. وبينما اتفق الاشتراكيون وفرنسا الأبية على إدانة الغارات الإسرائيلية على لبنان، حرص الحزب الاشتراكي أيضا على إدانة صواريخ حزب الله على شمال إسرائيل، وهو ما لم يفعله ميلانشون الذي اكتفى بالقول إن حزب الله هو أحد مكونات الشعب اللبناني. وردَّت حينها النائبة الاشتراكية لورانس روسينول بقولها: "ما فعله ميلانشون مع حماس، يفعله الآن مع حزب الله. إننا في الحزب الاشتراكي نعلم أن هناك مشكلة".
في الأخير، ثمَّة تباين واضح بين اليسار التقليدي واليسار الراديكالي في فرنسا، ويبدو أن قضية غزة قد ساعدت على فرز الطرفيْن وأنصارهما في الشارع الفرنسي، كما فعلت في انتخابات الصيف الماضي، وهو فرز سيُسهِم لا شك على المدى البعيد في رسم توازنات الساحة السياسية الفرنسية، التي تبدو مُقبلة من بعد ماكرون على تقلُّبات سياسة جادة، من اليمين المتطرف واليسار الراديكالي على حدٍّ سواء.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
الأمم المتحدة تحدد 4 خيارات لحل أزمة الأونروا
حددت مراجعة أمر بها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش لأعمال وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) التابعة للمنظمة الدولية 4 سبل ممكنة للمضي قدما في عمل الوكالة التي فقدت التمويل الأميركي وحظرتها إسرائيل. وتتضمن المقترحات التي اطلعت عليها وكالة رويترز إما تجميد النشاط، وهو ما قد يؤدي إلى انهيار الأونروا، أو تقليص الخدمات أو إنشاء مجلس تنفيذي لتقديم المشورة للوكالة أو الإبقاء على جوهر عملها المعنِي بالحقوق مع نقل الخدمات إلى الحكومات المضيفة والسلطة الفلسطينية. وكان غوتيريش قد أمر بإجراء تقييم إستراتيجي للأونروا في أبريل/نيسان الماضي في إطار جهوده الأوسع لإصلاح الأمم المتحدة، لكن الجمعية العامة للأمم المتحدة المكونة من 193 عضوا هي وحدها القادرة على تغيير تفويض الأونروا. وكتب غوتيريش في رسالة تقديم التقييم إلى الجمعية يوم الاثنين "أرى أن من الضروري أن تتخذ الدول الأعضاء إجراءات لحماية حقوق اللاجئين الفلسطينيين وتفويض الأونروا والسلام والأمن الإقليميين". مراجعة وأزمة وتأتي المراجعة بعد أن أقرت إسرائيل في 30 يناير/كانون الثاني قانونا يحظر عمل الأونروا على الأراضي الإسرائيلية، بما في ذلك القدس الشرقية التي ضمتها إسرائيل في خطوة غير معترف بها دوليا، ويمنعها من التواصل مع السلطات الإسرائيلية. وتواجه الأونروا أيضا أزمة مالية خانقة وعجزا بقيمة 200 مليون دولار. وكانت الولايات المتحدة أكبر مانح للأونروا، لكن الرئيس السابق جو بايدن أوقف التمويل مؤقتا في يناير/كانون الثاني 2024 بعد أن اتهمت إسرائيل نحو 12 من موظفي الوكالة بالمشاركة في عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس) على إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، والذي أدى إلى اندلاع الحرب في قطاع غزة. وجرى تمديد وقف التمويل من قبل الكونغرس الأميركي والرئيس دونالد ترامب. وتأسست أونروا في عام 1949 بموجب تفويض من الجمعية العامة للأمم المتحدة، لتقديم الدعم الإغاثي والتعليم والصحة للاجئين الفلسطينيين في 5 مناطق هي الأردن ولبنان وسوريا والضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة. وقد قدمت منذ تأسيسها خدمات حيوية لنحو 5.7 ملايين لاجئ فلسطيني.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
كالكاليست: ملايين جديدة للحريديم رغم الكارثة الاقتصادية
قالت صحيفة كالكاليست إن لجنة المالية في الكنيست أقرت، صباح اليوم الأربعاء، تحويل 7 ملايين شيكل إضافية (نحو 1.92 مليون دولار) لصالح الهيئة الحكومية للتنمية الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع الحريدي ، التابعة لمكتب رئيس الحكومة، إلى جانب إضافة 12 وظيفة جديدة للهيئة، في خطوة أثارت انتقادات شديدة داخل أروقة الكنيست وخارجها. وأشارت الصحيفة إلى أن هذا المبلغ يُموّل من الاحتياطي العام في ميزانية الدولة لعام 2025، لافتة إلى أن ميزانية الهيئة ارتفعت من 679 مليون شيكل (نحو 186 مليون دولار) في عام 2024 إلى 790 مليون شيكل (نحو 216 مليون دولار) في عام 2025. ملايين إضافية رغم غياب النواب الحريديم وذكرت كالكاليست أن هذه الخطوة جاءت بعد يوم واحد فقط من إقرار اللجنة تحويلات ضخمة لمؤسسات محسوبة على حزبي "يهدوت هتوراة" و"شاس"، تجاوزت قيمتها 166 مليون شيكل (نحو 45.5 مليون دولار) لدعم التعليم الديني، بالإضافة إلى نحو 300 مليون شيكل (أكثر من 82 مليون دولار) لصالح وزارة الاستيطان برئاسة أوريت ستروك. ورغم أن نواب "يهدوت هتوراة" و"شاس" قاطعوا جلسات الهيئة العامة في الكنيست خلال اليومين الماضيين، احتجاجًا على تجميد تشريع ما يُعرف بـ"قانون التهرب من الخدمة العسكرية"، أوضحت الصحيفة أن هذه التحويلات مرّت دون عوائق. ومن المتوقع، بحسب الصحيفة، أن يبقى هذا القانون مجمّدًا حتى نهاية دورة الصيف البرلمانية خلال أسبوعين. وأضافت كالكاليست أن النواب الحريديم أعلنوا مشاركتهم في جلسات اليوم والتصويت مع الائتلاف الحكومي، بهدف إفشال مشاريع قوانين معارضة، من بينها مشروع قانون يُقيّد ولاية رئيس الوزراء بـ8 سنوات. تراشق حاد بين النواب داخل اللجنة ووفق ما نقلته الصحيفة، تحوّلت الجلسة إلى ساحة تراشق عنيف بالكلمات، خاصة بين رئيس لجنة المالية، عضو الكنيست موشيه غافني، وعضوة اللجنة نعماه لازيمي. وخلال مناقشة التحويلات، قالت لازيمي: "في كل بند أدرجتم النهب والسرقة". إعلان وردّ غافني: "تريدين الحقيقة؟ لم تُحوّل مليارات. هذا أسوأ وضع مالي مرّت به اليشيفوت" (المدارس الدينية). لكن لازيمي أجابته: "لو لم نُوقف الأموال، لتم تمرير المليارات. لا تلعب دور الضحية. مؤسساتكم لا تُدرّس المناهج الأساسية، هذا تعليم فئوي يُقصي الآخرين. أنتم الكارثة التي حلت بدولة الشعب اليهودي". ورد غافني بانفعال: "أنتِ الكارثة التي حلت بالشعب اليهودي". فقالت لازيمي: "أنت غير سوي، وفقدت السيطرة. نحن ضد التهرب الكامل من الخدمة في القطاع الحريدي". الحكومة تتلقى اتهامات بالفشل الشامل وأشارت كالكاليست إلى أن النائب ناؤور شيري من حزب "يش عتيد" تدخّل في النقاش موجهًا حديثه لغافني بقوله: "إذا كان ما تقوله هو أسوأ وضع للتمويل، فأنا أقول إن 7 أكتوبر/تشرين الأول هو الأسوأ في تاريخ الشعب اليهودي. الوضع الاقتصادي كارثي، وفي يونيو/حزيران 2025 سُجّل أكبر عدد من الضحايا منذ قيام الدولة، بين العرب واليهود على حد سواء". وختم شيري مداخلته بقوله: "هذه الحكومة هي الأسوأ في تاريخ الشعب اليهودي".


الجزيرة
منذ 2 ساعات
- الجزيرة
رويترز: بدء عودة السوريين من لبنان في إطار خطة أممية
يستعد آلاف اللاجئين السوريين في لبنان للعودة إلى ديارهم هذا الأسبوع بموجب أول خطة مدعومة من الأمم المتحدة تقدم حوافز مالية، بعد أن أبدت الحكومة السورية ترحيبها بعودة جميع المواطنين إلى بلدهم. وقالت وزيرة الشؤون الاجتماعية في لبنان حنين السيد إن السوريين العائدين سيحصلون على 100 دولار لكل منهم في لبنان و400 دولار لكل أسرة عند الوصول إلى سوريا، مضيفة أن الخطة تغطي النقل وأن سلطات الحدود قررت إعفاءهم من الرسوم. وقالت حنين السيد لوكالة رويترز "أعتقد أنها بداية جيدة ومهمة.. أجرينا مناقشات وننسق هذا الأمر مع نظرائنا السوريين وأعتقد أن الأعداد سترتفع في الأسابيع المقبلة". وتجاوز عدد اللاجئين السوريين بعد اندلاع الصراع في سوريا عام 2011 ستة ملايين توجه معظمهم إلى تركيا ولبنان والأردن. ويوجد في لبنان أكبر تجمع للاجئين في العالم مقارنة بعدد السكان، إذ يستضيف نحو 1.5 مليون سوري بين نحو 4 ملايين لبناني. راغبون في العودة وقالت الوزيرة إن نحو 11 ألفا سجلوا أسماءهم للعودة من لبنان في الأسبوع الأول، وإن الحكومة تستهدف بموجب هذه الخطة أن يتراوح عدد العائدين بين 200 و400 ألف هذا العام. وأضافت أن الحكومة اللبنانية تركز على المخيمات غير الرسمية في لبنان حيث يعيش نحو 200 ألف لاجئ، وربما تمنح الأشخاص الذين يعولون أسرهم ويبقون في لبنان تصاريح عمل في قطاعات مثل الزراعة والبناء إذا عادت أسرهم إلى سوريا. وأظهر استطلاع أجرته الأمم المتحدة في وقت سابق من هذا العام أن ما يقرب من 30% من اللاجئين الذين يعيشون في دول الشرق الأوسط يرغبون في العودة بعد أن كانت النسبة 2% عندما كان الأسد في السلطة. وبحلول نهاية يونيو/حزيران 2025، قدرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن أكثر من 628 ألف سوري رجعوا إلى سوريا عبر البلدان المجاورة منذ 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، بما يشمل 191 ألف شخص عبر لبنان.