
رنين شومان.. هل له أي علاقة بكوارث قادمة في البحر المتوسط؟
في حين يزعم آخرون أن ترددات شومان تمثل "نبض الأرض" أو "نبض غايا"، فيقولون إن التردد 7.83 هرتزات هو تردد الأرض "الطبيعي"، ويجب أن يتناغم جسم الإنسان معه، بل يبيعون أجهزة تبعث موجات 7.83 هرتزات بزعم أنها تقلل التوتر وتعالج القلق وتوازن "الطاقة الداخلية" وتحمي من الإشعاع الكهرومغناطيسي.
على الجانب الآخر، يقال في منتديات ومجموعات نظرية المؤامرة إن الحكومات تتعمد "تشويش" هذا التردد (عبر تكنولوجيا الجيل الخامس لشبكات الهواتف الذكية) لإضعاف البشر. ولكن هل أي مما سبق من الادعاءات حقيقي؟
رنين شومان
الأرض ليست صامتة تماما، فبعيدًا عن أصوات الطبيعة وحركة المرور والتكنولوجيا، يتردد صدى كوكبنا بطنين كهرومغناطيسي غير مرئي، يُعرف باسم رنين شومان.
هذه الترددات الطبيعية، وإن كانت مجهولة إلى حد كبير لعامة الناس، تُدرس في فيزياء الغلاف الجوي، وأبحاث الطقس الفضائي، وحتى في فهم مناخ الأرض. ومع ذلك، فقد تشابكت أيضًا مع ادعاءات علمية زائفة وتفسيرات روحية بعيدة كل البعد عن جذورها العلمية.
يعرف "تردد شومان" بأنه مجموعة من الموجات الكهرومغناطيسية المنخفضة التردد للغاية، التي تتردد بين سطح الأرض والغلاف الأيوني (طبقة مشحونة من الغلاف الجوي العلوي)، ويمثلها البعض وكأنها بمنزلة "نبضات قلب" الأرض، لكن ليس بالمعنى البيولوجي، بل كظاهرة كهرومغناطيسية عالمية طبيعية.
يحدث هذا الرنين لأن الفضاء بين الأرض والغلاف الأيوني يعمل كتجاويف رنينية عملاقة، تشبه جسم الغيتار الذي يساعد على ظهور صوت الأوتار.
سُميت هذه الظاهرة تيمنًا باسم الفيزيائي الألماني وينفريد أوتو شومان، الذي تنبأ بوجودها عام 1952. واستخدم شومان معادلات ماكسويل لإظهار أن الموجات الكهرومغناطيسية يمكن أن تتذبذب في التجويف بين الأرض والغلاف الأيوني في ظل ظروف معينة.
إعلان
في حين كانت تنبؤات شومان نظرية، غير أن نيكولا تيسلا أجرى قياسات فعلية لتردد 7.83 هرتزات لأول مرة في أوائل القرن الـ20، وتم تأكيدها لاحقًا بشكل أوضح في ستينيات القرن الماضي باستخدام أدوات حساسة.
كيف يحدث؟
رنين شومان يحدث بسبب تفريغات البرق، فكل يوم، تحدث أكثر من 8 ملايين ضربة برق حول العالم، كل ضربة منها تُنتج نبضة كهرومغناطيسية قوية تنتشر في الغلاف الجوي، وبعض هذه الموجات ينعكس بين سطح الأرض والأيونوسفير، وتبقى عالقة داخل هذا التجويف
هذه الموجات تبدأ في الاهتزاز أو الرنين بترددات معينة، كما تهتز أوتار العود أو الكمان، بين سطح الأرض وطبقة الأيونوسفير توجد "مساحة" تُشبه صندوقا مغلقا أو تجويفا، كما في حالة الآلات الموسيقية، هذا التجويف يمكنه احتجاز الموجات الكهرومغناطيسية مثل موجات الراديو.
تتداخل الموجات العالقة في هذا "الصندوق" مع نفسها وتُنتج رنينًا ثابتًا بترددات محددة، تمامًا مثل الصدى داخل كهف.
يقاس رنين شومان بدقة، لأنه مفيد في نطاقات متنوعة، فمثلا يُمكن ذلك الباحثين من تقدير نشاط البرق العالمي، وإن التغيرات الطويلة المدى في سعة أو تردد رنين شومان قد تعكس تغيرات في درجة الحرارة العالمية أو الرطوبة أو النشاط الشمسي، ويُمكن أن تؤثر التغيرات في الرياح الشمسية والعواصف الجيومغناطيسية على طبقة الأيونوسفير، مما يُغير بدوره خصائص رنين شومان.
مشكلة الدراسة الواحدة
وقد افترضت بعض الدراسات أن رنين شومان قد يكون ذا علاقة بالزلازل، لكن للأسف فإن هذه النتائج لا تزال تواجه مشكلات عدة حتى تتأكد، منها أن حالات الشذوذ في رنين شومان رصدت في أثناء الزلازل، وفي أوقات لم تكن فيها زلازل كذلك، مما يعني أنه ربما لا يوجد ارتباط واضح بين الزلازل ورنين شومان.
وإلى جانب ذلك، لا يوجد دعم كاف لهذا النوع من الفرضيات، حيث لم تنشر كثير من الأوراق البحثية فيه، كما باءت محاولات فرق بحثية أخرى لتأكيد هذه العلاقة بالفشل.
ومن ثم لا يمكن أن نستدل بورقة بحثية واحدة أو عدة ورقات على صحة هذه العلاقة، وفي نطاقات العلوم يجب أن يكون هناك إجماع بين العلماء على تأكيد ظاهرة ما، ويتطلب ذلك عملا بحثيا كثيفا على مدى سنوات.
وحتى لحظة كتابة هذه الكلمات، فإنه لا توجد تقنية أو طريقة أو نظرية واحدة يمكن أن تتنبأ بوقوع الزلازل قبل حدوثها، وتقع جميع المحاولات في نطاق الفرضيات، حسب هيئة المسح الجيولوجي الأميركية.
ويجري ذلك أيضا على العلاقة بين تردد شومان وكوارث طبيعية مثل البراكين أو التسونامي، فمثلا سجلت دراسات قليلة جدا تغيّرات في تردد شومان وقت الانفجارات البركانية الكبيرة (وليس قبلها)، لكنها تظل مؤقتة وضعيفة وغير منتظمة.
ومثلا بعد تسونامي المحيط الهندي عام 2004 (وليس قبله) لاحظ بعض العلماء تغيرات في المجال الكهرومغناطيسي، ولكن لم يتم تأكيد أنها أثّرت مباشرة في تردد شومان.
العلوم الزائفة
ويجري ما سبق على الادعاءات بوجود علاقة بين تردد شومان والجسم البشري، فالأبحاث لا تزال أولية، أي أن معظم الأدلة تعتمد على مجموعات صغيرة أو تجارب محدودة، أو أن النتائج متضاربة.
إعلان
ومثلا لا يمتلك العلماء، ولم يقوموا بتصميم أي أجهزة دقيقة تعتمد على رنين شومان لعلاج أمراض أو تحسين المزاج.
لكن هذه الأفكار، التي تعد اقتراحات بحثية لم تجد دلائل لدعمها، تأخذها حركة العلوم الزائفة التي تنتشر حاليا بقوة في جوانب العالم، خاصة العالم الغربي، ويتم تضخيمها واعتبارها علما حقيقيا.
وعلى سبيل المثال، يعتمد منظرو حركات دينية مثل "العصر الجديد" على مثل هذه الخرافات العلمية في مناهج علاجية أو تأملية ليست علمية.
بل ويقوم هؤلاء باستخدام تشبيهات واستعارات مستمدة من العلوم التجريبية والنظريات العلمية والتكنولوجيا، بداية من الإشارة إلى أساليب شفاء معينة لا علاقة لها بفيزياء الكم على أنها "الشفاء الكمي"، وصولا إلى الحديث عن "الكون الهولوغرامي"، وهو فرضية علمية، واستخدام تلك الفرضية -بلغة العلم- للحديث عن كائنات متصلة ببعضها بعضا عبر ترددات معينة وأبعاد متعددة.
بمعنى آخر، نحن أمام حالة استخدام "عِلمي اللغة" للإشارة إلى المعتقدات والممارسات التي هي بالأساس "بعيدة كل البعد عن العلم".
تنتشر هذه الحركة (والحركات الشبيهة) في العالم حاليا، وتستمد أفكارها من الروحانيات الغربية الحديثة، مثل الثيوصوفيا والتنجيم والمسيميرية، ويعتقد المنتمون لها في العلاج بالطاقة والظواهر الخارقة للطبيعة، ويقدم ذلك في حلة تستخدم اصطلاحات علمية.
لكن في النهاية، فمواضيع العصر الجديد ومثلها من الحركات، يصفها العلماء والمختصون بالتبسيط المخل واستخدام مصطلحات علمية سطحية دون دعم تجريبي.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
سخونة مياه البحر المتوسط تنذر بأحداث مناخية متطرفة
تشهد منطقة البحر الأبيض المتوسط درجات حرارة سطح بحر قياسية و"شاذة" مما أدى إلى ارتفاع كبير في سخونة المياه. وتم رصد أشد ارتفاع بدرجات الحرارة في حوض البحر الأبيض المتوسط الغربي، مما ينذر بحسب الخبراء بحدوث أعاصير وفيضانات خصوصا فصل الخريف. ويوصف البحر المتوسط بـ"النقطة الساخنة" للتغير المناخي. فهو مساحة جغرافية شبه مغلقة تقريبا، تُرصد فيها آثار التغير المناخي التي تنعكس أيضا على درجة حرارة البحر في الوقت الحالي، ويُعدّ الخلل في درجة حرارة البحر المتوسط إيجابيا، أي أن الحرارة مرتفعة جدا مقارنة بالمعتاد. ويرى الباحثون أن ما يثير القلق بشأن ارتفاع درجات حرارة مياه البحر القياسية هو احتمالية تأثيرها على الأحوال الجوية القاسية والفيضانات خلال أواخر الصيف وأشهر الخريف، فالرطوبة العالية تؤدي إلى ارتفاع نقاط الندى، وبالتالي زيادة طاقة الحمل الحراري التي تُغذي العواصف الرعدية في الأسابيع والأشهر المقبلة. وتُعد موجة الحر المستمرة في البحر المتوسط أحد أهم سياقات "الشذوذ" البحرية المُلاحظة عالميا هذا العام. وهي موجة حر بحرية استثنائية أخرى، بعد ارتفاع ملحوظ في درجات حرارة البحار في السنوات الأخيرة. وغالبا ما تتفاقم موجات الحر البحرية بفعل الظروف الجوية (انعدام ضغط الرياح تحت ضغط مرتفع مع غطاء سحابي محدود). ويُظهر السجلات أن مواسم الصيف التي تُعزز هذه الأحداث قد يكون لها تأثير بالغ الأهمية، وخاصة على النظم البيئية للمياه الضحلة. وتتطور غالبا موجات الحر البحرية مع نشوء أنماط واسعة النطاق، مما يؤدي إلى موجات حر طويلة ومتواصلة بشكل غير معتاد، وبدرجات حرارة أعلى بكثير من المعدل الطبيعي. وتحدث هذه الموجات عادة تحت القبة الحرارية. وعندما يكون البحر أكثر سخونة تحصل عمليات تبخّر أكثر، ومن المحتمل تاليا أن نشهد المزيد من المياه في الغلاف الجوي، واحتمال هطول الأمطار سيكون أكبر لأنّ الغلاف الجوي سيكون محمّلا بالمزيد من الرطوبة. وقد بلغت درجات الحرارة غرب ووسط البحر المتوسط مستويات قياسية في هذا الوقت من العام. وكان يونيو/حزيران الماضي أكثر دفئًا بشكل ملحوظ من المتوسط، وأعلى بكثير من المتوسط طويل الأمد منذ الشتاء الماضي. وتُعتبر "المتوسط" الأكثر تقلبا في الأجزاء الوسطى والغربية من المنطقة، وتحديدا الأجزاء الغربية، حيث ارتفعت درجات الحرارة عن المعتاد بمقدار 5 إلى 6 درجات مئوية. وهذا جعل يونيو/حزيران يُسجل أرقاما تاريخية قياسية. ويشهد جزء صغير فقط من بحر إيجه "شذوذا" حراريا سلبيا، أي أن درجات حرارة سطح البحر أقل بقليل من المتوسط، أما بقية البحر المتوسط فحرارته مرتفعة للغاية. أحداث مناخية مقلقة وتشير التقديرات إلى أنه مع نهاية يونيو/حزيران 2025، يتجاوز متوسط درجة حرارة سطح البحر المتوسط اليومي المتوسطَ التاريخي بـ3 درجات مئوية تقريبا، مما يجعله الأكثر دفئًا على الإطلاق. وبلغ المتوسط طويل الأمد حوالي 23 درجة مئوية بهذا الوقت من العام، بينما سيصل في عموم عام 2025 إلى ما يقارب 26 درجة مئوية. ويشير التحليل الأخير لظاهرة "شذوذ" درجات حرارة سطح البحر في جميع أنحاء أوروبا إلى أن معظم البحار المحيطة بالقارة أعلى بكثير من المتوسط، وخاصة عبر البحر المتوسط. وهذه إشارة مثيرة للقلق إلى أن هذه المياه "الشاذة" إلى حد كبير قد تؤدي إلى أحداث مناخية كبرى في الأشهر المقبلة. ويدعو الخبراء إلى ضرورة مراقبة عن كثب للبحر المتوسط شديد الحرارة خلال أشهر الصيف، إذ تلعب البحار الدافئة دورا أساسيا في هطول الأمطار الخريفية. وكلما ارتفعت درجة حرارة المياه، زادت احتمالية هطول أمطار غزيرة و"متطرفة". وقد تؤدي درجات حرارة البحر المرتفعة للغاية إلى هطول أمطار غزيرة أكثر من المعتاد خريفا. وهذا يفسر شدة الظواهر الجوية المنفردة وكميات الأمطار الكبيرة اللازمة لدعم فيضانات كبرى بالدول المطلة على المتوسط (مثل إيطاليا وسلوفينيا وكرواتيا وفرنسا وإسبانيا). وكانت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتغير المناخي قد أشارت إلى أنه "منذ ثمانينيات القرن الـ20، حدث تغيير جذري في النظم البيئية البحرية في البحر المتوسط، مع انخفاض التنوع الحيوي وتكاثر الأنواع الغازية. وأثناء موجات الحر البحرية بين عامي 2015 و2019 في البحر المتوسط، شهد نحو 50 نوعا -بينها الشعاب المرجانية وقنافذ البحر والرخويات وذوات الصدفتين ونبتة بوسيدون، وغيرها- نفوقا هائلا بين السطح وعلى عمق 45 مترا، بحسب دراسة نُشرت في يوليو/تموز 2022 بمجلة "غلوبال تشانغ بيولوجي".


الجزيرة
منذ 2 أيام
- الجزيرة
من نوبل إلى اللايقين: رحلة العَالِم الذي زلزل أساسات فهمنا لبداية الكون ونهايته
مقدمة الترجمة في مكتبٍ تغزوه أشعة الشمس على استحياء، أخرج آدم ريس دفتر ملاحظاته القديم. صفحة باهتة وخربشات بقلم حبر منذ عقود، كانت الشرارة الأولى لاكتشافه المُذهل الذي قاده إلى نوبل: الكون لا يتمدد فقط، بل يهرول بوتيرة متسارعة. هذا الاكتشاف رسّخ ما عُرف لاحقًا بـ"النموذج القياسي لعلم الكونيات"، النظرية التي رسمت لنا سيناريو بداية الكون ونهايته. لكن المفارقة العجيبة أن ريس نفسه، وبعد سنوات من تتبع الضوء القادم من انفجارات نجمية بعيدة، عاد اليوم ليهمس في أذن العلم: ربما كنّا مخطئين! وهو ما يدفعنا إلى التساؤل: ما الذي يحدث حين يبدأ تصدّع صرح علمي كان متماسكا!؟ حين تتعارض البيانات الجديدة مع أكثر النظريات رسوخًا!؟ هذا المقال من مجلة ذا أتلانتك يأخذك في رحلة بين عدسات التلسكوبات، وتصدّعات النموذج الكوني، والتساؤلات التي قد تُعيد كتابة مصير الكون نفسه. نص الترجمة كان آدم ريس في السابعة والعشرين من عمره حين شرع في إجراء الأبحاث التي ستقوده لاحقًا إلى الفوز بجائزة نوبل في الفيزياء، ولم يكن قد تجاوز الحادية والأربعين عندما تسلّمها. وفي وقتٍ سابق من هذا العام، وبينما هو الآن في أوائل الخمسينيات من عمره، وقف في مكتبه بجامعة جونز هوبكنز، وأخرج من بين رفوف كتبه دفترًا قديمًا على صفحاته رسوم بيانية، ليُريني الورقة التي اصفرّ لونها مع الزمن، والتي خطّ عليها حساباته الشهيرة. روى لي كيف قادته تلك الخطوط الأولى بالقلم إلى صياغة نظرية جديدة عن الكون، ثم أخبرني لماذا أصبح يعتقد اليوم أن تلك النظرية قد تكون خاطئة. على مدار قرابة قرن من الزمان، أدرك الفلكيون أن الكون يتمدد، إذ تبدو المجرات التي نلمحها عبر التلسكوبات وكأنها تهرع مبتعدة في كل اتجاه. تتبّع ريس حركة هذه المجرات، وقاس بدقة بالغة المسافات التي تفصل كل واحدة منها عن الأرض. وحينما اكتملت لديه المعطيات كلها عام 1998، فوجئ ريس بنتائج لم يكن يتوقعها، حتى إنه وصفها في رسالة إلكترونية مرتبكة أرسلها قبيل انطلاقه في شهر عسله بأنها كانت "صادمة فعلًا". إذ تكشفت حينها علاقة مدهشة: فكلما كانت المجرة أبعد، زادت وتيرة ابتعادها. وكما قال في محاضرته أثناء تسلّمه جائزة نوبل، فإن هذا الاكتشاف "أوحى إليه فورًا باستنتاج عميق": ثمة قوة خفية تدفع الكون إلى التمدد المتسارع. صحيح أن عبقرية ريس تتجلى في دقّته البالغة في التقاط ما لا تُبصره العيون العابرة، إلا أن مهمة فهم السر الكامن وراء تسارع تمدد الكون انتقلت إلى عاتق المنظّرين. وقد اقترح هؤلاء وجود طاقة مظلمة، وهي قوة واهنة ونافرة، تملأ كل ركن من أركان الفضاء الخاوي. فمثلًا، ما تحويه غرفة نومك من هذه الطاقة لا يكاد يُذكر، لن يهزّ جدارًا أو يحرّك ساكنًا. لكن حين تنتشر عبر اتساع الكون الهائل، تجمع شتاتها، وتغدو قادرة على دفع عناقيد المجرات إلى التباعد اللامتناهي. وكلما اتسعت المسافة بين تلك المجرات، تعاظمت هذه القوة النافرة، وسرّعت خطى التمدد. ورغم أن التلسكوبات اليوم قادرة على رؤية مئات المليارات من المجرات، فإن الطاقة المظلمة، عبر تريليونات لا تُحصى من السنين، ستكون قد دفعتها كلها إلى خارج مدى الرؤية. وفي النهاية، ستُبدّد هذه الطاقة آخر ذرة من المادة والطاقة، حتى يغدو الكون في حالة برود واتزان تام، لا شيء فيه سوى فراغ هزيل يشبه الحساء المخفف من العدم. من خلال أبحاثه التي قادت إلى اكتشاف الطاقة المظلمة، ساهم ريس في إكمال ما يُعرف اليوم بـ"النموذج القياسي لعلم الكونيات"، وهو الإطار النظري الذي يسرد كيف وُلد الكون، وكيف انتظمت مادته في مجرّات، وكيف سيمضي نحو نهايته. قليلون هم من كان لهم أثر عميق في ترسيخ هذا النموذج ليصبح نظرية مهيمنة في علم الكونيات. لكن في السنوات الأخيرة، بدأ علماء الكون، المتخصصون في دراسة البنية الكونية على أوسع مقاييس الزمان والمكان، يشككّون في صحة هذا النموذج، خصوصًا فيما يتعلق بنهايته المتوقعة. فقد بدأ بعضهم يتحدث عن "ثورة علمية" وشيكة، بينما يرى آخرون أن الوقت قد حان لاستبدال النموذج القياسي بنظرية جديدة تُعيد صياغة فهمنا للكون. بداية الشك كلما بدأت نظرية كبرى عن الكون تترنّح، يميل "حُرّاسها القدامى" إلى التماسك والدفاع عنها، ولهذا يُقال إن العلم يتقدّم "جنازةً بعد أخرى". كان بمقدور آدم ريس أن ينضم إلى هذا الحرس القديم، بل وربما يتزعّمه. فحين عاد من ستوكهولم بجائزة نوبل عام 2011، تغيّرت حياته الأكاديمية. حكى لي أن الناس من حوله بدؤوا يتصرّفون على نحو غريب، منهم من آثر الصمت فجأة، ومنهم من خاض معه جدالات عابرة لا معنى لها، ربما فقط ليُقال إنهم انتصروا في نقاش على أحد حاملي نوبل. توالت عليه الدعوات، بداية من المحافل العلمية إلى لجان التحكيم، ومن المنصات إلى إلقاء المحاضرات. وشيئًا فشيئًا، وجد نفسه يُستدعى للتعليق على قضايا لا تمتّ إلى اختصاصه بصلة، بل ويُعرض عليه أن يقود مؤسسات علمية عريقة. تأمّل ريس في ذلك الطريق المعروض أمامه وبدأ يتساءل: هل يصبح قائدًا كبيرًا في مهمة تابعة لناسا، أم يتنقّل بهدوء بين ظلال الأشجار في حرم جامعي هادئ بصفته رئيسًا له!؟ ورغم إدراكه لما في تلك الأدوار من جاذبية وهيبة، لم يكن ميّالًا إلى العمل الإداري، ولا يستسيغ مهام جمع التبرعات. وعلى خلاف العديد من الحائزين على نوبل ممن تقدّم بهم العمر، كان لا يزال يشعر بأن لديه ما يقدّمه للعلم، لا بصفته مسؤولًا إداريًّا يجلس خلف المكاتب، بل باعتباره باحثًا يقف في الخطوط الأمامية، على تماس مباشر مع الطبيعة ومفاهيمها الأساسية. في السياق ذاته، قال لي: "غالبًا ما يقنع العلماء أنفسهم بأسطورة مفادها: سأتولى هذا المنصب القيادي مؤقتًا، ثم أعود إلى البحث العلمي لاحقًا. لكن الواقع أن من يخوض غمار الإدارة يفقد تدريجيًّا صلته بالبيانات، ويبتعد عن أدوات التحليل الحديثة، ويصبح أقل إلمامًا بلغات البرمجة المتطورة. وفي النهاية، يمضي العلم من دونه". ولسبر أغوار هذه المسائل الغامضة بدقة أكبر، كانت عقول المنظّرين تطرق أبواب المجهول، باحثة عن بيانات جديدة تكشف لهم كيف يتغير معدَّل تمدد الكون عبر الزمن، وهو ما يتطلب معرفة دقيقة بمواقع المجرات البعيدة عن الأرض. وهنا تحديدًا يأتي دور اختصاص آدم ريس. انتظر ريس حتى يرصد نوعًا معيّنًا من النجوم ينفجر في مجرة بعيدة، ومن ثَم يلتقط صورًا لحظةً بلحظة لانفجاره. كان يعرف أن هذه "المستعرات العظمى" (السوبرنوفا) تصل دائمًا إلى درجة محددة من السطوع، ومن خلال هذا السطوع، يستطيع أن يقيس المسافة. فكلما بدا الضوء خافتًا، غدت المسافة أبعد. إن تصوير نجم ينفجر على بُعد عشرات الملايين من السنين الضوئية ليس بالأمر السهل كما قد يبدو من الحديث. فالتقاط صورة لانفجار نجم يبعد عشرات الملايين من السنين الضوئية ينطوي على تفاصيل دقيقة لا حصر لها. يجب أولًا إزالة الضوء الصادر من النجوم الأخرى المحيطة به في نفس المجرة، لأن هذا الضوء قد يؤثر في القياسات. كما أن وهج مجرّة درب التبانة يتسرّب إلى الصور، شأنه شأن ضوء الشمس، ويجب استبعادهما كذلك. وفي الوقت نفسه، تعمل سحب الغبار الكوني -سواء القريبة من النجم أو الموجودة داخل مجرّتنا- على حجب جزء من ضوئه، مما يؤدي إلى خفوتٍ لا بد من تصحيحه بدقة. ثم تأتي التحديات التقنية: المكوّنات الإلكترونية في التلسكوب تضيف ضوضاء إلى الصورة، فضلًا عن أن مجسّات الكاميرا -التي تحتوي على مئات الآلاف من البيكسلات- ليست متماثلة في حساسيتها، مما يتطلب معايرة دقيقة لكل اختلاف قبل بدء أي عملية رصد. تباين في النتائج لم يكفّ ريس يومًا عن سعيه لإتقان فن التعامل مع الضوء، ذلك التوازن الحساس بين إضافته للضوء وطرحه بدقة بالغة. وفي أوساط علم الكونيات، لطالما اعتُبرت قياساته من بين الأدق بحسب كولين هيل، عالم الكونيات في جامعة كولومبيا، الذي لا تربطه به أي شراكة بحثية. وفي عام 2011، نجح ريس وفريقه في ابتكار تقنية أكثر تطورًا لقياس المسافات الكونية باستخدام تلسكوب هابل الفضائي، وهي فكرة -كما يروي- خطرت له على نحو غير متوقع عند ما كان يسبح في حوض سباحة. مع تزايد البيانات الجديدة وتحسّن جودتها، سرعان ما برزت مشكلة. فمع كل مسافة جديدة يقيسها ريس إلى مجرة أخرى، كان يُحدّث حساباته لمعدل التمدد الحالي للكون. لكن المثير للقلق هو أن النتائج التي توصل إليها بدأت تتباين بدرجة ملحوظة مع تلك المستخلصة عبر منهج مختلف تمامًا. فبعض علماء الكونيات لا يعيرون قياس المسافات إلى المجرات اهتمامًا كبيرًا، بل ينظرون بدلًا من ذلك إلى التوهّج اللاحق للانفجار العظيم. ومن خلال هذه الصورة المبكرة جدًّا للكون، يستطيع العلماء تقدير معدل تمدد الكون في ذلك الوقت، ثم استخدام هذا التقدير لحساب معدل التمدد الحالي، بناءً على افتراضات مأخوذة من النموذج الكوني القياسي. بعبارة أخرى، تعتمد الطريقة الثانية (التي تستند إلى التوهّج اللاحق للانفجار العظيم) على افتراض مسبق بأن النموذج الكوني القياسي صحيح، وتُجرَى كل حساباتها بناءً على هذا الأساس دون التشكيك فيه. توقَّع ريس أن هذا التباين بين معدلي التمدد الكوني (المعدل الذي يقيسه هو من خلال المجرات البعيدة، والمعدل المستخلص من إشعاع الانفجار العظيم*) سيختفي تدريجيًّا مع تراكم المزيد من الملاحظات والبيانات. لكنّ هذه المفارقة أبت إلا أن تستمر، بل وازدادت عنادًا. فكلما عمّق ريس رصده للمجرات البعيدة، ازداد الفارق بين القيمتين وضوحًا. وقد شكّل هذا التناقض بحد ذاته معضلة حقيقية لعلماء الكونيات، حتى أصبحوا يشعرون بالحيرة والقلق اتجاهه إلى درجة أنهم اضطروا لمنحه اسمًا رسميًّا وهو "توتر هابل". حين تتصادم طريقتان في فهم الكون تساءل ريس عمّا إذا كانت الملاحظات المستقاة من الكون المبكر -التي تُغذي المعادلات المستخدمة في الحسابات الأخرى لمعدل التمدد- قد تنطوي على خطأ ما. لكنه، شأنه شأن بقية العلماء، لم يجد فيها ما يُدان أو يُشكّك في دقتها. بالنسبة له، بدا أن هذا التناقض المعروف باسم "توتر هابل" قد لا يكون نتيجة خطأ في البيانات، بل ربما ناتجًا عن خلل في النظرية نفسها. وكما قال لي: "بدا الأمر وكأن هناك خللًا ما في النموذج الكوني القياسي". إذا ما انهار النموذج الكوني القياسي، فإن علم الكونيات بأسره سيشهد انقلابًا جذريًّا، وكذلك الحال بالنسبة لجزء جوهري من السردية الكبرى التي ظللنا نرويها لأنفسنا عن نهاية الكون. ومن الطبيعي، في ظل ما تحمله هذه المسألة من تبِعات ثقيلة تمسّ مستقبل المسيرة المهنية، والهوية العلمية،، بل وجوهر الوجود نفسه، أن يؤدي "توتر هابل" إلى توتر فعلي بين علماء الكونيات أنفسهم. أخبرني عدد من أبرز علماء الكونيات عن اعتقادهم بأن المشكلة المعروفة بـ"توتر هابل" قد تزول مع مزيد من البيانات، مشيرين إلى أن ريس ربما يستبق الأمور في تفسيره. وقد أجرت ويندي فريدمان، أستاذة الفيزياء في جامعة شيكاغو، قياساتها الخاصة باستخدام نوع مختلف من النجوم المنفجرة، وظهرت في بياناتها أيضًا مؤشرات على وجود التوتر ذاته، وإن كان بدرجة أقل. وقد أوضحت أنه من المبكر الجزم بمصدر المشكلة، هل هي ناتجة عن قياساتها، أم عن خلل في النموذج الكوني القياسي، أم عن سبب آخر لا يزال مجهولًا. وفي الوقت ذاته، ترى أن الحكم النهائي يتطلب أولًا توفّر قياسات دقيقة لمسافات عدد أكبر من المجرات، إضافة إلى تقارب في نتائج طرق القياس المختلفة. وعلى أقل تقدير، ينبغي أن تتطابق نتائجها مع نتائج ريس. ويتفق معها في هذا الرأي كولن هيل، عالم الكونيات من جامعة كولومبيا. هل بدأت الطاقة المظلمة تفقد قوتها؟ يقول ديفيد سبيرغل، رئيس مؤسسة سيمونز (وهي مؤسسة علمية غير ربحية*)، وأحد أعمدة علم الكونيات لسنوات طوال، إنه من المبكر جدًّا إعلان نهاية النموذج الكوني القياسي. ويصف ريس بقوله: "لا يمرّ آدم ريس بهدوء في ساحة الجدل العلمي، بل يترك صدى صوته فيها، كما يتجادل بضراوة مع كل من يخالفه الرأي". يدافع ريس عن قضيته بحماسة بالغة. ورغم محاولات عديدة من علماء آخرين للعثور على أخطاء في قياساته، لم يتمكّن أحد من إثبات وجود خلل، ليس بسبب نقص المحاولة، بل على العكس، جرى التحقق من أرقامه بعناية باستخدام بيانات من تلسكوبي هابل وجيمس ويب الفضائيين. ومع ذلك، لم يتمكّن أحد من العثور على خطأ في قياساته. ومن جانبه، يعلّق شون كارول، عالم الكونيات والفيلسوف في جامعة جونز هوبكنز (الذي لا ينتمي إلى فريق ريس)، قائلًا إن ريس حقق "عملًا بطوليا" في تقليل الأخطاء المنهجية في قياساته. ومع ذلك، يؤكد كارول أن الوقت لا يزال مبكرًا للحكم على ما إذا كان "توتر هابل" سيصمد أمام المزيد من التدقيق، ويعتبر من السابق لأوانه استبعاد النموذج الكوني القياسي. ويضيف: "لو لم تكن التداعيات بهذا القدر من الأهمية، لما غلّف الشك نفوس الناس بهذا القدر". بدا الغضب جليًّا على ملامح ريس حين تطرق الحديث إلى الاعتراضات التي طالت نتائجه، وأرجعها إلى ما وصفه بـ"سوسيولوجيا" هذا الحقل العلمي. وأوضح أن زمرة صغيرة من علماء الكونيات، من بينهم سبيرغل وآخرون وصفهم بـ"أصحاب اللحى الرمادية"، ممّن قضوا أعمارهم في تأمل بدايات الكون، لا يميلون إلى تقبّل ما يُربك سردهم الكوني المعتاد، ويصدّون البيانات التي لا تسير وفق مسلّمات النموذج القياسي. (ومن المفارقات اللافتة أن لحية ريس نفسها قد خطها الشيب أيضًا). ومع ذلك، أشار ريس إلى أن أحد هؤلاء العلماء قد بدأ تعديل موقفه. فقد أرسل ريس بياناته إلى جورج إفسثاثيو، وهو عالم كونيات بارز ومتخصص في الكون المبكر، وكان من أبرز المشككين في "توتر هابل". وعلى شاشة مكتبه، أرانا ريس رسالة تلقّاها من إفسثاثيو، جاء فيها تعليق مقتضب على بياناته بقوله: "إنها مُقنعة للغاية!". لم أشأ أن أبني استنتاجًا كبيرًا على جملة ربما لم تكن سوى مجاملة عابرة، فآثرت أن أستقصي الأمر بنفسي. تواصلت مع إفسثاثيو مباشرة، وجاء رده أكثر تحفظًا مما بدا عليه في مراسلته مع ريس. كتب لي ببساطة: "ليس لديّ الكثير لأقوله بشأن توتر هابل". ومن وجهة نظره، لم تكن هناك أخطاء واضحة في قياسات ريس، لكنّه في الوقت ذاته لم يُغلق الباب تمامًا أمام احتمال وجود خلل خفي. يعتقد ريس أن الوقت سيكون كفيلًا بإنصافه، وأن "توتر هابل" ليس عارضًا عابرًا، بل علامة ستزداد حدّة مع الأيام، حتى يبدأ مزيد من علماء الكونيات التشكيك في النموذج القياسي. ومن اللافت أن شخصًا كان له دور بارز في ترسيخ هذا النموذج يبدو مسرورًا باحتمال تزعزعه. وربما يُعزى ذلك إلى طبيعة ريس العلمية، التي تولي البيانات احترامًا مطلقًا، أو ربما لأنه ببساطة يتوق إلى نشوة أن يكون محقًّا مرة أخرى بشأن طبيعة الكون العميقة. حين التقيتُ ريس في يناير/كانون الثاني الماضي، كان حديثه متّقدًا بشيء من الترقّب، أخبرني أنه كان ينتظر بفارغ الصبر صدور دفعة بيانات جديدة من أداة التحليل الطيفي للطاقة المظلمة "ديسي"، وهي مرصد حديث يقع على قمة كيت في الجزء التابع لأريزونا من صحراء سونورا بالمكسيك. تضم هذه الأداة 5000 ليفة بصرية تتحكم فيها أنظمة روبوتية، يقوم كلّ منها كل عشرين دقيقة بتوجيه نفسه نحو مجرة مختلفة في أعماق السماء. وعلى مدار خمس سنوات، من المفترض أن يواصل هذا المرصد عمله الصبور حتى تُرصد ملايين المجرات، وهي كمية كافية لرسم خريطة لتمدّد الكون عبر الزمن. وقبيل صدور الدفعة الثانية من البيانات، توقع ريس أن تحمل تحديًا جديدًا للنموذج القياسي. وفي أبسط تصوّر للنظرية، تُرسم الطاقة المظلمة بوصفها قوة خافتة، طاردة، تملأ أرجاء الكون وتدفعه إلى التمدد، وهي ثابتة لا تهتز، وأزلية لا تتبدل. لكن الإصدار الأول لبيانات مرصد "ديسي"، الذي صدر العام الماضي، قدَّم إشارات أولية تُوحي بأن الطاقة المظلمة لم تكن دومًا كما نظن، إذ بدت أشد فاعلية في فجر الكون، ثم أخذت تخبو شيئًا فشيئًا بعد ذلك. وفي 19 مارس/آذار، نشرت الفرق البحثية الدفعة الكبرى من البيانات التي طالما ترقّبها ريس. وقد استندت إلى ثلاث سنوات من التحديق الصبور في السماء. وكانت الإشارة هذه المرة أوضح: بدت الطاقة المظلمة وكأنها فقدت شيئًا من زخمها قبل عدة مليارات من السنين. لا يمكن اعتبار هذا الاكتشاف حتى الآن علمًا مُستقرًّا، أو يقف على أرض صلبة. لكن إن ثبُتت صحته فسيستدعي بحسب رأي هيل "مراجعة جذرية" للنموذج القياسي، إذ قال: "الكتب التي أدرّسها لطلابي لن تعود صالحة، وسأضطر إلى إعادة كتابتها من جديد". لكن المسألة لا تتوقف عند صفحات المقررات، ففكرة "الموت الحراري" للكون لم تعد حكرًا على الصفحات الجامدة للكتب الأكاديمية، بل أصبحت إحدى "الأساطير العلمانية" الكبرى عن نهاية العالم، وربما أشهر سردية لنهاية الكون في عصرنا. ومع ذلك، قد تكون هذه النهاية مجرّد وهم راسخ. فإذا ما ضعفت الطاقة المظلمة حتى تلاشت كليًّا، فقد يتوقف الكون عن التمدد ذات يوم، لا ليهوي إلى العدم، بل ليبلغ حالة سكون، حيث تستقر المجرّات في وضع ثابت لا يتغير. وفي هذه الحالة، قد يُكتب للحياة -وخصوصًا الحياة الذكية- أن تستمر لمدى أطول بكثير مما كنّا نتوقع. الكون في دورة أبدية.. فرضيات تتحدى الحتميات إذا استمرت الطاقة المظلمة في الاضمحلال، كما تشير بيانات مرصد "ديسي"، فقد تمضي في خفوتها حتى تنطفئ تمامًا، وربما تنقلب إلى نقيضها، قوة سالبة لا تدفع المجرات بعيدًا، بل تجتذبها إلى حضنها، لتتقارب شيئًا فشيئًا حتى تنهار في نقطة واحدة، حارّة كثيفة، تشبه تلك اللحظة الأولى التي ولد فيها الكون، لحظة الانفجار العظيم. وقد يكون ذلك جزءًا من دورة أبدية، حيث ينشأ الكون ويفنى ثم يُخلق من جديد مرارًا وتكرارًا. إلا أن ذلك مجرد احتمال، وقد لا يكون كذلك. لكن الحقيقة الوحيدة المؤكدة أن المستقبل البعيد لهذا الكون لا يزال مفتوحًا على جميع السيناريوهات، ولا شيء محسوم. اتصلتُ بريس بعد صدور نتائج مرصد "ديسي" لمعرفة ما جال في خاطره في تلك اللحظة. فأخبرني أنه قد ظفر بنظرة مبكرة في البيانات. وحين فتح ملف البيانات في مكتبه، ارتسمت على وجهه ابتسامة. لقد راق له أن يرى نتيجة أخرى تُضعف من مصداقية النموذج القياسي. حينها شبّه النظرية ببيضة تتشقق، قائلًا: "لن تنكسر بسهولة من مكان واحد، بل من الطبيعي أن تظهر فيها تشققات متعددة في أماكن متفرقة". سواء أكانت تلك الشقوق التي بدأت تظهر في جدار النموذج القياسي حقيقية أم مجرد أوهام علمية، فإن اتساعها لا يزال رهن الأيام المقبلة. فالملاحظات الجديدة تتوالى في الأفق، لا من مرصد ديسي فحسب، بل من مرصد فيرا روبين الجديد في صحراء أتاكاما، إلى جانب تلسكوبات فضائية أخرى. وفي كل يوم إفراج عن دفعة جديدة من البيانات، سيجلس أنصار النظرية وخصومها على أطراف الانتظار، يُجدّدون التحقق من صناديق بريدهم الإلكترونية بلهفة، في انتظار ما قد يؤكد نظرتهم أو يقوّضها. أما في الوقت الراهن، فيرى ريس أن المجتمع النظري أصبح يميل إلى التراخي. فعندما يتواصل مع بعض المنظّرين طلبًا لتفسير نتائجه الرصدية، تأتي ردودهم فاترة ومحبطة، وهو ما عبّر عنه بقوله: " تقتصر ردودهم على عبارة واحدة: نعم، هذا تحدٍّ عسير فعلا". ثم أردف بأسى: "أشعر أحيانًا أنني أقدّم الأدلة، ثم أظلّ عالقًا في فراغ الانتظار، إلى أن يُطلّ علينا أينشتاين جديد". عندما تحدّثتُ إلى ريس للمرة الأخيرة، كان يحضر مؤتمرًا لعلم الكونيات في سويسرا، وقد بدا صوته مفعمًا ببهجة أقرب إلى النشوة، تحدث إليَّ قائلًا: "حين تغيب المشكلات الكبرى، ويبدو كل شيء وكأنه في موضعه تمامًا، يغدو الأمر مملًّا". أما الآن، فهو يشعر بنبض جديد يسري في الميدان. الهمسات تتعالى، والسكاكين تُشهَر، والصراع على وشك أن يبدأ. وفي النهاية، قالها بحماس: "المجال يشتعل من جديد. أصبح من الوارد فجأة أن يكون الكون مختلفًا كليًّا عمّا ظنناه".


الجزيرة
منذ 3 أيام
- الجزيرة
السعودية تدشن أول سرية من منظومة "ثاد" للدفاع الجوي
دشنت السعودية أول سرية من منظومة " ثاد" الأميركية للدفاع الجوي الصاروخي، في حفل أقيم أمس الأربعاء بمحافظة جدة غربي البلاد. وذكرت وكالة الأنباء السعودية أمس الأربعاء أن التدشين جاء بعد استكمال اختبار المنظومة وفحصها وتشغيلها، وتنفيذ التدريب الجماعي الميداني لمنسوبيها داخل البلاد. وتم التدشين خلال حفل في معهد قوات الدفاع الجوي في جدة، بحضور قائد قوات الدفاع الجوي الفريق الركن مزيد بن سليمان العمرو. وسلّم العمرو، خلال الحفل، علم السرية إلى قائد مجموعة الدفاع الجوي الأولى، إيذانا بدخولها الخدمة الرسمية ضمن منظومات قوات الدفاع الجوي السعودية. ويأتي تدشين هذه السرية ضمن مشروع يهدف إلى تعزيز جاهزية قوات الدفاع الجوي، ورفع قدراتها في حماية الأجواء والمنشآت الحيوية، وفق الوكالة. وفي وقت سابق، خرّجت قوات الدفاع الجوي السريتين الأولى والثانية من نظام "ثاد"، بعد إتمام منسوبيها دورات التدريب الفردي المتخصص في قاعدة فورت بليس بولاية تكساس الأميركية. و"ثاد" منظومة دفاع جوي يمكنها اعتراض الصواريخ الباليستية والمتوسطة في ارتفاعات قصوى، ويعود تصميمها إلى عام 1990، بالتعاون بين وزارة الدفاع الأميركية وشركة "لوكهيد مارتن".