
من نوبل إلى اللايقين: رحلة العَالِم الذي زلزل أساسات فهمنا لبداية الكون ونهايته
في مكتبٍ تغزوه أشعة الشمس على استحياء، أخرج آدم ريس دفتر ملاحظاته القديم. صفحة باهتة وخربشات بقلم حبر منذ عقود، كانت الشرارة الأولى لاكتشافه المُذهل الذي قاده إلى نوبل: الكون لا يتمدد فقط، بل يهرول بوتيرة متسارعة. هذا الاكتشاف رسّخ ما عُرف لاحقًا بـ"النموذج القياسي لعلم الكونيات"، النظرية التي رسمت لنا سيناريو بداية الكون ونهايته.
لكن المفارقة العجيبة أن ريس نفسه، وبعد سنوات من تتبع الضوء القادم من انفجارات نجمية بعيدة، عاد اليوم ليهمس في أذن العلم: ربما كنّا مخطئين! وهو ما يدفعنا إلى التساؤل: ما الذي يحدث حين يبدأ تصدّع صرح علمي كان متماسكا!؟ حين تتعارض البيانات الجديدة مع أكثر النظريات رسوخًا!؟ هذا المقال من مجلة ذا أتلانتك يأخذك في رحلة بين عدسات التلسكوبات، وتصدّعات النموذج الكوني، والتساؤلات التي قد تُعيد كتابة مصير الكون نفسه.
نص الترجمة
كان آدم ريس في السابعة والعشرين من عمره حين شرع في إجراء الأبحاث التي ستقوده لاحقًا إلى الفوز بجائزة نوبل في الفيزياء، ولم يكن قد تجاوز الحادية والأربعين عندما تسلّمها. وفي وقتٍ سابق من هذا العام، وبينما هو الآن في أوائل الخمسينيات من عمره، وقف في مكتبه بجامعة جونز هوبكنز، وأخرج من بين رفوف كتبه دفترًا قديمًا على صفحاته رسوم بيانية، ليُريني الورقة التي اصفرّ لونها مع الزمن، والتي خطّ عليها حساباته الشهيرة. روى لي كيف قادته تلك الخطوط الأولى بالقلم إلى صياغة نظرية جديدة عن الكون، ثم أخبرني لماذا أصبح يعتقد اليوم أن تلك النظرية قد تكون خاطئة.
على مدار قرابة قرن من الزمان، أدرك الفلكيون أن الكون يتمدد، إذ تبدو المجرات التي نلمحها عبر التلسكوبات وكأنها تهرع مبتعدة في كل اتجاه. تتبّع ريس حركة هذه المجرات، وقاس بدقة بالغة المسافات التي تفصل كل واحدة منها عن الأرض.
وحينما اكتملت لديه المعطيات كلها عام 1998، فوجئ ريس بنتائج لم يكن يتوقعها، حتى إنه وصفها في رسالة إلكترونية مرتبكة أرسلها قبيل انطلاقه في شهر عسله بأنها كانت "صادمة فعلًا". إذ تكشفت حينها علاقة مدهشة: فكلما كانت المجرة أبعد، زادت وتيرة ابتعادها. وكما قال في محاضرته أثناء تسلّمه جائزة نوبل، فإن هذا الاكتشاف "أوحى إليه فورًا باستنتاج عميق": ثمة قوة خفية تدفع الكون إلى التمدد المتسارع.
صحيح أن عبقرية ريس تتجلى في دقّته البالغة في التقاط ما لا تُبصره العيون العابرة، إلا أن مهمة فهم السر الكامن وراء تسارع تمدد الكون انتقلت إلى عاتق المنظّرين. وقد اقترح هؤلاء وجود طاقة مظلمة، وهي قوة واهنة ونافرة، تملأ كل ركن من أركان الفضاء الخاوي.
فمثلًا، ما تحويه غرفة نومك من هذه الطاقة لا يكاد يُذكر، لن يهزّ جدارًا أو يحرّك ساكنًا. لكن حين تنتشر عبر اتساع الكون الهائل، تجمع شتاتها، وتغدو قادرة على دفع عناقيد المجرات إلى التباعد اللامتناهي. وكلما اتسعت المسافة بين تلك المجرات، تعاظمت هذه القوة النافرة، وسرّعت خطى التمدد.
ورغم أن التلسكوبات اليوم قادرة على رؤية مئات المليارات من المجرات، فإن الطاقة المظلمة، عبر تريليونات لا تُحصى من السنين، ستكون قد دفعتها كلها إلى خارج مدى الرؤية. وفي النهاية، ستُبدّد هذه الطاقة آخر ذرة من المادة والطاقة، حتى يغدو الكون في حالة برود واتزان تام، لا شيء فيه سوى فراغ هزيل يشبه الحساء المخفف من العدم.
من خلال أبحاثه التي قادت إلى اكتشاف الطاقة المظلمة، ساهم ريس في إكمال ما يُعرف اليوم بـ"النموذج القياسي لعلم الكونيات"، وهو الإطار النظري الذي يسرد كيف وُلد الكون، وكيف انتظمت مادته في مجرّات، وكيف سيمضي نحو نهايته.
قليلون هم من كان لهم أثر عميق في ترسيخ هذا النموذج ليصبح نظرية مهيمنة في علم الكونيات. لكن في السنوات الأخيرة، بدأ علماء الكون، المتخصصون في دراسة البنية الكونية على أوسع مقاييس الزمان والمكان، يشككّون في صحة هذا النموذج، خصوصًا فيما يتعلق بنهايته المتوقعة. فقد بدأ بعضهم يتحدث عن "ثورة علمية" وشيكة، بينما يرى آخرون أن الوقت قد حان لاستبدال النموذج القياسي بنظرية جديدة تُعيد صياغة فهمنا للكون.
بداية الشك
كلما بدأت نظرية كبرى عن الكون تترنّح، يميل "حُرّاسها القدامى" إلى التماسك والدفاع عنها، ولهذا يُقال إن العلم يتقدّم "جنازةً بعد أخرى". كان بمقدور آدم ريس أن ينضم إلى هذا الحرس القديم، بل وربما يتزعّمه. فحين عاد من ستوكهولم بجائزة نوبل عام 2011، تغيّرت حياته الأكاديمية.
حكى لي أن الناس من حوله بدؤوا يتصرّفون على نحو غريب، منهم من آثر الصمت فجأة، ومنهم من خاض معه جدالات عابرة لا معنى لها، ربما فقط ليُقال إنهم انتصروا في نقاش على أحد حاملي نوبل. توالت عليه الدعوات، بداية من المحافل العلمية إلى لجان التحكيم، ومن المنصات إلى إلقاء المحاضرات. وشيئًا فشيئًا، وجد نفسه يُستدعى للتعليق على قضايا لا تمتّ إلى اختصاصه بصلة، بل ويُعرض عليه أن يقود مؤسسات علمية عريقة.
تأمّل ريس في ذلك الطريق المعروض أمامه وبدأ يتساءل: هل يصبح قائدًا كبيرًا في مهمة تابعة لناسا، أم يتنقّل بهدوء بين ظلال الأشجار في حرم جامعي هادئ بصفته رئيسًا له!؟ ورغم إدراكه لما في تلك الأدوار من جاذبية وهيبة، لم يكن ميّالًا إلى العمل الإداري، ولا يستسيغ مهام جمع التبرعات. وعلى خلاف العديد من الحائزين على نوبل ممن تقدّم بهم العمر، كان لا يزال يشعر بأن لديه ما يقدّمه للعلم، لا بصفته مسؤولًا إداريًّا يجلس خلف المكاتب، بل باعتباره باحثًا يقف في الخطوط الأمامية، على تماس مباشر مع الطبيعة ومفاهيمها الأساسية.
في السياق ذاته، قال لي: "غالبًا ما يقنع العلماء أنفسهم بأسطورة مفادها: سأتولى هذا المنصب القيادي مؤقتًا، ثم أعود إلى البحث العلمي لاحقًا. لكن الواقع أن من يخوض غمار الإدارة يفقد تدريجيًّا صلته بالبيانات، ويبتعد عن أدوات التحليل الحديثة، ويصبح أقل إلمامًا بلغات البرمجة المتطورة. وفي النهاية، يمضي العلم من دونه".
ولسبر أغوار هذه المسائل الغامضة بدقة أكبر، كانت عقول المنظّرين تطرق أبواب المجهول، باحثة عن بيانات جديدة تكشف لهم كيف يتغير معدَّل تمدد الكون عبر الزمن، وهو ما يتطلب معرفة دقيقة بمواقع المجرات البعيدة عن الأرض. وهنا تحديدًا يأتي دور اختصاص آدم ريس.
انتظر ريس حتى يرصد نوعًا معيّنًا من النجوم ينفجر في مجرة بعيدة، ومن ثَم يلتقط صورًا لحظةً بلحظة لانفجاره. كان يعرف أن هذه "المستعرات العظمى" (السوبرنوفا) تصل دائمًا إلى درجة محددة من السطوع، ومن خلال هذا السطوع، يستطيع أن يقيس المسافة. فكلما بدا الضوء خافتًا، غدت المسافة أبعد.
إن تصوير نجم ينفجر على بُعد عشرات الملايين من السنين الضوئية ليس بالأمر السهل كما قد يبدو من الحديث. فالتقاط صورة لانفجار نجم يبعد عشرات الملايين من السنين الضوئية ينطوي على تفاصيل دقيقة لا حصر لها. يجب أولًا إزالة الضوء الصادر من النجوم الأخرى المحيطة به في نفس المجرة، لأن هذا الضوء قد يؤثر في القياسات. كما أن وهج مجرّة درب التبانة يتسرّب إلى الصور، شأنه شأن ضوء الشمس، ويجب استبعادهما كذلك.
وفي الوقت نفسه، تعمل سحب الغبار الكوني -سواء القريبة من النجم أو الموجودة داخل مجرّتنا- على حجب جزء من ضوئه، مما يؤدي إلى خفوتٍ لا بد من تصحيحه بدقة. ثم تأتي التحديات التقنية: المكوّنات الإلكترونية في التلسكوب تضيف ضوضاء إلى الصورة، فضلًا عن أن مجسّات الكاميرا -التي تحتوي على مئات الآلاف من البيكسلات- ليست متماثلة في حساسيتها، مما يتطلب معايرة دقيقة لكل اختلاف قبل بدء أي عملية رصد.
تباين في النتائج
لم يكفّ ريس يومًا عن سعيه لإتقان فن التعامل مع الضوء، ذلك التوازن الحساس بين إضافته للضوء وطرحه بدقة بالغة. وفي أوساط علم الكونيات، لطالما اعتُبرت قياساته من بين الأدق بحسب كولين هيل، عالم الكونيات في جامعة كولومبيا، الذي لا تربطه به أي شراكة بحثية. وفي عام 2011، نجح ريس وفريقه في ابتكار تقنية أكثر تطورًا لقياس المسافات الكونية باستخدام تلسكوب هابل الفضائي، وهي فكرة -كما يروي- خطرت له على نحو غير متوقع عند ما كان يسبح في حوض سباحة.
مع تزايد البيانات الجديدة وتحسّن جودتها، سرعان ما برزت مشكلة. فمع كل مسافة جديدة يقيسها ريس إلى مجرة أخرى، كان يُحدّث حساباته لمعدل التمدد الحالي للكون. لكن المثير للقلق هو أن النتائج التي توصل إليها بدأت تتباين بدرجة ملحوظة مع تلك المستخلصة عبر منهج مختلف تمامًا. فبعض علماء الكونيات لا يعيرون قياس المسافات إلى المجرات اهتمامًا كبيرًا، بل ينظرون بدلًا من ذلك إلى التوهّج اللاحق للانفجار العظيم.
ومن خلال هذه الصورة المبكرة جدًّا للكون، يستطيع العلماء تقدير معدل تمدد الكون في ذلك الوقت، ثم استخدام هذا التقدير لحساب معدل التمدد الحالي، بناءً على افتراضات مأخوذة من النموذج الكوني القياسي. بعبارة أخرى، تعتمد الطريقة الثانية (التي تستند إلى التوهّج اللاحق للانفجار العظيم) على افتراض مسبق بأن النموذج الكوني القياسي صحيح، وتُجرَى كل حساباتها بناءً على هذا الأساس دون التشكيك فيه.
توقَّع ريس أن هذا التباين بين معدلي التمدد الكوني (المعدل الذي يقيسه هو من خلال المجرات البعيدة، والمعدل المستخلص من إشعاع الانفجار العظيم*) سيختفي تدريجيًّا مع تراكم المزيد من الملاحظات والبيانات. لكنّ هذه المفارقة أبت إلا أن تستمر، بل وازدادت عنادًا. فكلما عمّق ريس رصده للمجرات البعيدة، ازداد الفارق بين القيمتين وضوحًا. وقد شكّل هذا التناقض بحد ذاته معضلة حقيقية لعلماء الكونيات، حتى أصبحوا يشعرون بالحيرة والقلق اتجاهه إلى درجة أنهم اضطروا لمنحه اسمًا رسميًّا وهو "توتر هابل".
حين تتصادم طريقتان في فهم الكون
تساءل ريس عمّا إذا كانت الملاحظات المستقاة من الكون المبكر -التي تُغذي المعادلات المستخدمة في الحسابات الأخرى لمعدل التمدد- قد تنطوي على خطأ ما. لكنه، شأنه شأن بقية العلماء، لم يجد فيها ما يُدان أو يُشكّك في دقتها. بالنسبة له، بدا أن هذا التناقض المعروف باسم "توتر هابل" قد لا يكون نتيجة خطأ في البيانات، بل ربما ناتجًا عن خلل في النظرية نفسها. وكما قال لي: "بدا الأمر وكأن هناك خللًا ما في النموذج الكوني القياسي".
إذا ما انهار النموذج الكوني القياسي، فإن علم الكونيات بأسره سيشهد انقلابًا جذريًّا، وكذلك الحال بالنسبة لجزء جوهري من السردية الكبرى التي ظللنا نرويها لأنفسنا عن نهاية الكون. ومن الطبيعي، في ظل ما تحمله هذه المسألة من تبِعات ثقيلة تمسّ مستقبل المسيرة المهنية، والهوية العلمية،، بل وجوهر الوجود نفسه، أن يؤدي "توتر هابل" إلى توتر فعلي بين علماء الكونيات أنفسهم.
أخبرني عدد من أبرز علماء الكونيات عن اعتقادهم بأن المشكلة المعروفة بـ"توتر هابل" قد تزول مع مزيد من البيانات، مشيرين إلى أن ريس ربما يستبق الأمور في تفسيره. وقد أجرت ويندي فريدمان، أستاذة الفيزياء في جامعة شيكاغو، قياساتها الخاصة باستخدام نوع مختلف من النجوم المنفجرة، وظهرت في بياناتها أيضًا مؤشرات على وجود التوتر ذاته، وإن كان بدرجة أقل. وقد أوضحت أنه من المبكر الجزم بمصدر المشكلة، هل هي ناتجة عن قياساتها، أم عن خلل في النموذج الكوني القياسي، أم عن سبب آخر لا يزال مجهولًا.
وفي الوقت ذاته، ترى أن الحكم النهائي يتطلب أولًا توفّر قياسات دقيقة لمسافات عدد أكبر من المجرات، إضافة إلى تقارب في نتائج طرق القياس المختلفة. وعلى أقل تقدير، ينبغي أن تتطابق نتائجها مع نتائج ريس. ويتفق معها في هذا الرأي كولن هيل، عالم الكونيات من جامعة كولومبيا.
هل بدأت الطاقة المظلمة تفقد قوتها؟
يقول ديفيد سبيرغل، رئيس مؤسسة سيمونز (وهي مؤسسة علمية غير ربحية*)، وأحد أعمدة علم الكونيات لسنوات طوال، إنه من المبكر جدًّا إعلان نهاية النموذج الكوني القياسي. ويصف ريس بقوله: "لا يمرّ آدم ريس بهدوء في ساحة الجدل العلمي، بل يترك صدى صوته فيها، كما يتجادل بضراوة مع كل من يخالفه الرأي".
يدافع ريس عن قضيته بحماسة بالغة. ورغم محاولات عديدة من علماء آخرين للعثور على أخطاء في قياساته، لم يتمكّن أحد من إثبات وجود خلل، ليس بسبب نقص المحاولة، بل على العكس، جرى التحقق من أرقامه بعناية باستخدام بيانات من تلسكوبي هابل وجيمس ويب الفضائيين. ومع ذلك، لم يتمكّن أحد من العثور على خطأ في قياساته.
ومن جانبه، يعلّق شون كارول، عالم الكونيات والفيلسوف في جامعة جونز هوبكنز (الذي لا ينتمي إلى فريق ريس)، قائلًا إن ريس حقق "عملًا بطوليا" في تقليل الأخطاء المنهجية في قياساته. ومع ذلك، يؤكد كارول أن الوقت لا يزال مبكرًا للحكم على ما إذا كان "توتر هابل" سيصمد أمام المزيد من التدقيق، ويعتبر من السابق لأوانه استبعاد النموذج الكوني القياسي. ويضيف: "لو لم تكن التداعيات بهذا القدر من الأهمية، لما غلّف الشك نفوس الناس بهذا القدر".
بدا الغضب جليًّا على ملامح ريس حين تطرق الحديث إلى الاعتراضات التي طالت نتائجه، وأرجعها إلى ما وصفه بـ"سوسيولوجيا" هذا الحقل العلمي. وأوضح أن زمرة صغيرة من علماء الكونيات، من بينهم سبيرغل وآخرون وصفهم بـ"أصحاب اللحى الرمادية"، ممّن قضوا أعمارهم في تأمل بدايات الكون، لا يميلون إلى تقبّل ما يُربك سردهم الكوني المعتاد، ويصدّون البيانات التي لا تسير وفق مسلّمات النموذج القياسي. (ومن المفارقات اللافتة أن لحية ريس نفسها قد خطها الشيب أيضًا).
ومع ذلك، أشار ريس إلى أن أحد هؤلاء العلماء قد بدأ تعديل موقفه. فقد أرسل ريس بياناته إلى جورج إفسثاثيو، وهو عالم كونيات بارز ومتخصص في الكون المبكر، وكان من أبرز المشككين في "توتر هابل". وعلى شاشة مكتبه، أرانا ريس رسالة تلقّاها من إفسثاثيو، جاء فيها تعليق مقتضب على بياناته بقوله: "إنها مُقنعة للغاية!".
لم أشأ أن أبني استنتاجًا كبيرًا على جملة ربما لم تكن سوى مجاملة عابرة، فآثرت أن أستقصي الأمر بنفسي. تواصلت مع إفسثاثيو مباشرة، وجاء رده أكثر تحفظًا مما بدا عليه في مراسلته مع ريس. كتب لي ببساطة: "ليس لديّ الكثير لأقوله بشأن توتر هابل". ومن وجهة نظره، لم تكن هناك أخطاء واضحة في قياسات ريس، لكنّه في الوقت ذاته لم يُغلق الباب تمامًا أمام احتمال وجود خلل خفي.
يعتقد ريس أن الوقت سيكون كفيلًا بإنصافه، وأن "توتر هابل" ليس عارضًا عابرًا، بل علامة ستزداد حدّة مع الأيام، حتى يبدأ مزيد من علماء الكونيات التشكيك في النموذج القياسي. ومن اللافت أن شخصًا كان له دور بارز في ترسيخ هذا النموذج يبدو مسرورًا باحتمال تزعزعه. وربما يُعزى ذلك إلى طبيعة ريس العلمية، التي تولي البيانات احترامًا مطلقًا، أو ربما لأنه ببساطة يتوق إلى نشوة أن يكون محقًّا مرة أخرى بشأن طبيعة الكون العميقة.
حين التقيتُ ريس في يناير/كانون الثاني الماضي، كان حديثه متّقدًا بشيء من الترقّب، أخبرني أنه كان ينتظر بفارغ الصبر صدور دفعة بيانات جديدة من أداة التحليل الطيفي للطاقة المظلمة "ديسي"، وهي مرصد حديث يقع على قمة كيت في الجزء التابع لأريزونا من صحراء سونورا بالمكسيك. تضم هذه الأداة 5000 ليفة بصرية تتحكم فيها أنظمة روبوتية، يقوم كلّ منها كل عشرين دقيقة بتوجيه نفسه نحو مجرة مختلفة في أعماق السماء.
وعلى مدار خمس سنوات، من المفترض أن يواصل هذا المرصد عمله الصبور حتى تُرصد ملايين المجرات، وهي كمية كافية لرسم خريطة لتمدّد الكون عبر الزمن. وقبيل صدور الدفعة الثانية من البيانات، توقع ريس أن تحمل تحديًا جديدًا للنموذج القياسي. وفي أبسط تصوّر للنظرية، تُرسم الطاقة المظلمة بوصفها قوة خافتة، طاردة، تملأ أرجاء الكون وتدفعه إلى التمدد، وهي ثابتة لا تهتز، وأزلية لا تتبدل.
لكن الإصدار الأول لبيانات مرصد "ديسي"، الذي صدر العام الماضي، قدَّم إشارات أولية تُوحي بأن الطاقة المظلمة لم تكن دومًا كما نظن، إذ بدت أشد فاعلية في فجر الكون، ثم أخذت تخبو شيئًا فشيئًا بعد ذلك. وفي 19 مارس/آذار، نشرت الفرق البحثية الدفعة الكبرى من البيانات التي طالما ترقّبها ريس. وقد استندت إلى ثلاث سنوات من التحديق الصبور في السماء. وكانت الإشارة هذه المرة أوضح: بدت الطاقة المظلمة وكأنها فقدت شيئًا من زخمها قبل عدة مليارات من السنين.
لا يمكن اعتبار هذا الاكتشاف حتى الآن علمًا مُستقرًّا، أو يقف على أرض صلبة. لكن إن ثبُتت صحته فسيستدعي بحسب رأي هيل "مراجعة جذرية" للنموذج القياسي، إذ قال: "الكتب التي أدرّسها لطلابي لن تعود صالحة، وسأضطر إلى إعادة كتابتها من جديد". لكن المسألة لا تتوقف عند صفحات المقررات، ففكرة "الموت الحراري" للكون لم تعد حكرًا على الصفحات الجامدة للكتب الأكاديمية، بل أصبحت إحدى "الأساطير العلمانية" الكبرى عن نهاية العالم، وربما أشهر سردية لنهاية الكون في عصرنا.
ومع ذلك، قد تكون هذه النهاية مجرّد وهم راسخ. فإذا ما ضعفت الطاقة المظلمة حتى تلاشت كليًّا، فقد يتوقف الكون عن التمدد ذات يوم، لا ليهوي إلى العدم، بل ليبلغ حالة سكون، حيث تستقر المجرّات في وضع ثابت لا يتغير. وفي هذه الحالة، قد يُكتب للحياة -وخصوصًا الحياة الذكية- أن تستمر لمدى أطول بكثير مما كنّا نتوقع.
الكون في دورة أبدية.. فرضيات تتحدى الحتميات
إذا استمرت الطاقة المظلمة في الاضمحلال، كما تشير بيانات مرصد "ديسي"، فقد تمضي في خفوتها حتى تنطفئ تمامًا، وربما تنقلب إلى نقيضها، قوة سالبة لا تدفع المجرات بعيدًا، بل تجتذبها إلى حضنها، لتتقارب شيئًا فشيئًا حتى تنهار في نقطة واحدة، حارّة كثيفة، تشبه تلك اللحظة الأولى التي ولد فيها الكون، لحظة الانفجار العظيم.
وقد يكون ذلك جزءًا من دورة أبدية، حيث ينشأ الكون ويفنى ثم يُخلق من جديد مرارًا وتكرارًا. إلا أن ذلك مجرد احتمال، وقد لا يكون كذلك. لكن الحقيقة الوحيدة المؤكدة أن المستقبل البعيد لهذا الكون لا يزال مفتوحًا على جميع السيناريوهات، ولا شيء محسوم.
اتصلتُ بريس بعد صدور نتائج مرصد "ديسي" لمعرفة ما جال في خاطره في تلك اللحظة. فأخبرني أنه قد ظفر بنظرة مبكرة في البيانات. وحين فتح ملف البيانات في مكتبه، ارتسمت على وجهه ابتسامة. لقد راق له أن يرى نتيجة أخرى تُضعف من مصداقية النموذج القياسي. حينها شبّه النظرية ببيضة تتشقق، قائلًا: "لن تنكسر بسهولة من مكان واحد، بل من الطبيعي أن تظهر فيها تشققات متعددة في أماكن متفرقة".
سواء أكانت تلك الشقوق التي بدأت تظهر في جدار النموذج القياسي حقيقية أم مجرد أوهام علمية، فإن اتساعها لا يزال رهن الأيام المقبلة. فالملاحظات الجديدة تتوالى في الأفق، لا من مرصد ديسي فحسب، بل من مرصد فيرا روبين الجديد في صحراء أتاكاما، إلى جانب تلسكوبات فضائية أخرى. وفي كل يوم إفراج عن دفعة جديدة من البيانات، سيجلس أنصار النظرية وخصومها على أطراف الانتظار، يُجدّدون التحقق من صناديق بريدهم الإلكترونية بلهفة، في انتظار ما قد يؤكد نظرتهم أو يقوّضها.
أما في الوقت الراهن، فيرى ريس أن المجتمع النظري أصبح يميل إلى التراخي. فعندما يتواصل مع بعض المنظّرين طلبًا لتفسير نتائجه الرصدية، تأتي ردودهم فاترة ومحبطة، وهو ما عبّر عنه بقوله: " تقتصر ردودهم على عبارة واحدة: نعم، هذا تحدٍّ عسير فعلا". ثم أردف بأسى: "أشعر أحيانًا أنني أقدّم الأدلة، ثم أظلّ عالقًا في فراغ الانتظار، إلى أن يُطلّ علينا أينشتاين جديد".
عندما تحدّثتُ إلى ريس للمرة الأخيرة، كان يحضر مؤتمرًا لعلم الكونيات في سويسرا، وقد بدا صوته مفعمًا ببهجة أقرب إلى النشوة، تحدث إليَّ قائلًا: "حين تغيب المشكلات الكبرى، ويبدو كل شيء وكأنه في موضعه تمامًا، يغدو الأمر مملًّا". أما الآن، فهو يشعر بنبض جديد يسري في الميدان. الهمسات تتعالى، والسكاكين تُشهَر، والصراع على وشك أن يبدأ. وفي النهاية، قالها بحماس: "المجال يشتعل من جديد. أصبح من الوارد فجأة أن يكون الكون مختلفًا كليًّا عمّا ظنناه".
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 10 ساعات
- الجزيرة
علماء يبتكرون عازلا حراريا صديقا للبيئة من قش القمح
أفادت دراسة حديثة أن قش القمح (التبن) يتميز بخصائص عزل حراري عالية، وقدرة على تحمل الضغط، إضافة إلى مقاومته الكبيرة للاشتعال مقارنة بمواد عضوية أخرى، مما يؤهله ليصبح قريبا مادة أساسية في عزل المنازل والمباني التجارية. وتعتمد المواد التقليدية -المستخدمة بالعزل الحراري- لتنظيم درجات الحرارة في الأبنية، لكنها تستهلك كميات من الطاقة بصورة كبيرة أثناء تصنيعها، مما يُسهم في انبعاث كميات ضخمة من الغازات المسببة للاحتباس الحراري. وعكف الدكتور تشي تشو، أستاذ الهندسة بجامعة بافالو الأميركية وفريق من الباحثين على تطوير بديل عضوي وأكثر استدامة باستخدام قش القمح. وأوضح تشو أن الكتلة الحيوية مثل قش القمح يمكن حصادها وإعادة زراعتها بشكل دوري، مما يجعلها خيارا بيئيا ممتازا. وبحسب الفريق، يتميز قش القمح بخصائص عزل حراري عالية، وقدرة على تحمل الضغط، إضافة إلى مقاومته الكبيرة للاشتعال مقارنة بمواد عضوية أخرى. وأوضح تشو أن الخصائص المتفوقة لقش القمح تعود إلى بنيته الطبيعية الليفية والمسامية، والتي تعزز قدرته على العزل. وبدأ تشو وفريقه البحثي عام 2022 دراسة كيفية طباعة مادة عازلة مستخلصة من قش القمح باستخدام تقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد. وعمل فريق البحث في مختبر بجامعة بافالو لصناعة نماذج أولية لألواح العزل، وذلك عبر تحويل القش إلى ألياف تُربط بروابط هيدروجينية بين مركبات عضوية ومجموعات هيدروكسيل في سليلوز القش، ومن ثم تُحوّل إلى حبر قابل للطباعة. ويُعد هذا البحث الأول من نوعه الذي يستعرض إمكانية استخدام ألياف قش القمح في الطباعة ثلاثية الأبعاد لهياكل العزل الحراري. وبحسب تشو، فإن هذه التقنية تُسهم في إنتاج مادة تتميز بقوة ميكانيكية عالية ومتانة طويلة الأمد. وعادة ما تنقسم مواد العزل الحراري إلى 4 فئات: غير عضوية، ومركبة، ومتقدمة، وغير عضوية. وتهيمن الأخيرة -مثل الصوف الزجاجي والصوف الصخري- على السوق، نظرا لتكلفتها المحدودة، إلا أن عملية تصنيعها تعتمد على الوقود الأحفوري مما يزيد من بصمتها الكربونية. وفي المقابل، يُعد قش القمح مادة طبيعية متجددة وقابلة للتحلل الحيوي، مما يمنحه مزايا بيئية كبيرة. وتتضمن عملية التصنيع سحق الألياف وتحويلها إلى عجينة تُجفف في قوالب خاصة لإنتاج حبر طباعة كثيف يُستخدم في بناء هياكل العزل. وقال تشو إن خصائص القش من حيث الكثافة المنخفضة والمحدودية الحرارية مما يجعله مثاليًا لتطبيقات البناء والعزل. كما أن هذا الابتكار يسمح باستخدام القش في صناعة أدوات منزلية وقطع أثاث ومنتجات زخرفية، مع إمكانية بناء مصانع قريبة من المزارع لتقليل انبعاثات النقل وتعزيز الاقتصاد المحلي. ومن التحديات التي واجهت الفريق بطء الطابعات التقليدية وصغر نطاقها. غير أن الفريق طوّر طابعة بفوهات متعددة وفتحات عريضة لتوزيع المادة بسرعة وانتظام، مع تصميم نظام يضمن تدفقا مستقرا. وبحسب تشو، فإن هذه الطريقة قابلة للتطوير الصناعي، ويأمل الباحثون في التعاون مع شركاء صناعيين قريبا لاختبار السوق وتحويل الابتكار إلى واقع تجاري. وإذا تم اعتماد قش القمح على نطاق واسع، فسيُقلل ذلك من الانبعاثات والنفايات الزراعية، ويوفر خيارا مستداما واقتصاديا للعزل في قطاع البناء الذي يعد من بين القطاعات ذات الانبعاثات الكربونية العالية.


الجزيرة
منذ 10 ساعات
- الجزيرة
انبعاثات عالمية قياسية للكربون رغم الجهود البيئية
وصلت الانبعاثات الكربونية العالمية إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق في عام 2024، إذ بلغت 40.8 مليار طن متري من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون المكافئة، على الرغم من النمو الكبير في الطاقة المتجددة والتعهدات المناخية الدولية العديدة بالحياد الكربوني. وتعد الصين والولايات المتحدة والهند أكبر 3 دول من حيث انبعاثات الكربون، إذ تمثل مجتمعة أكثر من نصف الانبعاثات العالمية. وفي حين أظهرت الولايات المتحدة انخفاضات كبيرة منذ عام 2000، شهدت الصين والهند زيادات كبيرة مرتبطة بالتنمية الاقتصادية والاستمرار في الاعتماد على الوقود الأحفوري. ووفقا ل لمراجعة الإحصائية للطاقة العالمية لعام 2025 التي أصدرها معهد الطاقة (EI) في أواخر شهر يونيو/حزيران، تتوسع الطاقة النظيفة لكنها لا تزال غير قادرة على استبدال الوقود الأحفوري بالقدر اللازم لخفض الانبعاثات الإجمالية، مما يشير إلى أن نمو الطلب العالمي أو الإزاحة الكبيرة للوقود الأحفوري أمر ضروري لانخفاض الانبعاثات. اتجاه مقلق وأكدت المراجعة استمرار الاتجاه المُقلق للتلوث. فرغم الاستثمارات التاريخية في مصادر الطاقة المتجددة وتعهدات تحقيق صافي انبعاثات صفري من جميع الاقتصادات الكبرى، فقد بلغت انبعاثات الكربون العالمية مستوى قياسيا في عام 2024. وتُقسّم المراجعة انبعاثات الكربون إلى فئات، إلا أن المقياس الأكثر شمولًا هو إجمالي مكافئات ثاني أكسيد الكربون التي تشمل الانبعاثات الناتجة عن استخدام الطاقة، والحرق، والعمليات الصناعية، والميثان المرتبط بإنتاج الوقود الأحفوري ونقله وتوزيعه. ويقدم هذا النهج صورة أشمل لإسهام كل دولة في مستويات الكربون الجوي. ورغم أن التغيرات في استخدام الأراضي، مثل إزالة الغابات لم تُدرج، فإن إدراج غاز الميثان -وهو غاز دفيئة أقوى بكثير من ثاني أكسيد الكربون- يجعل هذا المقياس أكثر دقة لتأثيره على الغلاف الجوي. وبناء على الدراسة، بلغت انبعاثات الكربون العالمية أعلى مستوى لها على الإطلاق في عام 2024، لتصل إلى 40.8 مليار طن متري من مكافئ ثاني أكسيد الكربون. وهذا يمثل ارتفاعا من 40.3 مليار طن متري في عام 2023، بزيادة قدرها 0.5 مليار طن عن العام السابق. ويأتي ذلك على الرغم من الاستثمارات القياسية في مصادر الطاقة المتجددة والتعهدات الجريئة بتحقيق صافي انبعاثات صفري من الدول والشركات على حد سواء. وقد استمر هذا النمو بمعدل ثابت نسبيا منذ عام 2021. وعلى مدار العقد الماضي، زادت الانبعاثات العالمية بنحو 1% سنويا في المتوسط، على الرغم من تزايد قائمة التعهدات الدولية المتعلقة بالمناخ. وشهد عام 2024 نموا قياسيا في طاقة الرياح والطاقة الشمسية، وتشير بيانات الانبعاثات بوضوح إلى أن الطاقة النظيفة آخذة في التوسع، ولكن ليس بالسرعة الكافية لمواكبة الطلب العالمي المتزايد على الطاقة. وتبقى أكبر 3 دول مُصدرة للكربون في العالم هي الصين والولايات المتحدة والهند. وتمثل الانبعاثات في هذه الدول مجتمعة أكثر من نصف إجمالي الانبعاثات العالمية. ومع ذلك، فقد سلكت مسارات مختلفة للغاية خلال العقود القليلة الماضية، حسب المراجعة. تناقض الريادة الصينية فعلى الرغم من زيادة عدد السكان بنسبة 37% خلال هذه الفترة، كانت انبعاثات الكربون في الولايات المتحدة في عام 2024 أقل مما كانت عليه في عام 1990. وعلى مدار العقد الماضي، انخفضت بمعدل سنوي متوسط قدره 1%. ولم تخفض أي دولة انبعاثاتها الكربونية أكثر من هذا المعدل خلال هذا القرن. ومنذ عام 2000، انخفضت انبعاثات الولايات المتحدة بمقدار 913 مليون طن متري، لكن تراجع الرئيس دونالد ترامب عن السياسات المناخية ودعوته للتوسع في الاعتماد على الوقود الأحفوري ينذر بارتفاع في الانبعاثات في المستقبل. وفي المقابل، تضاعفت انبعاثات الكربون في الصين 5 أضعاف منذ عام 1990، إذ ارتفعت بمقدار مذهل بلغ 8.8 مليارات طن متري منذ عام 2000 وحده. ففي عام 2024، أصدرت الصين ما يقارب 12.5 مليار طن متري من ثاني أكسيد الكربون، أي ما يقارب 31% من إجمالي الانبعاثات العالمية، وأكثر من إجمالي انبعاثات أميركا الشمالية وأوروبا. ورغم كونها الرائدة عالميا في نشر الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، تُعد الصين أيضا أكبر مستهلك للفحم في العالم. هذا التناقض -قيادة التوسع في الطاقة النظيفة مع استمرار الاعتماد الكبير على الوقود الأحفوري- يُفسر استمرار ارتفاع انبعاثات الكربون العالمية، حتى مع نمو مصادر الطاقة المتجددة بمعدلات قياسية. كذلك تضاعفت انبعاثات الهند 5 أضعاف منذ عام 1990، بزيادة قدرها 2.2 مليار طن متري منذ عام 2000، لتحتل المرتبة الثانية بعد الصين من حيث النمو المطلق. وفي عام 2024 بلغت انبعاثات الهند 3.3 مليارات طن متري، بزيادة قدرها 24% عن العقد الماضي. وترتبط انبعاثات الهند المتزايدة بالتنمية الاقتصادية، حيث يزداد الطلب على الطاقة. ولا يزال الوقود الأحفوري يُلبي جزءا كبيرا من هذا الطلب. وبشكل عام، تكشف المراجعة عن اختلالات هيكلية أعمق في معدل الانبعاثات. فعلى مدى العقد الماضي شهدت أفريقيا ارتفاعا في الانبعاثات بنسبة 25%، وارتفعت انبعاثات الشرق الأوسط بنسبة 15%، وأضافت منطقة آسيا والمحيط الهادي، التي تضم الصين والهند، أكثر من 9%. وسجلت أميركا الجنوبية والوسطى زيادة قدرها 9.3%، وفي المقابل شهدت أوروبا انخفاضا ملحوظا في الانبعاثات، بمعدل 1.4% سنويا على مدار العقد. وانخفضت انبعاثات الاتحاد الأوروبي إلى 3.7 مليارات طن متري بحلول عام 2024، بانخفاض قدره 15% عن العقد السابق. لكن هذا النجاح يبقى متفاوتا. ففي شرق أوروبا وجنوبها، استقرت الانبعاثات، بل إنها في ازدياد، وأخرت الضغوط الاقتصادية بعض خطط التخلص التدريجي من الفحم. وبينما تُعتبر أوروبا رائدة في مجال المناخ، تُظهر انقساماتها الداخلية صعوبة في الحفاظ على الزخم بين تكتل متنوع من الدول. تعكس هذه الاتجاهات مستويات متفاوتة من طموحات السياسات، ويأتي جزء كبير من نمو الطلب العالمي على الطاقة من دول لا تزال في طور بناء البنية التحتية الأساسية، وتوسيع شبكات النقل، وزيادة الإنتاج الصناعي، وتوسيع الطبقة المتوسطة. كما تشير البيانات إلى أن التحول في مجال الطاقة، الذي رُوّج له بكثافة، لا يزال يسير ببطء شديد، وذلك يحول دون وقف نمو الانبعاثات، إذ تتزايد استخدامات طاقة الرياح والطاقة الشمسية، لكنهما لم تحلا بعد محل الوقود الأحفوري بالمستوى اللازم لخفض إجمالي الانبعاثات.


الجزيرة
منذ 16 ساعات
- الجزيرة
5 كتب ترسم ملامح القيادة بالمؤسسات في عصر الذكاء الاصطناعي
بينما تمضي الحياة اليومية بإيقاعها المعتاد في العالم، وتزدحم الأجندات الإعلامية بقضايا السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا، اختار عدد من كبار الرؤساء التنفيذيين بكبرى الشركات الأميركية التفرغ لقراءة 5 كتب تشبه في حرارتها ما يدور من نقاشات حول مستقبل الذكاء الاصطناعي، وتحولات الاقتصاد، ومفهوم القيادة الفكرية في عالم سريع التبدل. ووفقًا لتقرير نشرته مجلة فوربس، فإن قائمة القراءات المفضلة لقادة الشركات هذا الصيف تعكس قلقًا متزايدًا من التعقيدات التي يفرضها عصر التكنولوجيا، وعدم اليقين، وتحولات القوة العالمية. الذكاء الاصطناعي.. الإمكانيات بدل التهديدات ويتصدر قائمة القراءة كتاب "الوكالة الخارقة: ما الذي قد يسير بشكل صحيح في مستقبلنا مع الذكاء الاصطناعي" للمؤلفين ريد هوفمان (المؤسس المشارك لمنصة لنكدن) وغريغ بيتو. ويتميز هذا العمل برؤية متفائلة بعيدًا عن سيناريوهات "يوم القيامة" التي تهيمن على النقاش العام، ويؤكد أن الذكاء الاصطناعي يمكنه تعزيز القدرات البشرية بدلًا من استبدالها. ويرى هوفمان أن السؤال الأهم ليس ما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيغير شكل الأعمال، بل مدى سرعة تأقلم القادة مع هذا التغيير. ويُعد هذا الكتاب مرجعًا أساسيًا لكل مدير تنفيذي يطمح إلى تجاوز الضجة الإعلامية والوصول إلى الفرص الحقيقية. من هو ألتمان؟ الكتاب الثاني الذي استحوذ على اهتمام القادة هو "المتفائل: سام ألتمان وأوبن إيه آي وسباق اختراع المستقبل" للكاتبة كيتش هايغي. ويقدم هذا العمل، المؤلف من 384 صفحة، نظرة متعمقة على شركة "أوبن إيه آي" التي أشعلت موجة الذكاء الاصطناعي. ورغم وصول المؤلفة إلى ألتمان شخصيًا، تجنّب الكتاب الوقوع في فخ التمجيد، بل ركّز على القرارات الإستراتيجية والتقنية التي قادت إلى إطلاق "شات جي بي تي". كما يسلّط الضوء على كيفية تعامل الشركة مع الضغوط التنظيمية والاهتمام العام غير المسبوق. إعلان ويُعد هذا الكتاب ضروريًا لفهم المشهد التنافسي في الذكاء الاصطناعي. التعامل مع المجهول أما كتاب "فن عدم اليقين" لعالم الإحصاء ديفيد سبيلغهالتر فيُعد بمثابة دليل عملي لاتخاذ القرار في عالم تزداد فيه الأزمات والمفاجآت. ويتناول المؤلف، بلغة سهلة وأمثلة تطبيقية، كيفية التفكير في الاحتمالات والمخاطر والمصادفات، متجاوزًا مناهج كليات الأعمال التقليدية. وفي عصر تتكرر فيه الأحداث المفاجئة مثل الأوبئة والأزمات الجيوسياسية، يوفر الكتاب أدوات عقلانية وعملية لكل مدير عليه اتخاذ قرارات مصيرية في ظروف غامضة. التاريخ السري لحرب الأفكار وفي كتاب "نادي قراءة وكالة المخابرات المركزية" يروي الصحفي تشارلي إنغليش كيف قامت وكالة الاستخبارات الأميركية بتهريب أكثر من 10 ملايين كتاب إلى دول الكتلة الشرقية خلال الحرب الباردة. ويُظهر هذا العمل، كما وصفه قائد العملية، كيف أن "الهجوم الفكري الحر والنزيه" كان أقوى من أي حملة عسكرية. ويكشف عن القيمة الإستراتيجية للمعلومة في إدارة النفوذ، وهو ما يجعله مصدر إلهام للمديرين زمن صراعات السرديات الرقمية. باكلي والإرث الفكري وختام القائمة مع السيرة الضخمة بعنوان "باكلي: الحياة والثورة التي غيّرت أميركا" من تأليف سام تاننهاوس. ويمتد العمل على أكثر من ألف صفحة، ويوثق كيف استطاع المفكر المحافظ وليام باكلي تغيير المشهد السياسي الأميركي بقوة قناعاته وقدرته على صياغة الأفكار المعقدة بلغة جذابة وحجج محكمة. ويُعد هذا الكتاب مرجعًا في كيفية ممارسة القيادة الفكرية والتواصل المبدئي في ظل التحديات السياسية والاجتماعية الراهنة. وتتفق الكتب الخمسة، رغم اختلاف موضوعاتها، على محور واحد: أن الأفكار الواضحة والإستراتيجيات المدروسة قادرة على إحداث تحولات كبرى، من الرؤية المتفائلة لهوفمان حول الذكاء الاصطناعي، مرورًا برحلة ألتمان وتحدياته، ووصولًا إلى دروس سبيلغهالتر في التعامل مع الخطر، ثم الاستخدام الإستراتيجي للمعرفة كما بعمليات "سي آي إيه" وانتهاءً برؤية باكلي لأثر الفكر الأيديولوجي، وكلها أعمال تؤكد أن التفكير العميق لم يكن يومًا رفاهية بل ضرورة في عالم متغيّر.