logo
كتيبة "نتساح يهودا" وتداعيات مقتلة بيت حانون: أزمة التجنيد الحريدي في مرآة الحرب

كتيبة "نتساح يهودا" وتداعيات مقتلة بيت حانون: أزمة التجنيد الحريدي في مرآة الحرب

الجزيرةمنذ 6 ساعات
القدس المحتلة- قتل 5 جنود وأصيب 14 آخرون من كتيبة " نتساح يهودا" خلال عملية نفذتها المقاومة الفلسطينية في بيت حانون شمالي قطاع غزة ، بحسب بيان للجيش الإسرائيلي اليوم الثلاثاء.
وتشير التحقيقات الأولية إلى أن الكمين، مساء أمس الاثنين، وقع أثناء تحرك كتيبتين لتطهير المنطقة، عندما مرت قوة راجلة من كتيبة 97 على طريق مفخخ، فانفجرت فيها عبوتان ناسفتان، وتبع ذلك إطلاق نار كثيف استهدف فرق الإخلاء.
تسلط هذه الحادثة التفجيرية الضوء على الكتيبة التي كانت تعرف سابقا باسم "نحال الحريديم"، والمكونة من جنود ذوي خلفيات دينية حريدية ودينية قومية، والتي تخوض للمرة الأولى قتالا فعليا في قطاع غزة بعد أن كانت خبرتها مركزة في الضفة الغربية ذات الطابع الأمني الأقل خطورة.
وتعود جذور "نتساح يهودا" إلى تجربة تأسيسية عام 1961 تحت مسمى "نحال الحريديم"، حين أقيمت نقطة في موشاف "عميوز" بمبادرة من الحاخام موشيه إرنستر، وبدعم من الحاخام حاييم مائير هاجر. وبعد فشلها، أعيد تشكيلها في مناطق أخرى، لكنها أغلقت في السبعينيات بناءً على توصية لجنة موشيه ديان.
وأُعيد إحياؤها بشكل جديد عام 1999 كوحدة صغيرة ضمن كتيبة 903، قبل أن تصبح في 2002 كتيبة مستقلة ضمن لواء كفير تحت اسم "نتساح يهودا"، وتعمل تحت إشراف مشترك بين الحاخامات ووزارة الحرب الإسرائيلية.
وتمحورت مهمتها حول استيعاب شبان حريديم تركوا الدراسة أو أرادوا الانخراط في الجيش دون المساس بنمط حياتهم الديني.
ورغم أن الكتيبة تهدف لدمج الحريديم في الجيش، واجهت منذ البداية رفضا حاخاميا شديدا، مما أدى إلى عزوفٍ عامّ في أوساط الحريديم عن الخدمة العسكرية، وتحول الكتيبة تدريجيًا إلى بؤرة جذب لأبناء التيار الديني القومي المتشدد، وشبان من حركة " حاباد" وآخرين من متطوعين أجانب.
في 2006، شكَّل غير الحريديم نحو 30% من قوام الكتيبة، وارتفعت نسبتهم إلى 60% عام 2012، مما أثار تساؤلات حول حقيقة تركيبة "نتساح يهودا"، وما إذا كانت لا تزال تمثل الإطار الحريدي الذي أُنشئت لأجله.
معيار الكفاءة
وشهدت الحرب الإسرائيلية الجارية على غزة أول مشاركة ميدانية واسعة للكتيبة في ساحة قتال كثيفة ومعقدة كقطاع غزة، حيث نفذت عمليات في منطقة بيت حانون، وشاركت بتدمير بنى تحتية عسكرية وكمائن للمقاتلين.
ولكن في المقابل، دفعت الكتيبة ثمنا باهظا بالقوات البشرية، حيث قتل ثلاثة من عناصرها في مايو/أيار الماضي، ثم خمسة آخرون في يوليو/تموز الجاري.
ويعيد الكمين الأحدث، أمس الاثنين، طرح تساؤلات حادة داخل المؤسسة العسكرية والسياسية في إسرائيل، أبرزها: هل نتساح يهودا مؤهلة لخوض حرب معقدة مثل حرب غزة؟ وهل تدفع الكتيبة ثمن تدريب غير كاف، وتجربة سابقة تقتصر على الضفة الغربية؟ وهل يمكن تحميل هذا الفشل لمجرد محدودية التأهيل، أم أن بنية الكتيبة وتركيبتها العقائدية والدينية تحدّ من كفاءتها العملياتية؟
ومن شأن هذه الخسائر، يقول مراسل صحيفة هآرتس للشؤون الدينية والمجتمع الحريدي، هارون رابينوفيتش، أن تؤجج النقاش السياسي والاجتماعي في إسرائيل حول مستقبل تجنيد الحريديم.
وأوضح أن المؤيدين يرون في الكتيبة نموذجا قابلا للتطوير والدمج المتدرج، ويرون أن كمين بيت حانون يجب أن يدفع نحو تدريب أكثر احترافية. وفي المقابل، قد يستغل التيار الحريدي الرافض للتجنيد هذه الحادثة لتعزيز مخاوفه، مؤكدًا أن الحرب "ليست مكانًا لأبناء التوراة".
وهكذا، يضيف رابينوفيتش "تتجاوز مأساة بيت حانون حدود الخسائر البشرية، لتغذي أزمة هوية وطنية حادة في إسرائيل بين الدولة العسكرية والدولة الدينية، وبين إكراه الاندماج وحرية المعتقد، في لحظة سياسية وأمنية معقدة يطغى عليها استمرار الحرب في غزة والانقسام الداخلي المتصاعد".
وبالتوازي مع إعلان الجيش الخسائر البشرية التي تكبدتها "نتساح يهودا" في بيت حانون، لوَّح مسؤول كبير في حزب "ديغل هتوراة" بالاستقالة من الائتلاف الحكومي إذا لم يُطرح قانون إعفاء طلاب المدارس الدينية من التجنيد الإجباري بعد عودة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ، من زيارته ل واشنطن.
وأعربت مصادر في الأحزاب الحريدية عن غضبها من تأجيل رئيس لجنة الخارجية والأمن، يولي إدلشتاين، تسليم مسودة القانون، رغم وعوده اليومية منذ شهر، وفق صحيفة "معاريف".
وفي الكنيست ، شددت الأحزاب الحريدية " يهودات هتوراة" و" شاس" إجراءات المقاطعة لتشريعات الحكومة، ورفضت التصويت مع الائتلاف احتجاجا على تأخر القانون، ما اضطر الحكومة لسحب مشاريع قوانين من جدول التصويت.
اندماج محدود
وتأتي هذه الأزمة في ظل بدء الجيش الإسرائيلي في إرسال أوامر تجنيد لـ54 ألف طالب مدرسة دينية، وسط تحذيرات من "اختناق" في السجون العسكرية حال بدء اعتقال المتهربين.
ورغم استمرار العمل بقانون الإعفاء من الخدمة العسكرية، لا يزال اندماج الحريديم في جيش الدفاع الإسرائيلي محدودا، ففي 2024، أعلن المتحدث باسم الجيش انضمام 338 مجندا جديدا من القطاع الحريدي للخدمة الإلزامية، بينهم 211 في مسارات قتالية و127 في أدوار مساندة.
وبحسب مراسل الشؤون العسكرية في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، يوآف زيتون، يبذل الجيش جهودًا لتوسيع مسارات الخدمة المخصصة للحريديم، مع العمل على تكييفها بما يتناسب مع خصوصياتهم وظروف حياتهم.
تأتي هذه الخطوة، يقول زيتون "في إطار مساعٍ لتعزيز انخراطهم في الخدمة العسكرية"، سواء في الأدوار القتالية أو المساندة. وفي هذا السياق، أرسل الجيش نحو 7 آلاف أمر تجنيد لضباط صف من القطاع الحريدي، تمهيدا لدمجهم في دورات التجنيد المقبلة.
وأوضح المراسل العسكري أنه ورغم النقاش السياسي المستمر بشأن قانون الإعفاء، تؤكد المؤسسة العسكرية أنها ماضية في جهودها لدمج الحريديم، باعتبار "جيش الدفاع الإسرائيلي جيش الشعب" الذي يسعى لمشاركة كل فئات المجتمع في خدمة أمنه واحتياجاته العملياتية.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

عراقجي: مهتمون بالدبلوماسية وكنا على أعتاب إنجاز تاريخي مع ويتكوف
عراقجي: مهتمون بالدبلوماسية وكنا على أعتاب إنجاز تاريخي مع ويتكوف

الجزيرة

timeمنذ ساعة واحدة

  • الجزيرة

عراقجي: مهتمون بالدبلوماسية وكنا على أعتاب إنجاز تاريخي مع ويتكوف

قال وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي ، اليوم الثلاثاء، إن طهران لا تزال مهتمة بالدبلوماسية، مضيفا أنه و ستيف ويتكوف المبعوث الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترامب كانا "على أعتاب إنجاز تاريخي" قبل الحرب الإسرائيلية الإيرانية. وأشاد عراقجي، في مقال نُشر في صحيفة فايننشال تايمز، بجهود ترامب في المفاوضات السابقة، في إشارة جديدة إلى أن المحادثات بشأن البرنامج النووي الإيراني قد تستأنف قريبا. وكتب عراقجي يقول: "في 5 اجتماعات فقط على مدى 9 أسابيع، حققت أنا والمبعوث الأميركي أكثر مما حققته خلال 4 سنوات من المفاوضات النووية مع إدارة (جو) بايدن الفاشلة. كنا على أعتاب إنجاز تاريخي". وأضاف وزير الخارجية الإيراني أن الطرفين كانا على بعد 48 ساعة من اجتماع سادس حاسم عندما شنت إسرائيل غارات جوية استهدفت منشآت نووية إيرانية وبنية تحتية للصواريخ الباليستية في 13 يونيو/حزيران الماضي. وقال عراقجي "لا تزال إيران مهتمة بالدبلوماسية، لكن لدينا أسباب وجيهة للشك في إمكانية إجراء المزيد من الحوار. إذا كانت هناك رغبة في حل هذه المسألة، فعلى الولايات المتحدة أن تُظهر استعدادا حقيقيا لاتفاق عادل". وأضاف أن طهران تلقت رسائل في الأيام القليلة الماضية تشير إلى أن واشنطن ربما تكون مستعدة للعودة للمفاوضات، مؤكدا التزام إيران "ببرنامج نووي سلمي تحت مراقبة الأمم المتحدة باعتبارنا دولة موقعة على معاهدة منع الانتشار النووي". وعن الحرب الإسرائيلية على إيران قال عراقجي "لا ينبغي تفسير التزامنا بالتصرف بمسؤولية لتجنب حرب إقليمية شاملة على أنه ضعف"، وأكد أن " طهران قاومت العدوان بقوة حتى اضطرت إسرائيل إلى الاعتماد على ترامب لإنهاء الحرب التي بدأتها"، مشددا على أن إيران ستهزم أي هجوم عليها في المستقبل. يشار إلى أنه خلال اجتماع في البيت الأبيض مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مساء أمس الاثنين، قال ترامب للصحفيين "حددنا موعدا لمحادثات مع إيران، وهم.. يريدون التحدث". وأكد ترامب للصحفيين رغبته في رفع العقوبات عن إيران في وقت ما. وقال "أود أن أتمكن، في الوقت المناسب، من رفع تلك العقوبات". وبعدها قال ويتكوف إن الاجتماع سيُعقد خلال الأسبوع المقبل أو نحو ذلك. استعداد أوروبي وفي الإطار ذاته، أعلنت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كايا كالاس الثلاثاء عقب محادثة هاتفية مع عراقجي استعداد بروكسل لتسهيل استئناف المفاوضات مع طهران بشأن مستقبل البرنامج النووي الإيراني. وكتبت كالاس، على منصة "إكس"، أنّه في أعقاب الضربات الإسرائيلية والأميركية على إيران فإنّ "استئناف المفاوضات الرامية لإنهاء البرنامج النووي الإيراني ينبغي أن يتمّ في أقرب وقت ممكن"، وكذلك أيضا "التعاون" مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وأكدت مسؤولة السياسة الخارجية أن "الاتّحاد الأوروبي مستعد لتسهيل هذا الأمر"، محذرة من أن "أي تهديد بالانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي لا يساعد في تخفيف التوترات. هذا ما قلته (لعراقجي) اليوم". وفي وقت سابق اليوم، قال مصدر دبلوماسي فرنسي إنه سيتعين على القوى الأوروبية إعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة على إيران في حال عدم التوصل إلى اتفاق نووي يضمن المصالح الأمنية الأوروبية.

غزة تكشف حقيقة اليسار الفرنسي
غزة تكشف حقيقة اليسار الفرنسي

الجزيرة

timeمنذ 2 ساعات

  • الجزيرة

غزة تكشف حقيقة اليسار الفرنسي

"حق إسرائيل في الوجود لا جدال فيه". "كانت فرنسا دوما إلى جانب إسرائيل منذ اليوم الأول، وتأسيسها عام 1948 كان فرحة كبيرة". الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند يجمع كلًّا من فرانسوا ميتران وفرانسوا هولاند الكثير من القواسم المشتركة، فهما رئيسان فرنسيان يساريان، وهما صديقان مُقرَّبان من إسرائيل، وخذلتهما إسرائيل في الوقت نفسه. ميتران، الذي أصبح في مارس/آذار 1982 أول رئيس فرنسي يزور دولة الاحتلال منذ 35 عاما، وألقى خطابا حينها في الكنيست أكَّد فيه ضرورة وجود إسرائيل وعيشها في أمن وأمان، كان قد انتقد في الخطاب نفسه الاستيطان في الضفة الغربية، وقال إن "حق إسرائيل في الوجود" يجب ألا يكون على حساب حقوق الشعب الفلسطيني. كان ذكر حقوق الشعب الفلسطيني يعني مباشرة في تل أبيب الدخول إلى حقل ألغام "معاداة إسرائيل". وقد ازداد الأمر سوءا بعد أشهر قليلة حين غزا جيش الاحتلال لبنان عام 1982، إذ صرَّح ميتران في مؤتمر صحفي عُقد في باريس بأن الهجوم الإسرائيلي على لبنان تهديد خطير للسِّلم في الشرق الأوسط، وأنه لا يمكن قبول قتل المدنيين وتحطيم عاصمة مثل بيروت، واصفا اجتياح إسرائيل للبنان بـ"العدوان المفرط" و"انتهاك القانون الدولي"، وما أشبه اليوم بالبارحة. أما الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، فله كلام كثير في مدح إسرائيل، منه ما صرَّح به أثناء زيارته الرسمية لدولة الاحتلال في نوفمبر/تشرين الثاني 2013، حين قال برومانسية شديدة إنه لو قيل له إن عليه الغناء للتعبير عن حبه الكبير لإسرائيل ومسؤوليها لفعل ذلك: "كنت سأفعل ذلك من أجل الصداقة بيني وبين بنيامين، من أجل إسرائيل وفرنسا، حتى لو كنت أُغني بشكل سيئ". بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أعلن هولاند تعاطفه وتضامنه اللا مشروط مع دولة الاحتلال ضد ما وصفه بـ"المذبحة التي ارتكبتها منظمة إرهابية"، دون أن "يُغنّي بالضرورة"!. بيد أن إسرائيل سرعان ما خذلته بسبب الدم الذي سال في غزة إثر رغبة جيش الاحتلال المحمومة في الانتقام من كل مظهر للحياة في القطاع المحاصر. في مقابلة مع إذاعة "فرانس إنتر" في 4 أبريل/نيسان 2024، قال هولاند إن الوقت قد حان لكي تتوقف إسرائيل، لأن الأمر لم يعد مقبولا ولا محتملا: "لقد عبَّرنا عن تضامننا مع إسرائيل بعد السابع من أكتوبر، وبعد هذه المجزرة غير المحتملة، نعم، لكن أن نسمح الآن بتجويع السكان المدنيين، وأن تُحرم النساء حتى من العلاج، فهذا أمر لا يُحتمل. ولذلك، يجب الآن ممارسة نوع من الضغط". في فبراير/شباط 2025، قال هولاند في تدوينة على موقع "إكس" إن الوضع في غزة أصبح "لا يُطاق"، ودعا إلى فرض عقوبات أوروبية على إسرائيل. ليست تلك إلا نبذة مبسطة عن علاقة إسرائيل الغريبة والمتوترة مع قطاع من اليسار الفرنسي، وذلك لأن اليسار الفرنسي لطالما شكَّل طيفا واسعا ومتنوِّعا. فحتى اليوم، هناك يسار صهيوني، وهناك يسار يُعتبر "معاديا للسامية" من وجهة نظر إسرائيل. مثله مثل اليسار في شتى أنحاء العالم، تُشكِّل اليسار الفرنسي مجموعة أفكار ثورية تغيَّرت وتنوَّعت مع سقوط الاتحاد السوفياتي ، حتى أصبحت هناك اختلافات جوهرية فيما بين الاتجاهات اليسارية المختلفة، حول الاقتصاد والعلاقات الخارجية، وحتى ملفات مثل الوقوف ضد إسرائيل. اليسار واليسار الآخر ما انعكاس كل ذلك على العلاقة المعقدة مع دولة الاحتلال؟ في مايو/أيار 2023، رفضت الجمعية الوطنية الفرنسية مقترح قرار تقدم به الحزب الشيوعي الفرنسي وحزب فرنسا الأبية (أقصى اليسار) لإدانة نظام الفصل العنصري الذي تمارسه دولة الاحتلال ضد الفلسطينيين، وضمَّ هذا المقترح دعوة الحكومة الفرنسية لوضع حدٍّ للاستيطان ومقاطعة إسرائيل اقتصاديا. وقد أحدث الاقتراح انقسامات في صفوف اليسار الفرنسي، فقالت النائبة إيرسيليا سوديه عن حزب فرنسا الأبية إنه لا يمكن التقدم في الديمقراطية الداخلية في إسرائيل دون نجاح في إنهاء الفصل العنصري والاستعمار، معتبرة أنه لا يجب الخوف من استعمال كلمة "الفصل العنصري" في مواجهة إسرائيل وفي وصف الوقائع على الأرض. في المقابل، حيث يجلس نواب الحزب الاشتراكي الفرنسي، ساد الحرج إلى حدٍّ جعل النائب جيروم غيدي يقول إن ما يُطالب به رفاقه اليساريون يُقوِّض القضية التي يدافعون عنها. وقد أتى التعليق في السياق نفسه الذي سار فيه الحزب الاشتراكي، الذي أصدر بيانا صحفيا قال فيه إنه يرفض استخدام كلمة "الفصل العنصري"، ويرفض الدعوة إلى تقنين مقاطعة المنتجات الإسرائيلية لأنه يُعَد تمييزا، ومن ثمَّ انضم الحزب الاشتراكي إلى قائمة رافضي القرار، وهم الكتلة الرئاسية ذات السياسات اليمينية، ثم اليمين الكلاسيكي ومن بعده اليمين المتطرف، مما ترتَّب عليه رفض المقترح. تعمَّق الخلاف من داخل التيار اليساري إلى داخل الحزب الاشتراكي نفسه، وذلك بعد نشر بيان بعنوان "دائرة أصدقاء إسرائيل" في السادس من مايو/أيار 2024 على الموقع الرسمي للحزب. وكان النص مثيرا للجدل، حتى إنه مُسِح بعدها بفترة وجيزة. ويقول البيان إن "الحزب الاشتراكي في فرنسا لا يُعقَل ألا يكون صهيونيا وهو الذي يدافع عن حق الشعوب في تقرير مصيرها". إعلان ولذلك، بعد هجمات السابع من أكتوبر، رأى الحزب (أو مجموعة منه) أن من الضروري تأسيس دائرة أصدقاء إسرائيل، كما فعل حزب العمال البريطاني. في البيان نفسه قال الموقِّعون إن الامتناع عن دعم إسرائيل بوضوح يعني خيانة الشرعية الاشتراكية وفقدان الأمل في الفوز بالانتخابات، التي كانت على الأبواب آنذاك. وقد كتب "أصدقاء إسرائيل" أيضا أن هناك تناقضا في مطالبة الكثيرين بوقف إطلاق النار دون المطالبة باستسلام حركة حماس، وهو ما يشبه سياسة استرضاء الديكتاتوريات، وذلك لأن الحزب لم يعلن الدعم للرهائن الإسرائيليين، ومن بينهم مزدوجو الجنسية الذين يحملون الجنسية الفرنسية. وقد دعا الموقِّعون إلى دعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، مع التفريق بين النقد الحكومي والانسحاب الكامل من دعم إسرائيل، فاليسار الفرنسي وإن كان يدعم اليسار الإسرائيلي، فإنه يدعم أيضا إسرائيل ذاتها بوصفها دولة. لم يقف البيان هنا، بل ذهب إلى ما هو أبعد في دعم نتنياهو نفسه، حينما قال إن الجميع يعلم بأن إسرائيل تتخذ خطوات فريدة للحد من الخسائر المدنية. كيف ذلك؟ باستخدام قنابل دقيقة، وتحذير المدنيين وإخلائهم. كان البيان مُفرطا في الحماس لصالح إسرائيل، وصحيح أنه واجه معارضة داخلية قوية أجبرت كُتَّابه على حذفه، لكنه جاء بمنزلة تطور طبيعي لبيان نُشِر قبله في 27 مايو/أيار 2024، واختار له الحزب عنوان: "معاداة السامية في صفوف اليسار: بين الإقرار والفهم والمجابهة". وقد استهل الحزب البيان المُطوَّل بالحديث عن العودة المُقلِقة لمعاداة السامية التي شهدتها فرنسا مؤخرا، حيث أشار إلى تسجيل 1576 واقعة مُعادية لليهود مقارنة بـ476 واقعة عام 2022، مما يدفع للتساؤل حول قدرة الجمهورية على وضع أسس "العيش المشترك". ويقول الحزب الاشتراكي إن معاداة السامية لم تعد مقتصرة على اليمين المتطرف، فقد ظهرت داخل اليسار، الذي من المفترض أنه حصن تاريخي للقيم الإنسانية والكونية. وقد وجَّه رفاق فرانسوا هولاند اتهاماته مباشرة لكلٍّ من حزب فرنسا الأبية والحزب الجديد المناهض للرأسمالية في استخدام الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ذريعةً لاستهداف اليهود داخل فرنسا ووصف "حماس" بالحركة المقاومة. خرج البيان بمجموعة توصيات لحماية إسرائيل، وهي رفض الخلط بين مناهضة الصهيونية وإنكار شرعية إسرائيل، ورفض تصوير اليهود على أنهم طبقة مهيمنة ومن ثمَّ غير مُعرَّضة للتمييز، ورفض التساهل مع بعض خطابات الكراهية باسم الدفاع عن القضية الفلسطينية. وقد رفض الاشتراكيون أشياء كثيرة أخرى، منها التمييز بين النقد السياسي المشروع لإسرائيل ومعاداة السامية، ورفض التشبيهات المتطرفة التي تُشيطن إسرائيل، وعدم التحالف مع مَن يرفضون إدانة الإرهاب أو يبررونه. فرنسا الأبية عادة ما ينقسم الطيف السياسي في فرنسا إلى ثلاثة اتجاهات حين يتعلَّق الأمر بإسرائيل: اليمين واليمين المتطرف، وهما داعمان لجميع تحركات إسرائيل، ويتبنيان فكر بنيامين نتنياهو الذي يقول إن الكيان لا يدافع عن نفسه فحسب، بل يُمثِّل خط الدفاع الأول في وجه "الإرهاب الإسلامي". وهناك فريق ثانٍ يضُم الفريق الرئاسي واليسار الاشتراكي ، الذي يرى أن إسرائيل أخطأت وأسالت دماء كثيرة، وأن ما يحدث في غزة فظيع، بيد أنه يرفض إدانة إسرائيل صراحة ويكتفي بانتقاد سياسات الحكومة. أما الفريق الثالث فهو ما يُعرف إعلاميا بـ"اليسار الراديكالي" ، الذي لا يبدو متحمسا لإسرائيل، وهو أكثر انفتاحا على استعمال مصطلح "الإبادة العِرقية" لوصف ما يحدث في غزة وفي فلسطين عموما. قبل حرب يونيو/حزيران 1967، كانت إسرائيل تُصوَّر في بعض أوساط اليسار الفرنسي بوصفها دولة تقدُّمية، مستوحاة من الاشتراكية الجماعية التي تجلَّت في نموذج مستوطنات الكيبوتس. ولكن بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان، وترسُّخ التحالف مع الولايات المتحدة، تغيَّر هذا التصور جذريا، وباتت إسرائيل تُرى على أنها قوة استعمارية توسُّعية، وممثلة للمشروع الأميركي في الشرق الأوسط. ومن هنا تبنَّت الدولة الفرنسية ذاتها مواقف مغايرة، وحاولت أن تستفيد من التحوُّل في التيار اليساري، وفي الوقت نفسه أن تبني وجودا مستقلا خاصا بها في المنطقة العربية بعيدا عن النفوذ الأميركي. كانت ذروة هذا الاتجاه أثناء رئاسة شارل ديغول في منتصف الستينيات، الذي تحفَّظ على التحالف المفتوح مع واشنطن وسحب بلاده من القيادة العسكرية لحلف الناتو عام 1966، ثم أدان العدوان على الدول العربية عام 1967، بل وأوقف أي صفقات تسليح لصالح إسرائيل بعد أن كانت الأخيرة حليفة وثيقة لباريس طيلة الخمسينيات. في هذا السياق، تبنّت العديد من منظمات اليسار الراديكالي، مثل "الرابطة الشيوعية الثورية" و"اليسار البروليتاري"، خطابا داعما للمقاومة الفلسطينية، ورأت في النضال الفلسطيني تجسيدا جديدا لحركات التحرُّر في العالم الثالث. ولم يكن هذا الدعم معنويا فقط، بل شمل تنظيم مظاهرات، وحملات توعية، وطباعة منشورات، وفي بعض الحالات إقامة علاقة مباشرة مع منظمات فلسطينية. لم يكُن التضامن مع الفلسطينيين محصورا في مناهضة الاحتلال، بل ارتبط برؤية أيديولوجيا تعتبر القضية الفلسطينية رمزا للثورة الأممية، وترى في منظمة التحرير الفلسطينية وريثة للنضالات العالمية، مثل الثورة الكوبية والفيتنامية. في المقابل، نظر هذا التيار إلى الصهيونية بوصفها أداة استعمارية تمارس القمع باسم "الذاكرة اليهودية". ولكن هذا الخطاب لم يكن خاليا من الإشكالات، إذ كان غالبا ما يتجاهل التفرقة الضرورية بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية، مما فتح المجال لاتهامات سياسية وإعلامية بتبنِّيه مواقف ملتبسة تجاه اليهود. يشير الكاتب والسياسي الشيوعي الفرنسي آلان غريش إلى عدد من التناقضات التي صاحبت هذا الالتزام السياسي. أولا ، لم يُعِر هذا التيار اهتماما كافيا لمعاداة السامية في السياق الفرنسي، وهي قضية كانت حيَّة بالفعل في فرنسا بعد أقل من عقديْن على نهاية الحرب العالمية الثانية وما شهدته من استفحال الظاهرة تحت حكومة فيشي الموالية للنازيين. وثانيا ، كان تركيز اليسار آنذاك على البُعد الخارجي وحده، ولم يلتفت كثيرا إلى معالجة التحديات الداخلية مثل العنصرية والهويات الدينية والتمييز الاجتماعي في فرنسا. كما أن الكثير من تحركاته بقيت رمزية ومحدودة التأثير داخل الفضاء السياسي الفرنسي، مما جعل حضوره قويا في الميدان النضالي لكنه ضعيف في المؤسسات. ولعل غيابه عن النقاشات الوطنية حول السياسات العامة قد عزَّز من صورته بوصفه تيارا احتجاجيا أكثر منه بديلا سياسيا حقيقيا. طرح مقال غريش تساؤلا مهما: كيف يمكن أن يظل تيار سياسي أممي يدافع عن قضايا الشعوب المضطهدة، دون أن يتفاعل بعمق مع السياق المحلي الذي يعيش فيه؟ وهل يمكن الدفاع عن القضية الفلسطينية دون الوقوع في الخطاب الهوياتي أو الطعن في الذاكرة اليهودية؟ يرى غريش أن هذه التوترات ظلت قائمة، وأحيانا مكبوتة، في قلب خطاب اليسار الراديكالي الفرنسي. وقد خلص إلى أن علاقة اليسار بالقضية الفلسطينية كانت من أبرز ملامح هويته السياسية منذ نهاية الستينيات، لكنها كانت مرآة لتناقضاته في الوقت ذاته. بعد انحسار اليسار الراديكالي الجزئي في التسعينيات ومطلع الألفية، عادت أفكاره من جديد على خلفية تعثُّر الرأسمالية العالمية، ومن ثمَّ ظهر حزب فرنسا الأبية بقيادة جان-لوك ميلانشون ، الذي جعل من القضية الفلسطينية محورا لحملته الانتخابية العام الماضي، إلى جانب محاولات اشتباكه مع الأزمة الاجتماعية الفرنسية، في سعي ربما لرأب الصدع القديم بين الانحياز للقضايا الخارجية والاهتمام بالداخل. وقد أدان الاشتراكيون رفض فرنسا الأبية وصف حركة حماس بالمنظمة الإرهابية. وحين حلَّت الذكرى الأولى للهجمات التي شنَّتها حماس على إسرائيل في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تسبَّبت مواقف فرنسا الأبية من حرب غزة في انقسام عميق داخل اليسار الفرنسي. فقد امتنع ميلانشون عن إبداء أي تعاطف تجاه الرهائن الإسرائيليين الذين لا يزالون محتجزين لدى حماس أكثر من مرة. بل على العكس، دعا يوم الجمعة 4 أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى رفع "أعلام فلسطين في كل مكان ممكن". جاء ذلك ردا على تعميم صدر في اليوم نفسه عن الوزير باتريك هيتزل، حذَّر فيه رؤساء الجامعات وذكَّرهم بمسؤوليتهم في "الحفاظ على النظام" قبيل الذكرى السنوية لهجوم حماس. وقد أدان الوزير "بحزم" التظاهرات المؤيدة لفلسطين، معتبرا أنها تتعارض مع مبادئ الحياد والعلمانية في مؤسسات التعليم العالي. ورد ميلانشون بالقول: "هذا استغلال للسلطة. أنا أدعو شباب الجامعات إلى التمرُّد وعدم قبول هذا المنع". ألوان الإدانة المتعدِّدة إنه جدل جديد يُضاف إلى سلسلة طويلة من الجدل حول فرنسا الأبية منذ عام. فبعيدا عن الزلزال الجيوسياسي، شكَّل رد فعل هذا التيار تجاه هجمات 7 أكتوبر تحوُّلا عمَّق الشروخ داخل اليسار وجعلها جراحا مفتوحة. ففي أعقاب الهجوم، أدان الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي الفرنسي وحزب الخضر بوضوح "الهجمات البشعة" التي شنَّتها حماس، واصفين إياها بـ"الإرهابية". أما ميلانشون، فاختار وضع "المجازر" في سياقها، وقال على منصة إكس إن "العنف لا يولد إلا العنف". وقد ظهرت اللهجة ذاتها في بيان حركة "فرنسا الأبية"، إذ وصفت ما حدث بـ"هجوم مسلح نفذته قوى فلسطينية بقيادة حماس"، وذلك "في سياق تصاعد سياسة الاحتلال الإسرائيلي في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية". وقد أعطت هذه المواقف انطباعا بتقليل مسؤولية حماس، مما أثار موجة تنديد واسعة في الأوساط السياسية، لا سيَّما داخل اليسار. وفي 17 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أُعلن عن القطيعة رسميا حين انسحب الحزب الاشتراكي من تحالف الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد (NUPES). تمسَّكت فرنسا الأبية بمناورات قانونية آنذاك لتفادي استخدام كلمة "إرهابية" عند الحديث عن حماس، متذرّعةً بأنها تتحدث بلغة القانون الدولي. ولكن في الواقع، كان الهدف هو إظهار أنها أكثر انحيازا للقضية الفلسطينية من الآخرين، بحسب ما ذكره أحد أعضاء الحركة. ولذا فإن ميلانشون، الذي ظل طوال حياته بعيدا عن الانخراط المباشر فيما يتعلَّق بالشرق الأوسط، جعل من الدفاع عن القضية الفلسطينية الخط الناظم الجديد لسياساته. وإن كان تبني ميلانشون لهذا النضال التاريخي محل ترحيب لدى البعض، فإن ما يُؤخذ عليه هو غياب التعاطف مع الشعب الإسرائيلي ومع يهود فرنسا، إذ إن تصريحاته أعادت إحياء تهم "معاداة السامية" التي لطالما نفاها عن نفسه. ففي 22 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وأثناء قيام رئيسة الجمعية الوطنية بزيارة تضامنية إلى إسرائيل، اتهمها ميلانشون بأنها تُخيِّم في تل أبيب لتشجيع المجازر في غزة، وبأنها لا تتحدث باسم الشعب الفرنسي. وقد اعتبر رئيس المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا، يوناتان عرفي، أن هذه التصريحات تُمثِّل خطابا معاديا للسامية، مما أثار عاصفة سياسية امتدت من الحكومة إلى الحزب الاشتراكي. في 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، رفض ميلانشون المشاركة في مسيرة ضد معاداة السامية، بحجة وجود حزب التجمُّع الوطني فيها، مخالفا بذلك بقية أطياف اليسار. وفي أبريل/نيسان، شبَّه رئيس جامعة ليل السابق رئيسها الحالي بالنازي أدولف أيخمان، بعد أن ألغى مؤتمرا عن فلسطين. وقد رفعت الحكومة آنذاك دعوى قضائية ضده بسبب تصريحه الذي عُدَّ مُسيئا. في هذه الأثناء، أصبحت ريما حسن، المحامية الفرنسية-الفلسطينية، رمزا لحزب فرنسا الأبية، إذ أخذت تتنقل بين الجامعات رفقة ميلانشون، وتدافع بقوة عن الشعب الفلسطيني وتصف أفعال إسرائيل بأنها بشاعة لا توصف. على الأرض، تبذل فرنسا الأبية جهدا كي تظهر على أنها الحامي الوحيد للفلسطينيين، ففي فبراير/شباط 2024، زار وفد من نوابها مدينة رفح المصرية، على الحدود مع غزة، لتأكيد تضامنهم. وعلى مدار أسابيع، أخذ أنصارها يتظاهرون كل يوم سبت دعما للشعب الفلسطيني. وقد لاقت هذه التعبئة استحسانا لدى بعض سكان الضواحي وبين الشباب. وفي مساء 9 يونيو/حزيران 2024، عندما أُعلنت نتائج الانتخابات الأوروبية، اعتبر قادة فرنسا الأبية أن تركيزهم على غزة آتى ثماره، فقد حصلت الحركة على 9,9% من الأصوات، بزيادة مليون صوت مقارنة بعام 2019، وقال منسق الحركة مانويل بومبار في سبتمبر/أيلول الماضي إن "هذه الحملة كانت الأكثر وضوحا من حيث الرسائل، وقد نجحنا في التمركز حول قضايا محددة". ولكن بعد عام على هذا التحوُّل، لا تزال المرارة قائمة لدى البعض. فمن جهته، يقول النائب الاشتراكي جيروم غيدي -وهو من تلاميذ ميلانشون السابقين-: "خطأ وجريمة لا تُغتفر جلب الصراع إلى الداخل الفرنسي. ولولا الانتخابات الأوروبية، لما طُرحت مسألة غزة". ويضيف المؤرخ ميشيل دريفوس، مؤلف كتاب "معاداة السامية لدى اليسار"، قائلا إن "هجمات 7 أكتوبر تسببت في تصعيد التوترات داخل اليسار، وإن فرنسا الأبية راهنت على النقد اللاذع لإسرائيل من أجل كسب جمهور أوسع بين المسلمين". منذ الانتخابات الأوروبية، تراجع زخم التعبئة حول القضية الفلسطينية في خطاب فرنسا الأبية، وتأجلت النقاشات الحسَّاسة داخل اليسار ربما من أجل الحفاظ على وحدة الجبهة الشعبية الجديدة. لكن الخلافات لا تزال قائمة، وبعد أن تبنَّت الحركة أخيرا مصطلح "إرهابي" عند الحديث عن حماس، ظهر انقسام لغوي جديد حول استخدام مصطلح "الإبادة الجماعية". ففي 28 سبتمبر/أيلول الماضي، صرَّح ميلانشون في مدينة مند بأن الإبادة الجماعية مستمرة في غزة، مما أثار الجدل من جديد حول الموقف من العملية العسكرية الإسرائيلية. حين توسَّعت الحرب إلى لبنان العام الماضي، ظهرت ساحة جديدة للخلافات المكتومة بين شتى أطياف اليسار. وبينما اتفق الاشتراكيون وفرنسا الأبية على إدانة الغارات الإسرائيلية على لبنان، حرص الحزب الاشتراكي أيضا على إدانة صواريخ حزب الله على شمال إسرائيل، وهو ما لم يفعله ميلانشون الذي اكتفى بالقول إن حزب الله هو أحد مكونات الشعب اللبناني. وردَّت حينها النائبة الاشتراكية لورانس روسينول بقولها: "ما فعله ميلانشون مع حماس، يفعله الآن مع حزب الله. إننا في الحزب الاشتراكي نعلم أن هناك مشكلة". في الأخير، ثمَّة تباين واضح بين اليسار التقليدي واليسار الراديكالي في فرنسا، ويبدو أن قضية غزة قد ساعدت على فرز الطرفيْن وأنصارهما في الشارع الفرنسي، كما فعلت في انتخابات الصيف الماضي، وهو فرز سيُسهِم لا شك على المدى البعيد في رسم توازنات الساحة السياسية الفرنسية، التي تبدو مُقبلة من بعد ماكرون على تقلُّبات سياسة جادة، من اليمين المتطرف واليسار الراديكالي على حدٍّ سواء.

ترامب ونتنياهو بين تنافر الكيمياء وتجاذب المصالح
ترامب ونتنياهو بين تنافر الكيمياء وتجاذب المصالح

الجزيرة

timeمنذ 2 ساعات

  • الجزيرة

ترامب ونتنياهو بين تنافر الكيمياء وتجاذب المصالح

تمكن الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو -المطلوب للجنائية الدولية- من المحافظة على تحالف عميق يحقق مصالح متبادلة رغم العلاقة الشخصية المتوترة، الأمر الذي يشير إلى أن المصالح المشتركة شكلت قوة دافعة تتجاوز حدود الكيمياء الفردية بين الرجلين، بحسب مراقبين. ويوضح البروفيسور جوزيف ناي في مقال نشر سابقا في مجلة فورين بوليسي أن "العلاقات الشخصية بين الزعماء يمكن أن تخفف التوترات أو تعقد المفاوضات، حتى عندما تتوافق المصالح الوطنية". وتاريخيا، شهدنا تحالفات قائمة على المصالح رغم العداء الشخصي، مثل تحالف رئيس الوزراء البريطاني الأسبق وينستون تشرشل والرئيس السوفياتي السابق جوزيف ستالين ضد النازية، أو العلاقة المتوترة بين الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما ونتنياهو بسبب سياسة إيران. وفي حالة ترامب ونتنياهو فرغم التناغم المستمر بينهما في عدة مواضع حول السياسات المتعلقة بالشرق الأوسط، فإن التوتر بينهما لم يكن خافيا خلال الشهور الماضية على خلفية تصاعد حركة ماغا (تيار يتبنى إعلاء مصالح أميركا على مصالح حلفائها بما في ذلك إسرائيل) داخل الإدارة الأميركية. ونتج عن ذلك الحراك إقالة ترامب لبعض أقرب المسؤولين في إدارته، ما يدعو للتساؤل حول العوامل التي أسهمت في صمود التحالف الإستراتيجي بين الزعيمين رغم غياب الانسجام الشخصي. تشير تقارير متعددة إلى فتور العلاقة بين الرجلين حتى في ولاية ترامب الأولى، ففي مذكراته وصف جون بولتون (مستشار الأمن القومي السابق لترامب) اللقاءات بينهما بأنها "باردة وحسابية، وتخلو من الدفء الشخصي". كما نقلت صحيفة "هآرتس" عن تقارير استخباراتية إسرائيلية وصفها ترامب بأنه "غير متوقع ويصعب استرضاؤه شخصيا". تقاطع المصالح رغم الشقوق تحت السطح رغم التنافر الشخصي بينهما، التقت رؤية ترامب الشعبوية البراغماتية ونتنياهو المحافظ المخضرم على نقاط جوهرية مثل ما عرف بـ"صفقة القرن" (2020)، حينما روج ترامب للخطة على أنها تمنح إسرائيل تفوقا إستراتيجيا، ووصف نتنياهو ذلك الإعلان بأنه "لحظة تاريخية". كما جاء الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني (2018) تحقيقا لوعد ترامب الانتخابي وانسجاما مع الهاجس الأمني الإسرائيلي. وكذلك نقل السفارة الأميركية إلى القدس (2018)، الأمر الذي اعتبر خطوة جريئة كافأ بها ترامب القاعدة الانتخابية الإنجيلية، ووصفها نتنياهو بأنها "خطوة شجاعة وعادلة" في حينها. وظل السؤال المحوري هل كان نتنياهو موجها لسياسة ترامب؟ يشير تحليل نشرته صحيفة "ذا أتلانتيك" الأميركية إلى أن نتنياهو "استثمر ببراعة في أجندة ترامب القائمة على تقويض إرث أوباما وتملق اليمين المسيحي، محولا سياسات ترامب الانعزالية إلى مكاسب إسرائيلية فورية"، بينما رأى ترامب في دعم إسرائيل وسيلة لتعزيز صورته كصانع تاريخ. وشكلت انتخابات 2020 الأميركية التي خسر فيها ترامب لصالح جو بايدن، الصديق الأقرب لنتنياهو وإسرائيل، محطة فارقة بالنسبة لترامب الذي اتهم نتنياهو بالخيانة. بعد فشل نتنياهو في تشكيل حكومة بعد انتخابات 2021، صرح ترامب في لقاء صحفي تعليقا على ذلك "لقد خسر لأنه لم يعد أحد يثق به.. لقد خذلني في التصديق على الانتخابات الأميركية" (يناير/كانون الثاني 2021)، مشيرا إلى عدم دعم نتنياهو مزاعم ترامب حول تزوير الانتخابات. وفي مقابلة لاحقة مع "أكسيوس"، هاجم ترامب نتنياهو قائلا "أنا من أعطى إسرائيل أكثر مما أعطاهم أي رئيس، ثم يذهب نتنياهو ويدعم بايدن؟ خيانة"، كاشفا عن جرح شخصي عميق. وبحسب صحيفة تايمز أوف إسرائيل، فإن شخصية ترامب الاندفاعية والشعبوية المتعطشة للإطراء الفوري اصطدمت بحذر نتنياهو وتركيزه على المكاسب الدائمة. هيمنت 4 مصالح إستراتيجية على التنافر الشخصي، ومنعت من تحوله إلى سبب في تدهور العلاقات أو جمودها. محور إيران: فقد أسهمت وحدة الرؤية تجاه الخطر الإيراني كعدو وجودي لإسرائيل وتهديد لمصالح أميركا وحلفائها في الخليج في تشكيل جبهة مشتركة لفرض "الحد الأقصى من الضغط". اتفاقات أبراهام: التي قامت على تسويق التطبيع كإنجاز تاريخي، شكلت مكسبا سياسيا داخليا لترامب، وضمان نتنياهو شرعية إقليمية غير مسبوقة للضم والاستيطان دون تقديم تنازلات جوهرية في القضية الفلسطينية، الأمر الذي مكنه هو الآخر من زياده رصيده السياسي داخليا. المصلحة الداخلية المتبادلة: استمالة ترامب للناخب الإنجيلي القوي عبر سياساته المؤيدة لإسرائيل، واستخدام نتنياهو لعلاقته الخاصة مع البيت الأبيض كدليل على كفاءته الأمنية أمام الناخب الإسرائيلي. شرعنة الواقع: استغلت إسرائيل السياسات الأميركية (القدس، المستوطنات) لترسيخ أمر واقع يصعب التراجع عنه مستقبلا. ورغم ذلك، يثير هذا التحالف أسئلة نقدية جوهرية، حيث تشير الوقائع إلى أن التحالف كان قائما على مصلحة متبادلة آنية (خدمة أجندة كل منهما داخليا وخارجيا) أكثر من كونه نتاج رؤية إستراتيجية مشتركة طويلة الأمد. ويظهر صمود التحالف رغم التنافر قدرة الأنظمة على تجاوز العلاقات الشخصية عند توافق المصالح الحيوية، وهو ما يعكس نضجا مؤسسيا نسبيا. لكن اعتماده الشديد على شخصية ترامب غير التقليدية جعله عرضة للانهيار مع تغير القيادة الأميركية، كما حدث فعليا. يخلص تحليل لمجلة "فورين بوليسي" إلى أن التحالف كان "مثالا صارخا على البراغماتية السياسية القصوى، حيث طُبقت المصالح فوق كل اعتبار، لكن افتقاده للركائز المؤسسية والثقة الشخصية جعله تحالفا وظيفيا مؤقتا بامتياز". استئناف التحالف بعد عودة ترامب مثّلت عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في 20 يناير/كانون الثاني 2025 فرصة لإعادة تنشيط التحالف البراغماتي مع بنيامين نتنياهو، ولكن على أرضية أكثر حساسية وتعقيدا من سابقاتها، بفعل المتغيرات العنيفة التي طرأت على المشهد الإقليمي، خصوصا في أعقاب حرب غزة الممتدة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023. ورغم أن التنافر الشخصي بينهما لم يُمحَ تماما، فإن ملامح التجاذب في المصالح الجيوسياسية أخذت طابعا أكثر احترافا وتصعيدا معا. في أول أسابيع ولايته الجديدة، دعا ترامب إلى قمة في البيت الأبيض جمعته بنتنياهو في الرابع من فبراير/شباط 2025، وأطلق تصريحات لافتة ومثيرة للجدل، قائلا إن " الولايات المتحدة ستتولى غزة.. سنمتلكها ونُعِيد إعمارها.. نخلق وظائف ومنازل للأهالي". ورغم ما أثارته هذه التصريحات من استغراب وغضب إقليمي، اعتبرها نتنياهو "فرصة تاريخية لإعادة هيكلة الواقع الأمني في غزة"، مؤكدا تطابق رؤيته مع ترامب في ضرورة تفكيك بنية حماس أولا، قبل أي حل سياسي. غير أن هذا التلاقي لم يكن خاليا من التوتر، فقد أوردت صحيفة "إلبايس" الإسبانية أن بعض مسؤولي اليمين المتطرف في حكومة نتنياهو اتهموا ترامب بمحاولة "فرض وصاية أميركية على غزة لصالح أجندة انتخابية داخلية". ورغم ذلك، مضى نتنياهو قدما في التفاهم مع واشنطن، واضعا رهانه على دعم ترامب الحاسم في المحافل الدولية، بما فيها مجلس الأمن حيث عرقلت واشنطن محاولات تمرير قرارات لوقف إطلاق النار من دون ضمانات أمنية لإسرائيل. ما بين شهري مارس/آذار ويونيو/حزيران 2025، ساهمت إدارة ترامب في هندسة خطة تهدئة معروفة إعلاميا بـ"خطة ويتكوف"، عُرضت على حركة المقاومة الإسلامية (حماس) كإطار لتبادل رهائن ووقف مشروط لإطلاق النار، لكن الفصائل الفلسطينية رفضتها بسبب شروطها "غير الواقعية" بحسب وصفها. ومع ذلك، واصل ترامب ضغوطه، بل ألمح إلى إمكانية فرض "حل أميركي مباشر"، وهو ما اعتُبر سابقة دبلوماسية لافتة في السياسة الأميركية تجاه النزاع الفلسطيني الإسرائيلي. وتزامنا مع ذلك، أعاد ترامب توجيه دفّة تحالفه مع نتنياهو نحو العدو المشترك القديم، إيران. ففي يونيو/حزيران 2025، دعم ترامب علنا الغارات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت منشآت نووية في أصفهان وطهران. وحذر في مؤتمر صحفي "إذا فكرت طهران في الرد، فستواجه عواقب أكثر قسوة من أي وقت مضى"، واعتبر نتنياهو موقف ترامب "غطاء إستراتيجيا يعزز الردع الإسرائيلي". تحالف مستمر لكن غير مريح لكن رغم التفاهم السياسي والتكامل في المواقف الكبرى، لم تُمحَ تماما التصدعات الشخصية بين الرجلين. ففي جلسة غير رسمية نُقلت تفاصيلها عن موظف سابق في مجلس الأمن القومي، وُصف لقاء الرابع من فبراير/شباط بأنه "مهني وفعّال، لكنه بارد كالثلج". ولمّح ترامب لاحقا في لقاء مع مؤيدين إلى أن "نتنياهو أصبح أكثر احتياجا مما ينبغي" في إشارة إلى طلباته المتكررة للدعم العسكري والسياسي. وفي تطور لاحق، دعا ترامب مجددا نتنياهو إلى زيارة البيت الأبيض، ضمن مساعيه لفرض اتفاق جديد لوقف إطلاق النار في غزة، يشمل تبادلا واسعا للرهائن، لكن الضغوط الداخلية من اليمين الإسرائيلي كانت شديدة لدرجة دفعت بعض حلفاء نتنياهو إلى التشكيك في نية ترامب. ووفق تقرير لهاف بوست الإسبانية "اعتبر بعض أعضاء الحكومة الإسرائيلية أن ترامب يستخدم ملف غزة كورقة انتخابية داخلية لإعادة رسم صورته كصانع سلام تاريخي". ما بين التصريحات الحادة، والتحركات السياسية الموزونة، تكشف أحداث النصف الأول من 2025 عن استمرار المفارقة ذاتها، تنافر في الكيمياء وتجاذب في المصالح. وبينما تحرك ترامب بثقة لإعادة ضبط المشهد الإقليمي بما يخدم أجندته الداخلية، وجد نتنياهو نفسه مضطرا للرهان من جديد على شراكة غير مريحة، لكنها ضرورية.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store