
ملحمة هجوم العمالقة.. التاريخ مؤسساً
ومن الخيال الممزوج بالإثارة والرغبة في الخلاص والغفران، والألم الذي يعتصر أبطال القصة للانتقام، فإنّ الياباني "هاجيمي إيساياما" -صاحب أنمي هجوم العمالقة- استطاع تقديم عمل إبداعي تحركه مسارات التاريخ والحضارة والإنسان، لإعادة تعريف الحرية والإبادة والتضحية، خارج أسوار تاريخ إمبراطوري يسطو على الحضارة، وينفخ القلاقل والخوف في الإنسانية.
تمثل العمالقة وتحوّلاتها صراعاً داخلياً لذواتنا، وقوّة هائلة للتناقضات التي نعيشها، لكوننا رهائن الثنائيات المتناقضة والصعبة، كالحب والكراهية، والحياة والموت، والتضحية والأنانية، والصداقة والعداوة، مقابل متغيّرات خارجية كالأرض والسلطة والتاريخ، فحتى العمالقة احتاجت لتفتح نوافذ التواصل نحو مسارات ينعدم فيها معيار الربح والخسارة، وتتأتى معها حقيقة معنى أن يحيا الجنس البشري بكرامة، وبإنسانيته الهشّة لا أنانية متصلبة تجتاح الحضارة دكاً، كي تجعل العالم ركاماً، لمجرد الخوف من المستقبل.
بقدر ما تمنحنا المعاناة ملحمة وقدرة على الإنصات وفهم الآخر ومعاناته، فنحن والآخر مجرد ظلال تتقلب أدوارها بين الخلاص من براثن العجز والقهر، والاستغلال والنهب، نحو عوالم حالمة ومبدعة، تبحث لها عن مستقر أبدي آمن للملايين
العملاق المؤسس
تعد سلسلة "الهجوم على العمالقة" أحد أهم الأنميات المعبرة عن جدلية الإبادة والتضحية والحرية، إذ إن ملامح الصراع الطبقي تتجلى ليس بين قوميتي الإلديين والمارليين فحسب، بل تصل إلى أعمق نقطة داخل الذات البشرية، والمتعلق بالحلم في رؤية ما بعد المحيط، وإرادة جعلت من المستحيل حقيقة لنيل التأثر ضد ما اقترفته القوى المعادية، ووهم المعرفة بالعالم الخارجي عبر مسح الذاكرة داخل تاريخ سلطوي، والخوف من هدم جدران التبعية.
صاغ أنمي العمالقة فكرة في غاية الخطورة، مفادها رفض شعوب الهامش تحمّل سردية التاريخ العالمي، كاشفاً زيف الصراع التاريخي بين من يدّعون الحق في "تاريخ ملحمي" ويزعمون تفرّدهم بدم ملكي، وآخرين استلبتهم هواجس الانتقام من مسوخ عملاقة تشبه البشر لكنها ضخمة ومقززة، في إشارة واضحة ومعبرة عن ماهية الجوانب المظلمة في النّفس ورغبتها الجامحة في السلطة، فالتاريخ المؤسس من سردية الأقوياء على المهمّشين، كونهم شياطين ملعونة في صورة حيوانات بشرية، لا ضير في إبادتاها بشتى أنواع القتل والتنكيل.
في السلسلة ثمة عمالقة تسعة رئيسية ذكية، ترمز بشكل استثنائي إلى التاريخ بكونه الفضاء المؤسس للاستغلال والصراع الطبقي، والأرض التي يجسدها العملاق المهاجم. أما العملاق الوحش فما كان سوى "الخطيئة البشرية" الناجمة عن "الهيمنة الأبوية"، حينما تحمّل جيلا هواجسها ومخاوفها من مستقبل لا تتضح معالمه، ولا ينطوي معه سوى المزيد من المعاناة والخيبة، من جور البشرية بعضها تجاه بعض، لا قومية محددة، ولا ثقافة تسلّحت بجدار الخوف. وأما العملاقين الضخم والمدرع فلم يسعفهما الحظ كي ينهلا من حياتيهما الخاصة ما يكفّران بهما عن خطاياهما تجاه ذواتيهما المأزومتين، وعجزهما عن التصدي للشر العالمي والتواصل عبر مسارات ترفض الحرية المطلقة.
وبقدر ما تمنحنا المعاناة ملحمة وقدرة على الإنصات وفهم الآخر ومعاناته، فنحن والآخر مجرد ظلال تتقلب أدوارها بين الخلاص من براثن العجز والقهر، والاستغلال والنهب، نحو عوالم حالمة ومبدعة، تبحث لها عن مستقر أبدي آمن للملايين، ممن أنهكتهم الحروب ونتائجها الكارثية بانتقامها المخيف من الإنسان، ولعل إسقاط أسوار الخديعة وجدران الخوف، المؤسسة لملحمة تاريخ إمبراطوري، يبدأ منذ اللحظة التي تجرّه فيها الأقلام نحو تفعيل ذاكرة من وصفوا بالشياطين، رافضاً حريتهم وتاريخهم الهامشي.
حين يتكلم الهامش
تابعت سلسلة الهجوم على العمالقة بكل تفاصيلها، وقد استطاعت حقاً أن تخلق شعوراً مليئاً بالأسى والحزن تجاه التضاد الذي يتصارع للبحث عن حريته، والقيام بما يلزم لحماية شعب ما من الاندثار، وما هي إلا صرخات في غيابات حلقات الموت والحب، حملت معاني التخلي والتضحية والحسرة والفقد الكبير، أمام جبروت مسوخ عملاقة ليست سوى كائنات بشرية جسّدت الكراهية والحقد والخوف عبر تحطيم أحلام الآخرين، فأولئك الذين يهددون الأسوار المبنية بسرديات ملفقة ومتخيّلة، عبر تاريخ عالمي صوّر على أنّه ملحمي، يرفضون خيبات حضارة ليس بوسعها أن تمنع سحابة الفطر من أن تغزو سماء الشرق.
ربما أراد هاجيمي إيساياما إيصال فكرة ما للأجيال التي تشهد أكبر إبادة على وجه الأرض، أو بالأحرى أن ثمة رسائل واضحة تكمن بين صرخات إرين وميكاسا وليفاي، يوم كانوا صغاراً يشاهدون العمالقة وهم يعيثون في أرضهم فساداً، هل يملك الإنسان الحق في إبادة العالم لمجرد التوّهم بالخوف والانتقام؟ فنقد التاريخ العالمي بداية التحرر من سردية ملفّقة حمّلت العالم تبعات حربين عالميتين، فالغرب استأثر بقيم الحضارة، وحبسها عن ضفافه الجنوبية التي سلبها ذاكراتها وتاريخها.
إنني حقا معجب بإيساياما لقدرته على نقد التاريخ الإمبراطوري، وفضح سردية ظلت جاثمة على صدور من يناهضون قوى الاستغلال والهيمنة، لقد استطاع هاجيمي توظيف أدق التفاصيل وأعمق التعابير ليعبر متألقاً من ثنائية الإنسان والحضارة نحو مكاشفة مأزق الذات البشرية، لكون السعي لتحقيق حريتنا المطلقة قد يجعل نتائجها تفضي لدك الأرض؛ فأسماء الشخصيات والموسيقا، وسحابة الفطر النووي والغاز المميت في صرخة العملاق الوحش، وقارورات الشراب المسمومة لزيك، وماضي القبو ومفتاح غريشا، وحتى المحيط، كل ذلك احتاج إيساياما لتعريفه لنا، لربما كنّا نذكره بأوصاف غير تلك التي يتصارع عليها السياسيون والفاسدون داخل أسوار قصورهم الفارهة، فهم حمقى يدّعون امتلاكهم القوّة من فراغ، كما وصفهم ليفاي. كل تلك اللحظات المثيرة والمربكة يصعب نسيانها مع مشاهد الخوف والرعب في دك الأرض، وقدرة البشر على تبرير الإبادة باسم الحرية.
لطالما حاولنا فهم قصص التضحية والخلاص، والحياة والموت، وأشعارها وصورها المعلقة في أسوار التاريخ، لكننا نتأخر دائماً في الولوج إلى عالمنا الخاص، حيث لا نحتمي بالتاريخ العالمي والمهيمن علينا قهراً، فعزلتنا لم تكن ذات جدوى أمام السرديات الإمبراطورية وأغانيها، ففي هجوم العمالقة كان التاريخ العالمي ملحمة إبداعية، خالية لدرجة الانعدام من الأصوات التي تصرخ هامشاً، خارج أسوار قلاع حضارة ممسوخة ومخيفة، وإلى جانب العناصر الإبداعية في سلسلة الهجوم على العمالقة، كانت الموسيقا عملاً فنّياً ملحمياً بامتياز، رافقت اللحظات الصعبة والتغييرات الطارئة والمعاناة البشرية، والفرح بأكل طعام ساخن.
ربما اختار هاجيمي إعادة سرد التاريخ العالمي بطريقة مبتكرة وإبداعية، لكنّه عاش ارتباكاً واضحاً في رسم الخط الفاصل بين التضحية والحرية، ليس من منطلق أخلاقي وإنساني، وإنّما من حالة الشعور باليأس والعجز داخل بنية الحضارة المادية، التي تهدم أسوارها القيم المشتركة، لتنتج مسوخاً عملاقة تحرص على الإبادة، حيث الوقوف في الجانب الآخر من الحقيقة يعد ملحمة وتحدياً للتاريخ الإمبراطوري، وهدفاً لآلة القتل الصهيونية.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 19 ساعات
- الجزيرة
بعد إنهاء الخدمة العسكرية.. "بي تي إس" يعودون بألبوم جديد
أعلن نجوم فرقة الكيبوب العالمية "بي تي إس" عودتهم المرتقبة بألبوم جديد وجولة حفلات عالمية في ربيع 2026، وذلك بعد توقف دام قرابة نحو عامين بسبب الخدمة العسكرية ومشاريعهم الفردية. وقالت الفرقة في بيان رسمي: "سنطرح الألبوم الجديد في مارس/آذار العام المقبل"، مشيرة إلى أن التحضيرات الموسيقية ستبدأ في يوليو/تموز الجاري. وأكد أعضاء الفريق أن الألبوم المقبل سيكون عملاً جماعيا يُجسد أفكارهم وآراءهم على نحو مشترك، في انسجام مع نهجهم الفني الذي يتبنونه منذ انطلاقتهم. ومن المقرر أن يسافر أعضاء "بي تي إس" إلى الولايات المتحدة خلال هذا الشهر لبدء العمل على إنتاج الألبوم. وقال جيمين (أحد أعضاء الفريق): "مرحبا يا رفاق، لقد عدنا"، مؤكدا أن الألبوم سيصدر في ربيع 2026 (مارس/آذار). كما كشفت الفرقة عن جولة عالمية بالتزامن مع الألبوم، وقال أعضاء الفريق إنهم حريصون على زيارة المعجبين في جميع أنحاء العالم، ويأملون أن يكون الجميع متحمسين لذلك. من المنتظر أن تنطلق أول جولة عالمية لفرقة "بي تي إس" منذ جولتها السابقة "برميشن تو دانس أون ستيج" التي أُقيمت عام 2022، وذلك بالتزامن مع صدور ألبومها الجديد. وقد جاء هذا الإعلان خلال بث مباشر عبر منصة "ويفيرس"، المخصصة لتواصل المعجبين، والتي تملكها شركة هايب المشرفة على إدارة أعمال الفرقة. وشارك في البث جميع أعضاء الفريق السبعة: جين، وآر إم، وفي، وجيمين، وجايهوب، وجونغكوك، وشوقا، في أول ظهور مباشر يجمعهم منذ سبتمبر/أيلول 2022. وكان أحد مسؤولي شركة "هايب" قد صرّح في وقت سابق عن خطط الفرقة لإطلاق ألبوم جديد مارس/آذار المقبل، موضحًا في تصريح لصحيفة "كوريا هيرالد" أن الفريق بحاجة لفترة من التحضير والعمل الإبداعي بعد إنهاء الخدمة العسكرية. ويُعد الألبوم المنتظر أول عمل جماعي لفرقة "بي تي إس" منذ إصدارهم ألبومهم التجميعي "بروف" عام 2022، والألبوم الياباني "بي تي إس، ذا بيست" عام 2021، إلى جانب ألبوم الأستوديو "بي" الذي صدر عام 2020. صدر هذا البيان بعد فترة وجيزة من إنهاء كل من آر إم، وفي، وجيمين، وجونغكوك خدمتهم العسكرية الإلزامية في كوريا الجنوبية، لتنضم أسماؤهم إلى زملائهم الذين أنهوا الخدمة في وقت سابق. فقد أكمل جين، أكبر أعضاء الفرقة سنًا، خدمته في يونيو/حزيران 2024، بينما أنهى جايهوب خدمته في أكتوبر/تشرين الأول 2023. وبهذا يكون 6 من أعضاء فرقة "بي تي إس" السبعة قد أدوا خدمتهم في الجيش، في حين أدّى العضو السابع، شوقا، خدمته عبر العمل في الخدمة الاجتماعية، وهو بديل قانوني للخدمة العسكرية يُمنح في حالات معينة. جدير بالذكر أن القانون الكوري الجنوبي يُلزم جميع الرجال الأصحاء الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و28 عاما بأداء خدمة عسكرية إلزامية تمتد بين 18 و21 شهرًا، غير أن القانون يمنح إعفاءات خاصة لفئات محددة مثل الرياضيين، والموسيقيين الكلاسيكيين والتقليديين، وراقصي الباليه، بشرط حصولهم على جوائز كبرى في مسابقات دولية أسهمت في رفع مكانة كوريا. غير أن هذا الاستثناء لا يشمل نجوم الكيبوب والفنانين المعاصرين. ورغم ذلك، فإن تعديل قانون الخدمة العسكرية عام 2020 أتاح لأعضاء "بي تي إس" تأجيل التحاقهم بالجيش حتى سن الـ30، بعد تصويت في المجلس الوطني الكوري، اعترافًا بتأثيرهم الثقافي الكبير. تعود انطلاقة فرقة "بي تي إس" إلى عام 2013، بعد 3 سنوات من التشكيل والتدريب، وتمكنت منذ ذلك الحين من تحقيق شهرة عالمية استثنائية، لتصبح أشهر فرقة كيبوب في العالم. تصدّرت ألبوماتها قوائم المبيعات العالمية، كما احتلت 6 من أغانيها المراتب الأولى في تصنيفات الموسيقى الدولية.


الجزيرة
منذ يوم واحد
- الجزيرة
ملحمة هجوم العمالقة.. التاريخ مؤسساً
قدمت سلسلة "الهجوم على العمالقة" تعبيراً ملحمياً لمفاهيم الحرية والثورة والأرض والموت والألم والخوف، كما أنّ شخصياته البشرية والمسوخ العملاقة صاغت أسطورة مثيرة وملهمة عن المعاناة، وأزمة التاريخ المؤسس والمهيمن على ذاكرة المهمّشين. ومن الخيال الممزوج بالإثارة والرغبة في الخلاص والغفران، والألم الذي يعتصر أبطال القصة للانتقام، فإنّ الياباني "هاجيمي إيساياما" -صاحب أنمي هجوم العمالقة- استطاع تقديم عمل إبداعي تحركه مسارات التاريخ والحضارة والإنسان، لإعادة تعريف الحرية والإبادة والتضحية، خارج أسوار تاريخ إمبراطوري يسطو على الحضارة، وينفخ القلاقل والخوف في الإنسانية. تمثل العمالقة وتحوّلاتها صراعاً داخلياً لذواتنا، وقوّة هائلة للتناقضات التي نعيشها، لكوننا رهائن الثنائيات المتناقضة والصعبة، كالحب والكراهية، والحياة والموت، والتضحية والأنانية، والصداقة والعداوة، مقابل متغيّرات خارجية كالأرض والسلطة والتاريخ، فحتى العمالقة احتاجت لتفتح نوافذ التواصل نحو مسارات ينعدم فيها معيار الربح والخسارة، وتتأتى معها حقيقة معنى أن يحيا الجنس البشري بكرامة، وبإنسانيته الهشّة لا أنانية متصلبة تجتاح الحضارة دكاً، كي تجعل العالم ركاماً، لمجرد الخوف من المستقبل. بقدر ما تمنحنا المعاناة ملحمة وقدرة على الإنصات وفهم الآخر ومعاناته، فنحن والآخر مجرد ظلال تتقلب أدوارها بين الخلاص من براثن العجز والقهر، والاستغلال والنهب، نحو عوالم حالمة ومبدعة، تبحث لها عن مستقر أبدي آمن للملايين العملاق المؤسس تعد سلسلة "الهجوم على العمالقة" أحد أهم الأنميات المعبرة عن جدلية الإبادة والتضحية والحرية، إذ إن ملامح الصراع الطبقي تتجلى ليس بين قوميتي الإلديين والمارليين فحسب، بل تصل إلى أعمق نقطة داخل الذات البشرية، والمتعلق بالحلم في رؤية ما بعد المحيط، وإرادة جعلت من المستحيل حقيقة لنيل التأثر ضد ما اقترفته القوى المعادية، ووهم المعرفة بالعالم الخارجي عبر مسح الذاكرة داخل تاريخ سلطوي، والخوف من هدم جدران التبعية. صاغ أنمي العمالقة فكرة في غاية الخطورة، مفادها رفض شعوب الهامش تحمّل سردية التاريخ العالمي، كاشفاً زيف الصراع التاريخي بين من يدّعون الحق في "تاريخ ملحمي" ويزعمون تفرّدهم بدم ملكي، وآخرين استلبتهم هواجس الانتقام من مسوخ عملاقة تشبه البشر لكنها ضخمة ومقززة، في إشارة واضحة ومعبرة عن ماهية الجوانب المظلمة في النّفس ورغبتها الجامحة في السلطة، فالتاريخ المؤسس من سردية الأقوياء على المهمّشين، كونهم شياطين ملعونة في صورة حيوانات بشرية، لا ضير في إبادتاها بشتى أنواع القتل والتنكيل. في السلسلة ثمة عمالقة تسعة رئيسية ذكية، ترمز بشكل استثنائي إلى التاريخ بكونه الفضاء المؤسس للاستغلال والصراع الطبقي، والأرض التي يجسدها العملاق المهاجم. أما العملاق الوحش فما كان سوى "الخطيئة البشرية" الناجمة عن "الهيمنة الأبوية"، حينما تحمّل جيلا هواجسها ومخاوفها من مستقبل لا تتضح معالمه، ولا ينطوي معه سوى المزيد من المعاناة والخيبة، من جور البشرية بعضها تجاه بعض، لا قومية محددة، ولا ثقافة تسلّحت بجدار الخوف. وأما العملاقين الضخم والمدرع فلم يسعفهما الحظ كي ينهلا من حياتيهما الخاصة ما يكفّران بهما عن خطاياهما تجاه ذواتيهما المأزومتين، وعجزهما عن التصدي للشر العالمي والتواصل عبر مسارات ترفض الحرية المطلقة. وبقدر ما تمنحنا المعاناة ملحمة وقدرة على الإنصات وفهم الآخر ومعاناته، فنحن والآخر مجرد ظلال تتقلب أدوارها بين الخلاص من براثن العجز والقهر، والاستغلال والنهب، نحو عوالم حالمة ومبدعة، تبحث لها عن مستقر أبدي آمن للملايين، ممن أنهكتهم الحروب ونتائجها الكارثية بانتقامها المخيف من الإنسان، ولعل إسقاط أسوار الخديعة وجدران الخوف، المؤسسة لملحمة تاريخ إمبراطوري، يبدأ منذ اللحظة التي تجرّه فيها الأقلام نحو تفعيل ذاكرة من وصفوا بالشياطين، رافضاً حريتهم وتاريخهم الهامشي. حين يتكلم الهامش تابعت سلسلة الهجوم على العمالقة بكل تفاصيلها، وقد استطاعت حقاً أن تخلق شعوراً مليئاً بالأسى والحزن تجاه التضاد الذي يتصارع للبحث عن حريته، والقيام بما يلزم لحماية شعب ما من الاندثار، وما هي إلا صرخات في غيابات حلقات الموت والحب، حملت معاني التخلي والتضحية والحسرة والفقد الكبير، أمام جبروت مسوخ عملاقة ليست سوى كائنات بشرية جسّدت الكراهية والحقد والخوف عبر تحطيم أحلام الآخرين، فأولئك الذين يهددون الأسوار المبنية بسرديات ملفقة ومتخيّلة، عبر تاريخ عالمي صوّر على أنّه ملحمي، يرفضون خيبات حضارة ليس بوسعها أن تمنع سحابة الفطر من أن تغزو سماء الشرق. ربما أراد هاجيمي إيساياما إيصال فكرة ما للأجيال التي تشهد أكبر إبادة على وجه الأرض، أو بالأحرى أن ثمة رسائل واضحة تكمن بين صرخات إرين وميكاسا وليفاي، يوم كانوا صغاراً يشاهدون العمالقة وهم يعيثون في أرضهم فساداً، هل يملك الإنسان الحق في إبادة العالم لمجرد التوّهم بالخوف والانتقام؟ فنقد التاريخ العالمي بداية التحرر من سردية ملفّقة حمّلت العالم تبعات حربين عالميتين، فالغرب استأثر بقيم الحضارة، وحبسها عن ضفافه الجنوبية التي سلبها ذاكراتها وتاريخها. إنني حقا معجب بإيساياما لقدرته على نقد التاريخ الإمبراطوري، وفضح سردية ظلت جاثمة على صدور من يناهضون قوى الاستغلال والهيمنة، لقد استطاع هاجيمي توظيف أدق التفاصيل وأعمق التعابير ليعبر متألقاً من ثنائية الإنسان والحضارة نحو مكاشفة مأزق الذات البشرية، لكون السعي لتحقيق حريتنا المطلقة قد يجعل نتائجها تفضي لدك الأرض؛ فأسماء الشخصيات والموسيقا، وسحابة الفطر النووي والغاز المميت في صرخة العملاق الوحش، وقارورات الشراب المسمومة لزيك، وماضي القبو ومفتاح غريشا، وحتى المحيط، كل ذلك احتاج إيساياما لتعريفه لنا، لربما كنّا نذكره بأوصاف غير تلك التي يتصارع عليها السياسيون والفاسدون داخل أسوار قصورهم الفارهة، فهم حمقى يدّعون امتلاكهم القوّة من فراغ، كما وصفهم ليفاي. كل تلك اللحظات المثيرة والمربكة يصعب نسيانها مع مشاهد الخوف والرعب في دك الأرض، وقدرة البشر على تبرير الإبادة باسم الحرية. لطالما حاولنا فهم قصص التضحية والخلاص، والحياة والموت، وأشعارها وصورها المعلقة في أسوار التاريخ، لكننا نتأخر دائماً في الولوج إلى عالمنا الخاص، حيث لا نحتمي بالتاريخ العالمي والمهيمن علينا قهراً، فعزلتنا لم تكن ذات جدوى أمام السرديات الإمبراطورية وأغانيها، ففي هجوم العمالقة كان التاريخ العالمي ملحمة إبداعية، خالية لدرجة الانعدام من الأصوات التي تصرخ هامشاً، خارج أسوار قلاع حضارة ممسوخة ومخيفة، وإلى جانب العناصر الإبداعية في سلسلة الهجوم على العمالقة، كانت الموسيقا عملاً فنّياً ملحمياً بامتياز، رافقت اللحظات الصعبة والتغييرات الطارئة والمعاناة البشرية، والفرح بأكل طعام ساخن. ربما اختار هاجيمي إعادة سرد التاريخ العالمي بطريقة مبتكرة وإبداعية، لكنّه عاش ارتباكاً واضحاً في رسم الخط الفاصل بين التضحية والحرية، ليس من منطلق أخلاقي وإنساني، وإنّما من حالة الشعور باليأس والعجز داخل بنية الحضارة المادية، التي تهدم أسوارها القيم المشتركة، لتنتج مسوخاً عملاقة تحرص على الإبادة، حيث الوقوف في الجانب الآخر من الحقيقة يعد ملحمة وتحدياً للتاريخ الإمبراطوري، وهدفاً لآلة القتل الصهيونية.


الجزيرة
منذ 4 أيام
- الجزيرة
الياباني أكيرا ميزوباياشي يفوز بالجائزة الكبرى للفرنكوفونية
كرمت الأكاديمية الفرنسية هذا العام أعمال الروائي الياباني أكيرا ميزوباياشي باللغة الفرنسية عبر منحه الجائزة الكبرى للفرنكوفونية. وحصل ميزوباياشي أيضا على ترشيحات وجوائز أخرى في فرنسا عن إسهاماته في الأدب المكتوب بلغة غير اللغة الأم. يصف النقاد ميزوباياشي بأنه نموذج نادر لكاتب "يعبر الحدود"، ليس فقط بين الثقافات، بل أيضا بين اللغات، حيث يكتب أدبه الفرنسي من قلب التجربة اليابانية. رواياته تعالج التمزق الإنساني بلغة شاعرية هادئة، ويعد اليوم من أبرز الوجوه الأدبية في فرنسا رغم أنه ليس فرنسيا الأصل. الجائزة الكبرى للرواية من الأكاديمية الفرنسية هي جائزة أدبية فرنسية أنشئت عام 1918، وتعطى كل عام من طرف أكاديمية اللغة الفرنسية. جنبا إلى جنب مع جائزة غونكور، هي إحدى أقدم الجوائز وأكثرها هيبة في فرنسا. أعطت الأكاديمية الفرنسية أكثر من 60 جائزة أدبية كل عام. الكتابة بالفرنسية كتجربة موسيقية الياباني أكيرا ميزوباياشي البالغ 73 عاما، والذي يتحدث ويكتب الفرنسية بطلاقة فيما يقيم ويدرس في طوكيو، متخصص في الأدب الفرنسي، ودرس في جامعة طوكيو ثم في فرنسا، حيث تعمق في الأدب الكلاسيكي الفرنسي وأصبح أستاذا جامعيا. تفرغ لاحقا للكتابة الأدبية باللغة الفرنسية، ولفت الانتباه بأسلوبه الرقيق والعميق. نشر أول كتاب له في فرنسا عام 2011 مع دار غاليمار التي لا يزال وفيا لها منذ ذلك الحين. الموضوعات التي يتناولها ميزوباياشي في كتابته عادة هي العلاقة بين اللغة والهوية، آثار الحرب والذاكرة الجماعية والفردية، التداخل الثقافي بين الشرق والغرب، الإنسانية في زمن العنف. في مقابلة لميزوباياشي أجرتها معه أغنيس باردون، رئيسة التحرير مجلة اليونسكو، المجلة التي تصدرها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، يقول ميزوباياشي حول أسباب كتابته باللغة الفرنسية: "اللغة الفرنسية بالنسبة لي أشبه بآلة موسيقية، فأنا نشأت في عائلة تحب الموسيقى. كان أخي يعزف على الكمان، وكنت أعزف على البيانو أيضا لبضع سنوات. منذ أن بدأت تعلم الفرنسية عبر دروس الإذاعة، كانت علاقتي بها في البداية سمعية، شبه جسدية. التقطت أذناي اللغة من خلال الموسيقى، وحتى من خلال جسدي بأكمله". ويستطرد: "منذ اللحظة التي قررت فيها أن أجعل الفرنسية آلتي الموسيقية، بدأت أعيش كعازف مبتدئ، أتدرب 14 ساعة يوميا، ولم يكن الأمر صعبا، بل على العكس، كان مصدرا للبهجة والسرور. سرعان ما بدأت الكتابة، مقلدا الجمل والأمثلة المعطاة في الدروس. كانت الكتابة نوعا من التدريب اليومي". تتويج وتألق أدبي أشهر أعمال ميزوباياشي رواية "روح الموسيقى" صدرت في عام 2019، والتي فازت بجائزة بائعي الكتب الفرنسيين، وهي رواية تتناول آثار الحرب على الطفولة والهوية، من خلال قصة صبي ياباني يعشق الموسيقى، لكنه يفصل عن والده بسبب الحرب. حازت عدة جوائز أدبية، واعتبرها النقاد عملا نادرا في رهافته الإنساني. View this post on Instagram A post shared by منشورات تكوين (@takween_publishing) سيكون ميزوباياشي من بين روائيي الموسم الأدبي الجديد بروايته "La Forêt de flammes et d'ombres" "غابة النيران والظلال"، وهو عمل روائي يتناول نهاية الحرب العالمية الثانية في اليابان والموسيقى، وهما الموضوعان المفضلان لديه. منحت الأكاديمية الفرنسية 71 جائزة الخميس، وذهبت الميدالية الكبرى للفرنكوفونية إلى المؤرخة الأميركية أليس كابلان، بينما ذهبت الجائزة الكبرى للأدب إلى ميشال برنار عن مجمل أعماله. كما منحت جائزة تعزيز اللغة والأدب الفرنسيين إلى الأكاديمية التونسية ليلى بن حمد، والأكاديمي الإيطالي إيمانويل كوتينيلي ريندينا، والكاتب البريطاني ويليام بويد، والمترجمة الفرنسية الأميركية باتريشيا ريزنيكوف، ومؤرخ الفن الألماني هندريك زيغلر.