
المانغروف.. خط دفاع بيئي متقدم يواجه التآكل
تنتشر أشجار المانغروف في 128 دولة، وتغطي ما يقرب من 15% من سواحل العالم. ويوجد أكثر من 30% من أشجار المانغروف في جنوب شرقي آسيا. وتُعدّ هذه المناطق من "الثلاث الكبار" للأنظمة البيئية الساحلية للكربون الأزرق، إلى جانب المستنقعات المالحة وأحواض الأعشاب البحرية.
كما تُشكّل هذه المناطق الغنية بالكربون أكثر من 50% من مخزون الكربون في رواسب المحيطات، وتُوفّر موطنا لآلاف الأنواع. كما تُخفّض أشجار المانغروف من سرعة وشدة الأمواج والعواصف.
كنز بيئي
تشير الدراسات إلى أن أشجار المانغروف من أكثر الموارد الطبيعية كفاءة في التقاط الكربون وتخزينه، بفضل نموها السنوي السريع.
فخلال عملية التمثيل الضوئي، تمتص أشجار المانغروف كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون والماء من الغلاف الجوي لإنتاج الغلوكوز، الذي يُغذي نمو الأوراق والسيقان والجذور. ويُخزن معظم الكربون في تربة مغمورة بالمياه، تفتقر إلى الأكسجين.
تتحلل النباتات ببطء أكبر بدون الأكسجين، ما يسمح للكربون بالبقاء مخزنا في المواد النباتية لمئات أو حتى آلاف السنين.
وتشير التقديرات إلى أن غابات المانغروف تُخزّن أكثر من 6.4 مليارات طن من الكربون، أي ما يعادل 4.5 أضعاف الكربون السنوي الذي ينبعث من الاقتصاد الأميركي بأكمله.
كما تُشكّل أشجار المانغروف حاجزا واقيا للسواحل من المخاطر الطبيعية، بما فيها العواصف وأمواج تسونامي والتعرية. تُخفّض جذورها الكثيفة سرعة الأمواج وارتفاعها، مما يُقلّل من الأضرار والآثار الناجمة عن الفيضانات الناجمة عن العواصف.
وأظهر تقريرٌ صدر عام 2023 عن منظمة الحفاظ على الطبيعة وجامعة كامبردج أن حتى غابات المانغروف الصغيرة والناشئة يمكن أن تُوفر فوائد دفاعية ساحلية جمة.
وخلصت الدراسة إلى أن 100 متر فقط من غابات المانغروف يمكن أن تُقلل ارتفاع الأمواج بنسبة تترواح بين 13% و66%، بينما يلزم مئات الأمتار منها لتقليل عمق فيضان تسونامي بنسبة من 5% إلى30%، وآلاف الأمتار للحد من آثار الفيضانات بفعالية.
تعتبر غابات المانغروف موطنا حيويا للنباتات والحيوانات، حيث يعتمد أكثر من 1500 نوع من النباتات والحيوانات على أشجارها موطنا وغذاء وحماية من الحيوانات المفترسة. وتشمل هذه الأنواع أكثر من 200 نوع مهدد بالانقراض.
كما أنها أشجار عاسلة تنتج عسلا ذا قيمة غذائية عالية، وتدخل في صناعة الصبغات والمستحضرات، كما تعتبر مناطق جذب بيئي وسياحي وعلمي.
ووجدت دراسة أُجريت عام 2020 أن أشجار المانغروف تُوفر أكثر من 65 مليار دولار سنويا فوائد للحماية من الفيضانات العالمية. كما وجدت الدراسة أن 15 مليون شخص إضافي سيتعرضون للفيضانات سنويا في جميع أنحاء العالم إذا فُقدت أشجار المانغروف تماما.
تُعتبر أشجار المانغروف من أكثر الموائل المهددة بالانقراض في العالم. وقد ساهمت تربية الأحياء المائية، وإزالة الغابات، وتنمية السواحل، وحصاد الأخشاب في فقدان ما يقرب من 50% من أشجار المانغروف في العالم على مدار الـ50 عاما مضت.
تُعدّ تربية الأحياء المائية، وبالأخص تربية الروبيان، العامل الرئيسي في فقدان أشجار المانغروف، حيث تُمثّل 26% من تناقص أشجار المانغروف عالميا بين عامي 2000 و2020.
تتطلب تربية الروبيان إزالة آلاف الهكتارات لإنشاء أحواض اصطناعية لتربية الروبيان. تعمل مزارع الروبيان عادةً مدة تتراوح بين عامين وخمسة أعوام فقط، وتوفر وظائف مؤقتة منخفضة الأجر للمجتمعات المحلية، وتخلّف وراءها بيئةً ملوثةً ومتدهورةً وغير خصبة، لا تصلح لأي نوع من الزراعة.
كما تزال أشجار المانغروف أيضًا لصالح محاصيل أكثر ربحية، بما فيها الأرز ونخيل الزيت. وتعد إندونيسيا، موطن أكثر من 20% من أشجار المانغروف في العالم، هي أيضًا الرائدة عالميًا في إزالة غابات المانغروف.
أُزيلت نحو 1739 كيلومترا مربعا من مساحة المانغروف بين عامي 1996 و2020 لإفساح المجال لمزارع زيت النخيل والتنمية الساحلية في إندونيسيا. كما أن إزالة أشجار المانغروف لزراعة الأرز منتشرة على نطاق واسع في جنوب شرق آسيا، وقد مثّلت 13% من إجمالي الخسائر عالميا بحلول عام 2024.
على الصعيد العالمي، يعتبر أكثر من 50% من مناطق أشجار المانغروف المتبقية مهددة بالتأثيرات البشرية وعرضة للتأثيرات المرتبطة بتغير المناخ، بما فيها العواصف الأكثر تكرارا وشدة وارتفاع مستوى سطح البحر.
جهود الإنقاذ
لقد تزايد العمل العالمي للحفاظ على أشجار المانغروف واستعادتها في السنوات الأخيرة. يتضمن إطار كونمينغ-مونتريال العالمي للتنوع البيولوجي ، الذي اعتمدته 196 دولة عام 2022، تعهدًا بضمان استعادة 30% على الأقل من مناطق النظم البيئية الساحلية المتدهورة بفعالية بحلول عام 2030.
ويُدرج أحدث تقرير تقييمي للهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) حماية واستعادة النظم البيئية للكربون الأزرق، بما فيها أشجار المانغروف، كإجراءات أساسية لتعزيز التخفيف من آثار تغير المناخ العالمي والتكيف معه.
ودعا التحالف العالمي للمانغروف، الذي يضم منظمات بيئية رئيسية غير ربحية، إلى مضاعفة نسبة أشجار المانغروف المتبقية المحمية من 40% إلى 80% بحلول عام 2030 .
كما أطلق الصندوق العالمي للحياة البرية مبادرة "أشجار المانغروف من أجل المجتمع والمناخ" عام 2018 بهدف حماية نحو 9 ملايين كيلومتر مربع من أشجار المانغروف في المكسيك ومدغشقر وفيجي وكولومبيا، وترميمها، وتعزيز إدارتها.
ويهدف المشروع إلى تأمين ملياري طن من الكربون، وحماية 300 ألف شخص من العواصف وتآكل السواحل.
وتتسابق مبادرات الحفاظ على المانغروف وحمايتها لتعزير قدرة المناطق الساحلية على التكيف مع تغير المناخ واحتجاز الكربون عالميًا، مع النزعات الاستهلاكية والتوسع العمراني والمشاريع الساحلية العملاقة التي لا تلتزم بضرورات التنمية المستدامة.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ يوم واحد
- الجزيرة
الطين قد يكون حلا بسيطا لامتصاص ثاني أكسيد الكربون
في عالم يبحث عن حلول فعّالة من حيث التكلفة وقابلة للتطوير لأزمة المناخ، اكتشف باحثون أن جزيئات الطين الصغيرة تلعب دورا كبيرا للغاية في امتصاص ثاني أكسيد الكربون الذي يعد ملوثا رئيسيا للغلاف الجوي. وأظهرت دراسة صادرة عن جامعة بيردو الأميركية أن الطين الذي يعد أحد أكثر المواد النانوية شيوعا على الأرض، قد يلعب دورا مفاجئا في خفض انبعاثات الكربون. ووجد الباحثون طريقة لاستخدام هذه المادة البسيطة والوفيرة لامتصاص ثاني أكسيد الكربون (CO₂) مباشرة من الهواء. ودرس فريق جامعة بيردو المعادن الطينية بالتعاون مع فريق مختبرات ساندي الأميركية منذ أكثر من 30 عاما، واكتشفوا تفاصيل مهمة حول سلوك هذه الجسيمات الدقيقة. ويقول كليف جونستون، الباحث الرئيسي والأستاذ في كلية العلوم بجامعة بيردو: "تتميز المعادن الطينية بمساحة سطحية عالية جدا. فملعقة كبيرة من الطين تعادل تقريبا مساحة ملعب كرة قدم أميركية". ويشير جونستون إلى أن معظم هذه المساحة السطحية توجد في المسام الداخلية للطين التي تحتوي على مناطق قطبية وغير قطبية. وبينما تفضل جزيئات مثل ثاني أكسيد الكربون المناطق غير القطبية، يفضل بخار الماء المناطق القطبية، وباختيار أنواع معينة من الطين وتعديل بنيتها الأيونية، أمكن تحسين المواد القادرة على امتصاص ثاني أكسيد الكربون. تركز الدراسة على مجموعة من المعادن الطينية تُسمى السمكتيت (Smectite) وهي من أكثر المواد النانوية شيوعا في الطبيعة، وتسمح مساحتها السطحية الشاسعة ويرشحها حجمها الصغير بشكل مثالي للتطبيقات البيئية، وخاصة لالتقاط غازات مثل ثاني أكسيد الكربون. وتتميز هذه المجموعة بقدرتها على امتصاص كميات كبيرة من الماء وتغيير حجمها بشكل كبير. وتُستخدم معادن السمكتيت في العديد من التطبيقات الصناعية والزراعية والطبية، مثل تنقية المياه، وتعديل التربة، وصناعة مستحضرات التجميل. وفي بحث سابق، درس الفريق كيفية امتصاص الطين للملوثات السامة من الماء. وأشار جونستون إلى أن "عملنا السابق ركز على امتصاص الملوثات العضوية السامة من معادن الطين من المحاليل المائية". ووجدت الدراسة أن أنواعا معينة من "السمكتيت" لها أسطح طاردة للماء ويمكنها امتصاص مستويات كبيرة من الملوثات، مثل الديوكسينات، وهي أحد أكثر المركبات العضوية السامة المعروفة. وتنتج الديوكسينات غالبا عن الاحتراق والأنشطة الصناعية، وهي ملوثات ضارة، وقد منح نجاح المواد الطينية في التقاط هذه السموم الباحثين الثقة لتطبيق أساليب مماثلة لامتصاص غازات مثل ثاني أكسيد الكربون. وركزت معظم جهود احتجاز ثاني أكسيد الكربون سابقا على مواد عالية التقنية مثل "الزيوليت"، وهي مجموعة من المعادن البلورية المائية التي تتكون أساسا من السيليكات والألومينات. كما ركز الباحثون على الأطر المعدنية العضوية، والمواد الماصة الصلبة، وأُغفِلت غالبا المعادن الطينية، لكن هذه الدراسة الجديدة غيّرت هذا المنظور. واعتمد فريق البحث على نوع محدد من "السمكتيت" يُسمى "السابونيت"، وهو معدن طيني ذو تركيبة كيميائية معقدة تشمل الكالسيوم والمغنيسيوم والحديد والسيليكون والألومنيوم والهيدروكسيد والماء. واستكشفوا كيفية تعامل "السابونيت" مع ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء، اللذين يتنافسان على المساحة في مسام الطين الدقيقة. وبدلا من تسخين الطين لتعزيز قدرته على الامتصاص، اتخذ الباحثون مسارا مختلفا، إذ درسوا تأثير الرطوبة، ووجدوا أن السابونيت ينجذب بشدة لثاني أكسيد الكربون عند انخفاض الرطوبة. وتعد هذه المرة الأولى التي يُظهر فيها الباحثون كيف يمكن لمعادن الطين أن تمتص كلا من ثاني أكسيد الكربون وبخار الماء في ظروف قريبة مما نختبره في الحياة اليومية، من حيث تركيزات ثاني أكسيد الكربون المحيطة ودرجة حرارة الغرفة. ويرى الباحثون أن نتائج هذا الاكتشاف واعدة. فمع وفرة الطين وانخفاض سعره، قد يوفر طريقة قابلة للتطوير لالتقاط ثاني أكسيد الكربون من الهواء. كما يمكن للناس استخدامه لخفض الانبعاثات من المصانع أو تخزين ثاني أكسيد الكربون تحت الأرض، ويمكن كذلك إبقاؤه خارج الغلاف الجوي على المدى الطويل. وقد يُوسّع هذا البحث نطاق المواد الماصة لمعالجة إحدى أكثر مشاكل كوكب الأرض تحديا، وقد يكون الطين موردا غير مكلف ووفيرا لامتصاص ثاني أكسيد الكربون من الهواء، وأداة فعّالة في مواجهة تغير المناخ.


الجزيرة
منذ 5 أيام
- الجزيرة
الصدمة الإيكولوجية.. كوكب يحتضر في صمت
تحيط بنا البيئة من كل مكان، وتوفّر لنا ولغيرنا من الكائنات كل مقومات الحياة التي تكفل بقاءنا واستمراريتنا، وتقوم الحياة بفضل التوازن بين مكونات النظام البيئي وعناصره، وهو كلمة السر التي تضمن استقرار تلك العناصر في معادلة الحياة. والنظام البيئي بمكوناته ليس نظامًا ساكنًا، بل هو في حالة تفاعل ديناميكي مستمر، ويتحقق التوازن -كما يقول علماء البيئة- بقدرة النظام على العودة إلى وضعه الأول بعد أي تغير يطرأ عليه، دون حدوث تغير أساسي في مكوناته. فالأكسجين الذي نتنفسه -وهو عنصر حيوي من عناصر الغلاف الجوي- يحافظ على استقرار نسبته في الجو من خلال تفاعلات عدة، ينقص خلالها ويزيد في دورة مستمرة من الاستهلاك والإنتاج، إلا أن نسبته تظل ثابتة في النهاية بشكل يضمن استمرار الحياة، التي تعتمد عليه ولا تقوم إلا به. وتاريخ الحياة على الأرض هو تاريخ التفاعل بين الأحياء والبيئة المحيطة بها؛ وعبر مئات الملايين من السنين ظهرت الحياة التي تعمر الأرض الآن، وهي تنمو وتتطور بدقة وتوازن بين عناصرها. ورغم الأحداث الطبيعية القاسية عبر تاريخ الأرض، استطاعت الحياة وأنظمتها البيئية التكيف والمواءمة حتى تستقر عناصرها إلى أن ظهر الإنسان، الذي كان بدوره في حالة تفاعل أيضًا مع محيطه البيئي باحثًا عن أسباب البقاء ومقومات الحياة. الأثر البشري لم يكن أثر الإنسان في بيئته كغيره من الأحياء؛ فبفضل تراكم تجاربه الحضارية، منذ العصور البدائية حتى العصر الحديث، تمكن البشر ليس فقط من الانتفاع بالبيئة، بل وصل التأثير التراكمي -بما طوره من وسائل وتقنيات- إلى تغيرات هائلة في بيئته المحيطة، شكلت ضغطًا هائلًا على النظام البيئي ومكوناته، واستنزافًا لعناصره، وإخلالًا بالتوازن بينها بشكل كارثي لم يحدث من قبل، كما تؤكد إليزابيت كولبرت في كتابها "الانقراض السادس" إذ تقول: "لم يسبق لأي مخلوق على هذا الكوكب أن غيّر الحياة بهذا الشكل من قبل". ولكننا لم ندرك ذلك إلا مع بدايات القرن التاسع عشر -في أعقاب الثورة الصناعية الأولى- حين ظهرت الدراسات الخاصة بالبيئة والأحياء بشكل مكثف، وتطورت التقنيات المساعدة للرصد والتحليل والقياس، لتسجيل تلك التغيرات وتتبعها، حتى بدت ملامح الصدمة الإيكولوجية تظهر على الأنظمة البيئية وعلينا، فكانت الصدمة بوجهيها كارثة على البيئة وعلى البشر على السواء. الصدمة الإيكولوجية الأولى.. الأمطار الحمضية بدأت الصدمة مع منتصف القرن التاسع عشر، وتحديدًا عام 1852، حين اكتشف الكيميائي الأسكتلندي روبرت سميث ظاهرة الأمطار الحمضية، أثناء قيامه بتحليل مياه الأمطار بالقرب من المنشآت الصناعية ذات المداخن الهائلة، في إنجلترا وأسكتلندا، والتي أحالت أجواء وهواء المدن إلى ضباب ملوث، صار علامة مميزة لها ولتلك الحقبة. لم يقف الأمر عند المطر الحمضي وآثاره الكارثية، التي شكلت صدمة إيكولوجية للتربة ومكوناتها، وتدميره لمساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، وتسمم العديد من السكان والحيوانات بتلك المياه الملوثة، وتلف المحاصيل، وتشوه العديد من المباني والمنشآت نتيجة تفاعل المياه الحمضية مع مواد البناء، ما شكّل صدمة لغرب أوروبا الصناعية بأكملها في ذلك الوقت. الصدمة الإيكولوجية الثانية.. المبيدات القاتلة لم تقف الصدمة البيئية عند الأمطار الحمضية، بل أضافت المبيدات التي ظهرت بعد ذلك، واستُخدمت على نطاق واسع، خاصة في الولايات المتحدة الأميركية، حين قامت الحكومة برش تلك المبيدات بكثافة بالطائرات فوق المزارع، للقضاء على الآفات والحشرات التي تسببت في تدمير وإتلاف العديد من المحاصيل، فجاءت الصدمة حيث تسربت تلك المبيدات الى مسام التربة، وترسبت إلى النباتات والمحاصيل، ووصلت الى مصادر الماء والغذاء؛ ما شكل تهديدًا خطيرًا لم يشعر به أحد إلا بعد ظهور آثارها الكارثية، التي دخلت النظام البيئي ولم تخرج منه بعد؛ فهي تحتاج مئات السنين حتى تتحلل وتخرج من النظام البيئي. إلا أن آثارها لم تقف عند ذلك، بل امتدت إلى تغيرات تشبه أثر المواد المشعة في تغيير البنية الوراثية الجينية للأحياء، ما ساعد على ظهور طفرات وتشوهات، واختلال كبير في وظائف الخلايا والأنسجة، وعجّل بظهور السرطانات. وقد عالجت تلك الصدمة وتصدت لها الدكتورة راتشيل كارسون، عالمة الأحياء الأميركية، التي ألفت كتابها الشهير "الربيع الصامت"، الذي يعد أول وأهم كتاب لنشر الوعي البيئي، محذرًا من المخاطر التي تهدد البيئة، وبالأخص تلك المبيدات القاتلة كل صور الحياة. وقد خاضت معركة بكتابها ضد الحكومة الفدرالية وأصحاب الشركات، حتى وصل الأمر إلى تداول ما كتبته في جلسات الكونغرس، وانتهت إلى الاعتراف بتلك الآثار الكارثية، وإقرار قوانين للحد من استخدام تلك المبيدات القاتلة، والبحث في سبل وقاية طبيعية بدلًا من ذلك، وهذا يعد انتصارًا لكارسون، التي صارت رائدة للحركة البيئية العالمية بعد ذلك. تقول كارسون في كتابها "الربيع الصامت": "يتعرض البشر جميعًا، ولأول مرة في تاريخ العالم، إلى ملامسة كيماويات خطيرة، من لحظة الحمل إلى يوم الموت، فلقد انتشرت المبيدات خلال العالم الحي وغير الحي بأكمله، حتى أصبحت موجودة الآن في كل مكان تقريبًا". إنه ليس مجرد تغير طارئ على النظام البيئي، بل هو خلل بنيوي في تركيبة النظام البيئي، سيحتاج معه النظام عقودًا وعقودًا من السنين حتى يتعافى من تلك الآثار الكارثية؛ فالصدمة الإيكولوجية ليست مجرد تغيير يتعرض له النظام البيئي، بل هي تغيير كبير غير متوقع، وعلى نطاق واسع وخلال فترة زمنية قصيرة، ومن ثم فهو حدث كارثي مفاجئ، يسبب اضطرابًا كبيرًا في النظام البيئي، وخللًا في توازن مكوناته لا يمكن إصلاحه بسهولة. من آثار الاحتباس الحراري الضغط والتأثير على الإنتاج الزراعي ودوراته، وقد شهدنا ذلك في العام 2022، حين ضربت الهند موجة حارة عنيفة في أبريل/ نيسان، سببت خسائر هائلة تقدر بملايين الأطنان، ما دفع الحكومة الهندية إلى اتخاذ قرار وقف تصدير القمح ليس صدمة واحدة بل صدمات والصدمة الإيكولوجية هنا لا تقف عند حدود النظام البيئي، بل تسبب بالتبعية صدمات أخرى اقتصادية واجتماعية وصحية وسياسية؛ فمن أمثلة الصدمات الإيكولوجية -غير ما ذكرنا- نجد تدمير الموائل الطبيعية، وفقدان التنوع البيولوجي، والتسبب في انقراض العديد من الأنواع الحية، ومنها -بل وعلى رأسها- المتهم الأكبر في تحولات بيئية كارثية كبرى، في عصرنا وفي المستقبل، ألا وهو التغير المناخي. الصدمة المناخية واحترار الكوكب والتغير المناخي -وهو لا يكفيه حيز المقال الصغير- يحدث بسبب خلل في مكونات التركيب الغازي للغلاف الجوي؛ نتيجة دخول كميات هائلة من الغازات الدفيئة التي تحبس الحرارة، ما يتسبب في تداعيات أخرى كمتوالية هندسية، أو كرة صخرية تتدحرج من أعلى قمة جبل إلى أسفله، ولا يستطيع أحد إيقافها. ومما حذر منه العلماء أن الانبعاثات وصلت لمرحلة لا يمكن للنظام البيئي استيعابها أو تحملها، ما يشكل ضغطًا هائلًا عليه سيتجاوز به حدوده القصوى في التحمل، أو -كما يسميها علماء المناخ- النقاط الحرجة أو حدود اللاعودة، ما ينذر بتبعات كارثية أخرى على مختلف الأنظمة البيئية، من البحار والمحيطات التي تمتص المزيد والمزيد من غازات الاحتباس الحراري، وعلى رأسها ثاني أكسيد الكربون متسببًا في تحمض المحيطات، وتعريض صحة الشعاب المرجانية للخطر، ومن ثم الكائنات التي تعتمد عليها، وكذلك المجتمعات البشرية التي تعتمد اقتصاداتها على تلك الموائل المرجانية الطبيعية، وهي خسائر اقتصادية كبيرة لها تداعيات أخرى يحذّر منها العلماء، مثل التغير في أحوال الطقس، ودورات الكتل الهوائية، والتسبب في ذوبان الجليد، وارتفاع منسوب البحار، ما يهدد مدنًا ساحلية بأكملها. ومن آثار ذلك الاحتباس الحراري الضغط والتأثير على الإنتاج الزراعي ودوراته، وقدرة المحاصيل على تحمل موجات الحرارة المفاجئة، وقد شهدنا ذلك في العام 2022، حين ضربت الهند -التي تشكل ثاني أكبر مصدر للقمح- موجة حارة عنيفة في أبريل/ نيسان، سببت خسائر هائلة تقدر بملايين الأطنان، ما دفع الحكومة الهندية إلى اتخاذ قرار وقف تصدير القمح، وقد جاء ذلك في وقت كانت الحرب فيه لا تزال قائمة بين روسيا وأوكرانيا، التي تعد المصدر الأول للقمح، والتي كانت بدورها بسبب الحرب قد أوقفت تصديره؛ بسبب الخسائر وهروب المزارعين من مناطق القتال والنزاع المسلح. تلك أمثلة بسيطة فقط عن حجم التغيرات الهائلة التي سببها -ولا يزال يسببها- النشاط البشري المتطرف سلمًا وحربًا في بيئة كوكب الأرض، والتي بدأنا بالفعل نحصد مرارة آثارها، ونشهد بأنفسنا تلك الصدمة الإيكولوجية -أو الصدمات إن أردنا الدقة- التي لن تنتهي قريبًا بأي حال إذا لم نتحرك، لا أقول لوقف تلك الآثار، فقد فات الأوان لوقفها خاصة مع تلك النزعة الرأسمالية المتوحشة، التي لا تريد أن توقف أرباحها المتضاعفة من نزيف الكوكب، لكن نتحرك على الأقل لتخفيف آثارها، وبحث سبل التكيف معها، بأقل الخسائر على حياتنا وحياة الأجيال القادمة.


الجزيرة
منذ 7 أيام
- الجزيرة
دراسة: الإجهاد الحراري يدمر الشعاب المرجانية حول العالم
أظهرت دراسة نشرتها الإدارة الوطنية الأميركية للمحيطات والغلاف الجوي (NOAA) أن حوالي 83.7% من مساحة الشعاب المرجانية في العالم في 83 دولة ومنطقة على الأقل تأثرت بالإجهاد الحراري الناجم عن الابيضاض منذ يناير/كانون الثاني 2023، وحتى أبريل/نيسان 2025. وتتعرض الشعاب المرجانية في العالم لظاهرة ابيضاض المرجان الجماعية والتي بدأت في عام 2023، وأصبحت أكبر حدث تم تسجيله على الإطلاق، جراء تحمض مياه المحيطات والحرارة الزائدة. ونشرت الإدارة خريطة منطقة التنبيه لابيضاض المرجان القصوى، التي تم التقاطها بواسطة قمر صناعي عالمي بدقة 5 كلم من برنامج مراقبة الشعاب المرجانية التابع لها، للفترة من 1 يناير/كانون الثاني 2023 إلى 20 أبريل/نيسان 2025. وتوضح الخريطة المناطق حول العالم، التي شهدت مستويات عالية من الإجهاد الحراري البحري (مستويات التنبيه لابيضاض المرجان من 2 إلى 5) والتي يمكن أن تتسبب في ابيضاض المرجان ووفياته على مستوى الشعاب المرجانية. ومن بين المناطق المتضررة الحاجز المرجاني العظيم في أستراليا -وهو أكبر نظام للشعاب المرجانية في العالم- وفلوريدا، ومنطقة البحر الكاريبي، والبرازيل، وشرق المحيط الهادي الاستوائي، ومساحات واسعة من جنوب المحيط الهادي، والبحر الأحمر، والخليج العربي، وخليج عدن. كما أكدت الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي انتشار ظاهرة الابيضاض على نطاق واسع في أجزاء أخرى من حوض المحيط الهندي، ويعد هذا هو رابع حدث ابيضاض جماعي للمرجان يتم تسجيله على الإطلاق والثاني الذي يحدث خلال السنوات العشر الماضية. الغابات المطيرة البحرية ويحدث ابيضاض المرجان كاستجابة للضغط الحراري الناجم عن ارتفاع درجات حرارة المحيط، مما يدفع الطحالب بعيدا عن الشعاب المرجانية، مما يتسبب في فقدانها لألوانها النابضة بالحياة. وسجلت كل سنة من السنوات الثماني الماضية رقما قياسيا جديدا في محتوى حرارة المحيطات، وفقا للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية. ويتجاوز معدل احترار المحيطات خلال العقدين الماضيين (2005-2024) ضعف معدله خلال الفترة 1960-2005. كان عام 2024 أعلى مستوى حرارة للمحيطات في سجل المنظمة العالمية للأرصاد الجوية الممتد على مدار 65 عاما. في العام الماضي، وهو العام الأكثر حرارة على الإطلاق. وصلت درجات حرارة سطح البحر إلى مستويات قياسية من يناير/كانون الثاني إلى يونيو/حزيران. وفي النصف الثاني من عام 2024، كانت درجات الحرارة ثاني أعلى درجة حرارة مسجلة في ذلك الوقت من العام، بعد عام 2023. في حين أن حدث الابيضاض لا يرتبط بشكل مباشر بموت الشعاب المرجانية، فإن الضغوط الحرارية المتكررة والشدة تجعل الشعاب المرجانية أكثر عرضة للأمراض، مما يؤدي إلى إبطاء تعافيها والحد من قدرتها على التكاثر. وقال ديريك مانزيلو، منسق برنامج مراقبة الشعاب المرجانية التابع للإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي: "مع استمرار ارتفاع درجة حرارة محيطات العالم، يزداد تواتر ظاهرة تبيض المرجان وشدتها". وأضاف أنه عندما تكون هذه الأحداث شديدة أو مطولة بما يكفي، فإنها قد تتسبب في نفوق المرجان، مما يضر بالسكان الذين يعتمدون على الشعاب المرجانية في معيشتهم. وتُعد الشعاب المرجانية أنظمة بيئية بالغة الأهمية، إذ توجد في أكثر من 100 دولة ومنطقة، وتدعم ما لا يقل عن 25% من الأنواع البحرية؛ وهي جزءٌ لا يتجزأ من استدامة شبكة التنوع البيولوجي البحري الواسعة والمترابطة على كوكب الأرض. كما أنها توفر خدماتٍ بيئيةً تُقدَّر قيمتها بنحو 9.9 تريليونات دولار سنويا. ويُشار إليها أحيانا باسم "الغابات المطيرة البحرية" لقدرتها على امتصاص ثاني أكسيد الكربون الزائد في الماء. وتشير التقديرات إلى أن الشعاب المرجانية تختفي بوتيرة مثيرة للقلق . ووفقا لأحدث تقرير صادر عن الشبكة العالمية لرصد الشعاب المرجانية (GCRMN)، فقد العالم ما يقارب 14% من الشعاب المرجانية منذ عام 2009.