
هل تنجح أنقرة في تحصيل مطالبها مقابل التزاماتها في الناتو؟
أنقرة – أقر قادة حلف شمال الأطلسي (ناتو) رفع سقف الإنفاق الدفاعي للدول الأعضاء إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي مع حلول عام 2035، في استجابة للضغوط الأميركية وبحجة تصاعد التهديدات الجيوسياسية في محيط الحلف وامتدادها العالمي.
ويجد هذا التحول أصداء خاصة في أنقرة ، إذ يضعها موقعها كصاحبة ثاني أكبر جيش في الناتو أمام معادلة دقيقة تجمع بين الوفاء بالتزاماتها العسكرية المتنامية والحفاظ على توازن اقتصادي داخلي يرزح بالفعل تحت ضغوط التضخم وأعباء الإنفاق العام، في وقت تحرص فيه على تثبيت أولوياتها في ملفات الأمن القومي والتعاون الصناعي الدفاعي داخل منظومة الحلف.
التزامات وفرص
لطالما حافظت تركيا على موقع متقدم في التزامها بالإنفاق الدفاعي ضمن حلف شمال الأطلسي، متجاوزة في السنوات الأخيرة السقف القديم المحدد في 2% من الناتج المحلي الإجمالي.
ووفقا للتقرير السنوي الصادر عن الأمين العام للناتو، ارتفعت نسبة الإنفاق الدفاعي التركي من 1.45% عام 2014 إلى 2.09% في عام 2024، في حين خصصت أنقرة نحو 31.8% من موازنتها الدفاعية لهذا العام لشراء المعدات الكبرى وتمويل أنشطة البحث والتطوير، متجاوزة بوضوح الحد الأدنى المحدد من الحلف عند 20%.
وفي ضوء الاتفاقية الجديدة التي أقرتها قمة لاهاي ، تستعد تركيا لرفع إنفاقها الدفاعي بشكل ملموس خلال السنوات المقبلة. فبينما بلغت موازنتها الدفاعية في عام 2024 قرابة 22.8 مليار دولار، أي ما يعادل 2.09% من الناتج المحلي الإجمالي، ستقفز هذه الميزانية إلى نحو 70 مليار دولار مع بلوغ هدف 5% المتفق عليه، أي بزيادة تقارب 47 مليار دولار.
يأتي ذلك في وقت سجل فيه الاقتصاد التركي نموا بنسبة 3.2% خلال العام الماضي.
ومع رفع السقف الجديد، الذي يوزع بين 3.5% للإنفاق العسكري المباشر و1.5% للاستثمارات الدفاعية النوعية (في مجالات الأمن السيبراني، والاستخبارات، والبنية التحتية، والتنقل العسكري)، تجد أنقرة نفسها أمام معادلة مالية دقيقة. ففي ظل استمرار الضغوط التضخمية وتراجع الهوامش المالية للإنفاق العام، يصبح الحفاظ على استقرار الاقتصاد الداخلي توازنا مع الالتزامات الدفاعية المتصاعدة تحديا محوريا لصناع القرار.
وفي هذا السياق، أشار الأمين العام للناتو مارك روته خلال القمة إلى أن "هذا الالتزام المالي الجديد يمثل تحديا سياسيا للعديد من البلدان، لكنه بات ضرورة لا بد منها في مواجهة التهديدات المتنامية".
وترى أنقرة في هذه المعادلة فرصة إستراتيجية لتعزيز صناعاتها الدفاعية، التي وصفها روته خلال القمة بـ"الكبيرة جدا"، في إشارة إلى مكانة تركيا المتنامية في قطاع الصناعات الدفاعية على المستويين الإقليمي والدولي.
ورغم هذا التصاعد في حجم الإنفاق، سجل نصيب تركيا من إجمالي الإنفاق الدفاعي في الحلف انخفاضا من 2.4% في 2014 إلى 1.9% العام الماضي، مما لا يعكس تراجعا في التزامها بقدر ما يعبر عن وتيرة الإنفاق المتسارعة لدول شرق ووسط أوروبا، مثل بولندا وليتوانيا وإستونيا، التي تجاوزت بدورها حاجز 3% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين سجلت اقتصادات كبرى مثل ألمانيا وفرنسا زيادات متسارعة في موازناتها الدفاعية.
أولويات أنقرة
إلى جانب المفاوضات الجارية بشأن رفع الإنفاق الدفاعي، تدفع تركيا بقوة خلال أعمال القمة لإدراج أولوياتها الخاصة، وعلى رأسها مكافحة الإرهاب وإزالة الحواجز أمام التعاون الصناعي الدفاعي بين الدول الأعضاء.
وترى أنقرة أن ملف الإرهاب لا يزال يفتقر إلى التوافق الكامل بين الحلفاء حول تعريفاته وأدوات مكافحته. ورغم الإجماع النظري داخل الحلف على الالتزام بمحاربة كافة أشكال الإرهاب، ترى تركيا أن بعض الدول الأعضاء تواصل تقديم مظلات قانونية أو سياسية لمنظمات تصنّفها أنقرة على قائمة الإرهاب.
وبالموازاة، تواصل أنقرة الضغط باتجاه رفع القيود المفروضة على صادرات المعدات والمكونات العسكرية لصناعاتها الدفاعية، والتي لا تزال تفرضها بعض الدول الأوروبية على خلفية خلافات سياسية متراكمة، خصوصا بعد عمليات تركيا العسكرية في سوريا وصفقة أنظمة الدفاع خارج مظلة الحلف.
وتنقل صحيفة صباح التركية عن مصادر في رئاسة الصناعات الدفاعية التركية أن أنقرة ترى في إزالة هذه القيود جزءا من تقاسم "عادل للأعباء والفرص داخل الحلف"، مؤكدة أن الصناعات الدفاعية التركية أثبتت قدرتها على تلبية احتياجات الحلف في مجالات الأنظمة الجوية المسيرة، والدفاع الجوي، والتكنولوجيا البحرية.
مكاسب إستراتيجية
يرى المحلل السياسي علي أسمر أن موافقة تركيا على رفع إنفاقها الدفاعي إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي تمثل لحظة مفصلية في مسار إعادة تموضعها داخل المنظومة الغربية. وبينما ينظر إلى هذه الخطوة من زاوية كلفتها الاقتصادية الثقيلة على اقتصاد يمر بمرحلة حساسة، تعدّها أنقرة فرصة لمبادلة التنازلات المالية بمكاسب سياسية وإستراتيجية داخل الحلف، وأوضح أسمر أن أنقرة تسعى منذ سنوات للانتقال من موقع العضو المنفذ إلى موقع الشريك المؤثر في صناعة القرار داخل الحلف.
ويرى علي أسمر، في حديث للجزيرة نت، أن هذه المقاربة تعكس جوهر الرؤية التركية التي تنطلق من موقعها باعتبارها الجبهة الجنوبية الشرقية للناتو، وما تتحمله من أعباء أمنية تتجاوز حدودها الجغرافية، بدءا من مكافحة الإرهاب العابر للحدود، مرورا بملف اللاجئين، وانتهاء بتوازنات شرق المتوسط. ومن هذا المنطلق، تطالب تركيا بمقابل سياسي واضح لهذه الأعباء.
ويضيف أن التحولات الجيوسياسية خلال السنوات الأخيرة جعلت من تركيا شريكا لا يمكن تجاوزه داخل الناتو بفضل موقعها الجغرافي وإمكاناتها العسكرية ودورها الإقليمي المتنامي.
في المقابل، يحذر أسمر من أن أي محاولة تركية لفرض رؤيتها باندفاع قد تصطدم بما يسميه "البرود الدبلوماسي الغربي"، لا سيما في ظل تراكم الخلافات مع بعض دول الحلف الأوروبية، مما يتطلب، بحسب رأيه، موازنة دقيقة بين الخطاب الحازم والنهج البراغماتي لتفادي تحوّل أدوات الضغط السياسي إلى حالة من العزلة.
نفوذ متصاعد
من جانبه، يرى المحلل السياسي جنك سراج أوغلو أن تركيا تقترب من ترسيخ موقع الشريك الذي لا يمكن الاستغناء عنه داخل الناتو، مستفيدة من موقعها الجغرافي المحوري، وقدراتها العسكرية المتنامية، وتحولها السريع إلى قوة دفاعية تصديرية خاصة في مجال الطائرات المسيرة.
ويشير، في حديث للجزيرة نت، إلى أن أنقرة توفر للحلف أوراقا إستراتيجية يصعب تجاهلها، بدءا من السيطرة على المضايق الحيوية، مرورا بدورها الحاسم في ضبط ملف اللاجئين والهجرة، وصولا إلى امتلاكها ثاني أكبر جيش في الحلف.
غير أن العلاقات المتوترة مع بعض العواصم الأوروبية تظل تفرض سقفا للثقة الكاملة بين الجانبين، في ظل تباين الرؤى حول ملفات أمنية عدة، أبرزها تعريف التهديدات في الشرق الأوسط وشرق المتوسط.
ويؤكد الباحث أن التحولات الجيوسياسية الأخيرة أعادت تعريف من هو الحليف الضروري داخل الحلف، ليس وفق معيار الانضباط السياسي التقليدي، بل استنادا إلى الأدوار الميدانية الحاسمة.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 11 ساعات
- الجزيرة
طالبان تعيّن سفيرا في تركيا ومحللون يعتبرون الخطوة إنجازا محدودا
كابل- أعلنت وزارة الخارجية الأفغانية تعيين الشيخ صنیع الله فرهمند سفيرا فوق العادة ومفوضا وممثلا خاصا لدى الحكومة في تركيا، في خطوة اعتبرتها حركة طالبان"نجاحا دبلوماسيا" في بيئة دولية لم تعترف رسميا بعد بحكمها. وخلال مراسم تقديم السفير في السفارة الأفغانية بالعاصمة التركية قال القائم بأعمال وزير الخارجية الأفغاني أمير خان متقي إن "علاقاتنا مع تركيا وصلت إلى مرحلة يمكننا فيها تعيين سفير دبلوماسي يبدأ عمله هنا، أستطيع القول إن العلاقات بين تركيا وأفغانستان أصبحت طبيعية وعادية". وبينما لم تصدر الحكومة التركية حتى الآن أي بيان رسمي بشأن قبول السفير المعيّن من قبل طالبان أكد متقي أن تركيا -إلى جانب العديد من دول المنطقة- تستضيف أعدادا كبيرة من اللاجئين الأفغان، مشيرا إلى أن حكومته أوصت بعثاتها الدبلوماسية في الخارج بأن تكون "بيوتا مشتركة لجميع الأفغان دون أي شكل من أشكال التمييز". وتوافقت تصريحات متقي مع ما يؤكد عليه قادة طالبان في الداخل، من دعوات لعودة ممثلي جميع القوميات والتيارات السياسية إلى أفغانستان دون خوف، في مسعى للرد على الانتقادات الموجهة إلى حكومة الأفغانية بشأن غياب التمثيل الشامل في سلطتها. إنجازات دبلوماسية لا يمتلك السفير الجديد المعيّن من قبل الحكومة الأفغانية خبرة دبلوماسية سابقة، إذ كان يرأس مجلس العلماء في ولاية قندوز شمال شرقي أفغانستان. ومع ذلك، يُنظر إلى تعيينه -بوصفه أفغانيا من أصول تركية- على أنه اختيار رمزي قد يُستخدم من قبل طالبان للرد على الانتقادات المتعلقة بغياب التمثيل الشامل في حكومتها رغم أن الحركة كانت قد أعلنت سابقا أن تشكيل حكومتها لا يستند إلى مبدأ المحاصصة القومية أو العرقية. ورغم ما تعيشه طالبان من عزلة دبلوماسية فإنها تعتبر هذا التعيين إنجازا مهما ضمن سياستها الخارجية، مشيرة إلى أن عددا من دول الجوار والمنطقة قبلت دبلوماسييها وسفراءها. فقد تم قبول دبلوماسيين لطالبان في كل من قطر والإمارات العربية المتحدة وباكستان والصين وروسيا وإيران وأوزبكستان وتركمانستان وكازاخستان وماليزيا والنرويج وعدد من الدول الأخرى. كما وافقت الهند على تسليم القنصلية الأفغانية في مومباي إلى ممثلي الحكومة، وهو ما اعتبرته طالبان من التطورات اللافتة وتقدما مهما رغم أن نيودلهي لم تعترف رسميا بسفراء أو دبلوماسيي طالبان. ومطلع العام الحالي، بدأ عبد الرحمن فدا عمله سفيرا لطالبان في العاصمة السعودية الرياض، لكن السلطات السعودية لم تصدر أي بيان رسمي بشأن هذه الخطوة، كما لم تعلن موقفا واضحا من علاقاتها مع حكومة طالبان. بالمقابل، أعادت السعودية فتح سفارتها في كابل بعد تأخير طويل، وعيّنت فيصل بن طلق البقمي سفيرا لها في أفغانستان، بعد أن كانت تدير شؤونها الدبلوماسية عبر سفارتها في باكستان. أهمية تركيا بالنسبة لحكومة لم تحظَ باعتراف رسمي منذ نحو 4 سنوات حتى من جيرانها القريبين فإن انفتاح دولة بموقع تركيا السياسي والدبلوماسي يمنح طالبان نافذة يمكن من خلالها إيصال صوتها إلى المجتمع الدولي، وهو ما لا يمكن تحقيقه بالدرجة نفسها مع دول مثل الصين وروسيا وإيران. وقد سبق لوزير خارجية حكومة طالبان بالوكالة أمير خان متقي أن ألقى كلمة خلال اجتماع منظمة التعاون الإسلامي في إسطنبول في 22 يونيو/حزيران الحالي كرر فيها الرسالة التي ما فتئت طالبان تحاول إيصالها، ومفادها أن العقوبات التي يفرضها المجتمع الدولي قد أضرت بالاقتصاد الأفغاني. وقال متقي في كلمته "تواجه بلادنا عقوبات اقتصادية غير مشروعة فرضتها بعض الدول الغربية"، مذكرا بأن الولايات المتحدة وبعد 20 عاما من الحرب في أفغانستان جمدت الأصول الوطنية للشعب الأفغاني، مما أدى إلى عرقلة التقدم الاقتصادي الطبيعي في البلاد. وتابع مناشدا أعضاء المنظمة "أجدد دعوتي لمنظمة التعاون الإسلامي والدول الأعضاء بأن يتم الإفراج عن أصول البنك المركزي الأفغاني دون تأخير، وأرجو منكم انطلاقا من مسؤوليتكم الإنسانية والإسلامية أن تستخدموا كامل نفوذكم من أجل رفع القيود الاقتصادية والسياسية المفروضة على الإمارة الإسلامية". وعلى هامش الاجتماع، عقد متقي لقاءات مع عدد من وزراء خارجية الدول المشاركة، من بينها سوريا وباكستان وأوزبكستان ودول أخرى. بدوره، يرى المحلل السياسي أحمد سعيدي أن تعيين طالبان سفيرا لها في تركيا "لا يعني بالضرورة تطورا حقيقيا بالاعتراف الدولي بالحركة"، معتبرا أن "تركيا لم تصدر بيانا رسميا حتى الآن، مما يشير إلى أن الأمر أقرب إلى قبول أمر واقع دبلوماسي وليس اعترافا سياسيا". ويضيف سعيدي في حديثه للجزيرة نت أن "طالبان تحاول من خلال هذه التعيينات إرسال رسائل بأنها أصبحت جهة مسؤولة وقادرة على إدارة العلاقات الدولية، لكن معظم الدول لا تزال تتعامل معها في إطار ضيق يرتبط بإدارة الشأن القنصلي أو الملفات الإنسانية، وليس من منطلق الاعتراف الكامل". وفي تقييمه لرمزية التعيين، يقول سعيدي إن "اختيار شخصية من الأتراك الأفغان سفيرا في أنقرة يحمل بعدا داخليا أكثر منه خارجيا، وهو محاولة لطمأنة بعض المكونات العرقية في البلاد بأن الحركة تمثل الجميع رغم الانتقادات المستمرة لها بشأن غياب التعددية السياسية والقومية داخل السلطة الحالية". كما يرى أن تركيا -ورغم أنها تحتفظ بعلاقات مفتوحة مع طالبان- فإنها تستضيف على أراضيها شخصيات معارضة لها "ولا يبدو أنها مستعدة في الوقت الراهن للذهاب أبعد من إدارة اتصالات محدودة مع الحركة ضمن الحسابات الإقليمية والدينية"، حسب قوله. انفتاح مشروط من جهته، يرى الدبلوماسي الأفغاني السابق عمر صمد أن قرار طالبان تعيين سفير في تركيا يعد "خطوة مدروسة ضمن سياسة انفتاح تدريجي، لكنها لا تعكس تغيرا جذريا في المواقف الدولية تجاه الحركة". وأضاف صمد -الذي شغل منصب سفير أفغانستان في إحدى الدول الأوروبية قبل عام 2021- في حديثه للجزيرة نت أن "الحركة تسعى لإظهار نفسها كطرف دولي قادر على إبرام اتفاقات دبلوماسية، لكن عليها أولا معالجة ملف حقوق الإنسان -ولا سيما حقوق المرأة- للحصول على اعتراف حقيقي". واعتبر صمد أن "الرهانات الدبلوماسية لطالبان تظل محكومة بالحاجة إلى تقوية علاقاتها مع دول المنطقة أولا، حيث لا تزال معظم الحكومات الغربية متحفظة على التعامل معها بشكل رسمي، وهو ما يظهر في غياب الاعتراف الكامل وتركز الحوار معها على الملفات الإنسانية والقنصلية فقط".


الجزيرة
منذ 13 ساعات
- الجزيرة
الأوروبيون بين المطاوعة داخل حلف الناتو والبحث عن بدائل خارجه
لندن- يخوض الأوروبيون بحثا شاقا عن البدائل منذ وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض حيث لم يتردد بالتهديد بنهج سياسة أكثر انعزالا تجاه الحلفاء، سعيا لتحويل العلاقة المتوترة مع واشنطن في أكثر من ملف إلى محرك لاستعادة زمام المبادرة الاقتصادية وتولي دفة القيادة الدفاعية. فبعد أن انتهت قمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" الأخيرة في لاهاي بالرضوخ للضغط الأميركي برفع سقف إنفاق الحلفاء الأوروبيين الدفاعي إلى 5% من ناتجهم الداخلي الخام، يسعى الأوروبيون -بعد أن هدأت مخاوفهم نسبيا من انسحاب أميركي مفاجئ من الحلف- إلى نقل عبء قيادة الحلف إلى أوروبا. التزام أميركي مشروط تعهد الرئيس الأميركي بالتمسك بالشراكة في حلف الناتو وعدم فك الارتباط الأمني بين ضفتي الأطلسي، في الوقت الذي أصرعلى الظهور بمظهر المنتصر القادر على إرغام الأوروبيين على إنفاق المزيد من الأموال لتحمل أعباء توفير الحماية لأنفسهم. أما الأمين العام لحلف الناتو مارك روته ، فقد حاول خلال تصريحاته في القمة التأكيد على أن الضغط الأميركي شكل قوة دافعة حاسمة ساهمت في اتخاذ الأوروبيين خطوة طالما ترددوا في الإقدام عليها على مدار سنوات. وتخلص صحيفة بوليتيكو إلى أن الأمين العام للناتو نجح في "فك شفرة" الرئيس الأميركي، وتمكن من تأمين قمة ناجحة خالية من المفاجآت، عبر كيله المديح لترامب، في وقت أصر على تلافي طرح الأسئلة الصعبة بشأن طرق تمويل ميزانيات الدفاع الأوروبية. ويرى رافائيل لوست الخبير في شؤون الدفاع بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية -في حديث للجزيرة نت- أن رفع الإنفاق الدفاعي ليس قرارا أميركيا بحتا بل هو توجّه بدأت الدول الأوروبية تدرك أهميته منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث انخرط الحلفاء بالفعل، خلال القمم الثلاث الأخيرة لحلف الناتو في مدريد وفيلينيوس وواشنطن، في إعداد خطط دفاعية أكثر تفصيلا وواقعية. ويضيف الخبير البريطاني أن الأوروبيين فقدوا كثيرا من ثقتهم بالحليف الأميركي الذي يبدو منشغلا بشكل متزايد بإدارة أزمات في مناطق أخرى من العالم، كمنطقة الشرق الأوسط والمحيطين الهادي والهندي، بعيدا عن مظلة الحلف. وفي المقابل، تؤكد مارتا موتشنيك -الباحثة الأولى بشؤون الاتحاد الأوروبي لدى "مجموعة الأزمات الدولية" في بروكسل- أن النجاح في إدارة العلاقة المعقدة مع الرئيس الأميركي لا يعفي الأوروبيين من الحاجة للتفكير الجاد في كيفية سد الثغرات والفجوات الحرجة في منظومتهم الدفاعية. وترى الخبيرة في السياسات الأوروبية -في حديثها للجزيرة نت- أن التزام واشنطن الحالي بالحلف لا يمكن اعتباره مضمونا في المستقبل، إذ قد تتجه الولايات المتحدة إلى خفض وجودها العسكري بأوروبا، في وقت تحتاج فيه القارة إلى دعم عسكري مستدام لمواجهة تحديات أمنية متصاعدة. وفي مقال مشترك للخبيرين على صحيفة فايننشال تايمز البريطانية، ألمح كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني فريدريش ميرتس إلى أن بلديهما يعملان بشكل مشترك على استقلالية المنظومة الدفاعية الأوروبية وجعلها قادرة على العمل في إطار حلف الناتو كإطار مرجعي للدفاع عن الأمن الأوروبي. بحث عن البدائل بدأت فرنسا وبريطانيا -منذ عودة ترامب للبيت الأبيض- بالدفع نحو تشكيل " تحالف الراغبين" كآلية دفاعية عسكرية توفر للأوكرانيين الضمانات الأمنية التي يرفض الأميركيون تقديمها حال التوقيع على أي اتفاق سلام في كييف. وجاء ذلك على خلفية تراجع حماسة الأميركيين في عهد الإدارة الحالية عن دعم كييف، إذ يتجنب ترامب تأييد أي خطوات تصعيدية قد تؤثر على تقاربه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ، على الرغم من لقائه خلال قمة الناتو الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وعدم اعتراضه على وصف بيان القمة لروسيا بـ"التهديد العابر لضفتي الأطلسي". ويرى رافيئل لوست الخبير في الشؤون الدفاعية أن قمة الناتو في لاهاي أضفت طابعا أوروبيا للحلف، وأطلقت حوارا مهما لإعادة توزيع الأدوار والأعباء داخله، بما ينسجم مع التوجه الأوروبي. لكن شاشانك جوشي محرر الشؤون الدفاعية بصحيفة إيكونوميست البريطانية أصر -خلال حديثه للجزيرة نت- على أن الأوروبيين بحاجة لامتلاك رؤية وخطط واضحة لطبيعة القدرات العسكرية الأميركية التي يستطيعون التخلي عنها أو استبدالها، ووضع جدول زمني محدد لبدء تلك المرحلة الانتقالية. وفي هذا السياق، يحاول الأوروبيون والبريطانيون إيجاد إطار بديل لمظلة "الناتو" لبناء تعاون دفاعي يُمكنهم من حماية الأمن القومي الأوروبي بشكل مستقل. فمنذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وفر حلف الناتو إطارا حافظ على التنسيق العسكري بين الجانبين، في وقت تخففت فيه لندن من التزاماتها بسياسات الدفاع والأمن المشتركة للاتحاد بعد توقيع اتفاق "بريكست". ووقع الاتحاد الأوروبي وبريطانيا قبل أسابيع -في قمة تعد الأولى من نوعها منذ خروج الأخيرة من الاتحاد- اتفاقا دفاعيا يمكن لندن من المشاركة في صندوق الصناعات الدفاعية الأوروبية البالغ قيمته 150 مليار يورو، ويمنح الشركات البريطانية فرصة الانخراط في مشاريع إعادة تأهيل البنية التحتية العسكرية الأوروبية. الشراكة الصعبة تشير صحيفة غارديان البريطانية أن الطموح الدفاعي الأوروبي سيتطلب أيضًا التزاما سياسيا طويل الأمد، وهو ما يواجه تحديا حقيقيا مع الصعود اللافت لليمين الشعبوي في عدد من الدول الأوروبية والذي يتبنى سياسات أكثر انعزالية. وفي الوقت الذي أبدت إسبانيا معارضة صريحة لخطة زيادة الإنفاق الدفاعي لـ5% من ناتجها المحلي، وبدت وكأنها صوت معزول داخل الحلف، لم توار دول أخرى مخاوفها من عدم قدرة ميزانياتها المثقلة بأعباء كثيرة على تلبية أسقف الإنفاق المرتفعة التي فرضها الرئيس الأميركي. وبدوره هدد الرئيس الأميركي بإجبار إسبانيا على الرضوخ للقرار عبر بدء مفاوضات معها، في وقت يخوض مسؤولو إدارته مباحثات مكثفة وصعبة مع الاتحاد الأوروبي بشأن تخفيف الرسوم الجمركية الأميركية التي قد تصل حد 50% على الصادرات الأوروبية إلى الأسواق الأميركية. وأعرب الرئيس الفرنسي عن أمله في أن يستثني ترامب الحلفاء الأوروبيين في حربه التجارية التي أطلقها، مشيرا إلى أن زيادة الانفاق الدفاعي لا يمكن أن تتحقق دون رفع القيود الجمركية الأميركية. ويرى نايك تويني الباحث في السياسات الأمنية بالمركز الأوروبي للسياسات الخارجية -في حديثه للجزيرة نت- أن رفع الإنفاق العسكري لمستوى غير مسبوق ليس بالضرورة الحل الأمثل لردع أي تهديد للأمن الأوروبي، إذ تبرز خشية حقيقية من أن تؤدي الزيادة لتعقيد عمليات إعادة الهيكلة والتأهيل للقدرات العسكرية الأوروبية، وتضع الأوروبيين تحت ضغط مأزق التمويل. ورغم حرص الحلفاء الأوروبيون على ضمان التزام واشنطن بحلف الناتو، حذرت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين من صعوبة التوصل إلى اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة، ودعت إلى تأسيس إطار بديل عن منظمة التجارة العالمية لتسهيل التبادل الحر مع الدول الراغبة، من دون أن تشير صراحة إلى واشنطن. ولاء بريطاني في المقابل، اختار رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر قمة حلف الناتو منصة للإعلان عن اقتناء بلاده 12 طائرة مقاتلة من طراز " إف 35" الأميركية القادرة على حمل رؤوس نووية جوا، في وقت تواصل فيه لندن إعادة هيكلة ترسانتها من الغواصات النووية بشراكة وثيقة مع واشنطن. وفي حين يتجه الرئيس الفرنسي إلى طرح ترسانته النووية مظلة ردع أوروبية مستقلة عن الهيمنة الأميركية، لتوفير الحماية النووية للقارة، يتجنب ستارمر اتخاذ أي مواقف قد تفسر على أنها تحدٍ للتوجهات الأميركية مؤكدًا التزامه بسياسة "عدم التفضيل بين الشركاء". ويشير الخبير بالشؤون الدفاعية روست -في حديثه للجزيرة نت- إلى أن بريطانيا كانت تملك فرصة حقيقية لتوسيع تعاونها النووي مع فرنسا، وتكييف ترسانتي البلدين معًا لتلبية الحاجة الأوروبية لردع مستقل "لكن يبدو أن البريطانيين غير متحمسين لذلك المسار، ويجدون صعوبة في فك ارتباطهم النووي المزمن بالولايات المتحدة".


الجزيرة
منذ 14 ساعات
- الجزيرة
علماء الأمة يطلقون "ميثاق طوفان الأقصى" لتوحيد الموقف الشرعي تجاه جرائم الاحتلال
إسطنبول- أطلق علماء الأمة الإسلامية اليوم الجمعة، "ميثاق علماء الأمة في طوفان الأقصى وتداعياته" في تجمع علماء حاشد عقد في مدينة إسطنبول ، بمشاركة واسعة من كبار العلماء والدعاة من مختلف الدول الإسلامية، إلى جانب مؤسسات علماء من شتى البلدان. ويأتي الحدث ثمرةَ مشاورات موسعة استمرت أشهرا بين مؤسسات إسلامية وعلمية، في ظل استمرار المجازر التي ترتكبها قوات الاحتلال في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الثاني 2023. وشهد المؤتمر حضور عدد من كبار العلماء والدعاة من فلسطين، ومصر، وسوريا، والعراق، وتركيا، والمغرب العربي، واليمن، والسعودية، والسودان، وشرق آسيا، وغيرها، حيث بلغ عدد الهيئات ورابطات العلماء الموقعة على الميثاق 37 هيئة، بينما تجاوز عدد العلماء والشيوخ الموقعين 350 عالما وشيخا من مختلف أنحاء العالم الإسلامي. واجب تجاه فلسطين حصلت الجزيرة نت على نسخة من الميثاق الذي اعتمد رسميا في المؤتمر، وهو وثيقة توجه رسالة للأمة ولعلمائها وحكامها بأن فلسطين، بكامل أراضيها ومقدساتها، هي جزء لا يتجزأ من هوية المسلمين، وأن الجهاد لتحريرها، وفي مقدمتها المسجد الأقصى ، واجب شرعي لا يقبل التنازل. ويؤكد الميثاق أن فلسطين أرض إسلامية، وأن الكيان الصهيوني باطل شرعا وقانونا، ولا يمكن القبول بأي شكل من أشكال التطبيع معه. كما يشدد على أن المقاومة واجب على كل مسلم، وأن الجهاد ضد هذا الاحتلال، هو جهاد دفع لا يتطلب إذنا من الحاكم أو تكافؤا في القوى، بل هو فرض عين على الأمة الإسلامية. وتركز الوثيقة على ضرورة دعم المجاهدين في فلسطين في مختلف الجوانب: النفس، المال، والكلمة، باعتبارهم يمثلون طليعة الأمة في مواجهة الاحتلال. كما تدعو إلى مقاطعة جميع المنتجات والشركات التي تدعم الكيان الصهيوني، مؤكدا أن كل تعاون مع الاحتلال يعد خيانة لقضية فلسطين. ويتناول الميثاق تفصيلاً الواجبات التي تقع على عاتق العلماء والحكام وأفراد الأمة في هذه المعركة المصيرية. إذ يطالب العلماء بتوجيه الأمة نحو الجهاد والتوعية بأهمية دعم المجاهدين، في حين يحمل الحكام المسؤولية الأكبر في قطع العلاقات بالاحتلال الإسرائيلي وتوجيه كافة الإمكانات لصالح المقاومة. أما الأمة، فيشدد عليها بتربية الأجيال الجديدة على قيم الجهاد وحماية المقدسات الإسلامية، داعيا إلى التضامن الكامل مع الشعب الفلسطيني في محنته. وختاما، يؤكد الميثاق، أن معركة طوفان الأقصى هي جزء من صراع مستمر ضد مشروع الاحتلال الصهيوني، وأن الأمة مطالبة بتكثيف تضحياتها في كافة المجالات، بما يتناسب مع التحديات التي فرضها هذا الاحتلال على أرض فلسطين والمقدسات الإسلامية. توحيد الخطاب أكد الدكتور عبد الحي يوسف، رئيس لجنة الميثاق، أن "ميثاق علماء الأمة بشأن طوفان الأقصى وتداعياته" يعكس الاستجابة الطبيعية لدور العلماء في بيان الحق وتوضيحه للأمة، لا سيما في مواجهة ما سماه حملة شرسة يقودها بعض الأشخاص الذين يتنكرون للدين، والذين حاولوا تزييف الحقائق وادعوا أن معركة "طوفان الأقصى" عمل غير مشروع وإرهاب. وأوضح يوسف في حديث للجزيرة نت، أن الميثاق يتكون من خمسة أبواب تبدأ بديباجة توضح المصطلحات التي قد تكون غامضة، مثل الصهيونية، والسردية الصهيونية، والأقصى، وفلسطين، وحدودها وجهاد الدفع والمقاومة، مع توفير تعريفات "جامعة مانعة" لهذه المفاهيم لضمان فهم دقيق من الجميع. وأشار إلى أن الميثاق يهدف إلى ضبط خطاب العلماء في مواجهة التطورات المختلفة. ولفت إلى أن التنسيق بين هيئة علماء فلسطين وبقية الهيئات الإسلامية من مختلف البلدان يتم لضمان أن يظل الخطاب موحدا ومتسقا في جميع القضايا المطروحة، بما فيها الإجابة عن الشبهات التي يروج لها بعضهم، مثل تلك التي تدعي أن تسليم سلاح المقاومة أو القبول بالتهجير هو حقن للدماء، مؤكدا أن هذه الكلمات قد تكون مغلوطة في سياق استخدامها لتحقيق أهداف مشبوهة. وتحدث رئيس لجنة الميثاق عن ضرورة تنسيق خطاب العلماء في الفتاوى في النوازل، مثل تلك التي ظهرت عقب الحرب الإيرانية الصهيونية، التي أدت إلى اضطراب في آراء الناس وتعارض في بعض المواقف. كما أشار إلى أن الميثاق يسعى لإنتاج خطاب علماء موحد يُوزع على المؤسسات العلمية لضمان أن يكون جميع العلماء في العالم الإسلامي على كلمة واحدة. رسائل الميثاق من جانبه، أكد الدكتور نواف التكروري، رئيس هيئة علماء فلسطين، أن الميثاق ليس مجرد بيان عاطفي، بل هو تأصيل علمي شرعي يعكس استجابة دقيقة لما يجري في فلسطين، ويعبر عن موقف الأمة الإسلامية الموحد تجاه العدوان المستمر في غزة. وأضاف أن الميثاق يتناول بالتفصيل أحكام ما جرى ويجري، وما ينبغي أن يحدث وما يجب أن يمنع، ليكون بمثابة مرجعية علمية توضح المواقف الشرعية في هذه القضية الكبرى. وأشار التكروري في حديث للجزيرة نت، إلى أن هذا الميثاق صيغ بتعاون واسع بين أكثر من 35 مؤسسة علمائية و350 عالما من كبار العلماء، حيث يجمع بين تأصيل شرعي للمواقف المختلفة، بعيدا عن التوظيف السياسي والانحياز الإقليمي. وفي حديثه عن الرسائل التي يحملها الميثاق، أكد التكروري، أنه موجه أولا إلى العلماء الذين يجب أن يكونوا في مقدمة المدافعين عن الحق، مؤكدا أن العالم الذي لا ينتصر للمظلوم ويصمت عن الظالم يفرط بالأمانة. كما أشار إلى أن الميثاق يدعو الحكام إلى تحمل مسؤولياتهم الشرعية والسياسية، محذرا من أن التخاذل أمام الجرائم الصهيونية لا يمكن أن يكون مقبولا. كما وجه التكروري رسالة للمفكرين والإعلاميين، مؤكدا أن الدفاع عن غزة ليس خيارا عاطفيا، بل هو موقف حضاري يعيد تعريف العدل والحرية والكرامة. وعن المجاهدين في غزة، شدد التكروري على أن سلاحهم هو سلاح عزة الأمة وكرامتها. وقال إن هذا الميثاق يمثل "خطوة جديدة في العمل العلمي الجماعي"، داعيا جميع علماء الأمة ومؤسساتها للانضمام إلى هذا المسار وتوحيد الجهود لمواجهة مشروع الإبادة الذي يمارسه الاحتلال.