logo
شرطة النووي.. تاريخ إسرائيل في تدمير المفاعلات النووية العربية

شرطة النووي.. تاريخ إسرائيل في تدمير المفاعلات النووية العربية

الجزيرةمنذ 2 أيام
في 24 يونيو/حزيران 2025، نشرت النائبة الجمهورية في الكونغرس، مارجوري تايلور غرين، تغريدة على صفحتها الشخصية على موقع إكس (تويتر سابقًا)، ربطت فيه اغتيال الرئيس الأميركي جون كينيدي بمعارضته للمشروع النووي الإسرائيلي، وطلبه إخضاع مفاعل "ديمونا" للتفتيش الدولي، خوفًا من تحوّله إلى برنامج نووي عسكري.
لمّحت غرين في تغريدتها إلى أن معارضة كينيدي للمشروع النووي الإسرائيلي في الشرق الأوسط كان أحد أسباب اغتياله في عام 1963. ففي حقبة الستينيات، بنت إسرائيل مشروعها النووي في عملية سرية تمامًا لم تطلع أحدًا عليه بما في ذلك الوكالة الدولية للطاقة الذرية (IAEA).
وبينما اتفقت إسرائيل مع فرنسا لبناء مفاعل ديمونة سرًا، خدعت إسرائيل الولايات المتحدة طيلة عقد الستينيات وأخبرتها أنها تبني مشروعًا نوويًا لأهداف سلمية، ولا نية لها لبناء سلاح نووي في المستقبل القريب. لم يكن كينيدي مطمئنًا لنيات الإسرائيليين فأرسل عدة وفود تقنية لمتابعة المشروع النووي الإسرائيلي، إلا أن كافة الوفود تعرضت للتلاعب والخداع من قبل الإسرائيليين.
لكن على قدر الغموض الذي أحاط بالمشروع النووي الإسرائيلي منذ تأسيسه وإلى اليوم، إلا أن بُعدًا واحدًا فيه كان شديد العلنية والوضوح، ويتم التأكيد عليه مرارًا منذ ثمانينيات القرن الماضي؛ ألا وهو أن دولة الاحتلال هي شرطة الذرة في المنطقة، بمعنى أنها لا تسمح لأي دولة في محيطها الإقليمي أن تمتلك سلاحًا نوويًا، ولا ترى أميركا أنه يحق لأي دولة في المنطقة أن تمتلك القدرات النووية اللازمة لتطوير أسلحة نووية سوى دولة الاحتلال.
سُميت هذه المبادئ الإسرائيلية بـ"عقيدة بيغن"، وتجددت هذه العقيدة مع اندلاع الحرب الإسرائيلية-الإيرانية في يونيو 2025، حينما صرح نتنياهو في بداية الحرب أن هدف العملية هو تفكيك القدرات النووية الإيرانية، وكبح قدراتها على تطوير أسلحة نووية، وتدمير البنية التحتية لمشروعها النووي "كي لا تشكل تهديدًا لإسرائيل".
لم تكن هذه الضربة الإسرائيلية لإيران هي الأولى من نوعها للمشاريع النووية في الشرق الأوسط. فقبلها، تحديدًا في سبتمبر 2007، ضربت إسرائيل مفاعل نووي في سوريا بستة عشر طنًا من المتفجرات، كما أنها ناصبت العداء للمشروع النووي الليبي بعدما انتبهت له، وهو المشروع الذي تم تفكيكه في بداية الألفية الثانية. وقبلهما، دمّرت إسرائيل مفاعل العراق النووي في عام 1981م، وتعد تلك الأخيرة اللحظة التأسيسية لما سُمي "عقيدة بيغن" التي صارت حاكمة للاستراتيجية النووية الإسرائيلية في المنطقة منذ تلك اللحظة إلى يومنا هذا.
فما قصة التدخلات الإسرائيلية على المشاريع النووية للمنطقة؟ وكيف تأسست "عقيدة بيغن" وعانت منها المنطقة العربية ولم تسمح لأحد أن يمتلك قوى نووية سوى دولة الاحتلال؟
العملية أوبرا – العراق – مفاعل أوزيراك – 1981م
تعود طموحات العراق النووية إلى الخمسينيات من القرن الماضي، حينما تفاهمت العراق مع الاتحاد السوفياتي لبناء مفاعل بحثي في العراق عام 1959. وتزامنًا مع صعود صدام حسين إلى الحكم، كان مسؤولًا عن الملف النووي كذلك. وفي عام 1975 زار صدام حسين الاتحاد السوفياتي وطلب منهم تطوير برنامجه النووي، إلا أنهم اشترطوا عليه أن يكون البرنامج تحت رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، الأمر الذي قابله صدام بالرفض.
اتجه صدام إلى الغرب باحثًا عن مطوّر لطموحه النووي، ووجد ضالته عند فرنسا في نفس العام، 1975. وقع العراق اتفاقية تعاون نووي مع فرنسا بقيمة 300 مليون دولار (ما يوازي 1.8 مليار دولار تقريبًا بالقيمة الحالية مع حسابات التضخم). تضمنت الصفقة شراء مفاعلين نووين بحثيين، الأول من فئة أوزوريس والثاني من فئة إيزيس، كما تضمنت الصفقة كذلك شراء كميات محدودة من اليورانيوم المخصب، بالإضافة إلى الخبرة التقنية الفرنسية، وتصدير مواد بناء المفاعل، والإشراف الفرنسي على المشروع.
أطلقت فرنسا اسم "أوزيراك" على المفاعل المصدّر للعراق (وهي كلمة تجمع بين أوزيريس والعراق)، بينما سمّاه النظام العراقي "تموز 1″، أما المفاعل الثاني "إيزيس" فقد سمّاه العراق "تموز 2". بدأ بناء المفاعل "أوزيراك" في عام 1979 في مجمع التويثة للأبحاث النووية، على بُعد حوالي 17 كيلومتراً جنوب شرق بغداد. بدورها، ضغطت إسرائيل على فرنسا من أجل منع شحنات اليورانيوم، وتقليل نسبة التخصيب. وبالمقابل، كان الدعم الفرنسي لهذا المشروع حريصًا على إبقاء المشروع النووي العراقي مدنيًا وسلميًا، رغم إن طموح صدام كان أوسع من أهدافه المدنية.
في الحقيقة، ورغم أن فرنسا لم تعلن ذلك صراحة لصدام، إلا أنها تلاعبت باليورانيوم المصدر إلى العراق خشية استغلاله لتطوير أسلحة نووية. ففي وثائق سرية كشف عنها النقاب في عام 2021، أوضحت الوثائق أنه قبل الشروع في بناء "أوزيراك" عام 1979، التقى مسؤولون أميركيون بنظرائهم الفرنسيين ليسائلوهم حول مدى قدرة صدام حسين على تحويل مشروع العراق النووي إلى أسلحة دمار شامل. أكد الفرنسيون للأميركان أن اليورانيوم "تم تعديله كيميائيًا سرًا لجعلها غير صالحة للاستخدام كأسلحة".
بدورها، اعتبرت إسرائيل أن امتلاك العراق لقدرات نووية متقدمة يشكل تهديداً وجودياً لها، خاصة في ظل الخطاب العدائي المتكرر من قبل صدام حسين ضد الكيان الصهيوني. بالإضافة إلى ذلك، كانت إسرائيل تدرك أن نجاح العراق في تطوير برنامج نووي قد يشجع دولاً عربية أخرى على اتباع نفس المسار، مما يقوض التفوق النووي الإسرائيلي في المنطقة.
نجح رونالد ريغان في انتخابات الرئاسة الأميركية أواخر عام 1980، ولم توضع احتواء المشروع النووي العراقي على أجندتها، بينما واصلت فرنسا دعمها النووي للعراق، وجدت إسرائيل نفسها وحيدة في مواجهة المشروع العراقي، ووجدت أن فرصها تتقلص في قمع الطموح النووي العراقي كلما طال به الأمد.
أمام هذا المأزق، قررت إسرائيل ألا تنتظر الولايات المتحدة ولا أوروبا، وقررت ضرب المفاعل النووي العراقي قبل بدء عملية تخصيب اليورانيوم لتجنب التلوث الإشعاعي، لكن، وبحسب ديفيد إيفري، السفير الإسرائيلي الأسبق للولايات المتحدة، لم تكن إسرائيل تملك سوى طائرات F-4 التي لا تستطيع التحليق لمسافة أكثر من 1500 كيلومتر، بينما كانت المسافة الإجمالية للرحلة الجوية ذهابًا وإيابًا من الأراضي المحتلة إلى المفاعل العراقي تتجاوز 2000 كيلومتر، كما إن عمليات التزويد بالوقود في منتصف الرحلة الجوية وأنظمة التتبع الملاحي GPS لم تكن متوفرة في ذلك الوقت، بالإضافة إلى أن الحمولة الكبيرة للمتفجرات لن تمكّن الطائرات تلك من تنفيذ المهمة.
أمام هذه المعضلات التقنية، وفي عام 1980، كما يروي المؤرخ الأسترالي توم كوبر و الباحث في الشؤون الإيرانية فارزاد بيشوب، تواصلت إسرائيل مع النظام الثوري الناشئ في إيران للتنسيق معه حول مواجهة التهديد المشترك لصدام حسين. وبحسب روايتهما، ناقشت إسرائيل ضرب المفاعل النووي العراقي مع النظام الإيراني. وتجاوزت الرغبة الإسرائيلية في ضرب مفاعل العراق الغرف المغلقة والاتصالات الأمنية مع إيران، فبعد اندلاع ال حرب العراقية-الإيرانية ، تحديدًا في 27 سبتمبر/أيلول 1980، حرض يايهوشوا ساجوى Yehoshua Sagi، رئيس استخبارات جيش الاحتلال الإسرائيلي آنذاك، الإيرانيين علنًا على الهجوم، مُعربًا عن دهشته من "عدم محاولة إيران قصف المفاعل النووي العراقي قيد الإنشاء قرب بغداد".
لم يدم انتظار الإسرائيليين طويلًا، ففي 30 سبتمبر/أيلول 1980، انطلقت عملية "السيف المشتعل" من طهران، وانطلقت طائرتان إيرانيتان من طراز فانتوم الأميركية لتقصفا مفاعل أوزيراك النووي. لكن الضربة فشلت في تحقيق أهدافها وتسببت في أضرار جزئية بالمفاعل العراقي فحسب وفي مبانيه الثانوية فقط، فأدركت إسرائيل أن عليها تنفيذ المهمة بنفسها.
لم يكن قرار الحكومة الإسرائيلية برئاسة مناحيم بيغن بتدمير المفاعل النووي العراقي قرارًا سهلًا، بل كما وصفه مسؤولون إسرائيليون بأنه قرار "بطولي وصعب"، لأنه يعرض إسرائيل لتعقيدات ومشاكل دبلوماسية كبيرة من ناحية فرنسا، كونها المستثمر الأكبر في المشروع النووي العراقي، ومع المنطقة العربية من ناحية أخرى كونها بيئة معادية ابتداءً.
كان قرار بيغن جذريًا، وقد أتى بعد عدة محاولات إسرائيلية لتفكيك االمشروع النووي العراقي عدة مرات بالفعل، مرة عبر تخريب معداتٍ مخصصةٍ للمنشأة التي كانت فرنسا على وشك تسليمها للعراق عام 1979. ومرة في عام 1980، حين اغتالت إسرائيل العالم النووي المصري يحيى المشد، الذي كان له دور كبير في المفاعل النووي بالعراق. ومرة عبر وسائل الضغط الدبلوماسية على الفرنسيين ولقف مساعداتهم النووية للعراق، كما تناقشت إسرائيل مع الولايات الأميركية كذلك في الضغط على إيطاليا من أجل وقف تصدير البلوتونيوم إلى العراق.
لكن كل هذه المحاولات أدت إلى تأخير المشروع بضعة أشهر أو سنوات قليلة فحسب، ولم تؤدِّ إلى التفكيك الكامل، وحينها كان قرار بيغن استثنائيًا في تلك الحقبة والأول من نوعه منذ الحرب العالمية الثانية. لكن إذا أرادت إسرائيل تدمير المفاعل العراقي بهجمة جوية، فكيف ستتجاوز المعضلات التقنية للطائرات؟
استطاعت إسرائيل تجاوز هذه الأزمة عندما استغلت فرصة توقيف الولايات المتحدة لشحنة طائرات F-16 كانت موجهة إلى نظام الشاه قبل إسقاطه ، فعرضت أميركا الطائرات على إسرائيل، وقبلت إسرائيل بالصفقة فورًا حتى قبل الإجراءات البيروقراطية المتعارف عليها، وبذلك توفرت لدولة الاحتلال القوة اللازمة لضرب المفاعل العراقي.
وفي السابع من يونيو 1981، قامت إسرائيل بمهاجمة وتدمير مفاعل أوزيراك للأبحاث النووية، باستخدام طائرات F-15 و F-16 الأميركية الصنع لتنفيذ الهجوم. قُتل في الهجوم عشرة عراقيين ومهندس فرنسي. انطلقت المهمة، التي أسمتها العملية أوبرا (واشتهرت بالعملية بابل كذلك)، من قاعدة عتصيون الجوية في صحراء النقب، حيث خرج ثمانية طيارين مقاتلين في منتصف الليل لشن الضربة، حاملين 16 طنًا من المتفجرات، ودمروا المفاعل النووي العراقي. كانت الطائرات الإسرائيلية تحلق على ارتفاعات منخفضة لتجنب الرادارات، وقد استفادت من المجال الجوي السعودي والأردني دون إذن منهما.
أعلنت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إدانتها للهجوم وعلّقت أي تعاون تقني مع إسرائيل، كما أدان مجلس الأمن الهجوم. أما الإدارة الأميركية، فقد أوقفت صفقة F-16 إلى إسرائيل، ثم أعادت العلاقات كما هي بعد بضعة أشهر. بدورها، أبدت السعودية استياءها للولايات المتحدة الأميركية، لأن الطائرات الإسرائيلية تواصلت مع القواعد الأرضية السعودية وخدعتهم بمحاكاة لهجة الأردن وزعموا أنهم أردنيون انحرفوا عن المسار الطبيعي وأنهم في طريقهم للعودة إلى الأردن.
من ناحيتها، استاءت فرنسا من تدمير استثماراتها وتعطيل خطها التجاري مع العراق. منذ بداية التعاون بين فرنسا والعراق، أكّدت الأولى أنها تضمن أن المنشأة النووية التي بنتها للعراق ليست صالحة لإنتاج أسلحة نووية على المدى المتوسط. حتى إنه في عام 2005، علّق ريتشارد ويلسون، أستاذ الفيزياء بجامعة ستانفورد والذي عاين الأضرار الناتجة عن القصف في زيارة للمفاعل عام 1982، قائلًأ: "كان مفاعل أوزيراك الذي قصفته إسرائيل في يونيو/حزيران 1981 مصمماً بشكل واضح من قبل المهندس الفرنسي إيف جيرارد ليكون غير مناسب لصنع القنابل. كان ذلك واضحاً لي خلال زيارتي عام 1982″.
هذا التصريح من خبير نووي معتبر أثار تساؤلات جديدة حول ضرورة الضربة الإسرائيلية ومبرراتها، فما الذي يدفع إسرائيل لهذه المخاطرة وتهديد علاقاتها مع العديد من الدول من أجل ضرب المشروع العراقي؟ يكمن الجواب في نتائج الضربة التي لم تقتصر على العراق فحسب، وإنما أسست لنظام نووي حاكم جديد في المنطقة، سُمي بـ"عقيدة بيغن".
جاءت تسمية هذه العقيدة من التصريحات التي ألقاها رئيس الوزراء الأسبق مناحم بيغن بعد الضربة بأيام، حيث قال في لقاءين منفصلين: "لن نسمح لأي عدو بتطوير أسلحة دمار شامل ضدنا.. سيكون هذا الهجوم سابقة لكل حكومة إسرائيلية قادمة.. سيتصرف كل رئيس وزراء إسرائيلي مستقبلي، في ظروف مماثلة، بنفس الطريقة".
مثلت هذه الهجمة الجوية كانت الأولى من نوعها ضد أي منشأة نووية في العالم منذ الحرب العالمية الثانية. كما إن آثارها السياسية والاستراتيجية لا تزال بصماتها ملحوظة وحية في منطقة الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي ستعاني منه ثم سوريا، ثم حاليًا إيران. لكن الطريق الإسرائيلي إلى ضرب المشروع النووي السوري مرّ أولًا بالمشروع النووي الليبي، ولا يمكن فهم هذا دون ذاك.
تفكيك المشروع النووي الليبي في 2003
رغم إنه لم يكن لإسرائيل دور مباشر في تفكيك المشروع النووي الليبي عام 2003، إلا أنه من أبرز الأحداث في تاريخ منع انتشار الأسلحة النووية، لأنه أسس لما سُمي لاحقًا بـ"النموذج الليبي"، والذي يعنى به تسليم دولة لكافة معادتها وتفكيك مفاعلاتها ومعداتها تحت أعين أميركا ومؤسساتها الدولية، ومنذ ذلك الحين ظل النموذج الليبي هو النموذج الي طالما نادى نتنياهو به في المفاوضات النووية لأميركا مع إيران.
كانت نهاية النموذج الليبي متوقعة ومفاجئة في الآن ذاته، ففي 19 ديسمبر/كانون الأول 2003 أعلن الزعيم الليبي السابق معمر القذافي طوعيا عن تخلي بلاده عن برنامجها النووي السري. ورغم أن المفاوضات كانت جارية بين الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا من جهة، وليبيا من جهة أخرى، إلا أن الإعلان المفاجئ أذهل المسؤولين الغربيين قبل العرب. منذ ذلك الحين، بدأت الوكالات الدولية والمؤسسات الأميركية في الإشراف على تفكيك الأسلحة النووية والكيميائية والصواريخ الباليستية طويلة المدى للدولة الليبية.
يشكل "النموذج الليبي" قصة نجاح للدول الغربية في تفكيك قوة نووية عربية بشكل سلمي. لكن، وبينما تركزت الأضواء على الدور الأميركي والبريطاني في هذا الإنجاز الغربي، إلا أن الدور الإسرائيلي فيه سيمكّننا من فهم دور إسرائيل في ضرب المشروع النووي السوري لاحقًا في 2007.
منذ صعود القذافي للسلطة، بات المشروع النووي أحد أهدافه التي يود تحقيقها على الأراضي الليبية لمواجهة البرنامج النووي الإسرائيلي السري. ورغم إن ليبيا وقعت على معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية عام 1968، وصدقت عليها عام 1975، إلا أن القذافي بدأ في الإعداد سرًا لبناء أسلحة نووية. وبين أعوام 1978م و1981، اشترت ليبيا كميات من اليورانيوم من النيجر، وبنى الاتحاد السوفيتي مفاعل نووي بحثي في ليبيا، واستعان القذافي بمجموعة من الطلبة كان قد أوفدهم إلى باكستان لدراسة العلوم النووية.
لكن مع حادثة الطائرة لوكيربي عام 1988، اشتدت العقوبات الأميركية المفروضة على ليبيا وعملت على حصار وتضييق الطاقات والموارد الليبية، الأمر الذي عطل طموح القذافي النووي. ومع نهاية الحرب الباردة عام 1991 وصعود إدارة كلينتون إلى السلطة، أدرك القذافي أن العقوبات ستقسم ظهر ليبيا، فبدأ القذافي في التقرب من الإدارة الأميركية بغية رفع العقوبات.
وفي 2001، عقب أحداث سبتمبر، أرسلت إدارة بوش الابن رسالة شديدة اللهجة إلى القذافي خاطبته فيها قائلًا: "إما أن تفكك أسلحة الدمار الشامل وإما سيدمرها بوش شخصيًا ويدمر كل شيء بلا نقاش". حينها بدأ النظام الليبي في الرضوخ للمطلب الأميركي وتسريع عملية المفاوضات، لكن المحفز الأكبر لإعلان ليبيا التخلي عن الأسلحة النووية، وفقًا للصحفية الأميركية جوديث ميلير، كان القبض على صدام حسين في ديسمبر 2003، وهو نفسه العام الذي رُفعت فيه العقوبات الأميركية.
طيلة هذه العقود لم تكن إسرائيل شريكًا في التنسيق الاستخباري بين لندن وواشنطن، واستبعد الأميركان والبريطانيين الموساد من الصورة، ورغم تلقي الموساد تقارير سابقة عن نشاط نووي مشتبه به في ليبيا، إلا أن هذه المعلومات "لم تكن كافية لإجراء تقييم استخباراتي دقيق".
وبمجرد إعلان القذافي تخليه عن مشروعه النووي في ديسمبر 2003م، تحرك الموساد على وجه السرعة لسد هذا الفراغ، فتعقب شبكة السوق السوداء الباكستانية لعبد القدير خان، الملقب بـ"أبي القنبلة النووية الإسرائيلية"، وارتباطاتها بليبيا. وفي غضون أيام، أمر رئيس الموساد، أمنون سوفرين، بإجراء مراجعة إقليمية شاملة لأنشطة خان؛ الذي لم يكن نشاطه معتبرًا بقوة داخل الموساد، وحدد الموساد ليبيا وسوريا كأهداف للمراقبة المكثفة.
يمكن القول أن المشروع النووي الليبي، وإن لم يكن للإسرائيليين دورًا مباشرًا فيه، إلا أنه كان كاشفًا عن النقاط العمياء لدى الموساد، وممهدًا لتكثيف نشاط الموساد في سوريا، وهو الأمر الذي سيجني الموساد ثماره مع اكتشافهم للمشروع النووي السوري الذي دمّروه في عام 2007.
شكّل عمى الموساد عن البرنامج النووي الليبي نقطة نظام لإسرائيل. فوفقًا لأمنون صفرين، الرئيس الأسبق لقسم المخابرات العسكرية ، "صُدمت" إسرائيل في 2003 عندما علمت أن النظام الليبي في مرحلة متقدمة من برنامجه النووي بينما لا يعلم الإسرائيليون عنه شيئًا. وحينها تتبع الموساد تحركات عبد القدير خان، وبدأ في تجميع المعلومات حول النظام السوري.
عملية "خارج الصندوق"
لم يكن الموساد في غفلة كاملة عن طموح حافظ الأسد النووي، فخلال عقد التسعينيات، سعى حافظ الأسد إلى شراء مفاعلات نووية بحثية من الأرجنتين ومن روسيا، لكن الضغط الأميركي حال دون إتمام الصفقات. امتلك الموساد منذ 2002 بعض المعلومات الأولية عن وجود مشروع استراتيجي مجهول قد يرقى لمستوى التهديد النووي في سوريا، إلا أن الموساد لم يرَ أن هذه المعلومات كانت تستحق أن يُفرد لها عملية خاصة. لكن بعد "صدمة" القذافي، وتحديدًا في فبراير 2004، أطلق الموساد أول وثيقة تحذر من احتمالية تملك النظام السوري لمشروع نووي، وبدأ التركيز الإسرائيلي في سوريا.
بدأ الموساد في إدراك بعض مواقع المشروع النووي السوري بحلول نهاية عام 2006، كما لاحظ الموساد ازدياد نشاط الكوريين الشماليين في سوريا، إما للتعاون في الترسانة الصاروخية لسوريا، وإما للعلاج في المستشفيات السورية. دخل الموساد سباقًا مع الزمن لتحديد ماهية النشاط النووي، لكنه لم يعرف من أين يبدأ.
عززت بعض الحوادث احتمالية تعاون النظام السوري مع الكوريين الشماليين في بناء أسلحة نووية. فمثلًا في أبريل/نيسان 2004 انفجر قطار في كوريا الشمالية محدثًا آثار ضخمة وقُتل فيه أكثر من 160 إنسانًا، لاحقًا تبين أن القطار تم تفجيره بشكل عمد، ولقى أكثر من عشرة سوريين كانوا يعملون في هيئة الطاقة الذرية السورية حتفهم. وفي يوليو 2007، وقع انفجار بالقرب من حلب قُتل فيه إيرانيون وثلاثة تقنيين على الأقل من كوريا الشمالية.
تحت ضغط الزمن، وفي سبيل اكتشاف موقع المفاعل أو الأسلحة النووية، اضطر الموساد إلى تنفيذ عملية جريئة في فيينا في مارس عام 2007م، و نشرت مجلة نيويوركر في 2012م تقريرًا عن تفاصيل العملية. ففي 2007م كان رئيس هيئة الطاقة الذرية السورية، إبراهيم عثمان، يحضر مؤتمرًا في فيينا لوكالة الطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة، واستغلت وحدة من الموساد حضوره للمؤتمر فاقتحمت غرفته القندقية، واستولت على معلومات وصور سرية من حاسوبه الشخصي، ثم رحلت بلا أثر.
أظهرت الصور للموساد مبنىً غامضاً شُيد في الصحراء يحوي مفاعلاً نووياً مبرداً بالغاز لصناعة البلوتونيوم، وشاركت فيه كوادرٌ من كوريا الشمالية، ومع توارد تقارير الموساد عن زيارات لخبراء كوريين شماليين لموقع الكبار في دير الزور ووجود أعمال بناء مشبوهة هناك، حدد الموساد موقع المفاعل النووي السوري الذي بُني على النمط الكوري الشمالي.
عندما عُرضت المعلومات على رئيس الوزراء الإسرائيلي حينذاك إيهود أولمرت، قرر فورًا تنفيذ "عقيدة بيغن" وضرب المفاعل بضربة جوية مباغتة. جهز الموساد خطته وعرضها على الأميركان، فاختلف الإسرائيليون والأميركان حول خطورة ضرب المفاعل. فبينما أكدت المخابرات الأميركية أن الضربة ربما تشعل حربًا كبيرة في المنطقة، إلا أن تقديرات الموساد طمأنت الأميركان بأن الضربة لن تتسبب في حرب بين سوريا وكيان الاحتلال مادامت الضربة سرية ولم يعلن عنها. لم يعطِ الأميركان الضوء الأخضر لإسرائيل لكنهم لم يمنعوهم كذلك. فهم أولمرت الرسالة ووجه الضربة.
وفي 6 سبتمبر/أيلول 2007، بدأت عملية "خارج الصندوق" (سُميت أيضًا عملية البستان) فانطلقت طائرات إسرائيلية فجرًا ودمّرت المفاعل النووي السوري "كبر" في دير الزور، وقٌتل في الغارة الإسرائيلية 10 تقنيين من كوريا الشمالية، بحسب وسائل إعلام. وللسنوات العشر القادمة، ظلت إسرائيل من ناحية والنظام السوري من ناحية أخرى ترفضان الاعتراف بأي عملية وبأي معلومات حول وجود مفاعل نووي، رغم أن المخابرات الأميركية والوكالة الدولية للطاقة الذرية أقرا لاحقًا بوجود مفاعل نووي في ذلك المكان.
ثم في 2018، أي بعد إحدى عشر سنة من العملية، اعترفت إسرائيل بالعملية. وأكد رئيس أركان الجيش الإسرائيلي آنذاك، غادي إيزنكوت، أن رسالة الهجوم كانت واضحة: تنفيذ عقيدة بيغن كما تم التصريح بها منذ ستة وعشرين عامًا، فقال: "لن تسمح دولة إسرائيل ببناء قدرات تهدد وجودها". وفي 2022م نشر الجيش الإسرائيلي على قناته على موقع يوتيوب وثائقي قصير عن عملية الاستهداف، مكررًا نفس اللهجة التحذيرية لعقيدة بيغن.
لكن لماذا قرر الجيش الإسرائيلي نشر الوثائق والمقاطع المصورة بعد إحدى عشر عامًا من السرية؟ الجواب هو ما كتبه وزير المخابرات الإسرائيلي يسرائيل كاتس على صفحته الشخصية على موقع تويتر حينذاك، فقد صرح في نفس توقيت نشر الوثائق أن إسرائيل قصفت المفاعل النووي السوري منذ 11 عامًا مضت، وأنها لن تسمح لأي دولة مثل إيران أن تمتلك قوة نووية تهدد بها إسرائيل.
وبينما أصدرت عدة جهات دولية إدانات واسعة للهجوم الإسرائيلي على مفاعل أوزيراك في 1981، لم تكن هناك أية إدانات ذات اعتبار حقيقي في 2007، الأمر الذي يشير إلى تحول المزاج الغربي تجاه دولة الاحتلال.
كتبت الضربة الجوية للمفاعل السوري سطرًا جديدًا من سطور "عقيدة بيغن" في المنطقة. فبعدما دمر الإسرائيليون المشروع النووي العراقي عام 1981، وتفكك المشروع النووي الليبي في 2003، وقصفت إسرائيل المفاعل النووي السوري في 2007، لم يتبق لهم سوى إيران، والتي حاولوا بطرق دبلوماسية وأمنية تفكيك مشروعها النووي.
إلا أنه بعد فشل المحاولات الإسرائيلية في احتواء الطموح النووي الإيراني، وإيمانًا بعقيدة بيغن الإسرائيلية، شن نتنياهو حربًا في يونيو 2025 على إيران بهدف أساسي: تفكيك المشروع النووي الإيراني وإنهاء أي خطر على إسرائيل. فطبقًا لعقيدة بيغن، لا يُسمح لأي دولة في المنطقة إلا إسرائيل بتملك السلاح النووي، وهكذا يضمن الغرب التفوق الاستراتيجي لدولة الاحتلال، وتبقى إسرائيل هي شرطة النووي في المنطقة.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

عراقجي: مهتمون بالدبلوماسية وكنا على أعتاب إنجاز تاريخي مع ويتكوف
عراقجي: مهتمون بالدبلوماسية وكنا على أعتاب إنجاز تاريخي مع ويتكوف

الجزيرة

timeمنذ ساعة واحدة

  • الجزيرة

عراقجي: مهتمون بالدبلوماسية وكنا على أعتاب إنجاز تاريخي مع ويتكوف

قال وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي ، اليوم الثلاثاء، إن طهران لا تزال مهتمة بالدبلوماسية، مضيفا أنه و ستيف ويتكوف المبعوث الخاص للرئيس الأميركي دونالد ترامب كانا "على أعتاب إنجاز تاريخي" قبل الحرب الإسرائيلية الإيرانية. وأشاد عراقجي، في مقال نُشر في صحيفة فايننشال تايمز، بجهود ترامب في المفاوضات السابقة، في إشارة جديدة إلى أن المحادثات بشأن البرنامج النووي الإيراني قد تستأنف قريبا. وكتب عراقجي يقول: "في 5 اجتماعات فقط على مدى 9 أسابيع، حققت أنا والمبعوث الأميركي أكثر مما حققته خلال 4 سنوات من المفاوضات النووية مع إدارة (جو) بايدن الفاشلة. كنا على أعتاب إنجاز تاريخي". وأضاف وزير الخارجية الإيراني أن الطرفين كانا على بعد 48 ساعة من اجتماع سادس حاسم عندما شنت إسرائيل غارات جوية استهدفت منشآت نووية إيرانية وبنية تحتية للصواريخ الباليستية في 13 يونيو/حزيران الماضي. وقال عراقجي "لا تزال إيران مهتمة بالدبلوماسية، لكن لدينا أسباب وجيهة للشك في إمكانية إجراء المزيد من الحوار. إذا كانت هناك رغبة في حل هذه المسألة، فعلى الولايات المتحدة أن تُظهر استعدادا حقيقيا لاتفاق عادل". وأضاف أن طهران تلقت رسائل في الأيام القليلة الماضية تشير إلى أن واشنطن ربما تكون مستعدة للعودة للمفاوضات، مؤكدا التزام إيران "ببرنامج نووي سلمي تحت مراقبة الأمم المتحدة باعتبارنا دولة موقعة على معاهدة منع الانتشار النووي". وعن الحرب الإسرائيلية على إيران قال عراقجي "لا ينبغي تفسير التزامنا بالتصرف بمسؤولية لتجنب حرب إقليمية شاملة على أنه ضعف"، وأكد أن " طهران قاومت العدوان بقوة حتى اضطرت إسرائيل إلى الاعتماد على ترامب لإنهاء الحرب التي بدأتها"، مشددا على أن إيران ستهزم أي هجوم عليها في المستقبل. يشار إلى أنه خلال اجتماع في البيت الأبيض مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مساء أمس الاثنين، قال ترامب للصحفيين "حددنا موعدا لمحادثات مع إيران، وهم.. يريدون التحدث". وأكد ترامب للصحفيين رغبته في رفع العقوبات عن إيران في وقت ما. وقال "أود أن أتمكن، في الوقت المناسب، من رفع تلك العقوبات". وبعدها قال ويتكوف إن الاجتماع سيُعقد خلال الأسبوع المقبل أو نحو ذلك. استعداد أوروبي وفي الإطار ذاته، أعلنت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كايا كالاس الثلاثاء عقب محادثة هاتفية مع عراقجي استعداد بروكسل لتسهيل استئناف المفاوضات مع طهران بشأن مستقبل البرنامج النووي الإيراني. وكتبت كالاس، على منصة "إكس"، أنّه في أعقاب الضربات الإسرائيلية والأميركية على إيران فإنّ "استئناف المفاوضات الرامية لإنهاء البرنامج النووي الإيراني ينبغي أن يتمّ في أقرب وقت ممكن"، وكذلك أيضا "التعاون" مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وأكدت مسؤولة السياسة الخارجية أن "الاتّحاد الأوروبي مستعد لتسهيل هذا الأمر"، محذرة من أن "أي تهديد بالانسحاب من معاهدة حظر الانتشار النووي لا يساعد في تخفيف التوترات. هذا ما قلته (لعراقجي) اليوم". وفي وقت سابق اليوم، قال مصدر دبلوماسي فرنسي إنه سيتعين على القوى الأوروبية إعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة على إيران في حال عدم التوصل إلى اتفاق نووي يضمن المصالح الأمنية الأوروبية.

الحوثيون يبثون مشاهد لإغراق السفينة "ماجيك سيز"
الحوثيون يبثون مشاهد لإغراق السفينة "ماجيك سيز"

الجزيرة

timeمنذ ساعة واحدة

  • الجزيرة

الحوثيون يبثون مشاهد لإغراق السفينة "ماجيك سيز"

بث الإعلام الحربي التابع لجماعة الحوثي مشاهد استهداف وإغراق السفينة "ماجيك سيز" في البحر الأحمر بعد هجوم نفّذته الجماعة الأحد الماضي. وقد أعلن الحوثيون مسؤوليتهم عن الهجوم على الناقلة "ماجيك سيز" التي ترفع العلم الليبيري وتديرها شركة يونانية قبالة جنوب غرب اليمن، وقالوا إن السفينة غرقت. وجاء الهجوم بعد توقف دام أشهرا عدة في الهجمات التي ينفذها الحوثيون في اليمن على سفن تجارية يؤكدون أن لها صلة بإسرائيل في الممر المائي الحيوي. وهذه هي المرة الأولى منذ يونيو/حزيران 2024 التي يُقتَل فيها بحارة في هجمات على سفن بالبحر الأحمر، ليرتفع إجمالي قتلى هذه الهجمات إلى ستة. وفي هجوم آخر، قُتل اثنان من أفراد طاقم سفينة "إتيرنيتي سي" التي ترفع العلم الليبيري في هجوم استهدفها في البحر الأحمر مساء الاثنين. وقال مسؤول في عملية "أسبيدس" التابعة للاتحاد الأوروبي، والمكلفة بالمساعدة في حماية حركة الشحن في البحر الأحمر، إن الهجوم على "إتيرنيتي سي" على بُعد 50 ميلا بحريا إلى الجنوب الغربي من ميناء الحُديدة اليمني هو الثاني على سفينة تجارية في المنطقة منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2024. وكانت "إتيرنيتي سي" تُقِل على متنها طاقما يضم 22 فردا، وهم 21 فلبينيا وروسي واحد، قبل تعرضها لهجوم بقوارب مسيّرة وقذائف صاروخية أُطلقت من قوارب سريعة مأهولة.

ترامب وإيران في لحظة حقيقة صعبة.. ماذا لو لم تنجح المفاوضات؟
ترامب وإيران في لحظة حقيقة صعبة.. ماذا لو لم تنجح المفاوضات؟

الجزيرة

timeمنذ ساعة واحدة

  • الجزيرة

ترامب وإيران في لحظة حقيقة صعبة.. ماذا لو لم تنجح المفاوضات؟

بينما يحاول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إضعاف النظام الإيراني تجنبا لفوضى عارمة قد تجتاح المنطقة حال إسقاطه، فإنه يضع الخيار الثاني كبديل في حال لم يتمكن من تحقيق أهدافه على ما يبدو. فما زال ترامب يستخدم تصريحات متناقضة بشأن مستقبل التعامل مع طهران، وهي طريقة يحاول من خلالها تعقيد قدرة الإيرانيين على اتخاذ القرار، كما يقول محللون سياسيون يرون أن الدبلوماسية بين البلدين تواجه لحظة صعبة. ففي حين لم يتوقف ترامب لحظة عن تأكيد تدمير البرنامج النووي الإيراني بل ومحوه من خلال الضربات التي أمر بها الشهر الماضي، فإنه أيضا يتحدث عن مفاوضات قد تكون قريبة مع الإيرانيين ويقول إنه يريد لهم الازدهار والسلام. لكن الإيرانيين الذين تحدثوا عن إمكانية التفاوض مع الولايات المتحدة مجددا لم يعطوا خطوطا واضحة ولا مواعيد محددة لهذا التفاوض، الذي ترفضه كتل إيرانية وازنة بعدما شارك الأميركيون في قصف منشآت بلادهم النووية، كما يقول أستاذ دراسات الشرق الأوسط في جامعة طهران الدكتور حسن أحمديان. وقد أشارت صحيفة " واشنطن بوست" الأحد الماضي إلى أن الإيرانيين "يرسلون إشارات بأنهم قد يكونون مستعدين لاستئناف المفاوضات النووية لكن بشروط خاصة". ونقلت الصحيفة عن السفير الأميركي السابق لدى تل أبيب، دانيال شابيرو، أن ترامب ونتنياهو "يواجهان لحظة حقيقية من الاحتمالات، ونأمل أن يغتنما الفرصة". غير أن الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان، تعرض لانتقادات حادة من الصحف المحلية عندما تحدث -أمس الاثنين- عن استعداد بلاده للتفاوض. ويرى أحمديان أن هذه الانتقادات تؤكد أن إيران "تتحدث عن المفاوضات كفكرة عامة، لكنها لم ترسل إشارات حقيقية على نيتها العودة للتفاوض الذي أصبح جدوله معقدا ومتشعبا على نحو لا تقبله العقلية الإيرانية". فالرئيس الأميركي يحاول جلب طهران إلى ما يعتبره سلاما في المنطقة ويتحدث عن تطبيع سياسي واقتصادي معها، لكن أحمديان يعتقد أن الهدف النهائي هو جعل إيران بلدا منزوع القوة والنفوذ، ويقول إن الإيرانيين "لن يتفاوضوا على هذين الأمرين اللذين أوقفا حربا حضارية كانت تستهدف تدميرها بشكل كامل". وعلى هذا الأساس، يرى أحمديان أن إيران لا تعلن مغادرة طاولة الدبلوماسية نهائيا لكنها في الوقت نفسه تطلب ضمانات وجدولا واضحا يضمن لها الاحتفاظ بقوتها وعدم شن حرب جديدة عليها بينما هي تخوض المفاوضات. وما يزيد من تمسك إيران بهذا المطلب أن المواجهة العسكرية الأخيرة أكدت أن واشنطن هي صاحبة قرار الحرب وليست إسرائيل، كما يقول أحمديان. وقال ترامب للصحفيين إن الولايات المتحدة حددت موعدا للتفاوض مع إيران، وإنه حريص على تخفيف العقوبات المفروضة على إيران حتى تتمكن من إعادة بناء اقتصادها. كما قال مبعوثه للمنطقة ستيف ويتكوف إن اجتماعا سيعقد خلال الأسبوع المقبل تقريبا. كما قالت طهران إنها تلقت رسائل أميركية بالرغبة في التفاوض، وإن أولويتها إنهاء العقوبات والتعاون الاقتصادي مع واشنطن. لكن "وول ستريت جورنال" نقلت عن مسؤولين إسرائيليين هذا الأسبوع أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو (المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية) سيحاول الحصول من ترامب على حرية تحركه عسكريا ضد طهران في حال حاولت استئناف تخصيب اليورانيوم. إدارة الصراع واستنادا لهذه المؤشرات المتناقضة، يعتقد الباحث الأول في مركز الجزيرة للدراسات الدكتور لقاء مكي أن ترامب يحاول إضعاف النظام الإيراني والاستثمار في هذا الضعف اقتصاديا وسياسيا، لأنه يعرف أن إسقاطه سينتهي بفوضى عارمة في المنطقة تريدها إسرائيل. غير أن هذه الفوضى التي يحاول ترامب تجنبها لن تمنعه من السعي لإسقاط النظام الإيراني في حال رفض الانصياع لمطالبه؛ لأن الولايات المتحدة تحاول إدارة الصراع مع إيران وليس التوصل لهدنة معها، كما يقول مكي. وقد نقلت "فايننشال تايمز" عن مسؤول أميركي سابق أمس الاثنين أن ترامب يحاول الظهور بمظهر الرئيس الذي حقق الاستقرار في الشرق الأوسط لكن ما يريده يتطلب جمع إسرائيل وإيران وحركة المقاومة الإسلامية (حماس) على طاولة واحدة. وترى الصحيفة أن بعض تصورات ترامب كانت ارتجالية ولم تحقق أي نجاح، ونقلت عن دينيس روس، الذي شغل مناصب رفيعة في قضايا الشرق الأوسط في إدارات جمهورية وديمقراطية، أن الرئيس الأميركي "لا يمتلك إستراتيجية متكاملة، لكنه يستغل ما فعلته إسرائيل عسكريا". ولعل هذا ما جعل الإيرانيين حريصين على حصر العداء في إسرائيل دون الولايات المتحدة وذلك لأنهم لا يريدون إغضاب ترامب ويحاولون تهيئة الداخل للتفاوض مع البلد الذي قصف منشآتهم النووية قبل أسابيع قليلة، كما يقول مكي. فالنظام الإيراني يتسم بالبراغماتية وتقديم التنازلات التكتيكية من أجل العودة للمسار الأول مستقبلا، وفق مكي، الذي لفت إلى أن البراغماتية قد تكون مضرة في بعض الأحيان. واتفق أحمديان مع فكرة سعي إيران للفصل بين الولايات المتحدة وإسرائيل ومحاولة استغلال التفاوض لتوسيع هوة الخلاف بينهما، لكنه يصف هذا السلوك بـ"الساذج"، ويقول إنه "لن يحقق أي مكاسب". لكن هناك من يعتقد أن ترامب يريد التوصل لاتفاق ما مع إيران لتعويض فشله في أوكرانيا وقطاع غزة، ومن هؤلاء مسؤول الاتصالات السابق في البيت الأبيض مارك فايفل، الذي يقر بأحقية الإيرانيين بطلب ضمانات قبل أي تفاوض. ويتمثل التحدي الأكبر لهذه المفاوضات التي يحاول ترامب إحياءها في أن إيران حصلت على ضمانات سابقة بعدم تحرك إسرائيل ضد منشآتها النووية ثم وجدت نفسها في مواجهة ضربة مفاجئة شاركت فيها أميركا نفسها. ولم ينكر فايفل تضرر قدرة إيران على تخصيب اليورانيوم بعد الضربة الأميركية، لكنه قال إنهم قادرون على استئناف العمل مجددا وهذا ما يجعل ترامب راغبا في التفاوض لمنع هذا التحرك مستقبلا. لكن هدف ترامب النهائي والمتمثل في دمج إيران في النظام السياسي والاقتصادي العالمي على غرار سوريا، يعني أنه يحاول تدجينها في نهاية المطاف، ومن هنا يمكن القول إن قرار الإيرانيين النهائي قد يكون مرتبطا بموقف روسيا والصين تحديدا من أي حرب مستقبلية، لأن تخلي الصين تحديدا عنهم يعني أن عليهم القبول بالمعروض عليهم الآن.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store