logo
لا وجود لـ"مهدي منتظر" في تونس

لا وجود لـ"مهدي منتظر" في تونس

الجزيرةمنذ 2 أيام

يتحرك المشهد السياسي في تونس اليوم، على وقع "مبادرات" سياسية تُطلق بين الفينة والأخرى، تتخذ لها عنوانًا جذّابًا، هو "توحيد القوى الوطنية، لاستعادة الديمقراطية"، التي أُقيمت جنازتها يوم 25 يوليو/تموز 2021، فيما يُعرف بـ"انقلاب" الرئيس قيس سعيّد على مسار الانتقال الديمقراطي، بمنظومته الحزبية والسياسية والبرلمانية والإعلامية والدستورية.
بداية هذه المبادرات، انطلقت من "جبهة الخلاص الوطني"، التي دعت منذ الأيام الأولى لـ"انقلاب 25 يوليو/ تموز"، إلى ضرورة توحيد المعارضة على قاعدة "المشتركات الوطنية"، من أجل استئناف المسار الديمقراطي، واستعادة الحريات، واستكمال بناء "الدولة الوطنية الجديدة"، على قيم المواطنة والمصالح القومية، وإعادة هيكلة أركان الدولة، التي تضررت – في تقدير الجبهة – بمسار الاستبداد خلال عقود طويلة، وخاصة خلال السنوات الخمس الماضية، بما يعزز مناعتها، بالاستناد إلى المنظومة الديمقراطية، التي انبجست من رحم الثورة التونسية، ومخرجاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
كانت مبادرة (الجبهة)، بمثابة صرخة في وادٍ سحيق، فالمكونات الحزبية والسياسية، كانت – في جلّها – قد شقّت طريقها في بحر الانقلاب سَرَبًا، ممنّية النفس بالحصول على جزء من "الكعكة" الجديدة، وقد شجعت الرئيس التونسي، في السرّ والعلن، على القيام بالانقلاب، ولاحقًا على تصفية أهمّ خصم لها، وهو (حركة النهضة)، والمكوّن الرئيسي لجبهة الخلاص الوطني، التي تتضمن قوى وشخصيات وفعاليات يسارية ومستقلة.
لم تيأس الجبهة من هاجس توحيد القوى السياسية لمناهضة الانقلاب، وكرّرت دعوتها ثانية، فور انطلاق عمليات الاعتقال والمحاكمات السياسية، محذّرة من أنّ ما يجري، بمثابة تمشيط "للشجرة التي تغطي الغابة"، وأنّ بقيّة القوى معنية بعملية الإقصاء والاستهداف.. لكنّ الجواب كان سريعًا: "لا يمكن أن نجلس مع حركة النهضة، المسؤول الأول عن "العشرية السوداء"، كما يقولون..".
وتم رفض المبادرة، في ضوء سيلان لعاب الحكم والغنيمة السياسية لدى هؤلاء الرافضين.
مبادرات سياسية
غير أنّ رياح الانقلاب، التي جاءت لكنس كل التجربة الديمقراطية، دون أيّ تمييز أو محاباة، وما تكشّف لاحقًا، من "إجهاز" السلطة على كل المكتسبات، ضمن حالة "تدمير شاملة"، لأسس الدولة الديمقراطية، والانتكاسة الكبرى في مجال الحريات والحقوق، والمحاكمات التي أظهرت وثائقها، خلوّها من اتهامات حقيقية للمعتقلين من كلّ الأطياف السياسية، كما تقول هيئة الدفاع عنهم، جعل كل ذلك الساحة السياسية، تتحرك من جديد، بعد أن أيقنت أطرافها، أنّ ما يجري، لا يمكن أن يكون "تصحيحًا"، أو "إعادة بناء"، أو "تحريرًا وطنيًا"، كما تقول "منظومة الانقلاب"، لذلك كان لا بدّ من ردّ الفعل، الذي سيأتي ضمن مبادرتين أساسيتين:
الأولى، قادها "الحزب الدستوري الحرّ"، سليل حزب الرئيس الراحل المخلوع، بن علي، الذي أطلق "مبادرة سياسية جامعة للمؤمنين بالدولة المدنية"، كما عنْوَنها، ونظّم من أجلها، ندوة سياسية (5 مايو/ أيار المنقضي)، شاركت فيها شخصيات يسارية وقومية وأكاديمية، ولفيف من المثقفين، الذين كانوا جزءًا من الحكم قبل ثورة 14 يناير/ كانون الثاني 2011، لمناقشة تفاصيل هذه المبادرة، والتوصل إلى "صيغة تجميعية"، للقوى السياسية المتماهية مع حزب عبير موسي، وخلفيتها وتاريخها، وسجلّ مواقفها خلال السنوات السبع الماضية، عندما بدأت عملية ترذيل الانتقال الديمقراطي، وشيطنة الأحزاب والبرلمان الذي أنتجته منظومة ما بعد الثورة التونسية، رغم أنها صعدت للمشهد السياسي والبرلماني بفعل هذه المنظومة وتشريعاتها.
بالطبع، لم يصدر عن هذه الندوة، أيّ وثيقة أو بيان يعكس إجماع الحضور حولها، أو حتى اعتبارها نواة أساسية لمشروع تجميع جديد. بل إنّ عددًا من الشخصيات الأكاديمية والسياسية المعروفة، أكدت في تصريحات إعلامية لافتة، أنها حضرت لكي تستمع للمبادرة، وليست طرفًا فيها، أو داعمة لها، وهو ما أعلن عنه كلّ من وزير التعليم السابق، ناجي جلول، والدكتور في علم الاجتماع، المولدي القسومي، وأستاذ القانون الدستوري في الجامعة التونسية، أمين محفوظ، أحد أعضاء اللجنة المصغرة التي كتبت الدستور البديل لنص 2014، قبل أن يُلقي به الرئيس قيس سعيّد، في سلة المهملات لاحقًا.
أما المبادرة الثانية، فقد أعلنتها كل من "رابطة حقوق الإنسان"، و"منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية"، من خلال الدعوة إلى "مؤتمر وطني للحقوق والحريات من أجل دولة ديمقراطية".. وقد انعقد المؤتمر، بحضور أطياف أيديولوجية، هي النسخة المعدّلة، من تلك الأطراف التي رفضت مبادرة (جبهة الخلاص)، منذ الأيام الأولى للانقلاب.
ورغم صدور بيان ختامي عن المؤتمر، فإنّ مخرجات المبادرة، لم تكن سوى إعادة إنتاج لمكونات سياسية يسارية، مدعومة من المنظمة النقابية (الاتحاد العام التونسي للشغل)، التي تخفّت خلف المبادرة، خشية إغضاب السلطة، الغاضبة منها أصلًا، نظرًا لأدوارها ومواقفها، وما يتردد عن ملفات الفساد فيها، تلك التي ترتبط بقيادات وفروع وشخوص نقابية معروفة، كما تروّج أطراف قريبة من السلطة.
اللافت للنظر هنا، أنّ جزءًا من الذين شاركوا في هذا المؤتمر، لا يُخفون أنّ اتحاد الشغل، كان بمثابة "غرفة العمليات" لهذه المبادرة، فقد خرجت من أروقته، ووقع تدعيمها بكلّ ثقلِ الاتحاد، الذي بدا وكأنه "يتموضع" في المشهد القادم، بعد عملية التهرئة التي حصلت له من سلطة الرئيس قيس سعيّد، بشكل بات يخشى من أيّ تحرك، يمكن أن يفتح عليه باب القضاء على مصراعيه.
والنتيجة العملية لهاتين المبادرتين، هي الفشل في تشكيل منتظم سياسي معارض للسلطة، وقادر ــ من ثمّ ــ على "إنتاج" بديل للحكم الراهن، بالوسائل القانونية والدستورية، وبالأساليب النضالية المعروفة في كلّ الديمقراطيات، العريقة منها والناشئة..
ولسائل أن يسأل في هذا السياق: لماذا فشلت جميع هذه المكونات في التوصل إلى صيغة تجميعية موحدة لمن يُفترض أنهم جميعًا، ضدّ منظومة الحكم الحالية؟
أربعة أسباب رئيسية
يمكن اختزال هذه الأسباب في العناصر التالية:
1- أنّ أصحاب المبادرتين، ونعني هنا، "الحزب الدستوري الحرّ"، و"رابطة حقوق الإنسان"، ومن شاركهما الاجتماعات التي عُقدت، كانوا أول المصفقين لانقلاب 25 يوليو/ تموز 2021، بل شكّلوا في البداية، حزامه الداعم لكلّ مقولاته ومعجمه السياسي والقانوني، ولعبوا دورَ ما يشبه "الناطقين الرسميين" باسمه في الداخل والخارج.
وبالتالي، لم يكن من الممكن الرهان على أطراف تقول الشيء ونقيضه، وتتلون بمواقف حدّية، لا ضابطَ ولا أفقَ سياسيًا ديمقراطيًا لها.. لقد صمت هؤلاء جميعًا على عملية تفتيت التجربة الديمقراطية التونسية الناشئة، فكيف يمكن أن يتحولوا بين عشية وضحاها إلى دعاة للديمقراطية والحريات؟!.. كما يعلّق مراقبون.
2- أنّ هؤلاء، كانوا "عود الكبريت" في عملية شيطنة الانتقال الديمقراطي، بل لعبوا أدوارًا خطيرة، في إفشال الأفق الثوري التونسي الجديد، وقد كتب الأمين العام السابق للاتحاد العام التونسي للشغل، حسين العباسي -الذي كان لاعبًا أساسيًا في تلك العشرية-، ليُشير بوضوح في كتابه: "تونس والفرص المهدورة"، الصادر قبل فترة، إلى أنّ المنظمة النقابية و"الطيف التقدمي" في البلاد، لعبا دورًا مهمًا في تعطيل "الترويكا الحاكمة (بين 2012 و2014)، ومنعها من تحقيق أيّ منجز اجتماعي واقتصادي، قائلًا في هذا السياق: "لقد عطّلنا أعمالهم ومساعيهم، وتحركنا في كلّ الاتجاهات، لمنعهم من تحقيق أيّ شيء"، كما جاء في نص الكتاب، وأعاده في تصريحات إذاعية عديدة.
كان الاتحاد العام التونسي للشغل وقتها، حاضنة لكامل الطيف المعارض لما يُسمى "الإسلام السياسي"، ممثلًا في حركة النهضة، والعباسي كان الأمين العام للمنظمة، وهو الذي قاد سيناريو تغيير الحكومة سنة 2014، وإفشال التجربة برمتها، إلى حدّ أن البعض اعتبر "جائزة نوبل" التي حصل عليها الاتحاد العام التونسي للشغل مع منظمة رجال الأعمال ورابطة حقوق الإنسان، التي عُرفت بالثالوث "الراعي للحوار الوطني"، بمثابة الجزاء على توقيع نهاية الانتقال الديمقراطي، وبداية العودة التدريجية للمنظومة القديمة (ما قبل الثورة)، التي ستجد في الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، ثم قيس سعيّد، الترجمة العملية لاستئناف "حالة الاستبداد" التي عادت أدراجها منذ يوليو/ تموز 2021.
فكيف يكون "طابور الخراب" بالأمس، كما يُسميه البعض، مهندس البناء اليوم؟ وكيف يتسنّى لمن عطّل الديمقراطية، أن يتحول إلى لاعب أساسي فيها، لا سيما أنه لم يُقدّم مراجعات عن "أفعاله" التي ارتكبها خلال الفترة الماضية؟ وهل يمكن استئناف الديمقراطية بأحزاب وشخصيات، "لا ديمقراطية"، كما يتساءل قسم واسع من السياسيين والإعلاميين والمثقفين اليوم؟
3- إنّ هذا الطيف من الأحزاب والمنظمات والنقابات، التي ترفض تشريك بعض الأطراف السياسية في "مبادرات إنقاذ وطني"، لم تُصدر حتى الآن، أيّ مراجعة لمواقفها المتقلبة، ولأدوارها التي يصفها بعض النقاد بـ"المشبوهة"، ولم تُعلن عن أخطائها التي ارتكبتها في حقّ التجربة الديمقراطية.
وبالتالي ليست ــ في تقدير كثيرين ــ مؤهلة لمطالبة غيرها بالمراجعات، حتى تنزل من أعلى الشجرة، وتُبرهن عن رغبتها في وحدة وطنية حقيقية، وليست مغشوشة.
4- إنّ أيّ محاولة إقصاء لأيّ طرف أو فصيل سياسي، في إطار مبادرات "الإنقاذ الوطني"، التي يتم التسويق لها، تُفقِد هذه المبادرات، وطنيتها، وتجعلها مجرّد "هرطقة" سياسية مخاتلة، ستزيد في صبّ الزيت على حالة الانقسام المجتمعي والسياسي السائدة حاليًا منذ أكثر من 5 سنوات، بصورة أضرّت بالتجربة التونسية، بل بالبلاد برمتها، وبمستقبل الأجيال القادمة.
هكذا فشلت المبادرتان، وأكدتا أنّ كل مسعى يتخذ هذا المسلك الأعرج، سبيلًا للخروج من الأزمة السياسية الراهنة، وتوحيد المعارضة على قاعدة الإقصاء، ستكون نتيجته ومآله إلى غياهب التاريخ.
فتاريخ الشعوب لا تكتبه الأحقاد والتصفيات السياسية، وسجلات الماضي البغيض، كما تُبيّن تجارب عديدة قريبة من أفقنا الجيوسياسي، على غرار جنوب أفريقيا ورواندا، وإسبانيا ما بعد فرانكو، وغيرها من التجارب في أنحاء كثيرة من العالم.
"فيتو" تونسي خاص
المثير في هذا السياق، أنّ نظام الحكم الحالي، مستفيد من حالة التشظّي والتشرذم السياسي للمعارضة، ورغم أنّه لم يتدخل لصناعة "معارضة الموالاة"، كما فعل صنوه، الرئيس الراحل بن علي، وعمل على استبعاد هؤلاء الذين صفقوا طويلًا لانقلابه، فإنّ المعارضة، لم تخرج من "جلباب" الرؤية القديمة، التي تُقسم المشهد السياسي، بعقل طائفي، ومعجم الحروب الأهلية، وثقافة التخوين، واضعة شروطًا لا عقلانية ولا سياسية لكلّ عملية توحيد ممكنة، بما جعلها تُساهم في تثبيت أركان "الانقلاب"، الذي تتكثف أزماته الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية، فضلًا عن المشكلات الهيكلية صلب فلسفة النظام الجديد، وبنيته القانونية والتشريعية.
ومع اقتراب فصل الصيف، من المنتظر ــ وفقًا للتقاليد السياسية التونسية المتعارف عليها ــ تأجيل المعركة السياسية، و"موضة" المبادرات السياسية.
لا وجود "لمهديٍّ منتظر" في المشهد التونسي، فترذيل الزعامات السياسية على امتداد الاثني عشر عامًا الماضية، آتى أكله اليوم، وفقدت أحزاب وشخصيات اعتبارية مصداقيتها لسبب أو لآخر، بما يجعل (مبادرات التوحيد)، ومساعي الحوار الوطني، الذي يقوم على الإقصاء والإبعاد والتصفية السياسية، كمن يجدّف في الصحراء.
ويخشى ملاحظون كثر، أن يكون النظام التونسي، الذي كان سببًا في هذه الأزمة وتداعياتها، هو الملجأ للمعارضة، للخروج من المأزق السياسي، كما بدأ يدعو البعض إلى ذلك، بوضوح لا مشاحة فيه، وتلك لعمري، من مفارقات المشهد السياسي التونسي المعقّد، إذ كلما تنافرت المعارضة وتشرذمت، واستمرت في حساباتها الخاطئة، تقترب أكثر فأكثر من الحلّ الذي لا يستبعد الحكم، بصرف النظر عمّن يتزعمه.
إنه "فيتو" تونسي خاص: لا حلّ للأزمة السياسية، واستئناف الديمقراطية، من خارج الدولة والفاعلين الرئيسيين العقلانيين فيها.. فهل للمعارضة رأي آخر؟!

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الجيوبولتكس: من نظريات "قلب الأرض" إلى مبادرات "الحزام والطريق" وصراعات الهيمنة
الجيوبولتكس: من نظريات "قلب الأرض" إلى مبادرات "الحزام والطريق" وصراعات الهيمنة

الجزيرة

timeمنذ 13 ساعات

  • الجزيرة

الجيوبولتكس: من نظريات "قلب الأرض" إلى مبادرات "الحزام والطريق" وصراعات الهيمنة

يتردد مصطلح "الجيوبولتكس"، والصفة منه "جيوسياسي"، كثيرا في الدراسات الأكاديمية، والتحليلات، والتعليقات الإعلامية. وقد أصبح من المألوف مؤخرا وصف منطقة أو سياسة أو نزاع أو أزمة بأنها جيوسياسية، أو تفسير تحولات وتغيرات معينة بأنها تعود لأسباب جيوسياسية. ومع أن هذا الاستعمال المكثف يشير إلى أهمية الجيوبولتكس، فإن بعض استخداماته قد ترتبط أو لا ترتبط بمعناه الحقيقي، مما يستدعي فهما أعمق لهذا المفهوم. لقد نشأ هذا المصطلح وتطور حقله المعرفي منذ أواخر القرن الـ19 والنصف الأول من القرن الـ20 في الغرب، ثم عاد حضوره بقوة منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم. ومع ذلك، لم تظهر أدبيات عربية كافية تناقش أصوله ومفاهيمه، وتعرف القارئ بتطبيقاته، وتحدد المعنى المقصود بـ"الجيوسياسي" بصورة دقيقة. وفي هذا السياق، جاء كتاب "الجيوبولتكس: النظريات والإستراتيجيات والتطبيقات"، لمؤلفه الدكتور عماد قدورة، والصادر حديثا في مايو/أيار 2025 عن دار نشر جامعة قطر، ليقدم معالجة شاملة للموضوع من جوانبه النظرية والفكرية كافة، وليحلل انعكاساته على السياسات التي نشهد آثارها اليوم. View this post on Instagram A post shared by QU Press (@qu_press) الجيوبولتكس: نظريات وتطبيقات يوضح المؤلف في البداية مفهوم الجيوبولتكس في ضوء كثرة التعريفات واتجاهات فهمه من زوايا مختلفة، فاعتمد مفهوما عمليا يوضح الغاية منه مباشرة. فالجيوبولتكس يبحث في كيفية تعزيز قوة الدولة وتأثيرها من خلال تصورات طموحة لدورها في الخارج، استنادا إلى فهم الواقع السياسي والعوامل الجغرافية والموارد الطبيعية، وتوظيفها في سياسات نشطة إقليميا ودوليا. وقد درس الدكتور قدورة النظريات المؤسسة للجيوبولتكس، وتناولها بطريقة منهجية متدرجة في 7 فصول. بدأ كل منها بتوضيح النشأة الاجتماعية والسياق السياسي للمفكرين المساهمين فيها ومسيرتهم العلمية والمهنية، ثم عرض نظرياتهم ومفاهيمهم. ومن أبرز هؤلاء المفكرين: فردريك راتزل، ورودولف كيلين، وألفريد ماهان، وهالفورد ماكيندر، وأشعيا باومان، وكارل هاوسفر، ونيكولاس سبايكمان. ومن بين هذه النظريات: النظرية العضوية لنمو الدولة، ونظرية "المجال الحيوي" للتوسع، وفكرة "الفضاء الجيوسياسي الكبير" و"المتصور" للدولة الكبرى، ومفهوم "المناطق الشاملة" لتصور الهيمنة العالمية، ونظرية القوة البحرية وأسسها وشروطها للتفوق الخارجي، إضافة إلى نظريتي "قلب الأرض" و"حافة المحيط" والمعادلات الجيوسياسية المرتبطة بهما، التي تستهدف السيطرة على العالم أو احتواء المنافسين. كما ناقش المؤلف أيضا الأفكار الجيوسياسية الحديثة التي تم تطويرها لتلبية حاجات الدول، وذلك ضمن 6 فصول أخرى شملت: الجيوبولتكس الأميركي، والجيوبولتكس الروسي، والجيوبولتكس الصيني، والجيوبولتكس الألماني، والجيوبولتكس الفرنسي، والجيوبولتكس البريطاني. وفي هذه الفصول، تناول الإستراتيجيات الحالية السائدة والمشهد الجيوسياسي الراهن في العالم، محللا مفاهيم مؤثرة في سياسات اليوم، من أبرزها: "الأوراسية الجديدة"، و"الحزام والطريق"، و"الاستقلال الذاتي الإستراتيجي الأوروبي"، و"الاحتواء الجديد"، وغيرها. كما ناقش أفكار مفكرين وسياسيين مؤثرين مثل: هنري كيسنجر، وزبيغنيو بريجنسكي، وكولين جراي، وجيوفري سلون، وشاؤول كوهين، وبيرت تشابمان، وإيف لاكوست، وألكسندر دوغين، وغيرهم. وخصص المؤلف جزءا من الكتاب لما يعرف بـ"الجيوبولتكس النقدي"، الذي ظهر في عصر انتشار الشبكات والروابط، وأولى أهمية لعناصر بديلة ومتعددة: اقتصادية، وثقافية، واجتماعية. ويهدف هذا الاتجاه إلى نقد ممارسات الجيوبولتكس الكلاسيكي. وقد درس المؤلف معظم الأشكال الجديدة المنبثقة عن الجيوبولتكس النقدي، مثل: الجيوبولتكس الشعبي، والجيوبولتكس التقدمي، ومناهضة الجيوبولتكس، وجيوبولتكس ما بعد الاستعمار، وغيرها. ورغم أن الكتاب أشار إلى أهمية هذه الأشكال في فتح نقاشات جديدة ضمن مجال الجيوبولتكس عموما، فإنه قدم أيضا نقدا علميا لها، خاصة أنها لم تقدم بدائل واضحة، ولا تتصور سياسات عملية محددة. مراجعة نقدية للمعادلات الكلاسيكية على هامش موضوعات الكتاب الأساسية التي تحتاج إلى قراءة مفصلة من الكتاب نفسه، يمكن الإشارة إلى ملاحظات متفرقة تظهر من السمة العامة لنهج الكتاب، الذي سعى ليكون تحليليا ومقارنا، وليس معلوماتيا فقط. إذ لم يسلم المؤلف بالأنماط التقليدية السائدة عن بعض نظريات الجيوبولتكس، والتي قد يكون بعضها غير دقيق أحيانا، بل درس الموضوع اعتمادا على قراءته المفصلة لأدبيات المؤسسين وسياقاتهم السياسية، وحلل دوافعهم، فأعاد تفسير بعض تلك المقولات وفق دلالاتها الصحيحة، وبنهج يربطها بالواقع الراهن وتطوراته. فعلى سبيل المثال، استفاضت النظريات الجيوسياسية في التركيز على نوع القوة من أجل تحقيق النصر، أكانت برية أم بحرية. وركز كثير من الباحثين لاحقا على الموضوع كأن هناك اتجاها مضادا للاتجاه الآخر. لكن هذا الكتاب فسر الموضوع بطريقة مختلفة، فبين أن ألفريد ماهان رأى أن مصلحة الولايات المتحدة الأميركية تكمن في القوة البحرية، لكنه لم يتجاهل أهمية القواعد البرية لتلك القوة. وهو الاستنتاج نفسه لهالفورد ماكيندر، الذي قيل إنه منظر القوة البرية، بينما ركز في الواقع على أهمية القوة البرية، ودعا في الوقت نفسه إلى توظيف القوة البحرية البريطانية والأميركية، إضافة إلى قوة فرنسا البرية، لمواجهة القوى البرية التي قد تسيطر على أوراسيا. والأهم من ذلك، أن نيكولاس سبايكمان رأى أن مزيجا من العوامل يؤثر في الاختيار، فاعتبر أن أي قوة تكون أقوى في لحظة الصراع، وفي المنطقة التي يدور فيها الصراع، ستكون هي المنتصرة (سواء أكانت برية أم بحرية أم جوية أم مزيجا منها). بمعنى أن الأولوية لمستوى القوة الأفضل، وطبيعة المكان الذي تدور فيه الحرب، وامتلاك القوة التي تلائم ميدان المعركة. كما اشتهر الجيوبولتكس ببعض العبارات التي اختزلته أحيانا، مثل معادلة: "من يسيطر على أوروبا الشرقية يحكم قلب الأرض. ومن يسيطر على قلب الأرض يحكم جزيرة العالم. ومن يسيطر على جزيرة العالم يحكم العالم"، وكذلك المعادلة المعدلة منها: "من يتحكم في حافة المحيط يحكم أوراسيا. ومن يحكم أوراسيا يتحكم في مصائر العالم". فبدلا من أن ينطلق المؤلف من هذه "المسلمات"، فإنه تعامل معها كإحدى نتائج أعمال ماكيندر وسبايكمان، وليست أصل تفكيرهما أو هدفهما النهائي. لذا أوضح كيفية تناول كل منهما الأحداث السياسية والمناطق الجغرافية، وكيفية وضع تصوراتهما الجيوسياسية لحل مشكلة ما، مثل أفول إمبراطورية بريطانيا أو حث الولايات المتحدة على التدخل في العالم، وهو ما أوصلهما إلى تلك المعادلتين. وفند الكتاب الاتجاه السائد الذي يرى أن هاتين المعادلتين تعدان وصفة لـ"السيطرة على العالم"، وذهب بدلا من ذلك إلى أنهما يجب أن تفهما بروحهما ومعناها العام، أي إنهما تعنيان أهمية امتلاك القوة والنفوذ للصعود عالميا وللتأثير في دول ومناطق أخرى. أوراسيا والاحتواء الجديد وعلى الرغم من اشتهار مصطلح "قلب الأرض" أو "الهارتلاند" في الجيوبولتكس للإشارة إلى مركزية منطقة "أوراسيا"، فلا يرى الكتاب أن ذلك يعني بالضرورة أنها مركز الأرض أو أنها حصرا المنطقة المركزية الإستراتيجية، بل يجب أن تفهم بالمعنى الجيوسياسي الديناميكي. فقد تكون هناك أهمية مماثلة لمناطق أخرى. في الزمن المعاصر الذي تغيرت فيه مراكز الثقل، وتعددت فيه مفاهيم القوة ومقوماتها وطرائقها: البرية، والبحرية، والجوية، والفضائية، والصاروخية، والإلكترونية، والمعلوماتية… وغيرها، يمكن اعتبار مناطق أخرى ذات أهمية إستراتيجية ومركزية. ورغم ذلك، لا تزال منطقة أوراسيا تمثل مكانا بارزا للتنافس بوصفها تقع ما بين القوة الشرقية الآسيوية الأوروبية الرئيسية المتمثلة في روسيا، وبين القوى الغربية الأوروبية والأميركية التي لا تزال تعتبر منطقة أوروبا الشرقية وحتى أوكرانيا ذات أهمية في توازن القوى مع روسيا. كما أن مفهوم "الاحتواء الجديد" الذي تتبعه الولايات المتحدة حاليا تجاه روسيا والصين من خلال تقوية التحالفات مع دول محيطة بهما، مثل اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية والفلبين والهند وبولندا ودول بحر البلطيق وغيرها، لا يعني بالضرورة، بحسب قدورة، إحياء حرفيا لسياسة الاحتواء التقليدية، ولا اتباعا تاما لنظرية سبايكمان "حافة المحيط". فلكل فترة زمنية سياقها الخاص وظروفها المختلفة. فالاحتواء التقليدي إبان الحرب الباردة ركز على منع انتشار الأيديولوجيا الشيوعية وسقوط أنظمة بتأثير الاتحاد السوفياتي، وكانت توصيات منظره جورج كينان تنصب على استخدام وسائل غير عسكرية. أما اليوم، فوسائل الضغط العسكرية والسياسات الاقتصادية والعقوبات هي السائدة في التنافس والمواجهة، وليست الأيديولوجية بالضرورة. لكن لا شك في أن فكرة الاحتواء بعمومها لا تزال تنهل من بعض أفكار سبايكمان وبريجنسكي بشأن أوراسيا وروسيا، ومن أفكار ماهان بشأن السيادة في البحار عند تعلق الأمر باحتواء الصين حاليا في منطقة المحيطين الهندي-الهادي. الجيوبولتكس ومفاهيمه المجاورة وهناك جزء لافت في الكتاب لم يحظ بمناقشة وافية فيما سبق من أدبيات، وهو العلاقة الجدلية بين الجيوبولتكس والجيوستراتيجية والجغرافيا السياسية، فهناك خلط واضح بينها في استعمالات الباحثين. بالنسبة إلى مصطلح الجيوستراتيجية، فقد لجأ قدورة إلى استقصاء معمق ليصل إلى استنتاجات بشأن الفرق بينه وبين الجيوبولتكس، حيث راجع نحو 20 موسوعة وقاموسا متخصصا، و25 مرجعا أصليا لمؤسسي الجيوبولتكس، وعشرات الكتب والدراسات التي ورد في عنوانها أو أحد محاورها مصطلح الجيوستراتيجية، وخلص إلى أنه، على العكس من الجيوبولتكس الذي تعرف نشأته وتطوره وأدبياته ومفكروه، فإن الجيوستراتيجية افتقد لأي أدبيات مؤسسة له، ولم يعرف مفكرون متخصصون فيه، ولا توجد نظريات له. وبين المؤلف أن هذا المصطلح هو جزء من الجيوبولتكس يتعلق بجانب الحرب أو الشؤون العسكرية. أما الجغرافيا السياسية، فخلص إلى أنها أشمل من الجيوبولتكس، لأن الأخير تطور منها، لكنها توسعت كثيرا حتى صارت وحدة التحليل فيها تتجاوز الدولة إلى فواعل كثيرة، بينما ظل الجيوبولتكس يركز على سياسة الدولة فقط. وبينما تبحث الجغرافيا السياسية في كل الدول محليا ودوليا، صغيرها وكبيرها، وتقدم وصفا جغرافيا للدول والمناطق بحيادية، يركز الجيوبولتكس على الدولة النشطة على المستويين الإقليمي والعالمي، وعلى التوظيف الفعال للعوامل الجغرافية في سياستها انطلاقا من أجندة الأمن القومي. وتعامل قدورة مع نظريات الجيوبولتكس ومفاهيمه من منظور جديد يتعلق باستمرار صلاحية بعضها، وليس بوصفها تخص الماضي الذي نشأت فيه فقط. فعلى سبيل المثال، طورت نظرية منطقة "قلب الأرض" في عام 1919، وظلت تفاصيلها حاضرة في التنافس بين الغرب والاتحاد السوفياتي في القرن الـ20، لكنها تتمثل اليوم في محاولات توسيع حلف الناتو والاتحاد الأوروبي باتجاه الشرق لضم أوكرانيا التي تقع في قلب تلك المنطقة. وتفسر هذه النظرية بعض المخاوف الروسية التي دفعتها إلى حرب أوكرانيا منذ عام 2022. أما نظرية "حافة المحيط" التي ظهرت في عام 1944، فقامت سياسة الاحتواء طوال الحرب الباردة على أساسها، أي حتى عام 1990، لكنها أصبحت تشكل ركيزة فكرية في التحالفات التي تقودها الولايات المتحدة لتطويق روسيا وعزلها منذ ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014 حتى الآن، وكذلك في الاحتواء الجديد للصين. وعلى العكس من ذلك، أشار المؤلف إلى أن بعض المفاهيم الجيوسياسية الجديدة تنهل من الإرث القديم للدول. فمثلا، قد تمثل مبادرة "الحزام والطريق" إستراتيجية لاستعادة "مركزية" الصين القديمة، وطريقة حديثة لجعل مصالح العالم تتمحور حولها. كما قد يمثل مفهوم "الاستقلال الذاتي الإستراتيجي الأوروبي" الذي يروج له حاليا في ألمانيا وفرنسا، وبخاصة بعد عودة دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة، امتدادا للمفاهيم الجيوسياسية مثل "مركزية ألمانيا" و"هيبة فرنسا العالمية". أما مفهوم "الأوراسية الجديدة"، فلعله يمثل استعادة جديدة للتصور الجيوسياسي التقليدي حول حضارة البر الشرقية في مقابل حضارة البحر الغربية، ووصفة لاستعادة عظمة روسيا ودورها العالمي. نحو وعي جيوبوليتكي مستقل أخيرا، أوضح المؤلف في نهاية الكتاب الموقف الذي يتعين أن يتخذ من الجيوبولتكس، فهو لا يرى إهماله بسبب سوء استخدام بعض الدول له، بل يرى أن يدرس بصورة مستقلة ومحايدة وموضوعية، لأنه مثل المعارف الأخرى يمكن استخدامها في الخير والشر. وأشار إلى مثال استخدمه عدد من مؤسسي الجيوبولتكس، وهو أن ما يسعون لتحقيقه من نظرياتهم الجيوسياسية ينبع من قيم "الحرية" و"العدالة" و"السلام". لكنه أوضح أن مقاربة هؤلاء لهذه القيم السامية تختلف بحسب زاوية النظر ومعنى هذه القيم، وكيفية تحقيقها، فضلا عن تداخلها مع مصالحهم الذاتية. لذا، انطلقت تصورات بعضهم من منظورهم الخاص، ومن مصالح بلدانهم تحديدا، وبنهج يقوم على استخدام القوة والوسائل التي تكفل استمرار الهيمنة والنفوذ، وليس المصلحة العامة ولا "تمدين الآخر" بالضرورة. وبناء عليه، يخلص الكتاب إلى أنه يتعين التعامل مع الجيوبولتكس بدراسة متأنية لموضوعاته ونظرياته، وفهم طريقة تفكير القوى الكبرى في بناء القوة، ومن ثم بناء القوة الذاتية وبناء العلاقات والتحالفات وتعزيز التأثير في الخارج، لكن من دون عدوان أو اقتفاء أثر تلك القوى في تحديد ماهية الخير والشر، ولا تعريفها الذاتي للحرية والديمقراطية والسلام، ولا لطريقة تنفيذ سياساتها التي تقوم غالبا على الإكراه والقسر، والتي تترتب عليها تكاليف باهظة على الدول الأصغر والأضعف.

لا وجود لـ"مهدي منتظر" في تونس
لا وجود لـ"مهدي منتظر" في تونس

الجزيرة

timeمنذ 2 أيام

  • الجزيرة

لا وجود لـ"مهدي منتظر" في تونس

يتحرك المشهد السياسي في تونس اليوم، على وقع "مبادرات" سياسية تُطلق بين الفينة والأخرى، تتخذ لها عنوانًا جذّابًا، هو "توحيد القوى الوطنية، لاستعادة الديمقراطية"، التي أُقيمت جنازتها يوم 25 يوليو/تموز 2021، فيما يُعرف بـ"انقلاب" الرئيس قيس سعيّد على مسار الانتقال الديمقراطي، بمنظومته الحزبية والسياسية والبرلمانية والإعلامية والدستورية. بداية هذه المبادرات، انطلقت من "جبهة الخلاص الوطني"، التي دعت منذ الأيام الأولى لـ"انقلاب 25 يوليو/ تموز"، إلى ضرورة توحيد المعارضة على قاعدة "المشتركات الوطنية"، من أجل استئناف المسار الديمقراطي، واستعادة الحريات، واستكمال بناء "الدولة الوطنية الجديدة"، على قيم المواطنة والمصالح القومية، وإعادة هيكلة أركان الدولة، التي تضررت – في تقدير الجبهة – بمسار الاستبداد خلال عقود طويلة، وخاصة خلال السنوات الخمس الماضية، بما يعزز مناعتها، بالاستناد إلى المنظومة الديمقراطية، التي انبجست من رحم الثورة التونسية، ومخرجاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. كانت مبادرة (الجبهة)، بمثابة صرخة في وادٍ سحيق، فالمكونات الحزبية والسياسية، كانت – في جلّها – قد شقّت طريقها في بحر الانقلاب سَرَبًا، ممنّية النفس بالحصول على جزء من "الكعكة" الجديدة، وقد شجعت الرئيس التونسي، في السرّ والعلن، على القيام بالانقلاب، ولاحقًا على تصفية أهمّ خصم لها، وهو (حركة النهضة)، والمكوّن الرئيسي لجبهة الخلاص الوطني، التي تتضمن قوى وشخصيات وفعاليات يسارية ومستقلة. لم تيأس الجبهة من هاجس توحيد القوى السياسية لمناهضة الانقلاب، وكرّرت دعوتها ثانية، فور انطلاق عمليات الاعتقال والمحاكمات السياسية، محذّرة من أنّ ما يجري، بمثابة تمشيط "للشجرة التي تغطي الغابة"، وأنّ بقيّة القوى معنية بعملية الإقصاء والاستهداف.. لكنّ الجواب كان سريعًا: "لا يمكن أن نجلس مع حركة النهضة، المسؤول الأول عن "العشرية السوداء"، كما يقولون..". وتم رفض المبادرة، في ضوء سيلان لعاب الحكم والغنيمة السياسية لدى هؤلاء الرافضين. مبادرات سياسية غير أنّ رياح الانقلاب، التي جاءت لكنس كل التجربة الديمقراطية، دون أيّ تمييز أو محاباة، وما تكشّف لاحقًا، من "إجهاز" السلطة على كل المكتسبات، ضمن حالة "تدمير شاملة"، لأسس الدولة الديمقراطية، والانتكاسة الكبرى في مجال الحريات والحقوق، والمحاكمات التي أظهرت وثائقها، خلوّها من اتهامات حقيقية للمعتقلين من كلّ الأطياف السياسية، كما تقول هيئة الدفاع عنهم، جعل كل ذلك الساحة السياسية، تتحرك من جديد، بعد أن أيقنت أطرافها، أنّ ما يجري، لا يمكن أن يكون "تصحيحًا"، أو "إعادة بناء"، أو "تحريرًا وطنيًا"، كما تقول "منظومة الانقلاب"، لذلك كان لا بدّ من ردّ الفعل، الذي سيأتي ضمن مبادرتين أساسيتين: الأولى، قادها "الحزب الدستوري الحرّ"، سليل حزب الرئيس الراحل المخلوع، بن علي، الذي أطلق "مبادرة سياسية جامعة للمؤمنين بالدولة المدنية"، كما عنْوَنها، ونظّم من أجلها، ندوة سياسية (5 مايو/ أيار المنقضي)، شاركت فيها شخصيات يسارية وقومية وأكاديمية، ولفيف من المثقفين، الذين كانوا جزءًا من الحكم قبل ثورة 14 يناير/ كانون الثاني 2011، لمناقشة تفاصيل هذه المبادرة، والتوصل إلى "صيغة تجميعية"، للقوى السياسية المتماهية مع حزب عبير موسي، وخلفيتها وتاريخها، وسجلّ مواقفها خلال السنوات السبع الماضية، عندما بدأت عملية ترذيل الانتقال الديمقراطي، وشيطنة الأحزاب والبرلمان الذي أنتجته منظومة ما بعد الثورة التونسية، رغم أنها صعدت للمشهد السياسي والبرلماني بفعل هذه المنظومة وتشريعاتها. بالطبع، لم يصدر عن هذه الندوة، أيّ وثيقة أو بيان يعكس إجماع الحضور حولها، أو حتى اعتبارها نواة أساسية لمشروع تجميع جديد. بل إنّ عددًا من الشخصيات الأكاديمية والسياسية المعروفة، أكدت في تصريحات إعلامية لافتة، أنها حضرت لكي تستمع للمبادرة، وليست طرفًا فيها، أو داعمة لها، وهو ما أعلن عنه كلّ من وزير التعليم السابق، ناجي جلول، والدكتور في علم الاجتماع، المولدي القسومي، وأستاذ القانون الدستوري في الجامعة التونسية، أمين محفوظ، أحد أعضاء اللجنة المصغرة التي كتبت الدستور البديل لنص 2014، قبل أن يُلقي به الرئيس قيس سعيّد، في سلة المهملات لاحقًا. أما المبادرة الثانية، فقد أعلنتها كل من "رابطة حقوق الإنسان"، و"منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية"، من خلال الدعوة إلى "مؤتمر وطني للحقوق والحريات من أجل دولة ديمقراطية".. وقد انعقد المؤتمر، بحضور أطياف أيديولوجية، هي النسخة المعدّلة، من تلك الأطراف التي رفضت مبادرة (جبهة الخلاص)، منذ الأيام الأولى للانقلاب. ورغم صدور بيان ختامي عن المؤتمر، فإنّ مخرجات المبادرة، لم تكن سوى إعادة إنتاج لمكونات سياسية يسارية، مدعومة من المنظمة النقابية (الاتحاد العام التونسي للشغل)، التي تخفّت خلف المبادرة، خشية إغضاب السلطة، الغاضبة منها أصلًا، نظرًا لأدوارها ومواقفها، وما يتردد عن ملفات الفساد فيها، تلك التي ترتبط بقيادات وفروع وشخوص نقابية معروفة، كما تروّج أطراف قريبة من السلطة. اللافت للنظر هنا، أنّ جزءًا من الذين شاركوا في هذا المؤتمر، لا يُخفون أنّ اتحاد الشغل، كان بمثابة "غرفة العمليات" لهذه المبادرة، فقد خرجت من أروقته، ووقع تدعيمها بكلّ ثقلِ الاتحاد، الذي بدا وكأنه "يتموضع" في المشهد القادم، بعد عملية التهرئة التي حصلت له من سلطة الرئيس قيس سعيّد، بشكل بات يخشى من أيّ تحرك، يمكن أن يفتح عليه باب القضاء على مصراعيه. والنتيجة العملية لهاتين المبادرتين، هي الفشل في تشكيل منتظم سياسي معارض للسلطة، وقادر ــ من ثمّ ــ على "إنتاج" بديل للحكم الراهن، بالوسائل القانونية والدستورية، وبالأساليب النضالية المعروفة في كلّ الديمقراطيات، العريقة منها والناشئة.. ولسائل أن يسأل في هذا السياق: لماذا فشلت جميع هذه المكونات في التوصل إلى صيغة تجميعية موحدة لمن يُفترض أنهم جميعًا، ضدّ منظومة الحكم الحالية؟ أربعة أسباب رئيسية يمكن اختزال هذه الأسباب في العناصر التالية: 1- أنّ أصحاب المبادرتين، ونعني هنا، "الحزب الدستوري الحرّ"، و"رابطة حقوق الإنسان"، ومن شاركهما الاجتماعات التي عُقدت، كانوا أول المصفقين لانقلاب 25 يوليو/ تموز 2021، بل شكّلوا في البداية، حزامه الداعم لكلّ مقولاته ومعجمه السياسي والقانوني، ولعبوا دورَ ما يشبه "الناطقين الرسميين" باسمه في الداخل والخارج. وبالتالي، لم يكن من الممكن الرهان على أطراف تقول الشيء ونقيضه، وتتلون بمواقف حدّية، لا ضابطَ ولا أفقَ سياسيًا ديمقراطيًا لها.. لقد صمت هؤلاء جميعًا على عملية تفتيت التجربة الديمقراطية التونسية الناشئة، فكيف يمكن أن يتحولوا بين عشية وضحاها إلى دعاة للديمقراطية والحريات؟!.. كما يعلّق مراقبون. 2- أنّ هؤلاء، كانوا "عود الكبريت" في عملية شيطنة الانتقال الديمقراطي، بل لعبوا أدوارًا خطيرة، في إفشال الأفق الثوري التونسي الجديد، وقد كتب الأمين العام السابق للاتحاد العام التونسي للشغل، حسين العباسي -الذي كان لاعبًا أساسيًا في تلك العشرية-، ليُشير بوضوح في كتابه: "تونس والفرص المهدورة"، الصادر قبل فترة، إلى أنّ المنظمة النقابية و"الطيف التقدمي" في البلاد، لعبا دورًا مهمًا في تعطيل "الترويكا الحاكمة (بين 2012 و2014)، ومنعها من تحقيق أيّ منجز اجتماعي واقتصادي، قائلًا في هذا السياق: "لقد عطّلنا أعمالهم ومساعيهم، وتحركنا في كلّ الاتجاهات، لمنعهم من تحقيق أيّ شيء"، كما جاء في نص الكتاب، وأعاده في تصريحات إذاعية عديدة. كان الاتحاد العام التونسي للشغل وقتها، حاضنة لكامل الطيف المعارض لما يُسمى "الإسلام السياسي"، ممثلًا في حركة النهضة، والعباسي كان الأمين العام للمنظمة، وهو الذي قاد سيناريو تغيير الحكومة سنة 2014، وإفشال التجربة برمتها، إلى حدّ أن البعض اعتبر "جائزة نوبل" التي حصل عليها الاتحاد العام التونسي للشغل مع منظمة رجال الأعمال ورابطة حقوق الإنسان، التي عُرفت بالثالوث "الراعي للحوار الوطني"، بمثابة الجزاء على توقيع نهاية الانتقال الديمقراطي، وبداية العودة التدريجية للمنظومة القديمة (ما قبل الثورة)، التي ستجد في الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، ثم قيس سعيّد، الترجمة العملية لاستئناف "حالة الاستبداد" التي عادت أدراجها منذ يوليو/ تموز 2021. فكيف يكون "طابور الخراب" بالأمس، كما يُسميه البعض، مهندس البناء اليوم؟ وكيف يتسنّى لمن عطّل الديمقراطية، أن يتحول إلى لاعب أساسي فيها، لا سيما أنه لم يُقدّم مراجعات عن "أفعاله" التي ارتكبها خلال الفترة الماضية؟ وهل يمكن استئناف الديمقراطية بأحزاب وشخصيات، "لا ديمقراطية"، كما يتساءل قسم واسع من السياسيين والإعلاميين والمثقفين اليوم؟ 3- إنّ هذا الطيف من الأحزاب والمنظمات والنقابات، التي ترفض تشريك بعض الأطراف السياسية في "مبادرات إنقاذ وطني"، لم تُصدر حتى الآن، أيّ مراجعة لمواقفها المتقلبة، ولأدوارها التي يصفها بعض النقاد بـ"المشبوهة"، ولم تُعلن عن أخطائها التي ارتكبتها في حقّ التجربة الديمقراطية. وبالتالي ليست ــ في تقدير كثيرين ــ مؤهلة لمطالبة غيرها بالمراجعات، حتى تنزل من أعلى الشجرة، وتُبرهن عن رغبتها في وحدة وطنية حقيقية، وليست مغشوشة. 4- إنّ أيّ محاولة إقصاء لأيّ طرف أو فصيل سياسي، في إطار مبادرات "الإنقاذ الوطني"، التي يتم التسويق لها، تُفقِد هذه المبادرات، وطنيتها، وتجعلها مجرّد "هرطقة" سياسية مخاتلة، ستزيد في صبّ الزيت على حالة الانقسام المجتمعي والسياسي السائدة حاليًا منذ أكثر من 5 سنوات، بصورة أضرّت بالتجربة التونسية، بل بالبلاد برمتها، وبمستقبل الأجيال القادمة. هكذا فشلت المبادرتان، وأكدتا أنّ كل مسعى يتخذ هذا المسلك الأعرج، سبيلًا للخروج من الأزمة السياسية الراهنة، وتوحيد المعارضة على قاعدة الإقصاء، ستكون نتيجته ومآله إلى غياهب التاريخ. فتاريخ الشعوب لا تكتبه الأحقاد والتصفيات السياسية، وسجلات الماضي البغيض، كما تُبيّن تجارب عديدة قريبة من أفقنا الجيوسياسي، على غرار جنوب أفريقيا ورواندا، وإسبانيا ما بعد فرانكو، وغيرها من التجارب في أنحاء كثيرة من العالم. "فيتو" تونسي خاص المثير في هذا السياق، أنّ نظام الحكم الحالي، مستفيد من حالة التشظّي والتشرذم السياسي للمعارضة، ورغم أنّه لم يتدخل لصناعة "معارضة الموالاة"، كما فعل صنوه، الرئيس الراحل بن علي، وعمل على استبعاد هؤلاء الذين صفقوا طويلًا لانقلابه، فإنّ المعارضة، لم تخرج من "جلباب" الرؤية القديمة، التي تُقسم المشهد السياسي، بعقل طائفي، ومعجم الحروب الأهلية، وثقافة التخوين، واضعة شروطًا لا عقلانية ولا سياسية لكلّ عملية توحيد ممكنة، بما جعلها تُساهم في تثبيت أركان "الانقلاب"، الذي تتكثف أزماته الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية، فضلًا عن المشكلات الهيكلية صلب فلسفة النظام الجديد، وبنيته القانونية والتشريعية. ومع اقتراب فصل الصيف، من المنتظر ــ وفقًا للتقاليد السياسية التونسية المتعارف عليها ــ تأجيل المعركة السياسية، و"موضة" المبادرات السياسية. لا وجود "لمهديٍّ منتظر" في المشهد التونسي، فترذيل الزعامات السياسية على امتداد الاثني عشر عامًا الماضية، آتى أكله اليوم، وفقدت أحزاب وشخصيات اعتبارية مصداقيتها لسبب أو لآخر، بما يجعل (مبادرات التوحيد)، ومساعي الحوار الوطني، الذي يقوم على الإقصاء والإبعاد والتصفية السياسية، كمن يجدّف في الصحراء. ويخشى ملاحظون كثر، أن يكون النظام التونسي، الذي كان سببًا في هذه الأزمة وتداعياتها، هو الملجأ للمعارضة، للخروج من المأزق السياسي، كما بدأ يدعو البعض إلى ذلك، بوضوح لا مشاحة فيه، وتلك لعمري، من مفارقات المشهد السياسي التونسي المعقّد، إذ كلما تنافرت المعارضة وتشرذمت، واستمرت في حساباتها الخاطئة، تقترب أكثر فأكثر من الحلّ الذي لا يستبعد الحكم، بصرف النظر عمّن يتزعمه. إنه "فيتو" تونسي خاص: لا حلّ للأزمة السياسية، واستئناف الديمقراطية، من خارج الدولة والفاعلين الرئيسيين العقلانيين فيها.. فهل للمعارضة رأي آخر؟!

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store