
بماذا سيرد لبنان على الورقة الأمريكية؟
الكلام الذي قاله الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم قبل ساعات لم يترك مجالاً للشك في أن الحزب يرفض تسليم سلاحه، بل يعتبر مجرد طرح الفكرة «سذاجة سياسية» تتجاهل موقع الحزب ودوره. ووفق معلومات متقاطعة، فإن حزب الله أبلغ من يعنيهم الأمر أنه لا حاجة إلى اتفاق جديد، بل يجب على المجتمع الدولي والدول الراعية لاتفاق وقف إطلاق النار إلزام إسرائيل تطبيق الاتفاق القائم منذ 2006.
لكن المثير للتوقف، هو أنه رغم التصعيد الواضح في نبرة الحزب، فإن الاحتمال مفتوح بأن يُسلّم مجدداً «المهمة التفاوضية» إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري، تماماً كما فعل في ملف ترسيم الحدود البحرية، ثم في مفاوضات وقف إطلاق النار، إذ ترك التفاصيل والصياغات لبري، مقابل احتفاظه بحق الفيتو أو التراجع التكتيكي عند الحاجة. وهو ما يُحتمل أن يتكرر اليوم في ملف سلاحه، ولو بصورة غير معلنة.
وفي هذا الوقت، تُستكمل على عجل عملية إعداد الرد اللبناني الرسمي على الورقة الأمريكية، وسط سباق بين الضغوط الخارجية والحسابات الداخلية المعقدة. ومن المتوقع أن يتم تسليم الرد إلى المبعوث الأمريكي فور وصوله إلى العاصمة اللبنانية، (الإثنين).
أما براك فقد مهّد لزيارته المرتقبة برسالة سياسية نشرها عبر منصة «إكس»، اليوم (السبت)، قال فيها: «اللحظة المناسبة قد حانت الآن ليتجاوز لبنان الطائفية التي حكمت الماضي... حان الوقت لتنفيذ الوعد الحقيقي في لبنان بوطن واحد وشعب واحد وجيش واحد». وهذه الرسالة لم تمر مرور الكرام، وأُدرجت في سياق ضغوط أمريكية غير مباشرة لحصر السلاح بيد الدولة والجيش، كشرط أساسي لأي دعم دولي مستقبلي.
في المقابل، لم تُخفِ إسرائيل امتعاضها من الورقة الأمريكية، إذ كشفت صحيفة «معاريف» اليوم، تفاصيلها، وأفادت بأنها تتضمن اقتراحاً أمنياً يقوم على انسحاب الجيش الإسرائيلي من النقاط الخمس التي دخلها في الأراضي اللبنانية، مقابل التزام الجيش اللبناني بتفكيك مواقع حزب الله شمال الليطاني.
وبحسب الصحيفة، فإن التنفيذ سيكون متدرجاً وعلى مراحل متقابلة، على أن تنتهي العملية خلال ستة أشهر، بحيث لا يبقى أي جندي إسرائيلي على الأراضي اللبنانية، ويُلغى الوجود العسكري لحزب الله في المسافة بين الليطاني وبيروت.
الورقة بحد ذاتها تعكس تصوراً أمريكياً لتسوية تدريجية تنتهي بنزع السلاح، حتى لو لم يُذكر المصطلح صراحة. لكن ما يثير القلق داخلياً، هو ما إذا كان الرد اللبناني سيكون واضحاً وحاسماً، أم أنه سيحمل من الغموض ما يكفي لإبقاء كل طرف على موقفه، وبالتالي دوران لبنان في الحلقة نفسها التي دفعته إلى الانهيار: شلل سياسي، تعطيل للإعمار، وحصار اقتصادي دولي.
ويبقى السؤال: هل يملك لبنان صيغة وطنية موحدة لمعالجة سلاح حزب الله؟ أم أن الرد المنتظر يوم الإثنين سيكون صيغة «دون طعم أو لون أو رائحة»، وقد يفتح الباب أمام مزيد من الإرباك وتراكم الخسائر؟.
الأيام القادمة وحدها ستكشف المدى الذي يمكن أن تبلغه هذه الورقة.. وهل فعلاً حانت لحظة القرار الكبير؟!
أخبار ذات صلة
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق الأوسط
منذ 34 دقائق
- الشرق الأوسط
الترمبية... أنا المسرح والبطل والضوء
تربك السياسات الخارجية للرئيس الأميركي دونالد ترمب أهم عواصم العالم. خصومه يرونه خطراً لا يمكن التنبؤ بتصرفاته، وحلفاؤه لا يثقون باستمرارية التزامه. فالرجل لا يتحرك ضمن خرائط مألوفة، بل يرسم خرائطه الخاصة على إيقاع غرائزه السياسية، وموازين القوى التي يفكك ألغازها بحدسه قبل أن يقرأها في ضوء تقارير الاستخبارات، وملخصات مستشاريه. هو رجل صفقات، لكنه لا يخشى الحروب الخاطفة إن ضمن أن القوة تسرِّع الإقرار بشروطه. يقود وفق قاعدة «أميركا أولاً»، لكن من دون انعزالية. يريد أميركا الموصولة مع العالم، لا المعزولة عنه. من أفريقيا وصراعاتها وثرواتها، إلى أوروبا وتلكئها بشأن مسؤولياتها الأمنية، إلى الشرق الأوسط وسياسات التنمر المتبادل بين إسرائيل وإيران، تبرز مساعي ترمب لإعادة هندسة النظام الدولي لا الانسحاب منه. فهو لا يرفض قيادة العالم، بل يريدها على مقاسه: بلا أعباء مجانية، ولا تحالفات موروثة، ولا مؤسسات دولية تقيد يديه. إنه يُعيد صياغة مفهوم الهيمنة الأميركية، ولا يتخلى عنه. وفّرت حرب الأيام الـ12 بين إسرائيل وإيران فرصة نادرة لتحليل عقيدة الرئيس الأميركي في السياسة الخارجية. فاجأ الجميع بضربة استراتيجية غير مسبوقة للمشروع النووي الإيراني. رغم مقتِه للحرب، لم يخفِ من توظيف قوة بلاده العسكرية بشكل مدروس وشديد الفاعلية، وعلى نحو يعفيه من التورط في حروب طويلة الأمد، أو مغامرات وأوهام الصقور بشأن تغيير الأنظمة، وبناء الأمم. دعا سريعاً إلى وقف إطلاق النار، مراهناً على توظيف العسكرة لخدمة الاتفاق مع إيران، وتحقيق «الصفقة الكبرى» في الشرق الأوسط، وتوسيع إطار اتفاقات السلام والتطبيع. إنَّها مقاربة تتداخل فيها عناصر القوة والغريزة. فما يريده هو الإتيان بإيران إلى الطاولة بشروط، يحددها هو. مخاطرة محسوبة تجعل من الحرب أداة تفاوض، لا رافعة لتصدير مبادئ، وقيم. من جهة أخرى ضغط ترمب بقسوة علنية غير مسبوقة على رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو آمراً إياه بإجهاض هجوم على هدف في طهران كانت الطائرات قد أقلعت لتنفيذه بعد وقف إطلاق النار. لا حرية تصرف حتى لأقرب حليف لأميركا خارج المسار الاستراتيجي الذي يحدده ترمب. لا يهمه كثيراً من يجلس على الطرف الآخر، طالما أنه يعترف بسطوة أميركا، وبترمب بوصف أنه وسيط لا غنى عنه. هذا ما عكسته بالفعل تصريحات مسؤولين إيرانيين، تمسكوا، حتى بعد ضرب المفاعلات النووية، بما سمُّوه الضمانات الأميركية الراعية للتفاوض! خارج إيران، كرس النمط نفسه في العلاقة مع أوروبا، ضغط على كبار أعضاء حلف الناتو حتى رضخوا ووافقوا في قمة لاهاي الشهر الفائت على رفع الإنفاق العسكري إلى 5 في المائة من الناتج المحلي بحلول 2035، وهو إنجاز لم يحققه أي رئيس أميركي منذ نصف قرن. يرى خصومه أن وصفه للاتفاق بأنه انتصار عظيم إنما يعكس سعيه لإبراز إنجازاته الشخصية، وتركيزه على المكاسب المباشرة ولو على حساب الوحدة طويلة الأمد للحلف. بيد أن هذا الإنجاز الترمبي يبرز أيضاً جانباً أكثر جدية من عقيدة الرجل، وهو إصرار أميركا الثابت على تعزيز نفوذها الاستراتيجي في العالم من دون أن تتحمل أكلافاً تراها غير عادلة. في أفريقيا، رعى ترمب اتفاقاً بين الكونغو ورواندا، مزاوجاً بين الأمن الإقليمي في أفريقيا الوسطى والمصالح الاقتصادية الأميركية، وضمان الاستثمارات في قطاع المعادن في الكونغو، في إطار مساعيه للحد من النفوذ الصيني. يجسد الاتفاق إذن جوهر «الترمبية» في السياسة الخارجية، من خلال المزج بين البرغماتية الاقتصادية، والدبلوماسية المسنودة بالقوة، والتهديد بالعقوبات، والسعي لتعزيز صورة ترمب بوصف أنه وسيط سلام عالمي، مع ميل صارخ للوساطة الأميركية المباشرة على حساب المؤسسات الإقليمية، أو الدولية. منتقدو الترمبية يرون في عقيدته فائضاً استعراضياً. فهو يميل، بحسبهم، إلى الإعلانات الكبرى من دون اهتمام كافٍ بالتفاصيل التنفيذية، مما يجعل سياساته سلسلة من عروض الألعاب النارية المبهرة في توهجها، ولكنها الفاقدة لأي تأثير طويل الأمد. الاتفاق الإبراهيمي، على الضفة الأخرى، يظهر أن الترمبية تتجاوز الاستعراض إلى تحقيق نتائج ملموسة، ومستدامة في مجالات التعاون الاقتصادي والعسكري والاستخباراتي والثقافي والسياحي. كما أعاد الاتفاق تشكيل جانب مهم من تحالفات الشرق الأوسط على نحو يعكس رؤية جيوسياسية بعيدة. يرسل سلوك ترمب برسائل واضحة لخصوم الولايات المتحدة، لا سيما الصين وروسيا، وهي أن واشنطن قادرة على الفعل السريع والمؤلم من دون الغرق في الرمال المتحركة، وأن أميركا حين تعود إلى الطاولة فإنها تعود قوية، ومتعطشة لانتصارات تغيير الواقع الدولي برُمّته. فترمب لا يتصرف بوصف أنه قائد في نظام دولي قائم، بل على أنه صانع نظام بديل يتمحور حوله شخصياً، وحول مدرسة يريد لها أن تستمر من بعده. يريد لأميركا أن تأخذ علماً بأن العالم يتغير. فلا التزامات دائمة، ولا مبادئ كونية مفتعلة، إنما صفقات، وضغوط، وضربات دقيقة، تدار بها مروحة واسعة ومعقدة من المصالح. العالم مسرح، وترمب هو الممثل الأبرز على خشبته. أما الباقون، فعليهم أن يتكيفوا مع دور الرجل الذي لا يرضى إلا بأن يكون العريس في كل زفاف.


الشرق الأوسط
منذ 34 دقائق
- الشرق الأوسط
العلاقة التبادلية بين القتل والتربح
على الرغم من التهديدات الإسرائيلية والموقف الأميركي الحاد المُطالب باستقالتها ومحاسبتها بسوء السلوك والانحياز ضد إسرائيل، قدمت المفوضة الأممية فرانشيسكا ألبانيز، المعنية بفلسطين، تقريراً أقل ما يوصف أنه إحدى أخطر الوثائق الدولية المتعلقة بشركاء الاحتلال الإسرائيلي وأدوارهم في استمرار الاحتلال والاستيطان وقضم الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، فضلاً عن الانتهاكات الخطيرة التي يتعرض لها الفلسطينيون في قطاع غزة، حتى ما قبل السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، التي وصفتها ألبانيز بكونها تقترب من جريمة إبادة جماعية لشعب فلسطين. الجديد الذي قدمته ألبانيز في تقريرها أمام المفوضية الأممية 3 يوليو (تموز) الجاري، المعنون «من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة الجماعية»، يركز على الأبعاد الاقتصادية والشركاء من الدول والشركات الكبرى، الذين يُسهمون بقوة في استمرار الاحتلال وتغول الاستيطان والإمعان في انتهاكات حقوق الإنسان الفلسطيني، ويُعد هذا البعد من الأبعاد التي لم تَنَلْ حظها من المتابعة والدراسة كما هو الحال في الأبعاد العسكرية، التي تستقطب بدورها اهتماماً مضاعفاً نظراً لآثارها المباشرة في تدمير المباني والأصول المدنية والعسكرية معاً، والأهم قتل البشر؛ أفراداً وجماعات، من دون أي شعور بالذنب أو الحرج أو الخزي لفقدان الحد الأدنى من المشاعر الإنسانية. قد لا يجد كثيرون غرابةً في وجود كم هائل من الشركات الغربية، ومعظمها أميركية، تقدم كل صنوف الدعم المادي والمعنوي لبقاء إسرائيل قوية ومهيمنة على مقدرات الإقليم الشرق أوسطي، انطلاقاً من مبادئ سياسية ودينية تسود مؤسسة الحكم الأميركية، بغضِّ النظر عن الحزب المسيطر على الكونغرس أو الانتماء الحزبي لسيد البيت الأبيض. وحين ينظر المرء في الحقائق الواردة في تقرير ألبانيز الأخير، يجد أن هذا الدعم يقابله كم هائل من الأرباح، فهو دعم يتربح من ديمومة الاحتلال والاستيطان وقتل الفلسطينيين، ولا تقتصر الأرباح المكتسبة على الشركات صانعة منظومات الأسلحة التي تستخدمها إسرائيل، سواء المعروفة من قبل أو تلك الحديثة التي يتم تجربتها في الميدان لتقدير مدى فاعليتها، ومن ثم بناء عمليات الترويج والتسويق لتلك الأسلحة الحديثة لتحصيل مزيد من الأرباح. هذه العلاقة التبادلية بين القتل والتربح تمتد أيضاً إلى شركات تكنولوجيا الاتصالات المهيمنة على تقنيات وبرامج وتطبيقات التواصل الاجتماعي، التي بدورها تتيح كمّاً هائلاً من المعلومات الخام عن شعوب ومجتمعات ومؤسسات وأفراد، قابلة للتوظيف في مجالات متعددة: المدنية؛ كالتسويق للمنتجات بأشكالها وأنواعها كافة، والترويج للأفكار والآيديولوجيات المختلفة. والعسكرية؛ قبل وفي أثناء المواجهات الفعلية، وإدارة العمليات القتالية، وتحديد الأهداف وتصويب الأداء الفعلي، والتعرف المسبق للتهديدات، وإعداد الاستجابات المناسبة وفقاً لحجم التهديد وطبيعته. وكلما كانت العلاقة وثيقة بين الدولة وإحدى أو غالب تلك الشركات، تصبح لديها فرصة أكبر في الحصول على خدمات معلوماتية غير مسبوقة، تعين صانع القرار على توجيه العمليات العسكرية بأقل جهد ممكن. واقع الحال أن شركات المعلومات الكبرى لم تُقصِّر في تقديم ما لديها من معلومات تخص الفلسطينيين جميعهم؛ من له أدنى صلة بحركة «حماس»، أو لا علاقة له بأيٍّ من منظمات المقاومة، لجيش الاحتلال، الذي استطاع توظيفها بواسطة تطبيقات الذكاء الاصطناعي، بخاصة برامج التعرف إلى الوجوه، وكشف روابط القربى والعائلية، ومتابعة التحركات على الأرض لأشخاص محددين بغرض استهدافهم. هناك كثير من التقارير الصحافية في الولايات المتحدة وبريطانيا تشرح الأدوار التي قدمتها شركات مثل «غوغل» و«أمازون» و«مايكروسوفت» و«ميتا»، مالكة تطبيق «فيسبوك» الشهير، فضلاً عن الشركة الأميركية وثيقة الصلة بالبنتاغون المالكة لتطبيق «بالانتير» الذكي المتخصص في كشف روابط القربى للأفراد وخريطة تحركاتهم ميدانياً، والتي جسدتها تعاقدات بملايين الدولارات ولسنوات ممتدة مع إسرائيل، بحيث توفر تلك الشركات، من خلال منصاتها وبرامجها الذكية، معلومات وبيانات تدخل في صميم التخطيط العسكري الإسرائيلي، لا سيما تطبيق «لافندر الإسرائيلي»، وكشفت تقارير عدة عن حجم التعاون غير المسبوق مع وحدة 8200 الاستخبارية الإسرائيلية، التي تعتمد مفهوم الدمج بين الإنسان والآلة في توجيه وإدارة العمليات الميدانية، وأن يُعطى للآلة حيز أكبر في تحديد الهدف، وتوجيه القوة المناسبة للتحرك السريع بغرض القضاء عليه، وذلك بغضّ النظر عن الإصابات التي قد تحدث للمدنيين الذين لا صلة لهم بالشخص المستهدف. والأكثر من ذلك، فقد أنشأ بعض الشركات منصات خاصة في إسرائيل لتيسير وتسريع حجم التعامل مع جيش الاحتلال، أبرزها «مايكروسوفت»، التي اسُتهدف مركزها في عسقلان خلال المواجهة الإيرانية - الإسرائيلية الأخيرة. هذه الأدوار الخبيثة وثَّقتها حالات الغضب التي ثارت من كثير من العاملين في تلك الشركات، وحالات الاستقالة وأيضاً الطرد لهؤلاء الذين احتجوا على هذا النوع من التعاون الذي كان له الدور الأكبر في ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين إلى 50 ألفاً، وحالات الإصابة التي وصلت إلى أكثر من 200 ألف إصابة، تمثل نحو 10 في المائة من إجمالي عدد سكان القطاع. وهي نسبة عالية تعطي مصداقية لحدوث إبادة جماعية، لا سيما أن القتل المباشر صاحبه تجويع متعمد، وإغلاق المعابر، ومنع المواد الإنسانية عن جموع الفلسطينيين. بل وتوظيف الجوع والحاجة إلى المساعدات القليلة لاستهداف وقتل متعمَّد لمنتظري الغذاء في المراكز التابعة للمؤسسة الأميركية - الإسرائيلية المثيرة للجدل المسماة «غزة الإنسانية»، التي يديرها أميركيون عسكريون سابقون، غير مؤهلين للعمل الإنساني وضوابطه القانونية والأخلاقية، فمن اضطر إلى الذهاب إلى تلك المراكز كان عليه أن يوفر مزيداً من المعلومات «البيومترية» عن نفسه لتلك المؤسسة، والتي بدورها توفرها لجيش الاحتلال لمساعدته على مواصلة حربه الوحشية. وتعد حجة اكتشاف أحقية الحصول على المساعدات ومنعها عن مقاتلي «حماس» التي بررت بها تلك المؤسسة هذا الإجراء غير الأخلاقي، عذراً أقبح من ذنب، ويجسد الإذلال المتعمَّد للفلسطينيين الجوعى بدلاً من مساعدتهم والتخفيف من آلامهم.


الشرق الأوسط
منذ 34 دقائق
- الشرق الأوسط
من أين تشتري نظّاراتك التاريخية؟
أمس الاثنين، أخلَى مدّعي عام عَمّان سبيل النائب الأردني حسن الرياطي بكفالة مالية، على قضية اقتحام مقرّ تابع لجماعة «الإخوان المسلمين»، المحظورة في الأردن، بمدينة العقَبة. في التفاصيل المنشورة في الإعلام الأردني أنَّ الرياطي دخل مع آخرين إلى مقرٍّ تبيّن أنه تابع لجماعة الإخوان، ومزّقوا وثائقَ وأوراقاً بداخله، وحاولوا التخلّص منها بجمعها في أكياس سوداء. الأجهزة الأمنية الأردنية ضبطت، لاحقاً، الأوراق المتلفة، وأحبطت تهريبها وغيرها، كما عُثر داخل المقرّ على وثائق ومواد ذات صلة بالجماعة. هذه الواقعة تكشفُ عن مسألة أكبر، هي قيمة الوثائق في كتابة التاريخ، فالوثيقة برهانٌ قاطع، بصرف النَّظر عن ملابسات خلق الوثيقة وسياق وجودها، لكنَّها وثيقة «مادّية» ملموسة، وليست رواية شفوية عرضة للتحريف أو النسيان أو الاختلاط على راويها. كما تُفصحُ هذه الواقعة عن قضيّة أخرى لا تقلُّ أهميّة وهي: من يكتب التاريخ، خصوصاً القريب منه والمعاصر أو شبه المعاصر؟ بما أنَّنا نتحدّث عن واقعة «إخوانية» في الأردن، فمن يكتب تاريخ الحركات «الإسلاموية» في ديارنا، ومن يُثبّت روايته و«سرديته»؟! لاحظ الأستاذ عبد الله بن بجاد العتيبي، في إلماعة حصيفة، بمقالته، وجود صراعٍ على كتابة «تاريخ الصحوة» في المنطقة، وهو صادقٌ في ذلك. أتذكّر بهذا الصدد نهوض جملة من المحسوبين على التيار الصحوي في الكويت والسعودية على أخذ زمام الكتابة وتكثيف الرواية، عبر كتب وأبحاث ومقابلات تلفزيونية وأخيراً حلقات «بودكاست» لتثبيت المرويّة التاريخية الصحوية أو المتعاطفة معها، عن الصحوة (الصحوة مصطلح في الميديا الخليجية للتعبير عن الإسلام السياسي). الأمر هو «كتابة التاريخ» بطريقةٍ لا تخدم إلا جماعات «الإسلام السياسي» وأفكارها الرئيسية ويفتح لها الطريق للتأثير والقيادة، ومن هنا خرجت أجيالٌ متخصصةٌ في «التاريخ»، كما ذكر عبد الله بن بجاد: «النماذج كثيرةٌ على محاولاتٍ جماعيةٍ وإن خرجت بأسماء أفراد لإعادة (كتابة التاريخ) في عددٍ من الدول العربية، والخليجية منها على وجه التحديد، بحيث يجتمع هؤلاء المؤدلجون لكتابة تاريخ تلك الدولة، ثم يأخذون في استشارة بعضهم البعض، ويعدلون ويتشاورون حتى تصدر الكتب فيروجونها على نطاق واسع». مساحة المقالة هنا لا تسمح بالإسهاب، أو حتى بسرد كافٍ، ولو كان على سبيل الاقتضاب، لكن لا غِنى عن التأشير، والحُرُّ تكفيه الإشارة. مسألة قيادة المرأة للسيارة، مسألة النشاط السياسي للمجاميع عقب حرب تحرير الكويت عام 1991، التفاعل مع ضربات «القاعدة» 2001 بأميركا، اندلاع أعمال «القاعدة» في السعودية والكويت، بالتزامن، ومواقف رموز الصحوة منها، و«مقايضات» مشاهيرهم ذاك الوقت، وما مقابلة الدكتور سفر عنّا ببعيد. ثم «الربيع العربي»، ومواقف رموز الصحوة، وعلامة «رابعة»، ومحاربة الانفتاح، ثم محاولات العودة الناعمة اليوم، بعناوين أخرى، ومظاهر أنعم. الصراع على الوعي والاعتبار، قائمٌ، من ميادينه: كتابة التاريخ، ومحاولات وضع نظّارات «الإخوة» على عينيك، حصرياً، لمشاهدة مشاهد التاريخ.