
هكذا سيطر سلاح الجو الإسرائيلي على سماء إيران
كان من المفترض أن يفسح التخلي المصري عن الطائرات المجال أمام إيران، التي يتعطش جيشها بشدة للتزود بمقاتلات حربية. وقد وُصفت طائرة "سوخوي 35" في الإعلام الروسي بأنها أفضل طائرة غير شبحية في العالم (بعكس طائرة F-35 الأميركية الشبحية)، ومنذ أكثر من عام، يدّعي مسؤولون إيرانيون أنهم توصلوا إلى اتفاق على شراء هذه الطائرات من روسيا، إلّا إن التقارير التي وردت لاحقاً، أفادت بأن الطائرات التي رغبت إيران في شرائها طُليت بألوان سلاح الجو الجزائري، وشقت طريقها من شرق روسيا إلى شمال أفريقيا. بعد شهرين، عندما شنّت طائرات سلاح الجو الإسرائيلي هجوماً على إيران، لم تقلع في مواجهتها، ولو طائرة مقاتلة إيرانية واحدة.
الإيرانيون بين إمبراطوريتين
يشكل الفراغ الذي عمل فيه سلاح الجو فوق سماء طهران مفتاحاً مركزياً للإنجازات الإسرائيلية في هذه الحملة، وهو أمر مفاجئ، إذ بخلاف "حماس"، أو "حزب الله"، تمتلك إيران جيشاً نظامياً يملك سلاح جوّ منظما. لفهم سبب هذا الواقع، يجب الغوص في صفحات التاريخ.
بعد الثورة الإسلامية في سنة 1979، وضعت سلطة آية الله يدها على سلاح الجو الفارسي الذي تم تطويره في عهد الشاه، وكان قائماً على مقاتلات حربية أميركية، غير أن العقوبات الأميركية التي فُرضت على إيران بعد الثورة منعت الإيرانيين من الوصول إلى قطع الغيار والمعرفة التقنية اللازمة لصيانة هذه الطائرات والحفاظ عليها.
إلى جانب ذلك، وبعكس جيوش أُخرى في الشرق الأوسط كانت انقطعت عن التكنولوجيا الأميركية وتحولت إلى الاعتماد على التكنولوجيا القادمة من الاتحاد السوفياتي السابق، لم يتمكن الإيرانيون في ثمانينيات القرن الماضي من التوجه إلى الخصم الأكبر لأميركا. يقول دانيئيل راكوف، وهو باحث كبير في "معهد القدس للاستراتيجيا والأمن" وضابط سابق في شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية: "بعد سقوط الكتلة السوفياتية، كان الإيرانيون يقولون: (في هذا العالم، هناك إمبراطوريتان شريرتان، سقطت إحداهما، وستسقط الأُخرى أيضاً). لقد اعتبر الإيرانيون السوفيات أعداء أيضاً. في نظرهم، كانت الإمبراطوريتان في النصف الشمالي من الكرة الأرضية تخوضان حرباً ضد إيران. القوقاز، بما فيه أذربيجان وأرمينيا، كان بالنسبة إليهم، أرضاً فارسية احتلها الاتحاد السوفياتي، وفي الحرب العالمية الثانية، قسّمت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السيطرة على إيران لمنع سقوطها في يد النازيين".
في تسعينيات القرن الماضي، بعد سقوط الإمبراطورية السوفياتية، تلاشت حالة العداء، ولم تعد إيران ممنوعة من شراء الأسلحة من روسيا. ومع ذلك، كانت قدراتها محدودة، من حيث عدد الطائرات التي يمكنها شراؤها. يقول دانيئيل راكوف: "كان لدى الإيرانيين قيود ميزانية، ونتيجةً لذلك، كان موقع سلاح الجو ضمن القدرات الإيرانية العامة محدوداً. صحيح أنهم اشتروا طائرات ميغ 29، وفي حرب الخليج الأولى، حصلوا على عدد قليل من الطائرات من العراقيين (في سنة 1991 فرّ أكثر من 100 طيار عراقي إلى إيران، ومعهم طائرات سوخوي 24 وميغ 29 روسية الصنع، خوفاً من ضربات سلاح الجو الأميركي - المحرر).
لكن في إيران، تطورت مقاربة تفيد بأن سلاح الجو ليس العنصر الأهم، ولهذا السبب، هو تابع للجيش النظامي، وليس للحرس الثوري، ويحصل على ميزانيات أقل وأولوية متدنية. كذلك كانت الطائرات السوفياتية تُعد أقل جودةً، مقارنةً بنظيراتها الغربية. لاحقاً، جاءت فترات أُخرى لم يتمكن فيها الروس من بيع السلاح لإيران، لأن التفاهمات بين روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة كانت كثيراً ما تتم على حساب إيران.
في الفترة 2007 - 2020، فرض مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة حظراً على بيع الأسلحة لإيران، وتعاون الروس مع هذا الحظر خلال بعض تلك السنوات، في إطار سياسة "إعادة الضبط" لعلاقاتهم مع الولايات المتحدة، في محاولة لبناء علاقات أوثق مع إدارة أوباما.
في السنوات الأخيرة، وبعد الغزو الروسي لأوكرانيا، أوقف الروس بيع أسلحتهم لإيران. يقول تسفي ماغين، السفير الإسرائيلي السابق في روسيا وباحث بارز في معهد دراسات الأمن القومي: "في رأيي المتواضع، كان ذلك بسبب إسرائيل، نتيجة تفاهُم غير معلن بيننا وبين الروس، يقضي بعدم تزويد إيران بأسلحة تخلّ بالتوازن، وفي المقابل، لن تزوّد إسرائيل أوكرانيا بمنظومات عسكرية." ويضيف: "هذا ما قادنا إلى شبه فضيحة، عندما طالب الأوكرانيون بأن نزودهم بمنظومات القبة الحديدية ورفضنا. يبدو كأن الروس وفوا من جانبهم بهذه الصفقة. والنتيجة هي أن الإيرانيين غير قادرين على تحدّينا، لا طائرات الـF-35، ولا القاذفات الاستراتيجية الأميركية".
"على الصعيد السياسي، لدى روسيا علاقات قوية مع دول الخليج، خصوم إيران، وهذه الدول تمتلك مفاتيح الاقتصاد الروسي من خلال تنسيق أسعار النفط،" يضيف دانيئيل راكوف. "لذلك، واصلت روسيا سياستها بعدم تزويد إيران بالسلاح، كلما زاد التهديد بشن هجوم إسرائيلي، لا بل عرضت نفسها كوسيط".
ومن وجهة نظر الإيرانيين، يُعتبر السلوك الروسي جحوداً ونكراناً للجميل، إذ إن إيران هي التي زودت روسيا بالسلاح في السنوات التي سبقت حرب "السيوف الحديدية"، وذلك من أجل مساعدتها في مواجهة أوكرانيا. يقول راكوف: "روسيا غزت أوكرانيا، بناءً على افتراضات غير واقعية بأن الحملة ستنتهي بسرعة. وخلال السنة والنصف الأولى من الحرب، كانت تفتقر إلى قوة نارية كافية، وإلى طائرات مسيّرة. أما إيران، فكانت تمتلك عدداً كبيراً من المسيّرات الجاهزة، وبأسعار زهيدة. أنشأ الروس مصانع ضخمة، باستخدام التكنولوجيا الإيرانية، والتي منحتهم دفعة كبيرة في قدراتهم النارية".
في الأسبوعَين الماضيَين، انتشرت في الإنترنت صورة لطائرة ومروحية إيرانيتَين مخبأتَين تحت الجسور، وفي مواقع سرية أُخرى، وهو ما يشكل دليلاً على أن الإيرانيين اختاروا عدم إخراج الطائرات التي يملكونها من المخازن. لقد تصرفوا على هذا النحو؛ لأن تلك الطائرات لم تكن صالحة للطيران بما فيه الكفاية، ولأنهم أدركوا أن طائرة حربية من الجيل الثالث، مثل الـF-4، أو من الجيل الرابع، مثل الـ ميغ 29، لا تملك أي فرصة في مواجهة طائرات حربية إسرائيلية من الجيل الخامس، مثل الـ F-35 والـF-15 IA.
في ظل هذا الوضع، لم يتبقّ أمام الإسرائيليين سوى تدمير جزء كبير من القوة الجوية الإيرانية، وهي على الأرض. حتى في الحالات التي تم فيها التبليغ بشأن إقلاع طائرات إيرانية لاعتراض طائرات إسرائيلية من دون طيار، فإن هذه الطائرات كانت تتجنب الاشتباك. تخلى الإيرانيون عن سلاح الجو، وفي المقابل، ركزوا جهودهم على البرنامج النووي وبرنامج الصواريخ الباليستية وتمويل التنظيمات "الإرهابية" المحيطة بإسرائيل.
"اعتمد الإيرانيون أساليب حرب العصابات، وركزوا كل أموالهم على الصواريخ والطائرات المسيّرة، في محاولة لاستخدام ذخائر أرخص، في مقابل قصف طائرات الـF-35،" تقول عيدي برشدسكي، عقيد احتياط في سلاح الجو، تعمل في مجال تطوير الأعمال الدولية في قطاع التكنولوجيا العسكرية وعضو في منتدى "دبورا". "هذا الأسلوب تتّبعه التنظيمات الإرهابية". تم توجيه كل القدرات نحو الاستثمار في صواريخ أرض – أرض. هذا ما واصلوا استخدامه، وما زال لديهم مخزونات. فعلوا ذلك لتجاوز عجزهم في مجال التفوق الجوي. على مرّ السنين، كانت دائماً لدى الجيش الإسرائيلي تساؤلات عن سبب حاجة سلاح الجو إلى كل هذا العدد من الطائرات. وكانت هناك دائماً انتقادات ومعارك سياسية بشأن الموافقة على شراء سرب إضافي من طائرات الـ F-35. هذه الحرب ذكّرتنا بأنه لكي نكون دولة مستقلة، لا بد من أن نكون مجهزين بأحدث ما في التكنولوجيا. ولولا ذلك، لما كنا قادرين على شن هجوم على إيران".
رسّخ فشل إيران التفوق المطلق للمنصات الجوية الأميركية، وعلى رأسها طائرات الـF-15 من شركة بوينغ، وطائرات الـF-35 من شركة لوكهيد مارتن، لسنوات طويلة قادمة. وقد بيّن هذا التفوق أن جزءاً كبيراً من قوة الولايات المتحدة، اليوم، يقوم على قدرتها على تحديد مَن تبيع له مقاتلاتها ومَن تمنعه. الدرس الذي استخلصته إيران هو أنه في غياب القدرة على شراء طائرات أميركية، قد تجد نفسك من دون سلاح جو، والنتيجة انعكست في خسارتها القاسية.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


معا الاخبارية
منذ 7 ساعات
- معا الاخبارية
الشرق الأوسط الجديد بين نيران الحرب الشاملة وصراع القوى العظمى
تشهد منطقة الشرق الأوسط تصعيدًا هو الأعنف منذ عقود، حيث تتلاقى خطوط الصدع الجيوسياسية القديمة مع تنافسات القوى العظمى الجديدة في عصر متعدد الأقطاب. المنطقة الغنية بالموارد والصراعات تقف على حافة مواجهة إقليمية شاملة بين إسرائيل وإيران، قد تشعل حريقًا متعدد الجبهات يطال لبنان (حزب الله)، اليمن (الحوثيين)، العراق (الحشد الشعبي)، وغزة. هذا الصراع ليس معزولًا؛ فهو يتفاعل مع التحولات الجيواستراتيجية الكبرى: تراجع الهيمنة الأمريكية المتسارع، وصعود التحالف الشرقي (إيران-روسيا-الصين) رغم تناقضاته الداخلية، وتخبط أوروبا العاجزة بين الولاء الأطلسي والبراغماتية الاقتصادية. تهديد حرب واسعة النطاق تدفع إليه حسابات الردع المتصادمة، والفرص الاستراتيجية المتصورة، واليأس الاقتصادي. تداعياتها ستتجاوز الحدود الإقليمية لتهزّ أسواق الطاقة العالمية، وتعيد رسم التحالفات، وربما تُعيد تقسيم المنطقة وفق مصالح القوى الكبرى في مشهد يذكر بـ"سايكس بيكو" القرن الحادي والعشرين. المحور الأول: الاستعدادات الإسرائيلية لحرب شاملة 1. تسريبات استخباراتية تؤكد نوايا الهجوم - وثائق من وكالة NGA كشفت عن تدريبات جوية إسرائيلية على التزود بالوقود واستخدام قنابل خارقة للتحصينات (GBU-72) لاستهداف منشآت نووية إيرانية تحت الأرض. - البنتاغون أكد صحة هذه الوثائق، ما يعكس تنسيقًا غير مسبوق بين واشنطن وتل أبيب. 2. تعزيز الترسانة العسكرية - شحنات أمريكية ضخمة وصلت لإسرائيل بين أبريل ومايو 2025، شملت آلاف القنابل والذخائر، في صفقات تجاوزت 12 مليار دولار. 3. السياق السياسي الحاسم - إدارة ترامب الثانية تُقدّم دعمًا غير مشروط لإسرائيل، بينما ترى تل أبيب أن انشغال روسيا وتردد الصين يمنحها "نافذة استراتيجية" للهجوم. المحور الثاني: الرد الإيراني المتوقع – "عاصفة من الصواريخ وحرب الوكالة" 1. القدرات الصاروخية والنووية - إيران تمتلك أكثر من 3,000 صاروخ باليستي، بعضها بمدى يتجاوز 2,000 كم. - تسريبات من CIA تؤكد أن إيران قادرة على إعادة تشغيل منشآتها النووية خلال أشهر. 2. شبكة "تحالف القوس" - حزب الله، الحوثيون، الحشد الشعبي، وغزة يشكلون جبهات متعددة قادرة على استنزاف إسرائيل. - الحوثيون يهددون بإغلاق البحر الأحمر، ما يهدد التجارة العالمية. 3. الحرب السيبرانية - الجيش الإلكتروني الإيراني نفّذ هجمات ناجحة على أنظمة الملاحة الأمريكية، ويُتوقع أن يُعطّل الأقمار الصناعية وأنظمة GPS في أي مواجهة قادمة. المحور الثالث: الولايات المتحدة – تراجع الهيمنة وتحديات الداخل 1. الانهيار المالي التدريجي - تراجع الدولار إلى 58% من الاحتياطيات العالمية، والدين العام تجاوز 45 تريليون دولار. - التضخم المرتفع والركود الاقتصادي يُضعفان قدرة واشنطن على تمويل حروب طويلة. 2. أزمة داخلية وخارجية - تسريبات من البنتاغون تكشف خلافات حول دعم أوكرانيا وإسرائيل. - تقرير DHS حذّر من اضطرابات داخلية غير مسبوقة منذ الحرب الأهلية. المحور الرابع: التمرد الخجول والارتهان العميق 1. مؤشرات التمرد - المجر ترفض دعم إسرائيل وتستضيف ترامب لإطلاق مبادرة سلام بديلة. - شركات ألمانية تتحدى العقوبات الأمريكية وتواصل التعامل مع الصين. 2. القيود البنيوية - 70% من أنظمة الدفاع الأوروبية تعتمد على التكنولوجيا الأمريكية، ما يجعل الاستقلال الاستراتيجي صعبًا. - أوروبا تدفع ضعف ما تدفعه الصين مقابل الغاز الروسي، ما يضعها في موقف اقتصادي هش. المحور الخامس: إيران والملف النووي – بين الردع والتصعيد 1. تحصينات تحت الأرض - منشآت "فوردو" و"نطنز" محصنة بعمق 500 متر تحت جبال زاغروس، ومحميّة بأنظمة S-500 روسية. - صور Maxar أظهرت أن الضربات الأمريكية السابقة لم تُدمّر سوى منشآت سطحية. 2. تسريبات استخباراتية - وثائق من CIA نشرتها CNN تؤكد أن الضربات لم توقف البرنامج النووي، بل زادت من تصميم طهران على امتلاك القنبلة. المحور السادس: تداعيات الطاقة – شبح أزمة عالمية 1. مضيق هرمز - أي إغلاق للمضيق سيرفع أسعار النفط إلى أكثر من 250 دولارًا للبرميل، ويُعطل 25% من إمدادات الطاقة العالمية. 2. الصين وإعادة رسم خريطة الطاقة - الصين تُسرّع مشروع "قوة سيبيريا 2" مع روسيا لتقليل اعتمادها على النفط الخليجي. - Global Times وصفت الوضع بأنه "اختبار حقيقي لاستراتيجية أمن الطاقة الصينية". المحور السابع: روسيا والصين.. المصالح فوق الولاء 1. الصين ترفض التدخل العسكري، وتُركّز على شراء 90% من النفط الإيراني بأسعار مخفضة. - تسعى للوساطة، لكنها تدرك أن فشلها سيُضعف صورتها كقوة مسؤولة. 2. روسيا - تستغل الأزمة لدفع الصين نحو الاعتماد على الغاز الروسي. - قد توفر غطاءً سياسيًا لإيران في مجلس الأمن، لكن تدخلها العسكري غير مرجّح بسبب أوكرانيا. المحور الثامن: سيناريوهات تقهقر التحالف الشرقي 1. الضغوط الاقتصادية - انخفاض أسعار النفط قد يُنهك الاقتصاد الإيراني، ويُشعل احتجاجات داخلية. - روسيا تواجه عزلة مالية، والصين قد تتراجع عن دعمها لطهران إذا تعرّضت لعقوبات ثانوية. 2. تفكك التحالف - تباين المصالح بين موسكو وبكين وطهران قد يؤدي إلى تصدعات داخلية، خاصة إذا طال أمد المواجهة دون نتائج حاسمة. 3. الرد الغربي - الولايات المتحدة قد تلجأ إلى ضربات سيبرانية واسعة النطاق، ودعم حركات معارضة داخل إيران ولبنان واليمن. المحور التاسع: مراكز الأبحاث.. أصوات العقل في زمن الجنون - معهد RAND حذّر من أن الحرب ستُنهك الطرفين وتُضعف الردع الأمريكي. Brookings - دعا إلى إعادة تقييم الدعم غير المشروط لإسرائيل. - المركز العربي للأبحاث رأى أن التحالف الشرقي يملك أدوات الردع لكنه يفتقر إلى العمق الاقتصادي. INSS - الإسرائيلي دعا إلى تحديث العقيدة الدفاعية لمواجهة تهديدات متعددة الجبهات. المحور العاشر: الحرب النفسية والإعلامية – معركة الروايات - إسرائيل تُسرّب معلومات استخباراتية وتُضخّم قدراتها لردع إيران. - إيران ومحورها يُبرزون مشاهد الدمار في غزة ولبنان ويُروّجون لفكرة "توازن الرعب". - استطلاعات إسرائيلية تُظهر تراجع الحماسة الشعبية للحرب، بينما تُستخدم التعبئة الأيديولوجية في إيران لتعزيز الصمود. المحور الحادي عشر: البُعد العقائدي – صراع الوجود والهوية - إسرائيل ترى في إيران تهديدًا وجوديًا يتجاوز السياسة إلى الدين والتاريخ. - إيران تُقدّم نفسها كقوة مقاومة للهيمنة الغربية، وتُوظّف القدس كرمز عقائدي في خطابها السياسي. المحور الثاني عشر: هشاشة الداخل – نقاط الانهيار المحتملة - إسرائيل تعاني من انقسامات سياسية واقتصاد هش أمام الحروب الطويلة. - إيران تواجه احتجاجات داخلية وضغوطًا اقتصادية خانقة، وقد لا تصمد تعبئتها الأيديولوجية في حال تصاعدت الخسائر. سيناريوهات المستقبل – مسارات الهاوية تشير كل المؤشرات – التسريبات الاستخباراتية، التحركات العسكرية المكثفة، الخطاب المتصاعد، والتحليلات الاستراتيجية – إلى أن الشرق الأوسط يقف في صيف 2025 على حافة حرب إقليمية شاملة. المواجهة بين إسرائيل وإيران، المدعومة بشبكة معقدة من الحلفاء، لم تعد مسألة توقيت افتراضي بل احتمال ملموس وشيك. هذه الحرب، إن اندلعت، ستكون حرب وجود ذات جذور عقائدية وتاريخية عميقة، وتتفاعل بشكل خطير مع تحولات النظام الدولي تراجع الهيمنة الأمريكية، صعود التحالف الشرقي الهش، وعجز أوروبا. التداعيات ستكون عالمية وكارثية: اقتصادياً: انهيار محتمل لأسواق الطاقة (نفط فوق 250 دولار)، ركود عالمي حاد، شلل سلاسل التوريد. جيوسياسياً: اختبار مدمر للتحالفات التقليدية (الناتو)، تسارع في تشكل نظام عالمي متعدد الأقطاب بقيادة روسيا والصين، وإن بثمن باهظ. إنسانياً: دمار هائل في دول المواجهة، أزمات لاجئين غير مسبوقة، انهيار دول ومجتمعات. الدول العربية تقف في قلب العاصفة : دول الخليج تواجه تهديدًا وجوديًا لمنشآتها النفطية واقتصاداتها، وتخشى أن تكون الضحية في لعبة إعادة تقسيم جديدة. مصر والأردن تخشيان انفجار أوضاعهما الداخلية الهشة تحت وطأة التداعيات الاقتصادية واللاجئين. تركيا تسعى للبقاء كفاعل مستقل والاستفادة من الفوضى، مع حماية مصالحها الحيوية خاصة في مواجهة الأكراد. نافذة منع الكارثة ما تزال مفتوحة، لكنها تضيق بسرعة نجاح الجهود الدبلوماسية اليائسة – إن وجدت إرادة حقيقية لدى الأطراف المتصارعة والقوى الكبرى – واستيعاب الجميع لثمن الحرب الباهظ، هما العاملان الحاسمان. الوقائع على الأرض والتسريبات الموثقة لا تبشر بالخير. المنطقة والعالم على موعد مع اختبار مصيري قد يعيد رسم الخرائط وميزان القوى لعقود قادمة، أو يدفع الجميع إلى هاوية يصعب الخروج منها. الخيار بين حافة الهاوية والتراجع عنها بات مسؤولية تاريخية على عاتق كل الأطراف.


جريدة الايام
منذ 8 ساعات
- جريدة الايام
هكذا سيطر سلاح الجو الإسرائيلي على سماء إيران
قبل شهرين من الهجوم الإسرائيلي على إيران، في آذار ونيسان، أفادت وسائل الإعلام العسكرية حول العالم بأن طائرات مقاتلة روسية من طراز "سوخوي 35" وصلت إلى الجزائر. هذه التقارير، التي استندت إلى صور أقمار صناعية، خلقت شعوراً مريراً في أوساط القيادة الإيرانية. فالطائرات التي وصلت إلى الجزائر تم تصنيعها في سنة 2018، بناءً على طلب مصري، لكن في سنة 2022، بدا كأن مصر تخلّت عنها بسبب العقوبات الأميركية التي فُرضت على صناعة السلاح الروسية، بعد أن زودت هذه الأخيرة نظام الأسد في سورية بالسلاح، وبسبب توقعات مصرية بشأن قيام الولايات المتحدة بتزويدها بطائرات "F-15" متقدمة، بدلاً منها. كان من المفترض أن يفسح التخلي المصري عن الطائرات المجال أمام إيران، التي يتعطش جيشها بشدة للتزود بمقاتلات حربية. وقد وُصفت طائرة "سوخوي 35" في الإعلام الروسي بأنها أفضل طائرة غير شبحية في العالم (بعكس طائرة F-35 الأميركية الشبحية)، ومنذ أكثر من عام، يدّعي مسؤولون إيرانيون أنهم توصلوا إلى اتفاق على شراء هذه الطائرات من روسيا، إلّا إن التقارير التي وردت لاحقاً، أفادت بأن الطائرات التي رغبت إيران في شرائها طُليت بألوان سلاح الجو الجزائري، وشقت طريقها من شرق روسيا إلى شمال أفريقيا. بعد شهرين، عندما شنّت طائرات سلاح الجو الإسرائيلي هجوماً على إيران، لم تقلع في مواجهتها، ولو طائرة مقاتلة إيرانية واحدة. الإيرانيون بين إمبراطوريتين يشكل الفراغ الذي عمل فيه سلاح الجو فوق سماء طهران مفتاحاً مركزياً للإنجازات الإسرائيلية في هذه الحملة، وهو أمر مفاجئ، إذ بخلاف "حماس"، أو "حزب الله"، تمتلك إيران جيشاً نظامياً يملك سلاح جوّ منظما. لفهم سبب هذا الواقع، يجب الغوص في صفحات التاريخ. بعد الثورة الإسلامية في سنة 1979، وضعت سلطة آية الله يدها على سلاح الجو الفارسي الذي تم تطويره في عهد الشاه، وكان قائماً على مقاتلات حربية أميركية، غير أن العقوبات الأميركية التي فُرضت على إيران بعد الثورة منعت الإيرانيين من الوصول إلى قطع الغيار والمعرفة التقنية اللازمة لصيانة هذه الطائرات والحفاظ عليها. إلى جانب ذلك، وبعكس جيوش أُخرى في الشرق الأوسط كانت انقطعت عن التكنولوجيا الأميركية وتحولت إلى الاعتماد على التكنولوجيا القادمة من الاتحاد السوفياتي السابق، لم يتمكن الإيرانيون في ثمانينيات القرن الماضي من التوجه إلى الخصم الأكبر لأميركا. يقول دانيئيل راكوف، وهو باحث كبير في "معهد القدس للاستراتيجيا والأمن" وضابط سابق في شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية: "بعد سقوط الكتلة السوفياتية، كان الإيرانيون يقولون: (في هذا العالم، هناك إمبراطوريتان شريرتان، سقطت إحداهما، وستسقط الأُخرى أيضاً). لقد اعتبر الإيرانيون السوفيات أعداء أيضاً. في نظرهم، كانت الإمبراطوريتان في النصف الشمالي من الكرة الأرضية تخوضان حرباً ضد إيران. القوقاز، بما فيه أذربيجان وأرمينيا، كان بالنسبة إليهم، أرضاً فارسية احتلها الاتحاد السوفياتي، وفي الحرب العالمية الثانية، قسّمت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السيطرة على إيران لمنع سقوطها في يد النازيين". في تسعينيات القرن الماضي، بعد سقوط الإمبراطورية السوفياتية، تلاشت حالة العداء، ولم تعد إيران ممنوعة من شراء الأسلحة من روسيا. ومع ذلك، كانت قدراتها محدودة، من حيث عدد الطائرات التي يمكنها شراؤها. يقول دانيئيل راكوف: "كان لدى الإيرانيين قيود ميزانية، ونتيجةً لذلك، كان موقع سلاح الجو ضمن القدرات الإيرانية العامة محدوداً. صحيح أنهم اشتروا طائرات ميغ 29، وفي حرب الخليج الأولى، حصلوا على عدد قليل من الطائرات من العراقيين (في سنة 1991 فرّ أكثر من 100 طيار عراقي إلى إيران، ومعهم طائرات سوخوي 24 وميغ 29 روسية الصنع، خوفاً من ضربات سلاح الجو الأميركي - المحرر). لكن في إيران، تطورت مقاربة تفيد بأن سلاح الجو ليس العنصر الأهم، ولهذا السبب، هو تابع للجيش النظامي، وليس للحرس الثوري، ويحصل على ميزانيات أقل وأولوية متدنية. كذلك كانت الطائرات السوفياتية تُعد أقل جودةً، مقارنةً بنظيراتها الغربية. لاحقاً، جاءت فترات أُخرى لم يتمكن فيها الروس من بيع السلاح لإيران، لأن التفاهمات بين روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة كانت كثيراً ما تتم على حساب إيران. في الفترة 2007 - 2020، فرض مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة حظراً على بيع الأسلحة لإيران، وتعاون الروس مع هذا الحظر خلال بعض تلك السنوات، في إطار سياسة "إعادة الضبط" لعلاقاتهم مع الولايات المتحدة، في محاولة لبناء علاقات أوثق مع إدارة أوباما. في السنوات الأخيرة، وبعد الغزو الروسي لأوكرانيا، أوقف الروس بيع أسلحتهم لإيران. يقول تسفي ماغين، السفير الإسرائيلي السابق في روسيا وباحث بارز في معهد دراسات الأمن القومي: "في رأيي المتواضع، كان ذلك بسبب إسرائيل، نتيجة تفاهُم غير معلن بيننا وبين الروس، يقضي بعدم تزويد إيران بأسلحة تخلّ بالتوازن، وفي المقابل، لن تزوّد إسرائيل أوكرانيا بمنظومات عسكرية." ويضيف: "هذا ما قادنا إلى شبه فضيحة، عندما طالب الأوكرانيون بأن نزودهم بمنظومات القبة الحديدية ورفضنا. يبدو كأن الروس وفوا من جانبهم بهذه الصفقة. والنتيجة هي أن الإيرانيين غير قادرين على تحدّينا، لا طائرات الـF-35، ولا القاذفات الاستراتيجية الأميركية". "على الصعيد السياسي، لدى روسيا علاقات قوية مع دول الخليج، خصوم إيران، وهذه الدول تمتلك مفاتيح الاقتصاد الروسي من خلال تنسيق أسعار النفط،" يضيف دانيئيل راكوف. "لذلك، واصلت روسيا سياستها بعدم تزويد إيران بالسلاح، كلما زاد التهديد بشن هجوم إسرائيلي، لا بل عرضت نفسها كوسيط". ومن وجهة نظر الإيرانيين، يُعتبر السلوك الروسي جحوداً ونكراناً للجميل، إذ إن إيران هي التي زودت روسيا بالسلاح في السنوات التي سبقت حرب "السيوف الحديدية"، وذلك من أجل مساعدتها في مواجهة أوكرانيا. يقول راكوف: "روسيا غزت أوكرانيا، بناءً على افتراضات غير واقعية بأن الحملة ستنتهي بسرعة. وخلال السنة والنصف الأولى من الحرب، كانت تفتقر إلى قوة نارية كافية، وإلى طائرات مسيّرة. أما إيران، فكانت تمتلك عدداً كبيراً من المسيّرات الجاهزة، وبأسعار زهيدة. أنشأ الروس مصانع ضخمة، باستخدام التكنولوجيا الإيرانية، والتي منحتهم دفعة كبيرة في قدراتهم النارية". في الأسبوعَين الماضيَين، انتشرت في الإنترنت صورة لطائرة ومروحية إيرانيتَين مخبأتَين تحت الجسور، وفي مواقع سرية أُخرى، وهو ما يشكل دليلاً على أن الإيرانيين اختاروا عدم إخراج الطائرات التي يملكونها من المخازن. لقد تصرفوا على هذا النحو؛ لأن تلك الطائرات لم تكن صالحة للطيران بما فيه الكفاية، ولأنهم أدركوا أن طائرة حربية من الجيل الثالث، مثل الـF-4، أو من الجيل الرابع، مثل الـ ميغ 29، لا تملك أي فرصة في مواجهة طائرات حربية إسرائيلية من الجيل الخامس، مثل الـ F-35 والـF-15 IA. في ظل هذا الوضع، لم يتبقّ أمام الإسرائيليين سوى تدمير جزء كبير من القوة الجوية الإيرانية، وهي على الأرض. حتى في الحالات التي تم فيها التبليغ بشأن إقلاع طائرات إيرانية لاعتراض طائرات إسرائيلية من دون طيار، فإن هذه الطائرات كانت تتجنب الاشتباك. تخلى الإيرانيون عن سلاح الجو، وفي المقابل، ركزوا جهودهم على البرنامج النووي وبرنامج الصواريخ الباليستية وتمويل التنظيمات "الإرهابية" المحيطة بإسرائيل. "اعتمد الإيرانيون أساليب حرب العصابات، وركزوا كل أموالهم على الصواريخ والطائرات المسيّرة، في محاولة لاستخدام ذخائر أرخص، في مقابل قصف طائرات الـF-35،" تقول عيدي برشدسكي، عقيد احتياط في سلاح الجو، تعمل في مجال تطوير الأعمال الدولية في قطاع التكنولوجيا العسكرية وعضو في منتدى "دبورا". "هذا الأسلوب تتّبعه التنظيمات الإرهابية". تم توجيه كل القدرات نحو الاستثمار في صواريخ أرض – أرض. هذا ما واصلوا استخدامه، وما زال لديهم مخزونات. فعلوا ذلك لتجاوز عجزهم في مجال التفوق الجوي. على مرّ السنين، كانت دائماً لدى الجيش الإسرائيلي تساؤلات عن سبب حاجة سلاح الجو إلى كل هذا العدد من الطائرات. وكانت هناك دائماً انتقادات ومعارك سياسية بشأن الموافقة على شراء سرب إضافي من طائرات الـ F-35. هذه الحرب ذكّرتنا بأنه لكي نكون دولة مستقلة، لا بد من أن نكون مجهزين بأحدث ما في التكنولوجيا. ولولا ذلك، لما كنا قادرين على شن هجوم على إيران". رسّخ فشل إيران التفوق المطلق للمنصات الجوية الأميركية، وعلى رأسها طائرات الـF-15 من شركة بوينغ، وطائرات الـF-35 من شركة لوكهيد مارتن، لسنوات طويلة قادمة. وقد بيّن هذا التفوق أن جزءاً كبيراً من قوة الولايات المتحدة، اليوم، يقوم على قدرتها على تحديد مَن تبيع له مقاتلاتها ومَن تمنعه. الدرس الذي استخلصته إيران هو أنه في غياب القدرة على شراء طائرات أميركية، قد تجد نفسك من دون سلاح جو، والنتيجة انعكست في خسارتها القاسية.


جريدة الايام
منذ 2 أيام
- جريدة الايام
إيران.. من المخصَّب إلى المهرَّب
منذ زمن قورش الأول مؤسس الإمبراطورية الفارسية، وحتى زمن المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، لم تنفق إيران في كل عهودها ما أنفقت على مشروعها النووي. وسواءٌ دمرت منشآت المشروع الرئيسية الثلاث كلياً أو جزئياً، إلا أن العصارة التي نجت فيما يبدو، هي الستمائة كيلوغرام من اليورانيوم المخصّب التي تم تهريبها من المواقع المستهدفة الثلاثة، إلى أماكن مجهولة، وليس غير حاسوب يدلنا كم كلّف الغرام الواحد من مالٍ وأرواحٍ وممتلكات. سياسياً دعا الرئيس ترامب الإيرانيين للعودة إلى مائدة المفاوضات، وكأن الحرب لم تقع، وكأن جدول أعمالها استنسخ حرفياً عن جدول الأعمال الذي تأجل، غير أن الذي اختلف بعد الإثني عشر يوماً من الحرب، هو حال اليورانيوم الذي غادر مكانه الطبيعي والخطر في المفاعلات، إلى مكانٍ مجهولٍ فرض على المفاوض الإيراني المناورة بنصف المشروع بعد أن لم يعد النصف الآخر صالحاً للمناورة به كما كان في السابق. حال بدء المفاوضات، سوف يستعرض الأميركي على محادثه الإيراني ما يعتبره مزايا للموقف الأميركي خلال الحرب، المختلف عن الموقف الإسرائيلي، ذلك أن الأميركي لم يذهب في عملياته الحربية وإسناده لإسرائيل إلى ما هو أبعد من المشروع النووي، كما أظهر قولاً وعملاً أن إيران بالنسبة لأميركا ترامب، هي مشروع استثماري واعد بربح وفير، إلا أنه يتطلب أن تكون الدولة الإيرانية خالية من القوة النووية وحتى الباليستية، ومتجردة من الأذرع «المشاغبة»، ومن تطلعاتها المثيرة لمخاوف الجيران، كما يتطلب تغيير الخطاب من لغة التهديد والوعيد بإبادة إسرائيل، إلى خطاب أقرب إلى خطاب الإقليم الذي يعبر عن سياساتٍ تعايشية إن لم تكن تطبيعية تماماً. تحولت إيران بعد حرب الإثني عشر يوماً وعلى نحو ما قبلها بقليل، من صاحبة مشروع نفوذٍ إقليمي دولي يمتلك أذرعاً تنتشر على المفاضل المهمة في الشرق الأوسط ويعززه تقدمها في مجال الإنتاج الحربي، حيث الباليستي والمسيّرات والوصول إلى عتبة النووي، تحولت من هذا الموضع المغري إلى وضعٍ لا تملك فيه سوى عنادها ولحمها الحي، الذي هو أجدى كثيراً من توظيف لحم الآخرين في لعبة نفوذٍ محكوم عليها بالفشل. إيران في كل حالاتها جغرافياً وبشرياً وثروات، تظل دولةً إقليمية عظمى، لو أحسنت استخدام ما تملك دون شطط وجموح، والتوقف عن الجري وراء استعادة الماضي القديم، للدخول به إلى واقع الحاضر، دون وعي لحقائقه وأحجام القوى المتنفذة فيه، لو أحسنت إيران ذلك لما رأينا ما نراه الآن، وأخفّ وصفٍ له أنها دولة عظمى ولكن جريحة، تنزف من داخلها ومن حولها مكبلة بأغلال الحلم المستحيل، إذ لا امبراطوريات جديدة يُسمح بنشوئها في هذا العصر، وحتى الإمبراطوريات النووية والاقتصادية المتكرسة تخوض صراعاً مريراً من أجل حماية ذاتها والحفاظ على مصالحها، وتأجيل تصدعها وانهيارها قدر ما يسمح به التاريخ. لم يدرك أصحاب القرارات في إيران أن التطلع لنفوذٍ امبراطوري في القرن الحادي والعشرين، وإنفاق جل ما تمتلك الدولة من إمكانات واحتياطيات للحاق بالإمبراطوريات المتكرسة له ارتدادات كارثية، ليس على المشروع غير المنطقي من أساسه، وإنما على الدولة والمجتمع وعلى وتيرة التقدم في التنمية ومستوى الحياة. وحين يُفتقد التوازن بين عناصر القوة ومتطلبات الحياة، في دولةٍ ومجتمع واسع المساحة وكثير السكان، فالنتيجة الحتمية هي الخسارة المحققة في كل المجالات، وهذه حالة لا تخص التجربة الإيرانية وحدها، بل تنسحب على جميع الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ، ذلك أن القانون الواحد بشأنها جميعاً أنها تتشابه في البدايات والنهايات. إذاً إلى أين ينبغي أن يتجه المسار الإيراني الجديد؟ مخطئٌ أي إيراني، مهما كان أصله ودينه ومذهبه وثقافته، حين يعتبر العالم العربي معادياً للدولة الإيرانية، سواءٌ كان اسمها الإسلامية أو الفارسية أو الدينية أو الديمقراطية، أو أي تسمية تختار لنفسها، ذلك أن ما تمتلكه إيران من مواصفاتٍ وإمكانيات ترجح كونها مشروعاً لعلاقاتٍ إستراتيجيةٍ مع جوار عربي، أساسها حسن الجوار بل حسن إدارته والتعامل معه، وتلك حقيقة ترقى إلى مستوى المبدأ سواءٌ في زمنٍ وضعت فيه أول لبنةٍ في المشروع النووي، أو في زمن وقوف الدولة الإسلامية على عتبة إنتاج السلاح النووي، أو في التحول من المخصّب إلى المهرّب، فهل تنتبه إيران لدروس ما حدث لها منذ ثورة الخميني وحتى الوقوف على عتبة النووي وانكسار العتبة أو تصدعها بتوجيه الاهتمام والعمل إلى وجهته الصحيحة؟ المجال الحيوي للدولة والمجتمع الإيراني هو العالم العربي القريب منها أو حتى البعيد عنها، إذ ليس غيره من لا يهددها، بل إنه يتطلع إلى أفضل وأمتن العلاقات العادلة معها، ولا ينقص إيران معرفة القرائن الدامغة على ذلك إلا أن الذي ينقصها حتى الآن هو اعتماد الوسائل الصحيحة لبلورة علاقاتٍ تكاملية راسخة قوامها عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي دولة.. علاقاتٍ تكاملية يستفيد منها الجميع.