logo
مستشفى المجانين في نهاية الأرض.. تاريخ الجنون المظلم في القارة القطبية الجنوبية

مستشفى المجانين في نهاية الأرض.. تاريخ الجنون المظلم في القارة القطبية الجنوبية

الجزيرةمنذ 4 أيام
في تحليله لتاريخ الجنون، استخدم الفيلسوف الفرنسي الشهير ميشيل فوكو رمز متخيل لـ"سفينة المجانين" حيث يقوم المجتمع بنفي واستبعاد من لا يتوافق مع معايير العقل السائدة ويرسل الذين يعتبروا مجانين أو غير مرغوب فيهم على متن سفن تجوب الأنهار الأوروبية دون قبطان. وفي عصرنا، قد نرى صدى لهذه الأمثولة في محطات الأبحاث القطبية المعزولة؛ فهي أشبه بـ "سفن مجانين" حديثة أُلقي بها في بحر من الجليد، وعلى متنها طاقم من البشر محكومون بالعزلة لأشهر طويلة في الظلام.
وعلى متن هذه "السفينة القطبية" المعاصرة، يتآكل الخط الفاصل بين العقل والجنون، ليصبح الخطر الأكبر ليس ما يكمن في الخارج، بل ما يتربص في أعماق النفس البشرية المحاصرة؛ إذ تعد القارة القطبية الجنوبية مختبرا طبيعيا فريدا لقياس حدود القدرة البشرية على التحمل في أقصى البيئات قسوة على وجه الأرض.
ولهذا المختبر المتجمد ثمنه الباهظ أحيانا، وهو ما تجلى بوضوح مؤخرا وبالتحديد في مارس/آذار 2025، عندما اهتزت محطة الأبحاث الجنوب أفريقية "ساني 4" (SANAE IV) على وقع حادثة صادمة في تلك البقعة الهادئة من الأرض؛ حيث هدد أحد العمال، بحسب التقارير، زملاءه واعتدى عليهم، وهذا استدعى تدخلا نفسيا عاجلا عن بعد لإعادة الهدوء إلى طاقم المحطة المكون من 9 أشخاص.
ولم يكن ذلك الحادث مجرد واقعة معزولة، بل اعتبره متابعو تاريخ القارة المتجمدة أحدث حلقة في سلسلة طويلة من التصورات والحقائق التي تحيط بأنتاركاتيكا. وبصفتها مؤرخة للقارة القطبية الجنوبية، تقول دانييلا مكاهي، الأستاذة المساعدة في التاريخ بجامعة تكساس التقنية: "إن الأحداث التي وقعت في "ساني 4″ تمثل استمرارا للتصورات بأن بيئات أنتاركتيكا يمكن أن تثير سلوكا مزعجا للغاية، بل وتدفع الناس إلى حافة الجنون".
هذا الخيط الرفيع بين العبقرية والانهيار، وبين البقاء والجنون، لطالما نسج خيالات الأدباء وحكايات المستكشفين، راسما صورة للقارة ليست مجرد أرض من الجليد، بل هي أيضا مرآة لأعماق النفس البشرية، ويرصد هذا المقال لدانييلا مكاهي الذي نشرته في موقع ذا كونفيرذيشن، بعض جوانب تلك الأجواء المثيرة والغامضة.
جنون خيالي وحكايات حقيقية
تُصوّر أقدم الأمثلة في أدب أنتاركتيكا القارة على أنها تؤثر في العقل والجسد معا. في عام 1797، على سبيل المثال، قبل أكثر من عقدين من أول مشاهدة للقارة من قبل الأوروبيين، كتب الشاعر الإنجليزي صامويل تايلور كولريدج قصيدته "أغنية البحار العجوز" (The Rime of the Ancient Mariner). تحكي القصيدة حكاية سفينة دفعتها العواصف إلى متاهة لا نهاية لها من الجليد في أنتاركتيكا، والتي يهربون منها باتباع طائر القطرس (نوع كبير الحجم من الحمام البحري). ولأسباب غير مبررة، قتل أحد الرجال طائر القطرس وواجه عذابا مدى الحياة لفعله ذلك.
في عام 1838، نشر أديب الرعب الشهير إدغار آلان بو قصة "آرثر غوردون بيم من نانتوكيت" (Arthur Gordon Pym of Nantucket)، الذي رحل إلى المحيط الجنوبي. حتى قبل الوصول إلى أنتاركتيكا، تتضمن الحكاية تمردا، وأكل لحوم البشر، وسفينة بطاقم من الرجال الأموات. مع نهاية القصة، ينجرف بيم واثنان آخران جنوبا، ويواجهان شلالا هائلا من الضباب يبدو لا نهاية له، والذي ينشق أمام قاربهم، ليكشف عن شخصية شبحية كبيرة.
أما قصة كاتب الخيال العلمي الأميركي هوارد فيليبس لافكرافت التي كتبها عام 1936 بعنوان "عند جبال الجنون" (At the Mountains of Madness)، فمن شبه المؤكد أنها استندت إلى قصص حقيقية عن استكشاف القطبين. فيها، يواجه رجال بعثة خيالية إلى أنتاركتيكا ظروفا "جعلتنا لا نتمنى سوى الهروب من هذا العالم الجنوبي من الخراب والجنون المطبق بأسرع ما يمكن". حتى إن أحد الرجال يختبر "رعبا نهائيا" لم يُسمَّ، يتسبب في انهيار عقلي حاد.
ويتضمن فيلم المخرج الأميركي جون كاربنتر لعام 1982 "الشيء" (The Thing) أيضا هذه الموضوعات، عندما يتم اصطياد رجال محاصرين في محطة أبحاث في أنتاركتيكا من قبل كائن فضائي ينتحل شخصية أعضاء القاعدة الذين قتلهم بشكل مثالي. ويسود جنون الارتياب والقلق، إذ يتصل أعضاء الفريق بشكل محموم طالبين المساعدة، ويتم سجن الرجال أو تركهم في الخارج أو حتى قتلهم من أجل الآخرين. وسواء كان ذلك لتجهيز أنفسهم لما قد يأتي أو كمجرد تقليد ماتع، يشاهد طاقم الشتاء في محطة القطب الجنوبي التابعة للولايات المتحدة هذا الفيلم كل عام بعد مغادرة آخر طائرة قبل حلول الشتاء.
ولهذه القصص عن "جنون" أنتاركتيكا بعض الأساس في التاريخ. فهناك حكاية متداولة في دوائر أنتاركتيكا الحديثة عن رجل طعن، وربما قتل، زميلا له بسبب لعبة شطرنج في محطة فوستوك الروسية عام 1959.
وأكثر يقينا كانت التقارير عام 2018، عندما طعن سيرجي سافيتسكي أوليغ بيلوغوزوف في محطة الأبحاث الروسية بيلينغسهاوزن بسبب مظالم متعددة، بما في ذلك تلك التي استولت عليها وسائل الإعلام بشكل كبير: ميل بيلوغوزوف إلى كشف نهايات الكتب التي كان سافيتسكي يقرؤها. وقد أُسقطت تهمة جنائية ضده.
وفي عام 2017، أفاد الموظفون في محطة جزيرة ماريون شبه القطبية التابعة لجنوب أفريقيا أن أحد أعضاء الفريق حطم غرفة زميل له بفأس بسبب علاقة عاطفية.
الصحة العقلية
تعود المخاوف بشأن الصحة العقلية في أنتاركتيكا إلى أبعد من ذلك بكثير. في ما يسمى بـ"العصر البطولي" لاستكشاف أنتاركتيكا، من حوالي عام 1897 إلى حوالي عام 1922، أعطى قادة البعثات الأولوية للصحة العقلية للرجال في بعثاتهم. وكانوا يعلمون أن أطقمهم ستحاصر في الداخل مع نفس المجموعة الصغيرة لأشهر متتالية، في الظلام والبرد القارس.
وكتب الطبيب الأميركي فريدريك كوك، الذي رافق بعثة "بلجيكا" (Belgica expedition) بين عامي 1898 و1899، وهي أول مجموعة معروفة تقضي الشتاء داخل الدائرة القطبية الجنوبية، بعبارات يائسة عن كونه "محكوما عليه" لـ"رحمة" القوى الطبيعية، وعن مخاوفه من "البرد المجهول وتأثيراته المحبطة للروح" في ظلام الشتاء. وفي كتابه الصادر عام 2021 عن تلك الرحلة، وصف الكاتب جوليان سانكتون السفينة بـ"مستشفى المجانين في نهاية الأرض".
وأصبحت مخاوف كوك حقيقة. إذ اشتكى معظم الرجال من "ضعف عام في القوة، وقصور في عمل القلب، وخمول عقلي، وشعور عام بعدم الراحة".
وكتب كوك: "عندما كانوا يعانون بشكل جدي، شعر الرجال بأنهم سيموتون بالتأكيد" وأظهروا "روحا من اليأس المدقع".
وبكلمات الفيزيائي الأسترالي لويس برناتشي، عضو بعثة "الصليب الجنوبي" (Southern Cross expedition) بين عامي 1898 و1900، "هناك شيء غامض وغريب بشكل خاص في تأثير الأجواء الرمادية لليلة أنتاركتيكا، والتي من خلال وسطها غير المؤكد، يلوح المشهد الأبيض البارد غير ملموس كحدود عالم الشياطين".
رحلة مؤلمة
بعد بضع سنوات، شهدت البعثة الأسترالية الآسيوية لأنتاركتيكا، التي امتدت من عام 1911 إلى عام 1914، عدة مآسٍ كبرى، بما في ذلك حالتا وفاة خلال رحلة استكشافية تركت قائد البعثة دوغلاس موسون جائعا ووحيدا وسط تضاريس مليئة بالشقوق العميقة. واستغرقت مسيرة الـ100 ميل إلى بر الأمان النسبي شهرا كاملا.
وجرت مجموعة من الأحداث أقل شهرة في نفس البعثة شملت مشغل التلغراف اللاسلكي سيدني جيفريز، الذي وصل إلى أنتاركتيكا عام 1913 على متن سفينة إمداد. وكانت قاعدة البعثة، كيب دينيسون، تتمتع ببعض أشد الظروف البيئية التي واجهها أي شخص في القارة، بما في ذلك رياح قُدرت سرعتها بأكثر من 160 ميلا في الساعة (حوالي 257 كيلومترا في الساعة).
بدأ جيفريز، وهو الرجل الوحيد في الطاقم الذي يمكنه تشغيل التلغراف اللاسلكي، في إظهار علامات جنون الارتياب. وأرسل رسائل إلى أستراليا يقول فيها إنه الرجل العاقل الوحيد في المجموعة ويدعي أن الآخرين كانوا يخططون لقتله.
وفي رواية موسون عن البعثة، ألقى باللوم على الظروف، وكتب: "لا شك أن الضغط المستمر والحاد لإرسال واستقبال الرسائل في ظل ظروف غير مسبوقة كان من الشدة بحيث أصيب في النهاية بانهيار عصبي".
وكان موسون يأمل أن يساعد قدوم الربيع وإمكانية ممارسة التمارين في الهواء الطلق، لكن ذلك لم يحدث. وبعد وقت قصير من عودته إلى أستراليا في فبراير/شباط 1914، عُثر على جيفريز وهو يتجول في الأدغال الأسترالية وتم إيداعه في مصحة عقلية. ولسنوات عديدة، تم تجاهل دوره في استكشاف أنتاركتيكا، إذ بدا كأنه وصمة عار أو إحراج للمستكشفين في أنتاركتيكا.
وتتأسف الكاتبة قائلة: مع الأسف، إن التركيز العام الواسع على أنتاركتيكا كمكان يسبب سلوكًا مزعجًا يجعل من السهل التغاضي عن مشاكل أكبر وأكثر منهجية.
وفي عام 2022، أصدر برنامج أنتاركتيكا التابع للولايات المتحدة وكذلك القسم الأسترالي لأنتاركتيكا تقارير تفيد بأن الاعتداء والتحرش الجنسي شائعان في قواعد أنتاركتيكا وفي المخيمات الميدانية الأكثر بعدا. ولم يربط العلماء عموما تلك الأحداث بخصوصيات البرد والظلام والعزلة.
وتقول الأكاديمية ومؤرخة القارة المتجمدة دانييلا مكاهي أنه بينما يتطلع البشر للعيش في بيئات قاسية أخرى، مثل الفضاء، لا تمثل أنتارتيكا مجتمعا علميا دوليا تعاونيا فحسب، بل تمثل أيضا مكانا يتغير فيه السلوك البشري، منعزلا عن المجتمع ككل. إن احتفالات يوم منتصف الشتاء تكرم البقاء في مكان من العجائب هو أيضا مكان من الرعب، إذ لا يكمن الخطر الأكبر في ما هو بالخارج، بل في ما هو بداخل عقلك.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

خفض الانبعاثات إلى النصف خلال 5 سنوات لكسب معركة المناخ
خفض الانبعاثات إلى النصف خلال 5 سنوات لكسب معركة المناخ

الجزيرة

timeمنذ 2 أيام

  • الجزيرة

خفض الانبعاثات إلى النصف خلال 5 سنوات لكسب معركة المناخ

في الثامن من يوليو/تموز، خلص اجتماع لكبار علماء العالم بالمملكة المتحدة، لمناقشة نقاط التحول المناخي إلى استنتاج مثير للقلق يتمثل في أن العالم يدخل منطقة خطر تُشكّل فيها نقاط التحول المناخي المتعددة مخاطر كارثية على مليارات البشر. ولاحظت الخلاصة أن البشرية في "سباق حياة" لخفض انبعاثات الكربون، وتوسيع نطاق الحلول وبناء القدرة على الصمود لإدارة الصدمات المناخية المستقبلية. وحسب العلماء بات من الواضح الآن أن الحد من الاحتباس الحراري العالمي إلى حوالي 1.5 درجة مئوية، وهو أحد أهداف اتفاقية باريس للمناخ، أمر ضروري للحد من خطر تجاوز نقاط تحول متعددة. ويبدو الكوكب على وشك الوصول إلى معدل 1.5 درجة مئوية على مدى طويل، وينبغي أن تختفي انبعاثات الكربون من اقتصاداتنا بشكل شبه كامل في غضون بضع سنوات فقط للحد بشكل كبير من خطر زعزعة استقرار كوكبنا بشكل خطير. فكل طن من انبعاثات غازات الدفيئة له أهميته، وسيؤدي الفشل في تغيير الاقتصادات التي ما زالت تعتمد على الوقود الأحفوري إلى عواقب وخيمة على البشر والطبيعة. ويمكن للعالم أن ينبعث منه 305 مليارات طن فقط من ثاني أكسيد الكربون، مع احتمالية بنسبة 50% فقط للاستقرار عند حوالي 1.5 درجة مئوية، والتي كانت تعتبر مستوى ما قبل الصناعة. ويستنزف العالم "الميزانية الكربونية"، وهي كمية ثاني أكسيد الكربون التي يمكننا إطلاقها في الغلاف الجوي مع تجنب الوصول إلى عتبة حرارية معينة، بنسبة 1% شهريا. وقد خلص تحقيق حديث أجرته منظمة "كليمات كولين" (مدقق المناخ) السويدية إلى أنه بدءا من عام 2025، يجب على العالم خفض الانبعاثات إلى النصف كل 5 سنوات كقاعدة عامة، وهي وتيرة تعادل انخفاضا بنسبة 12% تقريبا سنويا. واستندت حسابات التحقيق إلى ورقة ميزانية الكربون لعام 2024 ومبادئ قانون الكربون، التي طُرحت لأول مرة عام 2017، كمسار علمي لتحقيق اتفاقية باريس للمناخ والحد من الاحتباس الحراري إلى أقل بكثير من درجتين مئويتين، بهدف الوصول إلى 1.5 درجة مئوية. ولا تزال الانبعاثات في ازدياد، ولم يتسع نطاق الاستثمار في تخزين الكربون في التربة والنباتات وفي أعماق الأرض بالقدر المأمول. وحسب التحقيق، يجب أن تنخفض الانبعاثات بسرعة وعمق وبشكل دائم ابتداء من عام 2025، ورغم أن تحقيق انخفاض بنسبة 12% في الانبعاثات سنويا يعد أمرا صعبا، فإنه يُظهر الوتيرة والأولوية التي يجب أن نُوليها لإزالة الكربون للنضال من أجل 1.5 درجة مئوية. وفي وقت يجادل البعض بأن العالم يجب أن يسير بخطى أسرع نظرا للمخاطر المحدقة بالكوكب، سيؤدي التوقف التام عن استخدام الوقود الأحفوري في غضون بضع سنوات بلا شك إلى انهيار اقتصادي، وهو ما سيفرز نتائج عكسية، إذ يؤدي إلى اضطرابات سياسية تُنذر بصراعات تقوض كل التقدم الحاصل. ولذلك يعد إيجاد مسار واقعي في ظل هذه المخاطر تحديا كبيرا، ويبقى اتباع مسار لخفض الانبعاثات إلى النصف كل 5 سنوات محاولة معقولة للتغلب على هذا العالم الجديد المحفوف بالمخاطر. هل يمكن تحقيق هذا المسار؟ هناك أدلة كافية على إمكانية خفض الانبعاثات العالمية بنسبة 50% باستخدام التقنيات الحالية، ففي عام 2023، خفض الاتحاد الأوروبي انبعاثاته بنسبة 8.5%، وهذا يشير إلى إمكانية تحقيق تخفيضات واسعة النطاق في العديد من البلدان في وقت واحد. وقد تحقق ذلك بشكل رئيسي من خلال تخفيضات في قطاع الطاقة، ولتحقيق تخفيضات بنسبة 12% سنويا، يلزم بذل المزيد من الجهود لخفض الانبعاثات في قطاعات الإنشاء (البناء) والنقل والأغذية والصناعة، ذات الانبعاثات العالية. وتشير الدراسات إلى أن ما يحتاجه العالم بشدة هو قيادة سياسية وشراكات وتعاون لتسريع وتيرة العمل، في ظل مؤشرات مقلقة على التراجع وغياب المساءلة على كلا الجبهتين. وقد أثارت الانتخابات الأميركية وتراجع الرئيس ترامب عن السياسات المناخية والبيئية تأثيرا متسلسلا في جميع أنحاء العالم، وعززت عودة الوقود الأحفوري، في الوقت الذي يُكافح فيه الاتحاد الأوروبي للتعامل مع الواقع الجيوسياسي الجديد والحرب في أوكرانيا، وهذا يضع الاستدامة البيئية في مرتبة ثانوية. كما تستغل بعض الشركات هذا السياق السياسي الجديد كغطاء للتخلي عن التزاماتها المناخية، وقد أظهرت دراسة حديثة لأهداف المناخ لعام 2030 شملت 1041 شركة، ونُشرت في المجلة الأكاديمية "نيتشر"، أن ما يقرب من 40% من الشركات أخطأت أو تخلت عن أهدافها من دون أي عواقب. وقد صوّت تحالف البنوك المدعوم من الأمم المتحدة، "تحالف صافي الانبعاثات الصفري"، مؤخرا على إلغاء شرط مواءمة التمويل مع 1.5 درجة مئوية. ومع ذلك يحظى العمل المناخي بدعم واسع النطاق. ففي استطلاع رأي شمل 130 ألف شخص من 125 دولة، ونُشر في فبراير/شباط من العام الماضي، أعربت نسبة هائلة بلغت 89% عن اعتقادها بأن على حكومات بلدانها "بذل المزيد من الجهود لمكافحة الاحتباس الحراري". ونظرا لمخاطر نقاط التحول، تقع على البشرية مسؤولية أخلاقية للحد من الانبعاثات بأسرع وقت ممكن، ولم يتبقَّ سوى مستقبل جذري، فإما أن نُغيِّر مجتمعاتنا واقتصاداتنا بالكامل، أو أن يُسلِّم إرث جيلنا عالما مضطربا إلى الأجيال المقبلة. ويعني النضال من أجل 1.5 درجة مئوية الآن خفض الانبعاثات إلى النصف كل 5 سنوات، أي بنسبة 12% سنويا. ويجب على الدول والمجتمعات السرعة اللازمة التي يتطلبها العلم، من أجل مستقبل أفضل للكوكب وللأجيال المقبلة.

فيضانات بجميع أنحاء العالم.. ما الذي يمكن فعله للتكيف؟
فيضانات بجميع أنحاء العالم.. ما الذي يمكن فعله للتكيف؟

الجزيرة

timeمنذ 3 أيام

  • الجزيرة

فيضانات بجميع أنحاء العالم.. ما الذي يمكن فعله للتكيف؟

مع تزايد تأثيرات الطقس المتطرف، تجرف الفيضانات الناس والمنازل وسبل العيش، إذ تؤدي الأمطار الغزيرة إلى فيضان الأنهار، وتساعد أمواج البحر العاتية على دفع أمواج المد فوق السواحل. وتودي الفيضانات بحياة آلاف الأشخاص سنويا، ورغم أن حصيلة الوفيات المباشرة أقل بكثير من حصيلة أكبر مسببات الأمراض البيئية، كارتفاع درجات الحرارة وتلوث الهواء، فإن العلماء غير متأكدين من حجم العبء الصحي غير المباشر. وقد تكون عواقب الفيضان أشد فتكا من الطوفان نفسه، إذ تتلف المحاصيل وتتشر الأمراض. وشهدت بلدان عدة أمطارا غزيرة خلال الأسبوعين الأخيرين، خلف بعضها فيضانات عارمة أحدثت دمارا كبيرا وراح ضحيتها المئات، في تكساس بالولايات المتحدة وجنوب أفريقيا ونيجيريا والهند وإندونيسيا وباكستان. وتُجبر الفيضانات أيضا أعدادا هائلة من الناس على الفرار والإجلاء. ففي عام 2024، شردت المياه السريعة الجريان أكثر من 19 مليون شخص حول العالم في مزيج من عمليات إجلاء احترازي وقرى جرفتها المياه. وأصبحت الكوارث كالعواصف والفيضانات أقل فتكا في العقود الأخيرة، إذ باتت الدول أكثر قدرة على إدارة المخاطر نسبيا، إلا أن الأضرار التي تُسببها تتفاوت تفاوتا كبيرا، فقد لا يتلقى السكان في بنغلاديش أو في الصومال أو نيجيريا أي تحذيرات قبل أن تجرف الفيضانات المفاجئة قراهم. وفي المقابل، قد يتم إجلاء آلاف الأشخاص في فلوريدا بالولايات المتحدة أو هولندا أو الدول الغنية إلى بر الأمان، ولكنهم سيفتقرون مع ذلك إلى إمكانية تأمين إعادة بناء منازلهم. وقد أدت فيضانات تكساس إلى وفاة أكثر من 100 شخص، ووجدت السلطات الأميركية صعوبة فعلية في إدارة الأزمة الناجمة عنها. وعادة ما يكون السكان الذين يعيشون في السهول الفيضية وعلى السواحل، حيث يحصل الجزء الأكبر من النمو السكاني العالمي، معرضون للخطر بشكل خاص، وتكون الخسائر البشرية والاقتصادية أكبر. ثمن التغير المناخي أدى حرق الوقود الأحفوري إلى ارتفاع درجة حرارة الكوكب، مما زاد من خطر هطول أمطار غزيرة تؤدي إلى فيضانات عارمة في أوروبا ومعظم آسيا ووسط وشرق أميركا الشمالية وأجزاء من أميركا الجنوبية وأفريقيا وأستراليا. ومن القواعد الفيزيائية الراسخة أن الهواء الدافئ قادر على الاحتفاظ برطوبة أكبر -حوالي 7% لكل درجة مئوية واحدة- إلا أن ذلك يعتمد على كمية المياه المتاحة، فعندما تهطل أمطار غزيرة يمكن للسحب أن تطلق كميات أكبر بكثير من المياه. ولعلّ من المدهش أن نقص المياه قد يُفاقم الفيضانات، إذ يُجفف الأرض، فالتربة الصلبة المُتكتلة لا تمتص الماء، فتسيل وتتجمع في المناطق المنخفضة، مما يسمح بارتفاع منسوب المياه بوتيرة أسرع بكثير. وتتأثر الفيضانات أيضًا بالعوامل البشرية مثل وجود دفاعات ضد الفيضانات واستخدام الأراضي. يُفاقم تغير المناخ الفيضانات الساحلية برفعه مستوى سطح البحر، وقد بلغ هذا التأثير حدا كبيرا لدرجة أن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ وجدت أن المد العالي، الذي كان يحدث مرة كل قرن، سيضرب معظم سواحل العالم كل عام بحلول عام 2100. وستحدث هذه الزيادة الهائلة حتى في ظل السيناريوهات المتفائلة للحد من التلوث، وستحدث في العديد من المدن الساحلية بحلول منتصف القرن. كيف يمكن التكيف مع الفيضانات؟ تُدمر الفيضانات البنية التحتية كالجسور والطرق والسكك الحديدية، بالإضافة إلى الممتلكات كالمنازل والسيارات، كما يُمكنها تدمير الشركات وتعطيل المكاتب والمدارس والمستشفيات. فعندما ضربت الفيضانات المفاجئة سلوفينيا عام 2023، تسببت في أضرار تُقدر بنحو 10 مليارات يورو، أي ما يعادل حوالي 16% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. وفي الولايات المتحدة، تُقدر خسائر الفيضانات المباشرة في الأصول بما يصل إلى نصف تريليون دولار سنويا. وأدت الفيضانات الأخيرة التي ألحقت دمارا واسعا في أجزاء من ولاية تكساس الأميركية إلى خسائر اقتصادية تتراوح قيمتها الإجمالية بين 18 و22 مليار دولار. يشير الخبراء إلى أنه يصعب التعامل مع الفيضانات المدمرة بوجود التغير المناخي الناجم عن الأنشطة البشرية، وما لم يتم الحد من انبعاثات غازات الدفيئة، يبقى الحل الراهن في الحد من الخسائر والتكيف مع مخاطر الفيضانات. فعلى الصعيد العالمي، تحقق أكبر تقدم في إنقاذ الأرواح بفضل أنظمة الإنذار المبكر التي تُنبّه الناس للخطر وتساعدهم على النجاة منه قبل وقوعه. وقد أثبت هذا التقدم فعاليته بشكل خاص في البلدان المتوسطة الدخل، حيث يعيش معظم الناس، مع أن الأمر ما زال صعبا في أفقر مناطق العالم. كما يمكن لبناء السدود وأحواض الاحتجاز أن يحدّ من أضرار الأمطار الغزيرة. وفي المدن، تستطيع الحدائق والمساحات الخضراء الأخرى امتصاص مياه الأمطار قبل أن تتحول إلى فيضان. وعلى السواحل، يمكن للجدران البحرية أن تمنع دخول المياه. لكن العلماء يُحذّرون من وجود حدود للتكيف مع ارتفاع حرارة الكوكب وتزايد مخاطر الطقس المتطرف. ويتزايد الحديث عما يعرف بـ"الانسحاب المُنظّم" لإبعاد الناس بشكل دائم عن الخطر. وقد سلك بعض المجتمعات حول العالم هذا المسار فعلا، الذي يعني هجر المنازل والمدن المهددة بشكل أكبر، ويشمل في حالة الدول الجزرية الصغيرة التي غمرها البحر، هجر دول بأكملها.

مستشفى المجانين في نهاية الأرض.. تاريخ الجنون المظلم في القارة القطبية الجنوبية
مستشفى المجانين في نهاية الأرض.. تاريخ الجنون المظلم في القارة القطبية الجنوبية

الجزيرة

timeمنذ 4 أيام

  • الجزيرة

مستشفى المجانين في نهاية الأرض.. تاريخ الجنون المظلم في القارة القطبية الجنوبية

في تحليله لتاريخ الجنون، استخدم الفيلسوف الفرنسي الشهير ميشيل فوكو رمز متخيل لـ"سفينة المجانين" حيث يقوم المجتمع بنفي واستبعاد من لا يتوافق مع معايير العقل السائدة ويرسل الذين يعتبروا مجانين أو غير مرغوب فيهم على متن سفن تجوب الأنهار الأوروبية دون قبطان. وفي عصرنا، قد نرى صدى لهذه الأمثولة في محطات الأبحاث القطبية المعزولة؛ فهي أشبه بـ "سفن مجانين" حديثة أُلقي بها في بحر من الجليد، وعلى متنها طاقم من البشر محكومون بالعزلة لأشهر طويلة في الظلام. وعلى متن هذه "السفينة القطبية" المعاصرة، يتآكل الخط الفاصل بين العقل والجنون، ليصبح الخطر الأكبر ليس ما يكمن في الخارج، بل ما يتربص في أعماق النفس البشرية المحاصرة؛ إذ تعد القارة القطبية الجنوبية مختبرا طبيعيا فريدا لقياس حدود القدرة البشرية على التحمل في أقصى البيئات قسوة على وجه الأرض. ولهذا المختبر المتجمد ثمنه الباهظ أحيانا، وهو ما تجلى بوضوح مؤخرا وبالتحديد في مارس/آذار 2025، عندما اهتزت محطة الأبحاث الجنوب أفريقية "ساني 4" (SANAE IV) على وقع حادثة صادمة في تلك البقعة الهادئة من الأرض؛ حيث هدد أحد العمال، بحسب التقارير، زملاءه واعتدى عليهم، وهذا استدعى تدخلا نفسيا عاجلا عن بعد لإعادة الهدوء إلى طاقم المحطة المكون من 9 أشخاص. ولم يكن ذلك الحادث مجرد واقعة معزولة، بل اعتبره متابعو تاريخ القارة المتجمدة أحدث حلقة في سلسلة طويلة من التصورات والحقائق التي تحيط بأنتاركاتيكا. وبصفتها مؤرخة للقارة القطبية الجنوبية، تقول دانييلا مكاهي، الأستاذة المساعدة في التاريخ بجامعة تكساس التقنية: "إن الأحداث التي وقعت في "ساني 4″ تمثل استمرارا للتصورات بأن بيئات أنتاركتيكا يمكن أن تثير سلوكا مزعجا للغاية، بل وتدفع الناس إلى حافة الجنون". هذا الخيط الرفيع بين العبقرية والانهيار، وبين البقاء والجنون، لطالما نسج خيالات الأدباء وحكايات المستكشفين، راسما صورة للقارة ليست مجرد أرض من الجليد، بل هي أيضا مرآة لأعماق النفس البشرية، ويرصد هذا المقال لدانييلا مكاهي الذي نشرته في موقع ذا كونفيرذيشن، بعض جوانب تلك الأجواء المثيرة والغامضة. جنون خيالي وحكايات حقيقية تُصوّر أقدم الأمثلة في أدب أنتاركتيكا القارة على أنها تؤثر في العقل والجسد معا. في عام 1797، على سبيل المثال، قبل أكثر من عقدين من أول مشاهدة للقارة من قبل الأوروبيين، كتب الشاعر الإنجليزي صامويل تايلور كولريدج قصيدته "أغنية البحار العجوز" (The Rime of the Ancient Mariner). تحكي القصيدة حكاية سفينة دفعتها العواصف إلى متاهة لا نهاية لها من الجليد في أنتاركتيكا، والتي يهربون منها باتباع طائر القطرس (نوع كبير الحجم من الحمام البحري). ولأسباب غير مبررة، قتل أحد الرجال طائر القطرس وواجه عذابا مدى الحياة لفعله ذلك. في عام 1838، نشر أديب الرعب الشهير إدغار آلان بو قصة "آرثر غوردون بيم من نانتوكيت" (Arthur Gordon Pym of Nantucket)، الذي رحل إلى المحيط الجنوبي. حتى قبل الوصول إلى أنتاركتيكا، تتضمن الحكاية تمردا، وأكل لحوم البشر، وسفينة بطاقم من الرجال الأموات. مع نهاية القصة، ينجرف بيم واثنان آخران جنوبا، ويواجهان شلالا هائلا من الضباب يبدو لا نهاية له، والذي ينشق أمام قاربهم، ليكشف عن شخصية شبحية كبيرة. أما قصة كاتب الخيال العلمي الأميركي هوارد فيليبس لافكرافت التي كتبها عام 1936 بعنوان "عند جبال الجنون" (At the Mountains of Madness)، فمن شبه المؤكد أنها استندت إلى قصص حقيقية عن استكشاف القطبين. فيها، يواجه رجال بعثة خيالية إلى أنتاركتيكا ظروفا "جعلتنا لا نتمنى سوى الهروب من هذا العالم الجنوبي من الخراب والجنون المطبق بأسرع ما يمكن". حتى إن أحد الرجال يختبر "رعبا نهائيا" لم يُسمَّ، يتسبب في انهيار عقلي حاد. ويتضمن فيلم المخرج الأميركي جون كاربنتر لعام 1982 "الشيء" (The Thing) أيضا هذه الموضوعات، عندما يتم اصطياد رجال محاصرين في محطة أبحاث في أنتاركتيكا من قبل كائن فضائي ينتحل شخصية أعضاء القاعدة الذين قتلهم بشكل مثالي. ويسود جنون الارتياب والقلق، إذ يتصل أعضاء الفريق بشكل محموم طالبين المساعدة، ويتم سجن الرجال أو تركهم في الخارج أو حتى قتلهم من أجل الآخرين. وسواء كان ذلك لتجهيز أنفسهم لما قد يأتي أو كمجرد تقليد ماتع، يشاهد طاقم الشتاء في محطة القطب الجنوبي التابعة للولايات المتحدة هذا الفيلم كل عام بعد مغادرة آخر طائرة قبل حلول الشتاء. ولهذه القصص عن "جنون" أنتاركتيكا بعض الأساس في التاريخ. فهناك حكاية متداولة في دوائر أنتاركتيكا الحديثة عن رجل طعن، وربما قتل، زميلا له بسبب لعبة شطرنج في محطة فوستوك الروسية عام 1959. وأكثر يقينا كانت التقارير عام 2018، عندما طعن سيرجي سافيتسكي أوليغ بيلوغوزوف في محطة الأبحاث الروسية بيلينغسهاوزن بسبب مظالم متعددة، بما في ذلك تلك التي استولت عليها وسائل الإعلام بشكل كبير: ميل بيلوغوزوف إلى كشف نهايات الكتب التي كان سافيتسكي يقرؤها. وقد أُسقطت تهمة جنائية ضده. وفي عام 2017، أفاد الموظفون في محطة جزيرة ماريون شبه القطبية التابعة لجنوب أفريقيا أن أحد أعضاء الفريق حطم غرفة زميل له بفأس بسبب علاقة عاطفية. الصحة العقلية تعود المخاوف بشأن الصحة العقلية في أنتاركتيكا إلى أبعد من ذلك بكثير. في ما يسمى بـ"العصر البطولي" لاستكشاف أنتاركتيكا، من حوالي عام 1897 إلى حوالي عام 1922، أعطى قادة البعثات الأولوية للصحة العقلية للرجال في بعثاتهم. وكانوا يعلمون أن أطقمهم ستحاصر في الداخل مع نفس المجموعة الصغيرة لأشهر متتالية، في الظلام والبرد القارس. وكتب الطبيب الأميركي فريدريك كوك، الذي رافق بعثة "بلجيكا" (Belgica expedition) بين عامي 1898 و1899، وهي أول مجموعة معروفة تقضي الشتاء داخل الدائرة القطبية الجنوبية، بعبارات يائسة عن كونه "محكوما عليه" لـ"رحمة" القوى الطبيعية، وعن مخاوفه من "البرد المجهول وتأثيراته المحبطة للروح" في ظلام الشتاء. وفي كتابه الصادر عام 2021 عن تلك الرحلة، وصف الكاتب جوليان سانكتون السفينة بـ"مستشفى المجانين في نهاية الأرض". وأصبحت مخاوف كوك حقيقة. إذ اشتكى معظم الرجال من "ضعف عام في القوة، وقصور في عمل القلب، وخمول عقلي، وشعور عام بعدم الراحة". وكتب كوك: "عندما كانوا يعانون بشكل جدي، شعر الرجال بأنهم سيموتون بالتأكيد" وأظهروا "روحا من اليأس المدقع". وبكلمات الفيزيائي الأسترالي لويس برناتشي، عضو بعثة "الصليب الجنوبي" (Southern Cross expedition) بين عامي 1898 و1900، "هناك شيء غامض وغريب بشكل خاص في تأثير الأجواء الرمادية لليلة أنتاركتيكا، والتي من خلال وسطها غير المؤكد، يلوح المشهد الأبيض البارد غير ملموس كحدود عالم الشياطين". رحلة مؤلمة بعد بضع سنوات، شهدت البعثة الأسترالية الآسيوية لأنتاركتيكا، التي امتدت من عام 1911 إلى عام 1914، عدة مآسٍ كبرى، بما في ذلك حالتا وفاة خلال رحلة استكشافية تركت قائد البعثة دوغلاس موسون جائعا ووحيدا وسط تضاريس مليئة بالشقوق العميقة. واستغرقت مسيرة الـ100 ميل إلى بر الأمان النسبي شهرا كاملا. وجرت مجموعة من الأحداث أقل شهرة في نفس البعثة شملت مشغل التلغراف اللاسلكي سيدني جيفريز، الذي وصل إلى أنتاركتيكا عام 1913 على متن سفينة إمداد. وكانت قاعدة البعثة، كيب دينيسون، تتمتع ببعض أشد الظروف البيئية التي واجهها أي شخص في القارة، بما في ذلك رياح قُدرت سرعتها بأكثر من 160 ميلا في الساعة (حوالي 257 كيلومترا في الساعة). بدأ جيفريز، وهو الرجل الوحيد في الطاقم الذي يمكنه تشغيل التلغراف اللاسلكي، في إظهار علامات جنون الارتياب. وأرسل رسائل إلى أستراليا يقول فيها إنه الرجل العاقل الوحيد في المجموعة ويدعي أن الآخرين كانوا يخططون لقتله. وفي رواية موسون عن البعثة، ألقى باللوم على الظروف، وكتب: "لا شك أن الضغط المستمر والحاد لإرسال واستقبال الرسائل في ظل ظروف غير مسبوقة كان من الشدة بحيث أصيب في النهاية بانهيار عصبي". وكان موسون يأمل أن يساعد قدوم الربيع وإمكانية ممارسة التمارين في الهواء الطلق، لكن ذلك لم يحدث. وبعد وقت قصير من عودته إلى أستراليا في فبراير/شباط 1914، عُثر على جيفريز وهو يتجول في الأدغال الأسترالية وتم إيداعه في مصحة عقلية. ولسنوات عديدة، تم تجاهل دوره في استكشاف أنتاركتيكا، إذ بدا كأنه وصمة عار أو إحراج للمستكشفين في أنتاركتيكا. وتتأسف الكاتبة قائلة: مع الأسف، إن التركيز العام الواسع على أنتاركتيكا كمكان يسبب سلوكًا مزعجًا يجعل من السهل التغاضي عن مشاكل أكبر وأكثر منهجية. وفي عام 2022، أصدر برنامج أنتاركتيكا التابع للولايات المتحدة وكذلك القسم الأسترالي لأنتاركتيكا تقارير تفيد بأن الاعتداء والتحرش الجنسي شائعان في قواعد أنتاركتيكا وفي المخيمات الميدانية الأكثر بعدا. ولم يربط العلماء عموما تلك الأحداث بخصوصيات البرد والظلام والعزلة. وتقول الأكاديمية ومؤرخة القارة المتجمدة دانييلا مكاهي أنه بينما يتطلع البشر للعيش في بيئات قاسية أخرى، مثل الفضاء، لا تمثل أنتارتيكا مجتمعا علميا دوليا تعاونيا فحسب، بل تمثل أيضا مكانا يتغير فيه السلوك البشري، منعزلا عن المجتمع ككل. إن احتفالات يوم منتصف الشتاء تكرم البقاء في مكان من العجائب هو أيضا مكان من الرعب، إذ لا يكمن الخطر الأكبر في ما هو بالخارج، بل في ما هو بداخل عقلك.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store