
شاشة الناقد: فيلمان رائعان ما بين هدوء الإيقاع وعنفه
HOME SWEET HOME ★★★★
• إخراج: رينيه فريله بيترسن
• دانمارك | دراما (112 د)
• عروض 2025: مهرجان «سياتل» (الولايات المتحدة)
يتبع هذا الفيلم منهج الجمع بين الحكاية الدرامية والسرد التسجيلي. هذه مدرسة ازداد عدد المنتمين إليها من المخرجين الذين يكتبون سيناريو روائياً ويصورونه كما لو كانوا يتابعون الحياة من دون إيقاعاتها ومفارقاتها. معظم هذا النوع يتعثر ويثمر عن نصف نجاح أو أقل، لكن هذا الفيلم يمسك بالمعادلة الصعبة جيداً ويمنح مشاهديه معايشة لما يعرضه على نحو صادق ومثير للمتابعة.
إنه عن الشابة صوفيا (ييت سوندرغراد) التي تبدأ العمل في مركز للعناية بكبار السن في منازلهم. مشهد الافتتاح يُصور يومها الأول، حيث تترقب، بابتسامة عريضة، ما تقوم به ممرضة أخرى لتتعلم منها. سريعاً بعد ذلك تبدأ العمل منفردة وبكل عناية. تتكلم وتستمع وتُداوي، ومن ثم تنتقل إلى منزل آخر فيه مريض آخر. كل شيء يبدو طبيعياً، لكن العين تراقب تبدلات لاحقة وتطورات تجعل عمل صوفيا أكثر صعوبة عندما تواجه، بعد حين، تذمر المرضى ومواجهات لم تكن في حسبانها.
تحاول صوفيا في البداية التعايش مع متطلبات وظيفتها والتعامل مع إحباط وعجز من تُنتدب لتأمين متطلباتهم. بعد حين، ينعكس كل ذلك عليها ويجعلها أقل استجابة وأكثر استعداداً لتقديم الأقل في أسرع وقت. إلى جانب أن ابنتها (10 سنوات) تعيش حزناً صامتاً بسبب غياب والدتها عنها.
الكاميرا عند بيترسن هي عين مستقلة، شريك صامت لما يقع، تتابع أخطاء المؤسسة وتنتقدها عبر تفاصيل منتقاة من دون مبالغة درامية. ألوان وديكورات وأضواء الأمكنة عارية من الدفء. متابعة التفاصيل تؤدي إلى نقد المؤسسة التي تقضم سعادة العاملين فيها.
HIGHEST 2 LOWEST ★★★★
• إخراج: سبايك لي
• الولايات المتحدة | تشويق (133 د)
• عروض 2025: مهرجان «كان» (فرنسا)
الرقم 2 في العنوان هو بديل لكلمة to والفيلم مأخوذ عن «عالٍ ومنخفض» (Hight and Low) للياباني أكيرا كوروساوا. وكلاهما - سبايك لي وكوروساوا - يستندان إلى رغبة كل منهما تداول أزمة أخلاقية - اجتماعية - عائلية ناتجة عن عملية خطف مقابل فدية.
دنزل واشنطن في «عالٍ ومنخفض» (A24)
المسيرة بدأت سنة 1963 عندما اقتبس كوروساوا رواية وضعها الأميركي إيفان هنتر. جيل كامل عاش على روايات هنتر البوليسية (منهم هذا الناقد)، خصوصاً تلك التي كتبها تحت اسم آخر هو إد ماكبين. وهو كتب سيناريوهات للسينما، أشهرها سيناريو فيلم «الطيور» لألفرد هيتشكوك سنة 1963، المأخوذ عن قصة لدافني دو مورييه.
كوروساوا حوّل رواية هنتر «فدية كينغ» إلى «عالٍ ومنخفض» للتعبير عن مستويات أخلاقية ومهنية، وصوّر فيلمه بالأبيض والأسود، محولاً اسم الشخصية الرئيسية من كينغ إلى كينغو. سبايك لي عاد إلى الاسم الأصلي في الرواية وصوّر الفيلم ملوّناً في نيويورك.
يحاذي «عالٍ ومنخفض» فيلم كوروساوا في إجادة التنفيذ، مع اختلاف كبير في استخدام المفردات التقنية والفنية. لكلٍّ منهما أسلوبه، ونقطة اللقاء هي سرد محكم لدراما تشويقية هي أكثر من مجرد فيلم بوليسي.
في الفيلم الجديد، يعاني كينغ (دنزل واشنطن) من متاعب مادية، ويرى أن إنقاذ شركته يعتمد على التفاوض مع شركائه بُغية شراء حصصهم. لا اتفاق، بل غضب. بعد انتهاء اجتماع بلا نتيجة واضحة، يرنّ الهاتف. هناك من يُخبر كينغ أن ابنه تراي (أوبري جوزيف) قد خُطف. يتحوّل كل شيء إلى عاصفة، ثم تزداد الأزمة صعوبة عندما يصله نبأ أن ابن سائقه الخاص (جيفري رايت)، واسمه كايل (يؤدي دور كايل إيلايجا رايت، ابن الممثل جيفري رايت في الواقع)، هو أيضاً مفقود. لقد ارتكبت العصابة خطأً حين خطفت ابن السائق معتقدةً أنه ابن كينغ. المعضلة هنا هي: هل كينغ على استعداد لدفع الفدية (نحو 17 مليون دولار) لإنقاذ ابن سائقه، في الوقت الذي يسعى فيه لتجاوز أزمة شركته المالية؟ هذا هو الجانب الأخلاقي من الفيلم. النصف الثاني منه يعتمد على الحركة، والإيقاع، والنبرة التشويقية القائمة على الإثارة. لكن الفيلم لا يفلت من يد سبايك لي لسببين: الأول أنه أحكم قبضته على العمل ككل بفضل سيناريو جيد لآلان فوكس، والثاني اعتماده على تصوير ماثيو ليباتيك تواكب نظرة المخرج الخاصة لمدينة نيويورك.
في أفلامه السابقة، مثل «حمى الغابة» و«الساعة الخامسة والعشرين» (25th Hour)، تعامل مع هذه المدينة بحب، رغم واقعية تصويره لها. لمدينة نيويورك وجهان، وكلاهما موجودان في أفلام المخرج؛ أحدهما جميل، والآخر قبيح، وكلاهما يتناصفان. موسيقى هوارد دروسِن أكثر من عنصرٍ مكمّلٍ لفيلمٍ يُعَدّ من أفضل أعمال المخرج حتى اليوم.
★ ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق الأوسط
منذ 13 ساعات
- الشرق الأوسط
شاشة الناقد: فيلمان من مهرجانين
THE NEW YEAR THAT NEVER CAME ★★★ * إخراج: بوغدان موريسانو * رومانيا | دراما سياسية عن الحقبة الشيوعية * عروض 2025: مهرجان «سياتل» (الولايات المتحدة) في 25 ديسمبر (كانون الأول) سنة 1989، نُفِّذ حكم الإعدام في رئيس جمهورية رومانيا نيكولاي تشاوشيسكو، وبذلك لم تنتهِ فترة حكمه فقط، بل انتهت أيضاً الحقبة الشيوعية في البلاد. «العام الجديد الذي لم يأتِ»، إبحار في الأيام القليلة التي سبقت نهاية تشاوشيسكو، تعكس وضع الثورة المضادة في فترة مشحونة، وسعي الاستخبارات العسكرية والأمنية لإحباطها. بطلة الفيلم اسمها فلورينا (تؤدي دورها جيداً نيكوليتا هانسو)، وهي ممثلة مسرحية اضطرت إلى المشاركة في سهرة تلفزيونية صُوّرت بمناسبة العيد المقبل بسبب موقفها من النظام. قبل أيام قليلة من موعد البث، اكتشف منتجو البرنامج أن الممثلة غير مرغوب فيها لأسباب سياسية، مما استدعى البحث عن بديل سريع. في الوقت نفسه، يُجري الأمن تحقيقاً في نشاط مجموعة من الطلاب قدّموا عرضاً مسرحياً ساخراً. ويهتمّ المحققون بمعرفة ما الذي يُحضّره هؤلاء الطلاب، فيزرعون جاسوساً بينهم. ينتقل الفيلم بين هذه الشخصيات بسلاسة، لكن تأمين إيقاع جيّد ليس من نقاط قوة المخرج. ففي ساعتين و45 دقيقة من العرض، نجد مشاهد كان يمكن إيجازها، وأخرى يمكن حذفها من دون أن يُضعِف ذلك الفيلم، لا من حيث السياق ولا من حيث الرسالة. يعتمد المخرج أسلوباً واقعياً في المعالجة، وفي الأداء التمثيلي، وفي التصوير الذي يُذكّر هذا الناقد بأسلوب الأفلام الرومانية والبولندية وغيرها من سينما شرق أوروبا، التي شاهدها قبل التغييرات السياسية الكبرى وبعدها، حيث تتشكّل المشاهد بأقل قدر ممكن من عناصر الترفيه أو البذخ. DEATH DOES NOT EXIST ★★ * إخراج: فيليكس دوفور-لابريير * كندا/ فرنسا | رسوم تطمح لطرح سياسي. * عروض 2025: مهرجان أنِسي (فرنسا). العلاقة ضعيفة بين عنوان الفيلم، «لا وجود للموت»، وبين الحكاية التي يسردها. ربما لو عمدنا إلى مدّ خيط بين ما يحدث أمامنا وبين بعض الأبعاد المفترضة، نستطيع أن نستخلص أن المعنى وجداني، ولو أن الفيلم لا يتعاطى الأفكار ولا الوجدانيات، بل يسرد حكاية حول رغبة خلية إرهابية يسارية أجنبية في تغيير العالم للتخلص من اليمين والأثرياء، وتحقيق عدالة لا وجود لها (في الواقع) إلا في التمنيات. «لا وجود للموت» (إمبوسكاد فيلمز) لا يتعاطى الفيلم مع التمنيات. يُمهّد حكايته بمشهد هجوم تقوم به تلك العصبة من الشبّان والشابات على قصر تحميه عناصر أمنية خاصّة، وكيف تقرر امرأة في هذه المجموعة أن تترك العمل الإرهابي بسبب ضحاياه. من بدايته، يتحوّل الفيلم إلى منشور لموضوع ماثل في البال لم يُترجم صحيحاً على الورق أو على الشاشة. رسوم هذا الفيلم تتحرك بلا سلاسة أو ليونة. الألوان باهتة هنا، ومفتقرة إلى التنوع هناك. استخدام «كلوز أبس» للوجوه لا جدوى منه في غالب الأحيان، إذ يبدو اعتراضاً على السياق ولا يستدعي تمييز المتحدّث. أكثر من ذلك، لم أرَ داعياً لتلوين الوجوه بألوان الطبيعة (تصبح خضراء إذا ما كانت بالقرب من الشجر مثلاً). يعاني الفيلم كذلك من إبهام في دوافعه. حتى لو اعتبرناه فيلماً ذا رسالة ثورية، فإنه يصعب التوقف عند رأي واضح في ذهن مخرجه أو رغبة محدّدة لديه، ما لم تُذكر دوافع معيّنة تُترجم فنياً. يحاول الفيلم استخدام الحوار كوسيلة مباشرة للتعريف. وكذلك، فإن من يُفترض أن يكونوا أعداء يظهرون بهذه الصفة فقط، من دون مبررات واضحة، سوى أنهم أثرياء. ★ ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز


مجلة هي
منذ 15 ساعات
- مجلة هي
إطلالات النجمات الجمالية في فعاليات زفاف جيف بيزوس ولورين سانشيز خطفت الأنظار ..بالصور
انطلقت رسمياً فعاليات الإحتفال بزفاف رجل الأعمال الأميركي جيف بيزوس ولورين سانشيز وذلك خلال استقبال حافل للنجوم والمشاهير في مدينة البندقية الإيطالية. واللافت مواكبة أجمل إطلالاتهن الجمالية والتحضيرات التي ستسبق حفل الزفاف الذي سيستمر 3 ليالٍ في أجواء جمالية نبدأ بمواكبتها منذ اللحظات الأولى. شاهدي من خلال الصور كيف وثّقت عدسات المصورين أبرز إطلالات النجمات الجمالية اللواتي سيحضرن هذا الحفل، على رأسهن الملكة رانيا والأميرة رجوة الحسين وكيم كارداشيان وغيرهن من النجمات. اطلالة العروس Lauren Sanchez بالمكياج الناعم اطلالة العروس Lauren Sanchez بالمكياج الناعم- الصورة من حسابها على انستغرام بداية أطلّت العروس لورين سانشيز Lauren Sanchez برسمات المكياج الناعم والمسحوب على كامل الجفون العليا للعينين. فسحرتنا بالظلال النيود البارزة على حدود الجفون العليا للعينين، ولم تتردد بسحب خطوط الآيلاينر السوداء الرفيعة على الجفون العليا بطريقة مجنحة وممدودة الى الجهة الخارجية للعينين. هذه الظلال تبدو أكثر تميزاً مع تمرير الماسكارا السوداء الكثيفة المفرغة على الرموش العليا والسفلى بحد سواء. كما حافظت على الوان البلاشر المشمشي المات اعلى الوجنتين مع احمر الشفاه المشمشس بطريقة ملفتة للنظر مع تحديد الشفة السفلى بالكونتور الكريمي الرفيع. إطلالة كيم كارداشيان بالمكياج البرونزي إطلالة كيم كارداشيان بالمكياج البرونزي- الصورة من حساب خبير الشعر Dimitris Giannetos على انستغرام من الاطلالات الجمالية البارزة في هذا الحفل، إطلالة النجمة كيم كارداشيان Kim Kardashian برسمات المكياج البرونزي على كامل الجفون العليا مع احمر الشفاه الطبيعي اللماع. فقومي بتمرير الظلال المشرقة وانثري التدرجات الظلال البنية المدموجة مع اللون الاسود على كامل الجفون العليا للعينين وصولاً الى حدود الحواجب. كما اسحبي الخطوط البنية على الجفون السفلى للعينين خصوصاً أن هذه التدرجات تليق بالبشرة السمراء. ولا تتخلى عن تكثيف طبقات الماسكارا السوداء التي تجعل عينيك أوسع. إطلالة كيم كارداشيان بتسريحات الشعر الطبيعية - الصورة من حساب خبير الشعر Dimitris Giannetos على انستغرام من ناحية تسريحات الشعر، تألقت كيم كارداشيان Kim Kardashian بأجمل تسريحات الشعر الويفي المنسدلة على كامل الظهر والاكتاف مع الفرق الوسطي والخصل الجانبية العالية والمسحوبة مع الشعر للحصول على جمال متكامل. إطلالة كريس جينر بالخطوط السوداء المات إطلالة كريس جينر بالخطوط السوداء المات- الصورة من حساب خبيرة المكياج Nikki_Makeup على انستغرام وحرصت النجمة كريس جينر Kris Jenner على اختيار مكياج مشرق في هذا الحفل، وتألقت برسمات المكياج الاسود الذي جعل بشرتها ملفتة وأكثر جاذبية. طبّقي بأسلوبها هذه الظلال على الجهة الخارجية للجفون العليا للعينين قبل تمرير الخطوط السوداء المات على الجهة الداخلية للعينين وعند حدود الجفون السفلى بطريقة مترابطة وتظهر سحبة العينين، مع طبقات الماسكارا الكثيفة والسوداء. لا بد من تطبيق بأسلوب النجمة كريس جينر Kris Jenner البلاشر البرونزي القوي على جوانب الوجنتين بطريقة مسحوبة الى حدود الاذنين. ولا تتخلي بأسلوبها عن أحمر الشفاه اللماع مع الكونتور الداكن الذي يبرز حجم الشفاه بشكل طبيعي. إطلالة كريس جينر بأجمل تسريحات الشعر القصير والمتدرجة - الصورة من حساب خبيرة المكياج Nikki_Makeup على انستغرام كما تألقت كريس جينر Kris Jenner بأجمل تسريحات الشعر القصير والمتدرجة مع الموديلات الكاريه والمبللة، المسحوبة مع الفرق الجانبي العصري والخصل الهندسية المنسدلة على الجبين بطريقة ملفتة ومصفصفة. فطبّقي بأسلوبها أجمل التسريحات المترابطة مع الخصل الحيوية والتي لا تصل الى حدود الاكتاف ولا تتخلي عن الغرة الامامية على الجبين بأسلوب ملفت للنظر. اطلالة Ivanka Trump بمكياج سموكي ومشرق اطلالة Ivanka Trump بمكياج سموكي ومشرق- الصورة من حسابها على انستغرام وحرصت الجميلة إيفانكا ترامب Ivanka Trump على اختيار مكياج سموكي ومشرق في هذا الحفل، وتألقت برسمات المكياج الاسود الذي برز بشرتها الفاتحة. فطبّقي بأسلوبها رسمات المكياج القوي الذي اختارته مسحوباً على كامل الجفون العليا للعينين، مع تمرير خطوط الكحل البنية والمات على الجفون السفلى للعينين. هذا المكياج يمكنك تمريره مع الظلال البيج الفاتحة وألوان البلاشر البرونزي القوي بطريقة ساحرة. كما حافظت على تسريحات الشعر الويفي المتدرج على الاكتاف الطويلة مع الخصل الجانبية التي لا تخف الجبين بطريقة متجددة وساحرة في عالم الجمال. إطلالة الملكة رانيا بتسريحات الشعر الويفي إطلالة الملكة رانيا بتسريحات الشعر الويفي- الصورة من Getty Images بدورها حافظت الملكة رانيا على تسريحات الشعر الويفي المتدرج على الظهر مع الخصل المسحوبة بشكل نصفي على الجوانب بتدرجات قصيرة من الامام وطويلة من الخلف. مع هذه التسريحة برزت صيحة الخصل العسلية الفاتحة والمسحوبة مع الشعر بكثير من البساطة مع عدم اسدال الخصل على جوانب الجبين لجعل اطلالاتها شبابية.


الشرق الأوسط
منذ 15 ساعات
- الشرق الأوسط
«بورتوبيلو»... حيث تتقاطع الأزمنة وتنبض الذاكرة
هل سبق لك أن شممت عبق الماضي يتسلَّل بين زوايا شارع يعج بالحياة؟ في صباح أحد أيام السبت، قادني هذا السؤال إلى «سوق بورتوبيلو» في حي نوتينغ هيل بلندن، حيث يلتقي عبق الزمن العتيق مع ألوان الحياة الزاهية. لم أكن أعلم ما ينتظرني، لكن حدسي دفعني إلى عالم تتعانق فيه الذكريات مع الحاضر، ويتحول فيه كل ركن إلى صفحة من كتاب حي يروي قصصاً تتجاوز حدود الزمن. وما إنْ وطئت قدماي الشارع حتى غمرني عبق الزمن، وصدحت أصوات الحكايات المختبئة بين زوايا السوق، حيث يلتقي القديم مع الجديد في سيمفونية من الدهشة والجمال، محفورة في الذاكرة. السوق وجهة أساسية لهواة المقتنيات القديمة (الشرق الأوسط) سوق التحف الأوسع في العالم يُقال إن لكل سوق قصتها، وقصة سوق «بورتوبيلو» تعود إلى قرون مضت. تُعدّ إحدى أشهر الأسواق المفتوحة في أوروبا، إن لم تكن في العالم. ورغم وجود أسواق أقدم مثل «لا بوكويريا» في برشلونة (1217)، و«سوق بولونيا» في إيطاليا من القرن الـ12، فإن «بورتوبيلو» تميَّزت بتحولها الديناميكي من سوق خضار وفواكه في منتصف القرن الـ19 إلى أكبر سوق تحف في العالم. ومع مرور الوقت، شهدت السوق انطلاقتها الفعلية بعد شق طريق بورتوبيلو عام 1850، وازدهرت تدريجياً مع افتتاح محطة لادبروك غروف عام 1864، مما سهّل الوصول إليها بشكل كبير. وبعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت وجهة أساسية لهواة المقتنيات القديمة، مع تصاعد ثقافة إعادة التدوير وشغف الناس بكل ما يحمل طابعاً تاريخياً. واليوم، تحولت إلى وجهة ثقافية تجذب أكثر من مائة ألف زائر أسبوعياً، معظمهم يأتون خصيصاً لاقتناء قطع نادرة مثل ساعة جيب فيكتوريّة، أو آلة تصوير عتيقة، أو مجلد خرائط من زمن الإمبراطورية البريطانية. في السوق أزياء «فينتج» (الشرق الأوسط) يوم السبت... مهرجان شعبي بألوان عالمية وفي قلب كل هذا النشاط، يحتل يوم السبت مكانة خاصة. رغم أن السوق تعمل جزئياً على مدار الأسبوع، فإن السبت هو يومها الذهبي. يقول أحد البائعين المحليين: «هذا النهار هنا يشبه المهرجان، ترى الناس من كل أنحاء العالم يبحثون عن قطعة تروي لهم قصة، هذا هو جمال السوق». يتحول شارع بورتوبيلو إلى ممر طويل يعجّ بالبشر، يتزاحمون بين مئات الأكشاك التي تعرض كل ما يمكن تخيّله: التحف، والمجوهرات، والأزياء «فينتج»، والكتب القديمة، والأسطوانات الموسيقية، وأدوات المطبخ، وحتى ألعاب طفولة من القرن الماضي. مع تنقلك بين العارضين، تتنوع الحواس. يطالعك وجه مغنٍّ يعزف على ناصية، وآخر يرقص بجوار عربته الصغيرة، وتتصاعد رائحة الفطائر الإنجليزية، والأطباق العالمية، والقهوة الطازجة لتكمل المشهد. وعلى الطرف الآخر، تنبعث رائحة دافئة مألوفة: مناقيش الزعتر اللبناني تُخبز على صاج حديدي يشبه ذاك الذي يُستخدم في قرى لبنان. تُقدّمها صاحبة الكشك بابتسامة، فيعيدك الطعم، والبخار المتصاعد من الزعتر والخبز الطازج، إلى صباحات الطفولة، حين كانت البساطة تنطق بالفرح. رائحة مناقيش الزعتر اللبناني تُخبز على صاج حديدي (الشرق الأوسط) تنوع ثقافي وفني يسحر العين لا بد من الإشارة إلى المشهد البصري الذي يسحر العين. فالأكشاك تنتشر على خلفية من بيوت بألوان هادئة، كالأزرق السماوي والوردي والأصفر الفاتح، في حين يعبّر الزبائن عن تنوّع لندن الحقيقي: سيّاح من آسيا، وعشّاق فن من أوروبا، ومحليّون يبحثون عن صفقة العمر في صندوق خشبي متهالك. وللفن حضور بارز وسط هذا المشهد. رسامون يعرضون لوحاتهم، ومصوّرون يوثّقون اللحظة، وصنّاع مجوهرات يعرضون تصاميمهم اليدوية بلمسة شخصية نادرة في زمن الإنتاج الكبير. تقول فنانة محلية: «أحب أن أعرض أعمالي هنا لأن السوق تنبض بالحياة، وأجد في الزوار من يتذوق الفن كما يجب». صانعة مجوهرات تعرض تصاميمها اليدوية (الشرق الأوسط) السوق في السينما والأدب ولا تكتمل صورة السوق من دون الإشارة إلى حضورها في السينما والأدب. ففي فيلم «Notting Hill» الشهير، كانت السوق الخلفية الرومانسية للقصة التي جمعت جوليا روبرتس وهيو غرانت. لكن الحضور الثقافي يعود إلى ما قبل ذلك بكثير، فقد ذُكرت السوق في أعمال أدبية بريطانية منذ خمسينات القرن الـ20، وظهرت في تقارير صحافية عديدة بوصفها مثالاً حيّاً على تحوّلات لندن الطبقية والثقافية، لا سيما بعد «مهرجان نوتينغ هيل» السنوي الذي انطلق عام 1966 كردّ فعل على التوترات العِرقية في الحي. ركن لكتب مرَّت بين آلاف الأيدي (الشرق الأوسط) تجربة لا تُشترى... لكنها تُعاش عندما تخطو داخل سوق بورتوبيلو، تُدرك أن الأمر أكبر من مجرد تسوُّق. أن تمشي في السوق هو أن تمشي عبر الزمن. بين التحف المرهقة بالذكريات، والملابس التي تحكي فصول الموضة، والكتب التي مرّت بين آلاف الأيدي... تشعر بأن المكان ليس مجرد سوق، بل أرشيف حيّ لذاكرة لندن بكل تقاطعاتها الاجتماعية والتاريخية، وبنبضها الذي لا يهدأ. أما بالنسبة لي، فكانت اللحظة الأجمل حين توقّفتُ عند طاولة خشبية قديمة يعرض صاحبها عملات من كلّ أصقاع العالم. حيث صوّر فيلم «Notting Hill» عام 1999 (الشرق الأوسط) تنقلت عيناي بين جنيهات إنجليزية، ودراهم خليجية، ودولارات أميركية باهتة اللون... إلى أن لفتني شيء مألوف. كانت هناك، بين تلك العملات، ليرة لبنانية ورقية تعود لعام 1973، بلونها البنيّ المُعتّق، وتحمل صورة قلعة بعلبك، تماماً كما أتذكّرها في طفولتي. لحظتُها، أحسست بأن السوق، بكل ضجيجها وتنوّعها، صمتت للحظة، كأن الذاكرة استعادت نفسها في ورقةٍ صغيرة تقاطعت مساراتها مع غربتي صدفةً... لكن بعمق لا يُشترى. قطع نادرة مثل آلة تصوير عتيقة (الشرق الأوسط) قبل أن تذهب... إذا كنت تُخطط لزيارة «سوق بورتوبيلو»، فاجعل يوم السبت خيارك الأول، إذ تبلغ السوق في هذا اليوم أوج نشاطها وحيويّتها. يُفضّل الوصول قبل الساعة العاشرة صباحاً لتفادي الزحام والاستمتاع بالتجربة في هدوء نسبي. أقرب محطات المترو هي «Notting Hill Gate» و«Ladbroke Grove»، وتقع كلتاهما على بُعد خطوات من قلب السوق. ولا تنسَ ارتداء حذاء مريح، فالمشي هنا رحلة طويلة.