
"مختبرات بيل" منارة للابتكار غيرت وجه العالم التكنولوجي
ومنذ نشأتها، أثبتت هذه المختبرات أنها إحدى أبرز المؤسسات البحثية في تاريخ البشرية، ومحركًا للابتكار العلمي والصناعي على مدى عقود طويلة. ومهدت "مختبرات بيل" الطريق لظهور اختراعات غيرت وجه الحياة البشرية، ووضعت حجر الأساس للعديد من الصناعات التي نعرفها اليوم.
رحلة من الهاتف إلى العصر الرقمي
عندما نشأت "مختبرات بيل" رسميًا عام 1925 كان العالم على أعتاب ثورة تكنولوجية، إذ لم تكن هناك أجهزة تلفزيون، ولا ترانزستورات، ولا كابلات هاتف عابرة للمحيطات، ولا أقمار صناعية للاتصالات، ولا شبكات خلوية، ولا ألياف بصرية عالية السرعة، ولا كاميرات رقمية، ولا ليزر، ولا خلايا شمسية.
وعلى مدار القرن التالي، أثبتت المختبرات دورها المحوري من خلال عشرات الاكتشافات والابتكارات الرائدة التي وضعت أسس الاتصالات الحديثة، والحوسبة، والإنترنت.
وأعادت هذه المختبرات تشكيل الحياة العصرية. وأينما ذهبت، وأينما كنت، فإنك تحمل معك شيئًا من تاريخ "مختبرات بيل" حيث أصبح الاسم نفسه مرادفًا للاختراع والإبداع.
وتشمل إنجازاته العديدة 10 جوائز نوبل و5 جوائز تورينغ، بالإضافة إلى 3 جوائز إيمي وجائزتي غرامي وجائزة أوسكار.
من الهواتف إلى الاتصالات
تمحورت الابتكارات الأولى حول توفير اتصالات هاتفية واضحة وموثوقة. وتميزت السنوات الأولى للمختبرات بسعي دؤوب للابتكار في مجالي الكلام والصوت.
وقدمت المختبرات العديد من الاختراعات، مثل البث التلفزيوني لمسافات طويلة، ونظام الصوت المتزامن، ونظام التشفير ذي اللوحة الواحدة.
كما وضعت المختبرات أسس علم الفلك الراديوي، وبثت إشارات ستيريو مباشرة من فيلادلفيا إلى واشنطن العاصمة، وطورت جهاز ضغط كلام إلكتروني، وجهاز مركب كلام إلكتروني.
حجر الزاوية في الإلكترونيات الحديثة
طورت المختبرات أوائل أربعينيات القرن الماضي الخلية الكهروضوئية، إلى جانب تطوير أول نظام رقمي لنقل الكلام المشفر.
وخلال الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، ركزت الأبحاث على نقل الموجات الدقيقة العريضة النطاق للصوت والبيانات والتلفزيون، وكابلات الهاتف العابرة للمحيطات، وأنظمة التبديل الآلية.
وخلال عام 1947، اخترع باحثو "مختبرات بيل" الترانزستور ليحل محل الصمامات المفرغة في شبكة الهاتف، الأمر الذي غير كل شئ.
وكان الترانزستور قادرًا على تضخيم الإشارات الإلكترونية وتحويلها، مما شكل حجز الزاوية في الإلكترونيات الحديثة، ووضع الأساس لعصر الحاسوب والحوسبة والإلكترونيات الحديثة.
وقدمت المختبرات عام 1948 نظرية المعلومات التي أرست مبادئ الاتصالات الحديثة، والحوسبة، والوسائط الرقمية، والضغط، والتشفير، والإنترنت.
وكان ابتكار الفأرة الميكانيكية "ثيسيوس" (Theseus) أحد أوائل استخدامات الذكاء الاصطناعي، كما شهدت تلك الحقبة تطوير أنظمة التشفير الثنائي.
وخلال عام 1954، طورت المختبرات أول خلية شمسية من السيليكون قادرة على تحويل الضوء إلى كهرباء.
وشارك باحثو المختبرات عام 1955 في تأليف الورقة البحثية التي صاغت مفهوم الذكاء الاصطناعي كمجال دراسي.
وجرى عام 1956 مد أول كابل اتصالات عبر الأطلسي لنقل المكالمات الهاتفية، في جهد مشترك بين "إيه تي آند تي" (AT&T) و"مختبرات بيل" وشركات الهاتف البريطانية والكندية.
شعاع ضوء غير العالم
خلال عام 1958، نشرت المختبرات ورقة علمية تحدد المبادئ النظرية لليزر، مما مهد الطريق لتطوير أول ليزر عامل عام 1960.
ونجحت المختبرات عام 1970 في إظهار أول تشغيل مستمر لليزر الصمام الثنائي في درجة حرارة الغرفة، وهو إنجاز محوري سمح بظهور الاتصالات العالية السرعة والبعيدة المدى دون تشتت الإشارة. وأدت جهود "مختبرات بيل" في دمج ليزر الصمام الثنائي العاملة بالكهرباء في أنظمة الألياف الضوئية إلى تعزيز عمليتها وكفاءتها، مما جعل الإنترنت العالي السرعة والمكالمات الهاتفية الواضحة ممكنة اليوم.
الأقمار الصناعية وأجهزة اقتران الشحنات
خلال عام 1962، أطلقت "مختبرات بيل" ووكالة "ناسا" (NASA) القمر الصناعي "تلستار ون" (Telstar 1) وهو أول قمر صناعي مداري للاتصالات يرسل إشارات تلفزيونية، مما أحدث نقلة نوعية في عالم الاتصالات العالمية.
وركزت "مختبرات بيل" هذه الفترة على مجال البرمجيات والإلكترونيات، وبدأت التجارب البحثية على أنظمة نقل الموجات الضوئية التي تستخدم الفوتونات بدلاً من الإلكترونات.
ومع نهاية ستينيات القرن الماضي، طورت "مختبرات بيل" نظام التشغيل "يونكس" (Unix) لدعم أنظمة تبديل الاتصالات، بالإضافة إلى الحوسبة للأغراض العامة.
كما اخترعت المختبرات عام 1969 جهاز اقتران الشحنة "سي سي دي" (CCD) الذي مكن التصوير الرقمي.
وشهدت سبعينات القرن الماضي تزايدًا في الاختراعات المتعلقة بالحاسوب في "مختبرات بيل" كجزء من ثورة الحوسبة الشخصية، حيث طورت عام 1972 لغة البرمجة المجمعة "سي" (C).
واختبرت عام 1976 أنظمة الألياف الضوئية لأول مرة في جورجيا. وبدأ إنتاج أول معالج دقيق مُصمم داخليًا عام 1977.
الترحيب بعصر الإنترنت
واصلت "مختبرات بيل" مسيرة الابتكار، حيث صدرت عام 1985 لغة البرمجة "سي بلس بلس" (++C) تجاريًا لأول مرة بصفتها امتدادا للغة البرمجة "سي".
وفي منتصف ثمانينيات القرن الماضي، طورت المختبرات أنظمة اتصالات طويلة المدى عالية الموثوقية، بالإضافة إلى تقنيات تشغيل الشبكات التي أتاحت إجراء اتصالات عالية السرعة وشبه فورية عبر قارة أميركا الشمالية.
وخلال فترة التسعينيات، شهد العالم تغيرات جذرية في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، حيث ظهرت الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) التي غيرت طريقة العيش والتعلم والعمل والتفاعل، وأحدثت تحولاً في مختلف القطاعات.
وركزت الأبحاث حينها على توفير الوصول الفوري إلى الصوت والبيانات والفيديو عبر الشبكات السلكية واللاسلكية.
وابتكرت المختبرات خط المشترك الرقمي "دي إس إل" (DSL) وهي التقنية التي حققت نقلًا بسرعة ميغابت عبر خطوط الهاتف النحاسية المثبتة، مما سهّل عصر النطاق العريض.
وقادت "مختبرات بيل" هذه التحولات الجذرية من خلال اختراع تقنية المدخلات المتعددة والمخرجات المتعددة "إم آي إم أو" (MIMO) التي عززت سعة الشبكة بشكل كبير دون زيادة متطلبات الطاقة أو عرض النطاق الترددي.
كما طورت تقنية "المدخلات المتعددة والمخرجات المتعددة الضخمة" (Massive MIMO) التي أصبحت مكوناً أساسياً في شبكات الجيل الخامس "جي 5" (5G).
وقد ضخت "مختبرات بيل" دماء جديدة بخطوط الهاتف النحاسية من خلال ابتكارات "غي فاست" (GFast) و"إكس غي فاست" (XGFast) عامي 2013 و2014 على التوالي.
الدور المستمر في الابتكار
تواصل "مختبرات بيل" في الوقت الحالي البحث في مجالات متطورة، مثل التقنيات الكمومية، واتصالات الفضاء، والذكاء الاصطناعي، والتقنيات الأساسية، والاستشعار.
كما تركز الأبحاث الحالية على منتجات الجيل التالي للاتصالات الصوتية والبيانات، إلى جانب استكشاف تقنيات الجيل السادس "جي 6" (6G) والتقنيات والاستخدامات التي تدمج العالمين الرقمي والمادي.
وختامًا، فإن "مختبرات بيل" لم تكن مجرد معهد بحثي، بل منظومة إبداعية حولت العلم النظري إلى تقنيات غيرت مسار البشرية، ولا تزال اختراعاتها تشكل عالمنا اليوم، مما يجعلها نموذجًا يحتذى به لأهمية الاستثمار بالبحث العلمي الطويل الأمد.
وفي زمن تسوده المنافسة التكنولوجية، تبقى هذه المختبرات تذكيرًا بأن الابتكار يحتاج إلى رؤية مستقبلية، وحرية علمية، ودعم مستمر، وهي الدروس التي يجب أن تستخلصها مراكز الأبحاث الحديثة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
٢٤-٠٧-٢٠٢٥
- الجزيرة
"مختبرات بيل" منارة للابتكار غيرت وجه العالم التكنولوجي
عندما نتحدث عن مراكز البحث التي شكلت وجه التكنولوجيا الحديثة، يبرز اسم "مختبرات بيل" (Bell Labs) التي لم تكن مجرد معمل أبحاث، بل هي مكان أنتج مجموعة من أعظم الاختراعات في القرن العشرين. ومنذ نشأتها، أثبتت هذه المختبرات أنها إحدى أبرز المؤسسات البحثية في تاريخ البشرية، ومحركًا للابتكار العلمي والصناعي على مدى عقود طويلة. ومهدت "مختبرات بيل" الطريق لظهور اختراعات غيرت وجه الحياة البشرية، ووضعت حجر الأساس للعديد من الصناعات التي نعرفها اليوم. رحلة من الهاتف إلى العصر الرقمي عندما نشأت "مختبرات بيل" رسميًا عام 1925 كان العالم على أعتاب ثورة تكنولوجية، إذ لم تكن هناك أجهزة تلفزيون، ولا ترانزستورات، ولا كابلات هاتف عابرة للمحيطات، ولا أقمار صناعية للاتصالات، ولا شبكات خلوية، ولا ألياف بصرية عالية السرعة، ولا كاميرات رقمية، ولا ليزر، ولا خلايا شمسية. وعلى مدار القرن التالي، أثبتت المختبرات دورها المحوري من خلال عشرات الاكتشافات والابتكارات الرائدة التي وضعت أسس الاتصالات الحديثة، والحوسبة، والإنترنت. وأعادت هذه المختبرات تشكيل الحياة العصرية. وأينما ذهبت، وأينما كنت، فإنك تحمل معك شيئًا من تاريخ "مختبرات بيل" حيث أصبح الاسم نفسه مرادفًا للاختراع والإبداع. وتشمل إنجازاته العديدة 10 جوائز نوبل و5 جوائز تورينغ، بالإضافة إلى 3 جوائز إيمي وجائزتي غرامي وجائزة أوسكار. من الهواتف إلى الاتصالات تمحورت الابتكارات الأولى حول توفير اتصالات هاتفية واضحة وموثوقة. وتميزت السنوات الأولى للمختبرات بسعي دؤوب للابتكار في مجالي الكلام والصوت. وقدمت المختبرات العديد من الاختراعات، مثل البث التلفزيوني لمسافات طويلة، ونظام الصوت المتزامن، ونظام التشفير ذي اللوحة الواحدة. كما وضعت المختبرات أسس علم الفلك الراديوي، وبثت إشارات ستيريو مباشرة من فيلادلفيا إلى واشنطن العاصمة، وطورت جهاز ضغط كلام إلكتروني، وجهاز مركب كلام إلكتروني. حجر الزاوية في الإلكترونيات الحديثة طورت المختبرات أوائل أربعينيات القرن الماضي الخلية الكهروضوئية، إلى جانب تطوير أول نظام رقمي لنقل الكلام المشفر. وخلال الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، ركزت الأبحاث على نقل الموجات الدقيقة العريضة النطاق للصوت والبيانات والتلفزيون، وكابلات الهاتف العابرة للمحيطات، وأنظمة التبديل الآلية. وخلال عام 1947، اخترع باحثو "مختبرات بيل" الترانزستور ليحل محل الصمامات المفرغة في شبكة الهاتف، الأمر الذي غير كل شئ. وكان الترانزستور قادرًا على تضخيم الإشارات الإلكترونية وتحويلها، مما شكل حجز الزاوية في الإلكترونيات الحديثة، ووضع الأساس لعصر الحاسوب والحوسبة والإلكترونيات الحديثة. وقدمت المختبرات عام 1948 نظرية المعلومات التي أرست مبادئ الاتصالات الحديثة، والحوسبة، والوسائط الرقمية، والضغط، والتشفير، والإنترنت. وكان ابتكار الفأرة الميكانيكية "ثيسيوس" (Theseus) أحد أوائل استخدامات الذكاء الاصطناعي، كما شهدت تلك الحقبة تطوير أنظمة التشفير الثنائي. وخلال عام 1954، طورت المختبرات أول خلية شمسية من السيليكون قادرة على تحويل الضوء إلى كهرباء. وشارك باحثو المختبرات عام 1955 في تأليف الورقة البحثية التي صاغت مفهوم الذكاء الاصطناعي كمجال دراسي. وجرى عام 1956 مد أول كابل اتصالات عبر الأطلسي لنقل المكالمات الهاتفية، في جهد مشترك بين "إيه تي آند تي" (AT&T) و"مختبرات بيل" وشركات الهاتف البريطانية والكندية. شعاع ضوء غير العالم خلال عام 1958، نشرت المختبرات ورقة علمية تحدد المبادئ النظرية لليزر، مما مهد الطريق لتطوير أول ليزر عامل عام 1960. ونجحت المختبرات عام 1970 في إظهار أول تشغيل مستمر لليزر الصمام الثنائي في درجة حرارة الغرفة، وهو إنجاز محوري سمح بظهور الاتصالات العالية السرعة والبعيدة المدى دون تشتت الإشارة. وأدت جهود "مختبرات بيل" في دمج ليزر الصمام الثنائي العاملة بالكهرباء في أنظمة الألياف الضوئية إلى تعزيز عمليتها وكفاءتها، مما جعل الإنترنت العالي السرعة والمكالمات الهاتفية الواضحة ممكنة اليوم. الأقمار الصناعية وأجهزة اقتران الشحنات خلال عام 1962، أطلقت "مختبرات بيل" ووكالة "ناسا" (NASA) القمر الصناعي "تلستار ون" (Telstar 1) وهو أول قمر صناعي مداري للاتصالات يرسل إشارات تلفزيونية، مما أحدث نقلة نوعية في عالم الاتصالات العالمية. وركزت "مختبرات بيل" هذه الفترة على مجال البرمجيات والإلكترونيات، وبدأت التجارب البحثية على أنظمة نقل الموجات الضوئية التي تستخدم الفوتونات بدلاً من الإلكترونات. ومع نهاية ستينيات القرن الماضي، طورت "مختبرات بيل" نظام التشغيل "يونكس" (Unix) لدعم أنظمة تبديل الاتصالات، بالإضافة إلى الحوسبة للأغراض العامة. كما اخترعت المختبرات عام 1969 جهاز اقتران الشحنة "سي سي دي" (CCD) الذي مكن التصوير الرقمي. وشهدت سبعينات القرن الماضي تزايدًا في الاختراعات المتعلقة بالحاسوب في "مختبرات بيل" كجزء من ثورة الحوسبة الشخصية، حيث طورت عام 1972 لغة البرمجة المجمعة "سي" (C). واختبرت عام 1976 أنظمة الألياف الضوئية لأول مرة في جورجيا. وبدأ إنتاج أول معالج دقيق مُصمم داخليًا عام 1977. الترحيب بعصر الإنترنت واصلت "مختبرات بيل" مسيرة الابتكار، حيث صدرت عام 1985 لغة البرمجة "سي بلس بلس" (++C) تجاريًا لأول مرة بصفتها امتدادا للغة البرمجة "سي". وفي منتصف ثمانينيات القرن الماضي، طورت المختبرات أنظمة اتصالات طويلة المدى عالية الموثوقية، بالإضافة إلى تقنيات تشغيل الشبكات التي أتاحت إجراء اتصالات عالية السرعة وشبه فورية عبر قارة أميركا الشمالية. وخلال فترة التسعينيات، شهد العالم تغيرات جذرية في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، حيث ظهرت الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) التي غيرت طريقة العيش والتعلم والعمل والتفاعل، وأحدثت تحولاً في مختلف القطاعات. وركزت الأبحاث حينها على توفير الوصول الفوري إلى الصوت والبيانات والفيديو عبر الشبكات السلكية واللاسلكية. وابتكرت المختبرات خط المشترك الرقمي "دي إس إل" (DSL) وهي التقنية التي حققت نقلًا بسرعة ميغابت عبر خطوط الهاتف النحاسية المثبتة، مما سهّل عصر النطاق العريض. وقادت "مختبرات بيل" هذه التحولات الجذرية من خلال اختراع تقنية المدخلات المتعددة والمخرجات المتعددة "إم آي إم أو" (MIMO) التي عززت سعة الشبكة بشكل كبير دون زيادة متطلبات الطاقة أو عرض النطاق الترددي. كما طورت تقنية "المدخلات المتعددة والمخرجات المتعددة الضخمة" (Massive MIMO) التي أصبحت مكوناً أساسياً في شبكات الجيل الخامس "جي 5" (5G). وقد ضخت "مختبرات بيل" دماء جديدة بخطوط الهاتف النحاسية من خلال ابتكارات "غي فاست" (GFast) و"إكس غي فاست" (XGFast) عامي 2013 و2014 على التوالي. الدور المستمر في الابتكار تواصل "مختبرات بيل" في الوقت الحالي البحث في مجالات متطورة، مثل التقنيات الكمومية، واتصالات الفضاء، والذكاء الاصطناعي، والتقنيات الأساسية، والاستشعار. كما تركز الأبحاث الحالية على منتجات الجيل التالي للاتصالات الصوتية والبيانات، إلى جانب استكشاف تقنيات الجيل السادس "جي 6" (6G) والتقنيات والاستخدامات التي تدمج العالمين الرقمي والمادي. وختامًا، فإن "مختبرات بيل" لم تكن مجرد معهد بحثي، بل منظومة إبداعية حولت العلم النظري إلى تقنيات غيرت مسار البشرية، ولا تزال اختراعاتها تشكل عالمنا اليوم، مما يجعلها نموذجًا يحتذى به لأهمية الاستثمار بالبحث العلمي الطويل الأمد. وفي زمن تسوده المنافسة التكنولوجية، تبقى هذه المختبرات تذكيرًا بأن الابتكار يحتاج إلى رؤية مستقبلية، وحرية علمية، ودعم مستمر، وهي الدروس التي يجب أن تستخلصها مراكز الأبحاث الحديثة.


الجزيرة
٢٢-٠٧-٢٠٢٥
- الجزيرة
أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي
شهدت القارة الأفريقية في السنوات الأخيرة ازديادا هائلا في استخدام الإنترنت والخدمات الرقمية، وخصوصا بين فئة الشباب الذي تغلب عليه اليوم هوية "الجيل الرقمي". بَيد أنّ هذه النقلة الواسعة قد أبرزت التحديات المتنامية للأمن السيبراني التي كان من تجلّياتها ازدياد عمليات الاحتيال والهجمات الرقمية، وكذلك الحملات لزرع الفوضى والتلاعب بالرأي العام، وانتقال الصراع على النفوذ إلى الفضاء السيبراني، وما لكلّ ذلك من آثارٍ مكلفةٍ وخطيرة. مركز الجزيرة للدراسات نشر ورقةً للباحث مصطفى جالي عنوانها " الأمن السيبراني في أفريقيا بين التحديات المحلية والرهانات الإستراتيجية"، تناولت عددا من الأسئلة التي تمحورت حول ملف الأمن السيبراني في أفريقيا وأبرز تحدّياته واتجاهاته. وتناولت الورقة 4 محاور رئيسية، هي: الاتجاهات الكبرى للتهديدات السيبرانية في أفريقيا، والتدابير التي تعزّز الأمن السيبراني في القارة، والتحدّيات السيبرانية فيها، والرهانات الدولية المطروحة أمامها في هذا المجال. وفقًا للإنتربول، انضم أكثر من 160 مليون مستخدمٍ جديد إلى الفضاء السيبراني في الفترة بين 2019 و2022، ورافق ذلك نمو البنية التحتية الرقمية، كالخدمات المصرفية والتجارة الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي. وتعدّ الهواتف المحمولة الوسيلة الأولى لاستخدام الإنترنت في القارة، بتقديراتٍ تصل إلى 650 مليون مستخدم معظمهم من الشباب الذين يشكّلون 60% من سكان أفريقيا. وفي ظلّ الاعتماد المتزايد على الإنترنت، تزداد الخسائر المالية الناجمة عن الجرائم السيبرانية التي تجاوزت، بتقدير الإنتربول، 4 مليارات دولارٍ أميركي، أو 10% من الناتج المحلي الإجمالي للقارة. ويضع هذا الرقم الهائل القارة الأفريقية أمام التزامٍ حتمي بمعالجة مشكلة الأمن السيبراني. يُضاف إلى ذلك أضرارٌ أخرى منها تعطيل الخدمات، وفقدان ثقة الشعب بالحكومة، وزيادة الفجوة الرقمية، وسرقة البيانات، والتدخّل في الانتخابات، وانتهاكات حقوق الخصوصية وحريات التعبير، وغير ذلك من الحقوق الأساسية للمواطنين. اتجاهات التهديد السيبراني يُلاحظ ارتفاع عدد التهديدات السيبرانية ومستوى تعقيدها في أفريقيا خلال عام 2023، إذ بلغت الزيادة 23% على متوسّط عدد الهجمات الأسبوعية لكل مؤسّسة عن 2022، وهذا هو المعدّل الأعلى عالميا. وقد قيّم أكثر من ثلثي الدول في القارة المخاطر السيبرانية على أنها مخاطر متوسّطة إلى عالية ضمن نطاقها القضائي. كما أن هذه الهجمات أيضا تأخذ طابعا منظّما ومعقّدا في بعض الحالات. وتشكّل هجمات الرانزومير أو الفدية (وهي الأخطر)، وعمليات الاحتيال عبر الإنترنت (وهي الأكثر شيوعا)، أبرز أشكال التهديدات السيبرانية. وتبرز أهمية هذه التهديدات بتأثيرها المالي العالي وقدرتها على تعطيل البنية التحتية والخدمات الأساسية. بل إن إحدى الدراسات تشير إلى أن مؤسّسة من بين كل 15 مؤسّسة تعرّضت لمحاولة استهداف برنامج فدية كل أسبوع خلال الربع الأول من عام 2023، بنسبةٍ تتجاوز ضعفي المعدّل العالمي. يمكن أيضا رصد استهداف البنية التحتية الرقمية على وجه الخصوص، فقد قالت نصف دول القارة تقريبا إن بنيتها التحتية تعرّضت لهجوم فدية خلال 2023. ويشمل ذلك استهداف البنوك ومزوّدي الإنترنت ومختلف الخدمات الحكومية. وقد استهدفت إحدى هذه الهجمات حتى الشبكة الداخلية للاتحاد الأفريقي. ويشتمل التهديد السيبراني على بعدٍ جيوسياسي وأمني، إذ رعت دولٌ هجمات تجسّس أو زرع فوضى في دولٍ أفريقية، وأحيانا تكون هذه الهجمات واحدةً من إستراتيجيات الحرب غير التقليدية إلى جانب الحملات الإعلامية والدبلوماسية في سياق صراع النفوذ في القارة بين الصين والولايات المتحدة وروسيا. وتستخدم روسيا مثلا شبكات دعائية رقمية موالية تدعم أنظمة استبدادية هشّة مثل مالي والسودان وبوركينا فاسو، وتروّج لمحتوى موالٍ لها عبر مؤثّرين محليين يصعب كشف ارتباطهم بموسكو. وقد كشفت تقارير عن إدارة أكثر من 175 صفحة على فيسبوك في 21 دولة أفريقية بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، تهدف إلى تصويرها باعتبارها مؤامرة غربية. مستويات متفاوتة من الالتزام وفقاً للمؤشّر العالمي للأمن السيبراني لعام 2024، لا يوجد سوى 7 دول أفريقية حصلت على تقييم "دور نموذجي" الذي يصف الدول التي أظهرت التزاما قويا بالأمن السيبراني، وتتوزّع باقي دول القارة على الخانات الأخرى، وهي: مستوى متقدّم (أربعة بلدان)، وقيد التأسيس (18 بلدا)، وفي مرحلة التطوّر (21 بلدًا، أي: 38.9% من دول القارة)، والخانة الأضعف "المرحلة الأولى من البناء" التي تضمّ 4 بلدان. يُوجد في المقابل، مؤشّرات تدلّ على وجود تقدّم ملحوظ. فعلى مدى السنوات الماضية، اعتمدت أكثر من 12 دولة أفريقية أو شاركت في اعتماد تشريعات جديدة تتعلّق بالجرائم السيبرانية. وفي عام 2023، أنشأ المزيد من البلدان وحدات مخصّصة للجرائم الإلكترونية، وزاد ما يقرب من النصف من مستويات التوظيف، وأفاد أكثر من 60% بمشاركتها في مبادرات بناء القدرات، إضافةً إلى أكثر من 130 مبادرة تدريبية و40 حملة توعية عامة في القارة. وأظهرت دولٌ مختلفة تقدّما ملحوظا في تعزيز أمنها السيبراني، إذ شهدت جمهورية الكونغو الديمقراطية وجنوب أفريقيا أكبر تحسينات في التدابير التنظيمية، وأحرزت الغابون والرأس الأخضر وجزر القمر -مثلا- تقدمًا في التدابير القانونية، وعززت إثيوبيا تدابير التعاون التي تتبعها، بينما أحرزت توغو تقدما ملحوظا في تدابير تنمية القدرات، كما تسجل إسواتيني وتوغو وجمهورية الكونغو الديمقراطية أعلى معدلات النمو في القارة. وتبرز سمة التفاوت أيضا على المستوى الإقليمي، حيث يتصدّر شمال أفريقيا ملف الأمن السيبراني بينما تتخلف أفريقيا الوسطى، مع وجود أنماط متقاربة في مناطق شرق وجنوب وغرب القارة. ورغم الفجوات العامة، تبرز الحاجة لإعطاء الأولوية للتدابير التقنية وتنمية القدرات. ويُعد الأمن السيبراني عنصرا محوريا في أجندة الاتحاد الأفريقي 2063، وإستراتيجية التحول الرقمي، مع تأكيد على التعاون الدولي، بما في ذلك دعم جهود الأمم المتحدة. وتُعتبر اتفاقية مالابو 2014 خطوة رائدة لتشريع الأمن السيبراني وحماية البيانات، لكنها لم تدخل حيّز التنفيذ إلا عام 2023 بعد توقيع 15 دولة، مع تداخل بين أعضاء اتفاقيتي مالابو وبودابست. وتكثّفت الجهود بإنشاء مركز تنسيق أفريقي في لومي عام 2022، وبتوصيات من مجلس السلم والأمن لتطوير إستراتيجيات وطنية وإقليمية. كما اعتمدت التكتّلات الإقليمية مثل "الإيكواس" و"الكوميسا" و"السادك" قوانين ونماذج سياسات لتعزيز الأمن السيبراني، إلى جانب أطر إقليمية مثل "أفريقيا سيرت" و"أفريقيا بول" التي تركّز على بناء القدرات والتشريعات والتعاون الدولي، مدعومةً بجهود منظمات المجتمع المدني ومؤسسات مثل إي سي بي إف. اتفاقية مالابو 2014 تعدّ خطوة رائدة في تشريعات الأمن السيبراني وحماية البيانات، لكنها لم تدخل حيّز التنفيذ إلا عام 2023، بعد توقيع 15 دولة عليها تحدّيات مركّبة يواجه الأمن السيبراني في أفريقيا تحديات مركّبة تشمل الأبعاد البشرية والمؤسساتية والثقافية، والمالية والتقنية، والتشريعية والسياسية. وتُعدّ التحدّيات الثقافية من أهمّ ما يواجه القارة في الملف السيبراني، إذ يقلّل العديد من المؤسّسات والأفراد من مخاطره، أو أنهم يعتبرونه مشكلةً مقتصرةً على الشركات المتعدّدة الجنسيات. ويرتبط ذلك بأن الشركات لا تولي ملف الأمن السيبراني أهميةً كبيرة، إذ إن استطلاعا أُجري عام 2021 وشمل 300 فاعل في مختلف القطاعات كشف أن أكثر من نصف الشركات تدرك أهمية الأمن السيبراني ولكنه ليس أولويةً لها، فيما عد ما نسبته أقل من ثلث الفاعلين أن الأمن السيبراني هو موضوع ذو أولوية. وتواجه القارة أيضا مشكلة نقص الكفاءات وخبراء الأمن السيبراني، بالتوازي مع ضعف برامج التدريب والتأهيل التكنولوجي، وعدم إدماج مواضيع الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي في المناهج الدراسية بالشكل الكافي. في المقابل، توجد مؤشّرات على سعي الدول الأفريقية إلى ردم هذه الفجوة، من ذلك مثلًا أن 4 بلدان على الأقل أبلغت الإنتربول أنها أنشأت وحدة للجرائم السيبرانية أو تخطّط لذلك. تحدٍّ آخر مرتبطٌ بذلك هو شحّ الموارد المالية، إذ تنفق ثلثا الشركات الأفريقية الكبيرة التي شملها أحد الاستطلاعات أقل من 20 ألف يورو سنويا على ملف الأمن السيبراني في ظلّ غياب الحوافز لتعزيز الابتكار وضعف الاستثمار في هذا الملف الحسّاس. ويتعيّن على القارة الأفريقية اتخاد عددٍ من الخطوات لمواجهة التحدّي السيبراني، منها مواجهة الدعاية الخارجية، وتعزيز القدرات الدفاعية، وحماية السيادة الرقمية، وتعزيز المشاركة الدولية.


الجزيرة
١٢-٠٧-٢٠٢٥
- الجزيرة
الذكاء الاصطناعي يتفوق على الذكاء البشري في التعليم
في مقالة بعنوان "انطلاق عصر الذكاء الاصطناعي"، نشرها بيل غيتس في مارس/آذار 2023، توقع أن تصبح تقنيات الذكاء الاصطناعي الأداة المحورية في التعليم، مما سيؤدي إلى تحول جذري في طرق التدريس وأساليب التعلم. وأوضح غيتس أن هذه التقنيات ستتمكن من التعرف على اهتمامات المتعلم وأساليبه الشخصية في التعلم، مما يتيح لها تصميم محتوى مخصص له يحافظ على تفاعل عقله ونشاطه. كما أشار إلى أن هذه التقنيات ستقيس بشكل مستمر مستوى فهم المتعلم، وستراقب علامات فقدان الاهتمام أو التركيز عليه، إضافة إلى أنها ستتعرف على أنواع التحفيز التي يتجاوب معها كل فرد بشكل أفضل، وتقدم له تعليقات فورية وإرشادات مباشرة حول أدائه. وفي مقابلة أجراها البروفسور آرثر بروكس من جامعة هارفارد معه في فبراير/شباط 2025، توقع غيتس أن يؤدي انتشار تقنيات الذكاء الاصطناعي المتطورة إلى تقليل الاعتماد التقليدي على المعلمين، حيث ستوفر هذه التقنيات فرصاً تعليمية عالية الجودة بشكل مجاني ومتاحة على نطاق واسع للجميع. وأكد أن الذكاء الاصطناعي سيسهم بشكل كبير في تحقيق المساواة في التعليم، عبر إتاحة فرص التعلم الجيد لمختلف الفئات الاجتماعية والاقتصادية، مما يعزز من إمكانية وصول الجميع إلى مستوى تعليمي متميز ومتطور. أما توماس فراي، المدير التنفيذي لمعهد دافنشي الأميركي وأحد أشهر المتحدثين عن المستقبل، فتوقع أنه "بحلول عام 2030، ستكون أكبر شركة على الإنترنت هي شركة قائمة على التعليم، لم نسمع بها حتى الآن". وحظي هذا التوقع بتأييد العديد من المفكرين ورواد الأعمال. فإذا تمكنت منصة تعليمية تديرها تقنيات الذكاء الاصطناعي من الهيمنة على المشهد التعليمي العالمي، سيكون بإمكانها الوصول إلى أكثر من 1.5 مليار طالب ومتدرب في مختلف أنحاء العالم وبالعديد من اللغات. ويمكن لهذه المنصة أن تكون مجانية كلياً أو جزئياً بتمويل من عائدات الإعلانات، مثل نموذج الأعمال الذي اعتمده محرك البحث غوغل. ويعزز من واقعية هذا التوقع ما صرح به المنتدى الاقتصادي العالمي من أن حجم سوق التعليم العالمي قد يصل إلى 10 تريليونات دولار بحلول عام 2030، وأن تلعب تكنولوجيا التعليم دوراً محورياً وحاسماً في تحقيق ذلك. مبادئ التعليم الحديث في كتاب جان كلود برينجييه "محادثات مع جان بياجيه" الصادر عام 1980 يقول جان بياجيه، عالم النفس والفيلسوف السويسري الذي طور نظرية التطور المعرفي عند الأطفال: "التعليم، بالنسبة لمعظم الناس، يعني محاولة جعل الطفل يشبه الشخص البالغ النمطي في مجتمعه، لكن بالنسبة لي، التعليم يعني إعداد مبدعين. يجب إعداد مخترعين، مبتكرين، لا مقلدين أو منساقين مع التيار السائد". ويُعتبر جان بياجيه الأب الروحي لنظرية التعلم البنائي أو البنائية (Constructivism) التي تعتبر من أهم النظريات التربوية الحديثة، وتقوم على فكرة أن المتعلم لا يستقبل المعرفة بشكل سلبي، بل يبنيها بنفسه من خلال التفاعل مع البيئة والخبرة والتجريب وربط المعلومات الجديدة بالمعرفة السابقة. تتمثل المبادئ الأساسية لنظرية التعلم البنائي فيما يلي: المتعلم يبني معرفته بنفسه من خلال التجارب والتفاعل. التعلم نشاط ذاتي، ولا يقوم فقط على التلقين. الخبرات السابقة مهمة لفهم المعلومات الجديدة. الخطأ جزء طبيعي من التعلم، لأنه يساعد على تعديل الفهم. المعلم ليس ناقلا للمعرفة، بل مرشداً يُسهّل بناءها. البيئة التعليمية يجب أن تكون مفتوحة، داعمة، ومحفّزة على التساؤل والتجريب. واجه تطبيق هذه النظرية صعوبات عديدة بدأت تتقلص مع التطور التكنولوجي السريع، الذي وفر أدوات وتقنيات تسهل عملية التعلم التفاعلي والبنائي. التقنيات الحديثة تُعيد تشكيل التعليم بدأت التكنولوجيا بالدخول إلى الفصول الدراسية منذ عشرينيات القرن الماضي، فمن أجهزة العرض (بروجكتور) والراديو وأشرطة الفيديو، إلى الحواسيب الشخصية والسبورات التفاعلية المتصلة بالإنترنت. وتطور الأمر إلى دمج الواقع الممتد (XR)، الذي يشمل الواقع المعزز والافتراضي والمختلط بها، مما منح الطلاب تجارب غنية يصعب تحقيقها في بيئات التعليم التقليدية. في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، أصبحت جامعة "إمبريال كوليدج لندن" أول من استخدم تقنية الهولوغرام في المحاضرات، فقد نظّمت الجامعة مؤتمراً بعنوان "المرأة في التكنولوجيا"، استضافت فيه شخصيات من الولايات المتحدة لم يسافروا إلى لندن، بل تم عرض صورهم المجسّمة بتقنية الهولوغرام ثلاثية الأبعاد على المسرح، وظهروا كأنهم يقفون فعلياً أمام الجمهور، يتحدثون ويتفاعلون معه. وفّر هذا التطور تجربة واقعية دون الحاجة إلى السفر، وبدأت جامعات عديدة حول العالم باعتماد هذه التقنية بديلا أكثر تطوراً من مؤتمرات الفيديو، لكن لا يزال استخدام هذه التقنية محدوداً بسبب التكلفة وتعقيدات التشغيل، غير أنها تنمو بسرعة مع تطور التكنولوجيا وانخفاض أسعارها. ومع تطور الذكاء الاصطناعي والتقنيات التفاعلية بدأت التطبيقات التكنولوجية الموجهة للتعليم تتسع. ففي سبتمبر/ أيلول 2020، أنشأت جامعة نوتنغهام في المملكة المتحدة أول وحدة تعليمية متكاملة للتدريس باستخدام الواقع الافتراضي (VR)، حيث يخوض الطلاب تجارب هندسية كاملة في بيئة افتراضية تُحاكي العالم الحقيقي. استخدم الطلاب فيها جزيرة افتراضية أطلق عليها اسم نوتوبيا (Nottopia) كبيئة تفاعلية لتعليم تصميم المنتجات ومحاكاة المشاريع الهندسية والتعاون داخل فضاءات رقمية ثلاثية الأبعاد. مصطلح نوتوبيا مركب من كلمتين Nott + Utopia، كلمة "نوت" مقتطعة من اسم الجامعة نوتنغهام، و"توبيا" مأخوذة من كلمة Utopia، وهي مصطلح يوناني الأصل يعني "المدينة الفاضلة أو المثالية"، وبذلك نوتوبيا تعني "المدينة المثالية الافتراضية الخاصة بجامعة نوتنغهام". وفي عام 2023 وافق مجلس المدارس المستقلة في أريزونا على إنشاء مدرسة جديدة عبر الإنترنت باسم "Unbound Academy"، تعتمد على الذكاء الاصطناعي في التدريس بدلاً من المعلمين التقليديين. بدأت هذه المدرسة عملها واستقبال الطلاب في خريف 2024، وتهدف إلى تقديم تعليم مخصص وفعّال من خلال نموذج "التعلم لمدة ساعتين"، حيث يتم تدريس المواد الأساسية مثل الرياضيات والقراءة والعلوم باستخدام الذكاء الاصطناعي، مما يتيح للطلاب إكمال مناهجهم الدراسية في وقت أقصر، ويمنحهم بقية اليوم لتطوير مهارات الحياة واستكشاف اهتماماتهم الشخصية. يستخدم الذكاء الاصطناعي لتكييف المحتوى مع مستوى كل طالب، مما يسمح بتعلم مخصص يتناسب مع احتياجاتهم الفردية. وأظهرت الدراسات أنه بإمكان الطلاب إكمال مستوى دراسي كامل في 80 يوما فقط باستخدام هذا النموذج. وفي17 ديسمبر/كانون الأول 2024 قدم الروبوت "كاتشيا" دروساً لطلاب مدرسة "وليامز" الثانوية في مدينة ديلمنهورست شمال ألمانيا. و"كاتشيا" هو روبوت بشري الشكل يعمل بالذكاء الاصطناعي، تم تطويره بواسطة شركة هيدوبا للأبحاث (Hidoba Research) ومقرها هونغ كونغ. قاد هذا الروبوت يوماً دراسياً كاملاً تضمن محاضرة تفاعلية بعنوان "الفرق بين تفكير الذكاء الاصطناعي وتفكير البشر"، حيث طرح أسئلة على الطلاب للتأكد من فهمهم للمحاضرة، وأدار أيضاً مناظرة حول تأثير الذكاء الاصطناعي على المجتمع. مستقبل التعليم يرى لويس فون آن، مؤسس ورئيس شركة دولينغو التنفيذي، أنه لا يوجد شيء لا يستطيع الذكاء الاصطناعي تدريسه، ولكنه يقول إن المدارس لن تنقرض لأن العائلات بحاجة إلى من يرعى أطفالها. وشركة دولينغو واحدة من أكثر منصات تعليم اللغات انتشاراً في العالم، خاصة في مجال التعلم التفاعلي الذاتي، وقد أعلنت مؤخراً أنها ستستبدل الذكاء الاصطناعي بقسم من موظفيها المتعاقدين بشكل دائم. وفي لقاء حديث مع طلاب جامعة كامبريدج قال ديميس هاسابيس الرئيس التنفيذي لشركة غوغل ديب مايند: "التغيير سيكون العامل الثابت الوحيد في العقد المقبل، وبشكل خاص فيما يتعلق بالذكاء الاصطناعي، المدعوم بالواقع الافتراضي والواقع المعزز، كما أن مجالات الحوسبة الكمومية تبدو واعدة خلال السنوات الخمس أو العشر القادمة". ويضيف: "كلما حدث تغيير، ولدت معه فرص هائلة أيضاً". ويتوقع بيل غيتس أيضاً أن يؤدي انتشار الذكاء الاصطناعي في البلدان المتقدمة إلى تقليص أسبوع العمل إلى يومين فقط خلال العقد القادم، وإذا تحقق ذلك، فمن الممكن أن يؤدي إلى زيادة كبيرة في نسبة التعليم المنزلي التي تبلغ اليوم في الولايات المتحدة 6.73%. ولكن هذا لن يؤدي إلى إلغاء المدارس، بل إلى تغيير دورها وبنيتها، حيث يمكن لها أن تلعب دورا اجتماعيا أكثر من الدور التعليمي الراهن، الذي يتوقع أن يقوده الذكاء الاصطناعي تحت إشراف خبراء، مما سيؤدي إلى تراجع كبير في أعداد المعلمين. التعليم في البلدان العربية تجري منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) كل 3 سنوات اختبار برنامج التقييم الدولي للطلبة (PISA) الذي يعتبر الأكثر موثوقية وشيوعاً في قياس جودة التعليم، ويقيس قدرات الطلاب (بعمر 15 عاماً) في الرياضيات والقراءة والعلوم، ويستخدم لمقارنة جودة التعليم بين الدول المشاركة. لا تركز هذه الاختبارات على الحفظ أو المنهج الدراسي، بل على القدرة على تطبيق المعرفة في الحياة الواقعية. وشارك في آخر اختبار أجري عام 2022، نحو 690 ألف طالب وطالبة من 81 بلداً منها 6 بلدان عربية، وأظهرت النتائج تدنى مستوى البلدان العربية في التعليم. ففي مادة الرياضيات، تصدرت الإمارات البلدان العربية لكنها جاءت في المرتبة 43 عالمياً، تلتها قطر عربياً وجاءت في المرتبة 51 عالمياً، تلتهما المملكة العربية السعودية عربياً وجاءت في المرتبة 62 عالمياً، وجاءت فلسطين في المرتبة 70، والمغرب في المرتبة 71، والأردن في المرتبة 73 عالمياً. وعلى الصعيد العالمي جاءت سنغافورة في المرتبة الأولى، تلتها تايوان ثم ماكاو (الصين)، ثم هونغ كونغ (الصين) فاليابان. أما جمهورية الصين الشعبية التي كثيراً ما تحتل المراتب الأولى وخاصة في الرياضيات، فلم تشارك في نسخة عام 2022، بسبب كوفيد-19. نأمل أن تكون مشاركة البلدان العربية أوسع ونتائجها أفضل في اختبارات عام 2025 المتوقع أن تظهر نتائجها أوائل عام 2026. يمكن للبلدان العربية الاستفادة من تجربة سنغافورة التي أدخلت إصلاحات لتعزيز التفكير الإبداعي في التعليم من خلال مبادرات مثل " دَرِّس أقل، وتعلَّم أكثر"، التي تُشجع المدارس على تقليل التركيز على الحفظ وزيادة التركيز على التعلم النشط والتفكير الناقد. وفي أولمبياد الرياضيات الدولي الـ65 الذي أُقيم في مدينة باث بالمملكة المتحدة في الفترة من 11 إلى 22 يوليو/تموز 2024، شاركت 108 دول، من بينها 7 دول عربية، ولم يتمكن أي فريق عربي من إحراز مركز متقدم. واحتلت المملكة العربية السعودية المرتبة الأولى عربياً و41 عالمياً، تلتها تونس في المرتبة 73 عالمياً، ثم سوريا في المرتبة 75 عالمياً، فالعراق في المرتبة 81 عالمياً، فسلطنة عمان في المرتبة 105 عالمياً، وأخيراً دولة الإمارات في المرتبة 107 عالمياً. وعلى الصعيد العالمي، احتلت الولايات المتحدة المرتبة الأولى تلتها الصين، ثم كوريا الجنوبية. تُعتبر البلدان العربية متأخرة أيضاً على صعيد التعليم الجامعي، فوفق تصنيف شنغهاي العالمي للجامعات لعام 2024، احتلت جامعة الملك سعود المرتبة 90 عالمياً، مما يجعلها أول جامعة عربية تصل إلى قائمة أفضل 100 جامعة في تاريخ التصنيف. وجاءت 5 جامعات سعودية وجامعة مصرية واحدة ضمن الجامعات الـ500 الأولى عالمياً وفقاً لهذا التصنيف. يُعد تصنيف شنغهاي العالمي للجامعات من أكثر التصنيفات الجامعية موثوقية وتأثيراً عالمياً، وذلك لعدة أسباب موضوعية تتعلق بمنهجيته وشفافيته. كيف يمكننا تطوير التعليم في البلدان العربية؟ لا يمكن وضع كل البلدان العربية في سلة واحدة، إذ إن البنية الأساسية لتقنية المعلومات والاتصالات المطلوبة للتعامل مع الذكاء الاصطناعي متوفرة في بلدان مجلس التعاون الخليجي، في حين لاتزال ضعيفة في العديد من البلدان العربية. ولايزال استخدام الإنترنت ضئيلاً في بلدان عربية كاليمن والسودان وسوريا، حيث يتطلب تحسينه تحقيق الأمن والسلام الاجتماعي أولاً. أما البلدان التي تملك بنية أساسية متطورة لتقنية المعلومات والاتصالات كبلدان مجلس التعاون الخليجي، فالمطلوب منها وضع إستراتيجية لتنمية المهارات الأساسية للمتعلمين المطلوبة في حقبة الذكاء الاصطناعي، وأهمها: تعلّم كيفية التعلم: إن القدرة على التكيف والتعلم الذاتي وإعادة اكتساب المهارات باستمرار أكثر قيمة من أي معرفة جامدة، في حقبة يتطور فيها الذكاء الاصطناعي بسرعة. التفكير الناقد وحل المشكلات: مع توليد الذكاء الاصطناعي لبيانات ومحتويات هائلة، يجب أن يكون البشر قادرين على التحليل والتساؤل واتخاذ قرارات أخلاقية ودقيقة. محو أمية البيانات: يُعد فهم كيفية تفسير البيانات وتصور الاتجاهات واكتشاف التحيز أمراً بالغ الأهمية، حتى لغير المبرمجين. الإبداع والابتكار: بما أن الذكاء الاصطناعي يُؤتمت المهام الروتينية، يصبح ابتكار أفكار وروابط وإستراتيجيات جديدة لا يستطيع الذكاء الاصطناعي القيام بها، مهمة أساسية للإنسان. التواصل والذكاء العاطفي: لا تزال القيادة والتعاون والتواصل مع البشر أمراً أساسياً، فلا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحل محل التعاطف أو الإقناع أو الحضور القيادي في الأمد المنظور. يقول الفيلسوف وعالم اللغويات الأميركي ناعوم تشومسكي: "الغرض من التعليم هو مساعدة الطلاب على تحديد كيفية التعلم بأنفسهم، إنه يتعلق بتنمية عقل حر ومستقل".