
إليزه سميردجيان وبقايا النساء في التطهير الأرمني
في كتابها «بقايا» Remnants الفائز بجائزة AMEWS للكتاب للعام 2024، تقدم الباحثة والناشطة الأمريكية الأرمنية إليزه سيميردجيان Elyse Semerdjian ونشرت جامعة ستانفورد، دراسة من الطراز الأول لقصة الإبادة الجماعية التي اقترفتها تركيا في الشعب الأرمني في بداية القرن العشرين.
وهي باحثة لم تألُ جهدا تقدم مقارنات ودراسات بين الشعبين الأرمني والفلسطيني عاقدة لأوجه الشبه بين السياسة التركية العثمانية آنذاك والإسرائيلية اليوم. وهذا الكتاب الذي فاز بالمركز الأول بجدارة وبإجماع لجنة المسابقة مستحق منذ الصفحة الأولى التي تركتني أرتعش وأنا أقرأه حتى اتخذت لي وقتا ومكانا أكثر تركيزا يمكنني أن أقرأ فيه وأضع ملاحظاتي وقراءتي وتقييمي وأنا متمكنة من السيطرة على مشاعر الألم والغضب والهول الذي كان يجتاحني وأنا أعبر صفحاته.
أول ما يقابلك في الكتاب صورة الغلاف الذي ملأ صفحته وجه امرأة موشومة الذقن ونقاط محددة على خديها، أنفها، جبينها وما بين حاجبيها في ضباب أسود يلف بقية الوجه، ونظرة حادة تخترق عدسة المصور إلى من يقف قبالتها تحمل ألم وقهر وتحدٍ. هذه الصورة هي بداية إحدى قصص هذا الكتاب، إحدى نسائه وضحاياه اللاتي وصمن بالوشم.
قصة الإبادة الأرمنية تعود في بداياتها إلى نهاية القرن التاسع عشر حين تعرض الأرمن بعد عدة مطالبات للدولة العثمانية بتحسين أوضاعهم المعيشية وحمايتهم من تسلط الجباة عليهم وما يتعرضون له من اعتداءات وسرقة وغيرها وأن يعترفوا بمواطنتهم لا سيما في الفترات الدستورية اللاحقة وعلى الرغم من الوعود إلا أنهم تعرضوا لعدد من المجازر التي أطلق فيها العثمانيون يد الأكراد في الأرمن يقتلون كيف يشاؤون، فيما يعرف بالخيالة الحميدية، والتي كانت جزءا من سياسة الدولة في تسليط القوميات بعضها على بعض، والتي وقع أكبرها بين عامي 1895-1896.
كان جزءا من التسبب فيما يعرف بالمسألة الأرمنية هي سياسة التتريك القومية التي تلت الانقلاب الدستوري عام 1908 والذي تفاءلت به كل الأقليات الذمية، لكن العام الذي تلاه 1909 شهد انقلابا مضادا وإثنيا بدأ بمجزرة في أضنة، ومن ثم تحولت إلى سياسة ممنهجة لطرد كامل الشعب الأرمني من الأراضي التركية الشرقية بحلول عامي 1915-16 بعد أن تم التخلص من الإثنية اليونانية ثم تلا الأرمن قوميات مسيحية أخرى كالآشوريين وحتى مسلمين كالأكراد. كان هذا التحرك جزءا من استعدادات الدولة العثمانية لخوض الحرب العالمية الأولى إلى جانب ألمانيا ضد روسيا إلى الشرق منها وبريطانيا على حدودها الغربية.
ومن ذلك كان إعلان النفير العام (سفر برلك) والتعبئة العامة في كل الولايات العثمانية والتي فرضت الخدمة العسكرية الإجبارية على كل الشباب المسلمين وغير المسلمين بين 15 و45 عاما دون أي تجهيز، وهُجّر بسببها عشرات الآلاف من العراق ومصر وسوريا وفلسطين والمدينة المنورة ابتداء من يوليو 1914 إلى الحدود التركية الروسية وغيرها من خطوط المواجهات حيث قتل معظمهم تحت الانهيارات الثلجية والبحيرات المتجمدة.
لكن الأرمن كان مصيرهم مختلفا وقررت الدولة التخلص منهم للخوف من أن يساندوا روسيا أو أرمينيا الروسية فكان بداية العقاب الجماعي من يوم 15 أبريل من عام 1915 حين نقلوا مئات من المثقفين الأرمن من إسطنبول إلى أنقرة حيث تم إعدامهم جميعا، ثم بدأت ما عرفت بمسيرة الموت لمئات الألوف من النساء والأطفال والشيوخ عبر بادية الشام إلى دير الزور من عينتاب ووان وأورفا ومنبج ورأس العين وغيرها وبمرافقة الجنود العثمانيين بعد أن جردوهم من أملاكهم وأموالهم وملابسهم، وهدموا مئات من الدور والكنائس وصادروا أملاكها، واضطروهم للمشي لمئات الكيلومترات في وسط الصحراء دون طعام أو شراب، وفي كثير من الأحيان دون ملابس، مما أدى إلى أن يقضى الآلاف في الطريق ويُتركوا دون دفن ولا توديع، أو يتعرضوا للنهب والخطف والقتل أو القضاء جوعا وعطشا وهم يسيرون دون أي حماية بعد أن فرقوا بين النساء والرجال.
رحّل الجنود العثمانيون حوالي 800,000 أرمني وأرقام ترفعها إلى مليون ومائتي ألف، من دورهم وقراهم خلال ايام باتجاه الجنوب الغربي منها ما استغرق أياما ومنها شهورا. كانت قصص من نجا مخيفة وبشعة، فيها قتل وتجويع وتعذيب وإذلال.
لم تكن إليزه سيميردجيان في صدد تقديم سرد تاريخي للمذابح الأرمنية على يد الدولة العثمانية وجمعية الاتحاد والترقي وفظائعها فقد تولت آلاف الدراسات هذا الأمر، وإنما في صدد الحفر في الذاكرة الأرمنية بحثا عن صوت غاب أو صورة محيت أو شعور طمس. كانت الكاتبة مهمومة بقص القصة الداخلية للنساء، المشاعر المجهولة والممنوعة، دواخلهن وآلامهن، عارهن وحروبهن.
كانت تسعى إلى توضيح كيف أثّر الجندر (الجنوسة) والنظام الأبوي والجسد على التفكير الإبادي وإلى تسليط الضوء على أثر الاختطاف والأسلمة والاستعباد الجنسي على العدوان الإبادي ضد الجسد الأرمني الفردي والجماعي. فيشهد جسد الأرمن وجلدهم وعظامهم على الصدمة وكذلك على الذاكرة المحفورة في الجسد. أرادت أن تعلي من صوت الضحايا مستخدمة الأرشيف كدليلها على الجريمة، والذي بدوره استخدم كأداة لبناء الدولة التي تمحو الآثار الاجتماعية والنفسية لكيفية تعرض الرعايا العثمانيين للإبادة الجماعية.
وقد قسمت إليزه سيميردجيان Elyse Semerdjian كتاب «بقايا» الأرشيف المجسد للإبادة الأرمنية، إلى ثلاثٍ من مظاهر الجسم وهي الجسد، البشرة، والعظام مؤجلة تناول الدم إلى وقت آخر. ثم تقسمها إلى تسع «بقايا» تتكون من قصص قاسية، مثل بقايا قصة الرقصة التي أدتها ثلاثون عروسا أمام أزواجهن عرايا تحت السلاح الذي يطلب منهن الرقص حتى الموت من العار والذل أمام رجالهن المكبلين وفي وسط ساحة القرية حيث كن يزفون، حيث يصبح العار جزءا من الإبادة وسلاحا ماضيا.
بقايا رقم اثنين كانت عن الفتيات الأرمنيات داخل البيوت العربية اللاتي إما خُطفن أو ضُممن إليها وتزوجن من رجالهن أو استعبدن. بقايا متعددة تتناول الجسد بكل تفاصيله وقد تحول إلى خارطة لإخضاع الأرمني وتجريده من كل ما يمكن أن يعتبر إرثا يقوم عليه مجتمعه وذاكرته، عزته وشرفه، سواء كان امرأة أو رجلا. تتحدث عن عملية الخطف الممنهج والتعذيب الذي تعرضت له الفتيات الأرمنيات ومن ثم أسلمتهن ومزجهن مع أسرهن العربية الجديدة بعد محو ذاكرتهن بكل الوسائل. الأسلمة كانت تجري أيضا على الرجال المجندين والعاملين عندما يعجزون عن قتلهم، يأمروهم باعتناق الإسلام والختان.
كانت هناك محاولات مقاومة وإنقاذ خلال تلك الفترة لكنها كانت صعبة وتصل متأخرة. وصعّبت الحرب من الوصول إلى سوريا فضلا عن التواطؤ الذي حدث بين الدولة العثمانية وألمانيا القيصرية التي كان عمالها ومهندسوها منتشرين في الصحراء السورية يمدون سكة الحديد الممتدة إلى الحجاز شهودا على ما يجري. وكان منهم من غذى العثمانيين بكل الأفكار الجهنمية في عملية الإبادة مما أتقنوه في أول إبادة اقترفوها في التاريخ في ناميبيا بجنوب غرب إفريقيا لشعوب الهيريرو وناما وأوفاهيرو والبوشمن بين عامي 1904 و1908.
وكما فعل الألمان في ناميبيا، فقد اعتمدت الحكومة العثمانية الإذلال الجنسي كوسيلة من وسائل التخويف للنساء والرجال، ليس فقط بالاغتصاب بل بالبغاء القسري والزواج بالإكراه وبالبيع في سوق النخاسة وتشويه أعضائهن الجنسية، بدءا من بنات المدينة من الطبقة المثقفة والمخملية وانتهاء بنساء القرى والأرياف. لم يكن هناك استثناء.
كانت هناك محاولات حثيثة من عدد من المنظمات الأرمنية في الخارج للبحث عمن نجا وتبقى من التطهير العرقي الذي عانى منه الأرمن وبحث عن مآلاتهم خاصة بعد الحرب العالمية الأولى، منها ما نجح في إنقاذ بضع مئات من الفتيات والفتيان وتم ضمهم إلى ملاجئ خاصة بالمسيحيين في حلب وإسطنبول وطرابلس وبيروت، وبعضهم وصل الرقة والموصل، لكن المسألة لم تكن بهذه السهولة وقد غُمرت قصة الإبادة بكثير من التغمية والسرية فضلا عن الإنكار وتحوير الأهداف وكأنها لم تكن عملية مبيتة بليل.
وقد انتهى المقام بآلاف الفتيات في البيوت العربية وقد تغيرت أسماؤهن ومعالمهن، وتزوجن وأنجبن واندمجن في المجتمع العربي المسلم، وأصبح الكثير من الأرمن نتاجا لزواجات مختلطة مما أدى إلى كثير من التوتر في العلاقات العربية الأرمنية لسنوات طويلة ومضت السنوات وغدا من الصعوبة بمكان أن تجد الأسر بعضها البعض وقد تفرقت في البلاد. كان هناك الكثير من التفاصيل المؤلمة والخسارات الفادحة.
استعرضت إليزه في تتبعها لسيرة جدتها في مسيرة الصحراء حتى وصلت إلى حلب قصص أجساد النساء التي أصبحت ساحة قتال لا تنتصر فيها النساء. تعريتهن كانت بغرض تجريد النسيج الاجتماعي من كرامته وعزته بكل صوره. كان الهدف هو نزع الصفة الإنسانية عن الأرمن بكل الوسائل، كان التجريد من الملابس إحدى هذه الوسائل الناجحة، والتي كانت المسمار الأخير في نعش النظام الاجتماعي وتفكيكه.
لتتحول بعد ذلك للحديث عن ملامح بشرة النساء وجلودهن وكيف غدت بدورها ساحة لعلامات الإذلال بتحويل الوشوم إلى لغة للنخاسين تكسو النساء الأرمنيات بالعار مدى الحياة، فمن الوشم ما كان علامة لهوية قبائل ومنها ما كان علامة للنساء اللاتي استعبدن. لكن القصة لم تنته هنا فقد كانت هناك مقاومة وذاكرة وخيوط تصل أطراف القصص ببعضها البعض، ولتتعرف الأسر على بعض بناتها وأخوتها، وفي بعض الأحيان كانت طريقة لحماية هذه الفتيات من الجنود الأتراك الذين كانوا لا يزالون يبحثون عن أي ناجيات. وبصورة عامة فإن دلالات الوشوم ما زالت تخضع لدراسات مطولة لتصل إلى قاعها ودلالاتها الحقيقية.
أما الجزء الثالث والخاص بالعظام، فقد تحولت كل الطرق المؤدية إلى دير الزور إلى طرق حج للأرمن اليوم، طريق راس العين - حلب - دير الزور أو راس العين - الحسكة - مارغادا وإلى دير الزور، يصلون في نهايته إلى كنيسة الشهيد المقدس في دير الزور، التي فجرها إرهاب داعش عام 2014 بدعوى التقوى.
وقد ضمت هذه الكنيسة رفات الكثير من الأرمن ممن جمعت عظامهم من الصحراء، وممن وصلوا المدينة وعاشوا فيها، مستذكرين معاناتهم وتضحياتهم. هذا الجزء تناول أيضا تتبع آثار العظام. وقد أصبحت طقوس الدعاء لشهداء الإبادة طقوسا مرتبطة بتقديس العظام البشرية بشكل مخيف حقا فضلا عن تحول الصحراء إلى مزارات للمجهولين ممن عثر على جماجمهم متناثرة في كل مكان. وتحول يوم 24 أبريل إلى يوم خاص بالمجزرة يحتفي بذكراه الأرمن في كل مكان وتقام القداسات في كنيسة دير الزور وكنيسة مارغادا على الخابور لإحياء الدعاء لأرواح الشهداء.
بعد مرور قرن على هذه الجريمة ما زالت تركيا الحديثة لم تعترف بها بعد ولم تعتذر للشعب الأرمني عنها، تنكر وتخفي الكثير من الوثائق التي يبحث عنها الشعب الأرمني لاستعادة أوصاله فضلا عن استحقاقاته المعنوية والمادية التي صادرتها الدولة العثمانية وأدخلتها في خزينتها.
لم تكن قراءة هذا الكتاب سهلة بأي حال كما أنها لم تكن كتابة سهلة بالتأكيد، وهو حال آلام الشعوب التي لا يبقى لها من القدرة على المقاومة سوى رفع القلم وتوثيق ما يمكن توثيقه ليبقى صامدا أمام التاريخ وشاهدا لا شهيدا فحسب.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


Independent عربية
١٩-٠٦-٢٠٢٥
- Independent عربية
هل يقود الصراع الإسرائيلي- الإيراني إلى حرب عالمية ثالثة؟
يدعو إلى القلق أن قادة مجموعة السبع - القوى الصناعية والديمقراطيات الكبرى في العالم - الذين اجتمعوا في كندا، لا يملكون ما يمكنهم أو يرغبون في فعله لإنهاء الحرب بين إيران وإسرائيل. ويرجع ذلك جزئياً إلى أن الحرب، على رغم ما تحمله من مشاهد درامية وخسائر مدنية حقيقية، ما زالت حتى الآن محصورة في القصف الجوي المتبادل. إنها نسخة أطول وأكثر كثافة من الضربات التي شنها الطرفان في أبريل (نيسان) وأكتوبر (تشرين الأول)، وقد تهدأ حين ترى إسرائيل أن التهدئة باتت تصب في مصلحتها، على رغم أن الجيش الإسرائيلي يقول حالياً إنه يسيطر بالكامل على الأجواء فوق طهران. تقول إسرائيل إن الغارات الليلية على حيفا وتل أبيب أسفرت عن مقتل ثمانية أشخاص، بينما تقول طهران إن عدد القتلى بلغ مئات. ومع ذلك، لم تصل الأمور بعد إلى مستوى الحرب الشاملة. لا مجال لأن تستخدم إسرائيل سلاحها النووي، ولا احتمال كبيراً بأن تتدخل الولايات المتحدة مباشرة ضد الأراضي الإيرانية أو قواتها. إذا كان دونالد ترمب يريد الانتقام بسبب الأضرار الطفيفة التي لحقت بالسفارة الأميركية في تل أبيب بعد الغارات الليلية على منطقة سكنية، فيمكنه ترك هذه المهمة لبنيامين نتنياهو (بيبي). لذا، قد تكون هذه لحظة الخطر الأقصى أو ذروة الخطر، وليس تصعيداً إضافياً. إن الأمر لا يبدو حتى الآن وكأنه بداية لحرب عالمية ثالثة. إذا رأيت أن هجمات "حماس" في السابع من أكتوبر كانت لحظة مفصلية ومزعزعة للاستقرار، على غرار اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند في سراييفو عام 1914 – الشرارة التي أشعلت الحرب العالمية الأولى – فقد تميل إلى اعتبار التطورات الحالية سلسلة من الصحوات القومية في منطقة مضطربة، مرشحة لاستدراج القوى العظمى في زمننا إلى صراع أوسع. وكما فعل الإرهابيون الصرب آنذاك، سترحب "حماس" بالتأكيد بتدخلات قوى أخرى اعتبرتها تقليدياً حليفة لها، أي إيران وروسيا، للوقوف إلى جانبها في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة. فلا يمكن لـ"حماس" أن تكسب حرباً ضد إسرائيل بمفردها، لكن مع دعم إيران وروسيا، قد تكون لديها فرصة لتحقيق أهدافها وإضعاف إسرائيل. لهذا السبب، بدا رد فعل بيبي المفرط على هجمات السابع من أكتوبر 2023 ساذجاً وغير محسوب، لأنه خدم مصالح "حماس". وعلى رغم كل ما جرى، لم يجر القضاء على المنظمة الإرهابية. ولم تحقق الأهداف الحربية لإسرائيل، بل توسعت لتشمل إذلال إيران، وإنهاء طموحاتها النووية، وربما حتى إسقاط الجمهورية الإسلامية. من الممكن أن تستدرج الولايات المتحدة وروسيا إلى هذا الصراع، كان ذلك ليحدث في عهد بايدن. أما في عهد دونالد ترمب، ومع انكشاف ضعف إيران كما هو الآن، فإن الظروف التي قد تفضي إلى تصعيد أكبر ليست متوفرة. يتردد ترمب بشدة في فعل أي شيء يمكن أن يعرقل هدفه الاستراتيجي المتمثل في إقامة شراكة مع روسيا، إلى درجة أنه لن يتدخل إلا إذا كانت إسرائيل تواجه خطراً وجودياً مباشراً. وبالمثل، لن يتدخل بوتين إلا إذا أصبحت إيران، وهي مصدر دعم دبلوماسي وعسكري للحملة في أوكرانيا، معرضة للخطر. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) فلا إسرائيل ولا إيران على وشك الانهيار، فيما تبذل إسرائيل جهداً غير مسبوق لعرقلة مساعي إيران نحو امتلاك قدرة نووية. وهي حقيقة مقلقة، وكان من الأفضل بكثير للجميع لو أن الاتفاق النووي مع إيران حقق هذه النتيجة. لكن بعد انسحاب ترمب من خطة العمل الشاملة المشتركة خلال ولايته الأولى، لم تفعل إيران سوى تسريع برنامجها. إن منع إسرائيل للنظام في طهران من الحصول على أسلحة دمار شامل يتوافق تماماً مع مصالح ترمب. وفي هذا السياق، ليس مفاجئاً أن يلمح إلى إمكان أن يقوم فلاديمير بوتين بدور الوسيط لعقد اتفاق سلام أو في الأقل هدنة. وفي الوقت الراهن، وبالمنطق ذاته، لا يوجد سبب واضح يدفع المملكة العربية السعودية أو تركيا إلى التدخل في الصراع بين إسرائيل وإيران. لذا، ستصدر مجموعة السبع هذا الأسبوع بياناً باهتاً آخر يدعو إلى خفض التصعيد، وهو بيان لن يكون له تأثير يذكر في إسرائيل أو إيران، وسيستمر القصف. وسيتواصل أيضاً التدمير العقيم في غزة، وقد يستأنف الحوثيون أعمالهم الإرهابية منخفضة الحدة قرب مضيق باب المندب، مع تراجعها أحياناً بسبب القصف الأميركي العقابي المتكرر. ومع ذلك، فكل هذا لا يشكل استقراراً، وقد تنفجر الأمور فعلاً، لكن ذلك سيتطلب شيئاً دراماتيكياً، مثل أن يهدي الروس والكوريون الشماليون لإيران سلاحاً نووياً ونظاماً صاروخياً يمكنه الوصول إلى إسرائيل، أو أن تقصف الولايات المتحدة طهران أو المواقع الدينية. عندها فقط، يمكننا أن نتأمل مجدداً كيف ستصطف القوى العظمى وحلفاؤها في مواجهة شاملة، لكن لم يحن ذلك الوقت، بعد.


Independent عربية
١٦-٠٦-٢٠٢٥
- Independent عربية
"الصحوة" رواية فرنسية تفضح فن التلاعب بالبشر
تتخذ أحداث رواية "الصحوة" مساراً أفقياً لا تنكسر أفقيته، سوى في نهاية الرواية، في نقطة تتحول فيها الأحداث عن مجراها، وأن عدد الشخوص يقتصر على شخصين اثنين، ينخرطان في حوار غير مباشر، عن بعد، يتمحور حول مسائل فكرية راهنة. وبمعزل عن إشكالية التجنيس، يطرح غونيل في "الصحوة" مسألة على قدر كبير من الأهمية تتعلق بدور الشركات المتعددة الجنسيات في تشكيل العالم وفق مصالحها، وتحويل الإنسان، بالتواطؤ مع السياسيين الذين هم صنيعة هذه الشركات في معظم الأحيان، إلى مجرد رمز مشفر ومزود برقاقة، ورقم مسجل في وزارتي الداخلية والمالية. وبذلك، ينهض غونيل بدور المثقف الذي يختصره نعوم تشومسكي بالبوح بالحقيقة وكشف الأكاذيب، ويقوم بالتكليفين اللذين يصنعان عظمة مهنة الكتابة، على رأي ألبير كامو، وهما "خدمة الحقيقة وخدمة الحرية"، وهو ما يصرح به الكاتب في تذييل الرواية. من هنا، تشكل "الصحوة" صرخة في وجه الشركات المتعددة الجنسيات وصنائعها من السياسيين، من جهة، وانتصاراً لحرية الإنسان، من جهة ثانية. التلاعب بالحشود الرواية بالترجمة العربية (دار نوفل) ذلك أن الشركات المتعددة الجنسيات، كما نرى في المتن الروائي، تتلاعب بالحشود، وتتحكم بغرائز الناس ودوافعهم، وتستغل مخاوفهم، لتسويق منتجاتها. وهي تقتفي في ذلك أثر "لجنة المعلومات العامة" التي شكلها الرئيس الأميركي وودرو ويلسون عام 1917، بهدف إقناع الرأي العام الأميركي بالمشاركة في الحرب العالمية الأولى، وضمت صحافيين ورسامين ومؤثرين محترفين، وكان بينهم إدوارد بيرنيز ابن شقيق فرويد، فوجهت اهتمامها إلى إثارة الغرائز والمشاعر من خلال: اختلاق الأخبار وابتداع القصص وإنتاج الأفلام وطباعة الملصقات وصياغة النشرات اليومية. وهنا، تزخر الرواية بمعلومات شكلت مقدمات تاريخية لنشوء أساليب التلاعب بالحشود التي اتخذتها الشركات الكبرى سلاحاً لتحقيق أهدافها، فراحت تفتعل الأزمات حول العالم، وتجترح الحلول لها، في محاولة منها لمراكمة مزيد من رأس المال وافتتاح الجديد من الأسواق لمنتجاتها، ضاربة عُرض الحائط بصحة الإنسان وسلامة البيئة وحرمة الطبيعة. وذلك، بالتواطؤ مع سياسيين صنَّعتهم، وأسندت إليهم الأدوار القذرة المغلفة بنوازع إنسانية، فأخذوا يسنون القوانين ويصدرون القرارات التي تحقق إستراتيجياتها، مما ترتب عليه تجريد الإنسان من حريته، وتلويث البيئة، وانتهاك حرمة الطبيعة. في هذا السياق، تقول الرواية إن رئيس دولة غربية لا تصرح باسمها لكنها تلمح إلى أنها الولايات المتحدة الأميركية، يقوم بإعلان خمسة حروب متعاقبة على الموت، متمظهراً بحوادث السير وداء السكري والدفع نقداً والاحتباس الحراري والعنف. وتسخر الشركات الكبرى وسائل الإعلام وتتواصل لتضخيم أخطار هذه التمظهرات، بهدف دفع الناس إلى التهافت على الحلول التي تجترحها، والإقبال على استهلاك منتجاتها، مما يجعل من الإنسان مجرد حيوان مستهلك، تتفرد بتشكيله وفق مصالحها، ودائماً باسم الحرص على مصلحته. ففي مقابل التهويل بالأخطار التي تشكلها حوادث السير ورفد الرأي العام بإحصاءات يومية مبالغ فيها بعدد الضحايا، تخترع الشركات سيارات ذاتية القيادة وتغري الناس باقتنائها. وفي مقابل التهويل بأخطار داء السكري، تخترع المستشعر الحيوي لزرعه في جسم الإنسان وإشعاره بمعدلات السكر فيه. وفي مقابل التهويل بأخطار الدفع نقداً، تخترع البطاقة المصرفية. وفي مقابل التهويل بالاحتباس الحراري، تحدد الحد الأقصى لاستهلاك الطاقة وتفرض الضرائب على المخالفين. وفي مقابل التهويل بالعنف، يتم اختراع الكاميرات التي ترصد ملامح الوجوه وتتنبأ سابقاً بالدوافع الجرمية قبل ارتكاب الجرائم. وتتمكن بالترغيب والترهيب من فرض منتجاتها المختلفة على الناس. منظوران روائيان الروائي الفرنسي لوران غونل وروايته (فناك) إزاء هذه الوقائع، ثمة منظوران روائيان اثنان مختلفان تنطوي عليهما "الصحوة". والمفارق أنهما يصدران عن صديقين، لكل منها مكان إقامته ورؤيته ونمط عيشه المختلف عن الآخر، ومع هذا، يتواصلان ويتبادلان الرأي ويمثلان خطين متوازيين، خلال مجرى الأحداث، حتى إذا ما شارفت الرواية نهايتها، يتقاطعان بأن يتبنى أحدهما وجهة نظر الآخر، وتتحقق الصحوة بعد فوات الأوان. المنظور الأول يؤيد الإجراءات المتخذة في مواجهة الأخطار المفتعلة، ويعبر عنه المهندس الشاب توم الذي يقيم في الولايات المتحدة، ويلتزم سائر الحلول التي تجترحها الشركات الكبرى، معتبراً أنها تصب في مصلحة الإنسان، فيقتني السيارة الذاتية الدفع، ويدس المستشعر الحيوي في جسده، ويستخدم البطاقة المصرفية، ويستخدم الأدوات الكهربائية المحددة الطاقة، ولا يمانع في تعريض وجهه لكاميرات المراقبة. ويترتب على التزامه هذه الحلول ترديه في الاكتئاب والوحدة واعتزال الناس والشعور أنه موضع مراقبة وافتقاد الحرية. ومع هذا، يصر على صحة خياراته. المنظور الثاني يشكك في خلفيات الشركات المضمرة وأهدافها المعلنة، ويعبر عنه الشاب اليوناني كريستوس أناستوبولوس المقيم في أثينا الذي درس الفلسفة في المهجر. ويرى في الإجراءات المتخذة في مواجهة الأخطار المفتعلة تنويعاً على الأساليب الشيوعية للاستجواب القسري التي وردت في تقرير العالم الاجتماعي الألماني ألبرت د. بيدرمان، ويطبقها على صديقه توم الراضخ لها، وينحاز إلى الطبيعة والحرية، ويصدر عن الحكمة التاوية في مقاربة الأشياء، معتبراً أن الإمبراطوريات المصطنعة خلافاً للطبيعة تحمل في صميمها بذور انهيارها. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) هذان المنظوران ينتظمهما مسلكان سرديان، يتعاقبان بالتناوب في النص، ويتوازيان في الرأي، ويختلفان في المنطلقات والنتائج، ويتقاطعان، في الشكل، مرات عدة، من خلال الهاتف والرسائل الإلكترونية. ويتقاطعان، في المضمون، مرة واحدة، في نهاية الرواية، حين يقتنع توم بوجهة نظر صديقه كريستوس، ويترجم قناعته المستجدة إلى فعل هرب من المدينة إلى الطبيعة، وينسى أنه مراقب من خلال الرقاقة المغروسة في جسده والكاميرات التي تترصده، فيتم القبض عليه وإعادته إلى "القفص"، وبذلك، تأتي خطوته بعد فوات الأوان، في إشارة روائية إلى سيطرة الشركات على مسارات الناس ومصائرهم. على أن هذا التحول ما كان له أن يتحقق لولا مراسلات دورية تشتمل على قوائم بأدوات التلاعب بالحشود يرسلها كريستوس إلى صديقه توم، ولولا اكتشافه أن منتجات الشركات قابلة للاختراق ومضرة بالإنسان، فالسيارات الذكية يتحكم بها قراصنة وتودي بسائقيها إلى الموت، والمستشعر الحيوي يرسل بيانات الجسم الصحية إلى جهة معينة، والبطاقة المصرفية تتحول إلى جاسوس على حاملها، والكاميرا تقرأ نوايا الإنسان، مما يجعله يشعر بالاختناق حتى إذا ما خرج في طلب الحرية يكون قد فات الأوان. وهنا ينفتح الفضاء الروائي على الخيال العلمي بعدما انطلق من فضاء تاريخي. في نهاية الرواية، يهرب توم من كل الأماكن التي تحاصره إلى فضاء طبيعي في حديقة المدينة، فيتعقبه شرطيان ويلقيان القبض عليه في إشارة روائية إلى تأخره في الهرب، والعاقبة الوخيمة للرضوخ لأحكام الشركات، والمآل القاتم لنمط العيش الذي يمثله. وفي المقابل، نرى كريستوس في غمرة السعادة والحرية وهو يفترش رمل الشطآن في واجهة بحرية بعدما "التقى أصدقاءه في العشية، فأكلوا وشربوا وطربوا في مطعم من مطاعم الواجهة البحرية، ثم طاب له قضاء الليل بأسره في الهواء الطلق" (ص 129)، في إشارة روائية إلى أهمية العلاقات الاجتماعية ونمط العيش المختار في تحقيق سعادة الإنسان. وهكذا، ينتصر المنظور الطبيعي على المصطنع، والنقد على الرضوخ، والحرية على القيود، والإنسان على الشركات المتعددة الجنسيات.


Independent عربية
١٦-٠٦-٢٠٢٥
- Independent عربية
من هانيبال إلى الأسد... حروب أسقطت قادة
تزخر سجلات التاريخ بوقائع سقوط قادة جروا بلادهم إلى حروب خاسرة، وبين الحسابات الخاطئة واختلال موازين القوى دفع كثير من الزعماء ثمن قراراتهم، إما بالعزل أو النفي، وأحياناً القتل. تبدو المعادلة بسيطة على مدى التاريخ، فالصراعات التي كثيراً ما حملت طابع الثأر الشخصي أو السعي وراء مجد تاريخي، لا تكون عواقبها خسارة معركة، بل قد تؤدي إلى نهاية حكم أسرة أو سقوط دولة بأكملها. سم الخلاص منذ ما قبل الميلاد بدأت حكاية الحروب التي أسقطت القادة، إذ تشير كتب التاريخ إلى معركة زاما عام 202 قبل الميلاد، التي كانت بداية النهاية لأسطورة قائد قرطاجة هانيبال، أحد أشجع وأشهر القادة العسكريين تاريخياً. في خضم الحرب البونيقية الثانية بين الرومان والقرطاجيين، خاض الجيشان كثيراً من المعارك لحسم السيطرة على البحر المتوسط، لكن المحطة الأهم كانت في منطقة زاما الواقعة حالياً في تونس، حيث كانت الغلبة لقائد الجيش الروماني سكيبيو، الذي لقب بالأفريقي لاحقاً. وبعد هزيمة قرطاجة، نفي هانيبال إلى سوريا، حيث واصل مناوأة روما، وحين وجد أنه مهدد بالتسليم لأعدائه الرومان اختار الانتحار بتجرع السم. السم أيضاً كان السبيل للفرار من تبعات الهزيمة في حرب أخرى دارت رحاها قبل الميلاد في حوض البحر المتوسط، فمعركة أكتيوم البحرية عام 31 قبل الميلاد كانت حداً فاصلاً في الصراع على حكم روما بعد يوليوس قيصر، بين أوكتافيوس (الإمبراطور أغسطس قيصر لاحقاً) ومن ناحية أخرى مارك أنطوني الذي تحالف مع كليوباترا ملكة مصر، اللذين كتبا في التاريخ كقصة حب انتهت بصورة مأسوية. استعانة ماركوس أنطونيوس بكليوباترا، التي كان لها ولد من يوليوس قيصر، فتح باب حرب أهلية طاحنة في الدولة الرومانية، دارت رحاها على جانبي البحر المتوسط، إلى أن حسمت قوات أوكتافيوس معركة أكتيوم، لتبدأ مرحلة تقهقر حلف كليوباترا ومارك أنطوني، حيث تفرق جنودهما وتراجعا إلى الإسكندرية عاصمة الدولة البطلمية. وبعدما أشاع أوكتافيوس أن كليوباترا قتلت، انتحر مارك أنطوني، ثم لحقت ملكة مصر بحبيبها وحليفها منتحرة أيضاً بعد عام من معركة أكتيوم. حروب عالمية كثيراً ما قضت الصراعات في القارة الأوروبية على زعامات كانت توصف بالحنكة السياسية والبراعة العسكرية، ولا أدل على ذلك من إمبراطور فرنسا، نابليون بونابرت، الذي أخضع أجزاء واسعة من أوروبا ووصلت جيوشه إلى مصر. لكن معركة واترلو وضعت حداً لأسطورته العسكرية، بعدما هزم أمام تحالف من جيوش المقاطعات التي تشكل ألمانيا حالياً والجيشين الهولندي والبريطاني، في منطقة تقع في بلجيكا حالياً، وذلك بعد إعلان القوى الأوروبية الكبرى أن نابليون شخص خارج عن القانون، وسعت إلى عزله عن حكم فرنسا. بعد المعركة وتدمير معظم جيشه، حاول نابليون الهرب إلا أن القوات البريطانية ألقت القبض عليه، وقضى بقية عمره منفياً في جزيرة هيلانة بالمحيط الأطلسي. كانت تلك المعارك الأوروبية صورة مصغرة لحرب عالمية شكلت طابعاً للنصف الأول من القرن الـ20، وكغيرها قضت على زعماء. في روسيا كان تسجيل خسائر بشرية كبيرة في الحرب العالمية الأولى مقدمة لعزل القيصر نيكولاس الثاني عام 1917، على يد الثوار البلاشفة، الذين لم يكتفوا بإنهاء إمبراطورية عائلة رومانوف التي استمرت 300 عام، وتحديد إقامة القيصر وعائلته، لكنهم أيضاً قرروا إعدامهم بالرصاص في يوليو (تموز) 1918. ومثلما كتب الزعيم الألماني النازي أدولف هتلر فصل البداية في الحرب العالمية الثانية، فإن تلك الحرب سطرت نهايته، فبعد ستة أعوام أرهقت العالم، وأزهقت أرواح الملايين، وغيرت خرائط العالم، حسمت قوات الحلفاء الحرب لصالحها، وأصبحت على بعد مئات الأمتار من مقر مستشارية الرايخ، لم يجد هتلر بداً من الانتحار بالرصاص خوفاً من الوقوع في يد أعدائه ومواجهة الإعدام كحليفه السابق حاكم إيطاليا، بينيتو موسوليني. اقرأ المزيد يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field) عزل سياسي الموت لم يكن النتيجة الحتمية لكل الزعماء الذين فقدوا مكانتهم نتيجة الحروب، فالعواقب غالباً كانت سياسية في العقود الأخيرة. في إسرائيل، دفعت رئيسة الوزراء غولدا مائير حياتها السياسية ضريبة للهزيمة في حرب أكتوبر (تشرين الأول) عام 1973، التي شنتها مصر وسوريا. وأعقب الحرب اتهامات لحكومة غولدا مائير بضعف الاستعداد للحرب التي مكنت الجيش المصري من عبور قناة السويس إلى سيناء للمرة الأولى منذ هزيمة يونيو (حزيران) 1967. وعلى رغم تبرئة لجنة أغرانات للتحقيق في وقائع الحرب مائير من المسؤولية المباشرة عن الحرب، فإن خسارة حزبها الغالبية في انتخابات ديسمبر (كانون الأول) 1973، دفعها إلى الاستقالة في أبريل (نيسان) 1974، كما تنازلت لاحقاً عن مقعدها في الكنيست (البرلمان) ليكون ذلك نهاية مسيرة أحد أشهر الساسة في تاريخ إسرائيل. المغامرات العسكرية وأطماع التوسع كثيراً ما تؤدي إلى القضاء على أصحابها، وهو ما حدث مع الرئيس العراقي صدام حسين حين غزا الكويت في أغسطس (آب) 1990، في إعادة لمزاعم عراقية قديمة بتبعية الكويت تاريخياً لسيادة العراق. لكن الرئيس العراقي قوبل بإدانة عربية ودولية شديدة، تحولت إلى تحرك لتشكيل تحالف عسكري لتحرير الكويت قادته الولايات المتحدة وشاركت به مصر والسعودية وسوريا إلى جانب دول أخرى. ومثلت تلك الحرب بداية لضعف نظام صدام، إذ دفعت بغداد عشرات المليارات من الدولارات تعويضاً للمتضررين من الحرب، وفرضت عقوبات دولية تسببت في تقويض الاقتصاد وتراجع مستوى الصحة والتعليم بالعراق، وأدى ذلك لاحقاً إلى هزيمة سريعة لصدام من الولايات المتحدة التي احتلت العراق عام 2003، منهية حكم صدام حسين الذي ألقي القبض عليه وأُعدم عام 2006. مغامرة أخرى سبقت حرب الكويت لكن بعيداً من المنطقة العربية، تحديداً في الأرجنتين، حين أعلن رئيس الأرجنتين ليوبولدو غالتييري الحرب على بريطانيا عام 1982 لتحرير جزر فوكلاند الواقعة جنوب الدولة الواقعة بأميركا الجنوبية، لكن نتيجة الحرب كانت متوقعة بالنظر إلى الفارق الكبير بين إمكانات جيشي البلدين، إذ استسلمت الأرجنتين بعد 74 يوماً فقط من المعارك، وهو ما أدى إلى اضطراب داخل المجلس العسكري الحاكم أدى إلى عزل غالتييري بعد أيام من سيطرة بريطانيا على ستانلي عاصمة جزر فوكلاند. اعتقل غالتييري في العام التالي بعد عودة الديمقراطية للأرجنتين، ووجهت له تهم انتهاك حقوق الإنسان، ثم عفي عنه عام 1989، وعاش حياة متواضعة حتى وجهت له اتهامات أخرى عام 2002 إلا أنه توفي في مطلع عام 2003. سقوط تدريجي أحياناً لا يقع الزعماء ضحية معركة واحدة في الحرب، بل تضمحل سلطاتهم تدريجاً عبر أعوام مثلما حدث مع الرئيس السوري السابق بشار الأسد، الذي واجه ثورة شعبية بدأت عام 2011 ضمن الربيع العربي الذي اجتاح المنطقة. وبعد مواجهة الثورة بالسلاح ظهرت انشقاقات في الجيش السوري، إضافة إلى ظهور عناصر مسلحة كردية وأخرى مدعومة من تركيا وثالثة ذات خلفية إسلامية سيطرت على أجزاء واسعة من البلاد، بينما ظل الأسد رئيساً لـ"بعض سوريا" بفضل الدعم العسكري من حليفيه روسيا وإيران. غير أن 14 عاماً من الصراع والعقوبات الاقتصادية دفعت إلى سقوط مفاجئ لم يستغرق سوى أيام لنظام دمشق أمام قوات معارضة تسمى "هيئة تحرير الشام" ارتبطت في السابق بتنظيم "القاعدة" المصنف إرهابياً، ولم يجد بشار أمامه سوى الهرب إلى الحليف موسكو، لينتهي عصر آل الأسد الذي استمر 54 عاماً في سوريا، بينما حل رئيس هيئة تحرير الشام أحمد الشرع محله في قصر الشعب في دمشق.