
الأمن الغذائي العربي وتوترات المنطقة.. مستقبل مشوب بالقلق
تشهد البيئة الاستراتيجية للمنطقة العربية اضطرابًا عميقًا، فلا تلبث التوترات أن تهدأ في بقعة منها حتى تشب في بقعة أخرى، وكان آخرها الأحداث الجارية في السويداء بدولة سورية والتي كان يمكن أن تمر كشأن داخلي يمكن لأطرافه التفاهم والتوصل إلى حلول لمشكلاتهم الداخلية لولا التدخل الإسرائيلي السافر والاعتداء غير المبرر على دولة ذات سيادة بذريعة حماية الدروز، مستغلةً في ذلك فارق القوة العسكرية للعبث بالمنطقة ومواصلة استفزاز جيرانها، وهو ما أعلنت المملكة رسمياً عبر وزارة خارجيتها عن رفضها له وإدانتها للاعتداءات الإسرائيلية المستمرة على الأراضي السورية.
في خضم هذه الأحداث والتوترات المتوالية التي لا تتوقف والتي يبدو أن العالم والقوى الدولية الفاعلة لم تعد تكترث كثيراً لضحاياها يتبدى الحديث عن الأمن الغذائي العربي كأهمية قصوى، إذ أن الأمن الغذائي العربي وضرورة تحقيقه لم يعد مجالاً للمناقشات أو المزايدات، بل صار حتميةً تتعاظم مع الوقت ومع الأحداث الجارية في العالم حاليًا والقابلة لمزيد من الاشتعال في أية لحظة لأتفه الأسباب.
إن العالم العربي الآن أمام فرصة عظيمة للتعاون والتكامل لتحقيق أمنه الغذائي بمعناه الشامل ووفق حدود تضمن أمنه واستقلاليته، وتتضاعف هذه الأهمية إذا ما علمنا أنه وفقاً لتقارير عدة صادرة مؤخراً عن كل من منظمة الأغذية والزراعة والصندوق الدولي للتنمية الزراعية وبرنامج الأغذية العالمي ومنظمة الصحة العالمية واليونيسيف والإسكوا، أكدت أن مستويات الجوع وسوء التغذية قد وصلت إلى مستويات حرجة في المنطقة العربية، خاصةً بعد متوالية من الكوارث، بدءاً بالتغيرات المناخية المستمرة ثم جائحة كوفيد-19 ثم الحرب في أوكرانيا وأخيراً الحرب الإسرائيلية على كل من غزة والضفة ولبنان وسورية ثم مؤخراً إيران، ما صعّب من إمكانية الحصول على الأغذية الأساسية.
تحقيق الأمن الغذائي
وعلى الرغم من الجهود المبذولة لمواجهة هذه التحديات فإن الدول العربية مدعوة إلى بذل مزيد من الجهود لضمان تحقيق الأمن الغذائي واستدامته، كون العالم العربي يعيش أزمة غذائية عميقة ونقصاً كبيراً في السلع الأساسية كالحبوب والزيوت والشّحوم والسكّر واللحوم والألبان، فالزراعة العربية لم تحقق حتى الآن الزيادة المستهدفة في الإنتاج لمقابلة الطلب على الأغذية، ما تسبب في اتساع الفجوة الغذائية، وباتت معظم الدول العربية تستورد أكثر من نصف احتياجاتها من السلع الغذائية الرئيسة.
وقد أوضحت المنظمة العربية للتنمية الزراعية في تقرير لها قبل أشهر أن الحبوب تأتي في مقدمة السلع الغذائية الرئيسية التي تستوردها الدول العربية كافة وبنسبة اكتفاء ذاتي قُدرت بـ(38 %)، من بينها القمح بنسبة (35.3 %) ثم الذرة الشامية والذرة الصفراء بنسبة (23.3 %)، والأرز بما يقدر بـ(48 %)، ولم تحقّق الاكتفاء الذاتي منه سوى دولة واحدة هي مصر، ثم تأتي زيوت الطعام والشحوم (34 %) بنقصٍ كبير في جميع الدول العربية، والسكر (41 %) واللحوم بـ(69 %) بمختلف أنواعها ثم البقوليات (36.6 %) والألبان المجفّفة ومنتجاتها (82 %).
ومن نافلة القول إن الحروب والاضطرابات السياسية في منطقتنا تزيد من تحديات قدرة بلداننا العربية خاصة الفقيرة منها على تأمين احتياجاتها من الأغذية الرئيسة، فقد تأثـرت دول مثـل فلسـطين والسـودان وليبيا ولبنان سـورية واليمن بشـكل خاص بهذه النزاعات، إذ أدت الحروب والاضطرابات المسـتمرة إلـى تدهـور كبيـر فـي قطـاع الزراعـة وارتفـاع معـدلات انعـدام الأمـن الغذائـي بشـكل غيـر مسـبوق، ففـي فلسـطين وقبل الحرب على غزة تجـاوزت نسـبة انعـدام الأمـن الغذائـي 31 % مـن السـكان بسـبب الحصـار المسـتمر والقيـود علـى الأراضـي والميـاه، فما بالنا ما بعد حرب الإبادة الحاصلة والحصار المطبق على قطاع غزة؟ بينما تزايدت هـذه النسـبة في لبنان نتيجة للحرب التي شــهدتها البلاد مؤخـرًا، مما أدى إلى تدهـور القـدرة الشرائية للمواطنيـن وتأثـر سـبل كسـب العيـش لنحو 90 % مـن السكان الزراعييـن، وفـي السـودان أدت النزاعـات المسلحة إلى عدم تمكن نحو 40 % من المزارعيـن مـن الوصول إلى مزارعهم، كما قـاد النزاع إلى تدهور الطرق والبنية التحتية وارتفاع أسعار الغـذاء إلى نحو أكثـر من 70 %، الأمـر الذي نتج عنه تفاقم الأوضاع الإنسانية، أما في اليمن ارتفعـت أسعار القمح بنسبة تفوق 40 % مـا جعل الأمن الغذائي يشهد انهيارًا حادًا، حيـث يعاني أكثر من 70 % من السكان من انعدام الأمن الغذائي، بينهم 17 مليون شخص يعانون من نقـص حاد في الغذاء.
{«إن سبل تحقيق الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي العربي واضحة للجميع وقد طرحها المختصون ما لا يحصى من المرات غير أنها بحاجة للإرادة السياسية الجماعية، ومنها التعاون الإقليمي وتبادل الخبرات وتطوير السياسات الغذائية وتبني تكنولوجيات الزراعة الذكية مناخيًا وإنشاء احتياطيات غذائية استراتيجية يمكن اللجوء إليها خلال الطوارئ.»}
الاستقرار السياسي
إن الأمن الغذائي لا ينفك يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالاستقرار السياسي الذي لن يتحقق إلا بتكامل وتكاتف جميع دولنا العربية، وغني عن القول إن العالم الغربي لا يقيم وزناً لا لأرواح ضحايا العالم الثالث ولا لجوعهم وفقرهم وانعدام أمنهم بل هو أحد أسباب ذلك في سبيل رفاهيته وتقدمه، ولا أدل على ذلك مما ترتكبه إسرائيل كل يوم من حصار ومجازر وصلت حد الإبادة الجماعية في قطاع غزة ويموت العشرات كل يوم جوعاً تحت سمع وبصر العالم وبتمويل ودعم وتواطؤ كامل من العالم الغربي، بل إنهم يقولون ذلك صراحةً أحياناً ويبدو في سقطات ألسنتهم أحياناً أخرى، ولعل كثيراً منا يذكر زلة اللسان التي وقعت من كامالا هاريس نائبة الرئيس الأميركي السابق بايدن ومرشحة الحزب الديمقراطي أمام ترمب في الانتخابات الأخيرة، وذلك خلال إلقاء كلمة في مؤتمر مكافحة تغير المناخ، حيث حثت على تقليص السكان من أجل الأجيال القادمة، قائلةً: "عندما نستثمر في الطاقة النظيفة ووسائل النقل الكهربائي ونقلص عدد السكان، سيتمكن المزيد من أطفالنا من تنفس الهواء النقي وشرب الماء النظيف"، ما يوجه النظر نحو نظرة الغرب إلى البشر عمومًا وتقسيمهم البشرية ، متجاوزين في كل نظرياتهم أي قيم أو أخلاق، طالما أن الأمر يتعلق بمصالح الغرب ومكتسباته، فلا مانع لديهم -دون تعميم بالطبع- من التخلص من نسبة من سكان هذا الكوكب طالما أنهم ارتأوا أن هؤلاء فوائض بشرية ووجودهم سيجعل النمو السكاني يتجاوز الإنتاج الزراعي فلن يكون هنالك في المستقبل ما يكفي من الطعام لإمدادهم.
وهذا الطرح ليس جديداً بالمناسبة على هذا المنظومة عندما يتعلق الأمر بمصالح الغرب، ولعلنا نذكر نفس الدعوة لتوماس مالتوس قبل أكثر من قرنين من الزمن خشية اختلال التوازن بين عدد السكان من جهة وإنتاج الغذاء اللازم لإطعامهم من جهة أخرى، ما سيؤدي إلى حدوث مشكلات اقتصادية واجتماعية خطيرة، وكثيرون تبنوا نظريته مرتئين أن ذلك لا يتحقق إلا بطريقتين، الأولى عبر خفض معدل الولادات، والثانية من خلال رفع معدل الوفيات، عبر المجاعات والأوبئة والكوارث الطبيعية أو عبر الحروب خاصة في عصرنا النووي، والغرب حقيقة -دون تعميم على أفراده بل تحديداً بعض أنظمته الحاكمة- لا يبالي بإقحام العالم كله في حروب يكون الفقراء والمهمشون والدول النامية وقودها لتحقيق سيادته ورفاهيته.
والخلاصة إن سبل تحقيق الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي العربي واضحة للجميع وقد طرحها المختصون ما لا يحصى من المرات غير أنها بحاجة للإرادة السياسية الجمعية، ومنها التعاون الإقليمي وتبادل الخبرات وتطوير السياسات الغذائية وتبني تكنولوجيات الزراعة الذكية مناخيًا وإنشاء احتياطيات غذائية استراتيجية يمكن اللجوء إليها خلال الطوارئ وزيادة الاستثمارات في البحث والتطوير وغيرها كثير من السبل، وكل ذلك بات ضرورة بهدف تقليل الاعتماد على الواردات وضمان استقرار الأسواق المحلية في ظل ما بات يكتنف المنطقة من توترات مستمرة وما يحاك للمنطقة من مخططات دولية تجعل المستقبل مشوباً بالقلق.
*أستاذ زائر بكلية الزراعة وعلوم الحياة والبيئة، قسم الهندسة الزراعية والنظم البيولوجية بجامعة أريزونا، توسان، أريزونا، الولايات المتحدة، ومستشار في كلية العلوم الزراعية والغذائية في الجامعة الأميركية في بيروت بلبنان.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الشرق الأوسط
منذ 2 ساعات
- الشرق الأوسط
إسرائيل تعيد احتلال الجنوب اللبناني... بالمسيّرات
يجمع سكان البلدات اللبنانية الجنوبية على أن إسرائيل باتت تفرض عليهم احتلالاً غير معلن «من دون جنود على الأرض، أو حواجز ودبابات» وإنما بالمسيّرات فقط. ويقول أحدهم: «أيام الاحتلال، كانت هناك معابر، وحواجز ودوريات بالدبابات وتفتيش داخل المنازل يجريها الجنود. أما الآن، فلا حاجة إلى كل ذلك. ثمة شريط حدودي، واحتلال بالمسيّرات. هم يحددون مَن المسموح له بالدخول إلى المنطقة، ومَن الممنوع عليه الإقامة بقريته». وتقوم المسيّرات بتصوير الوجوه ورصد المنازل والدخول إليها عبر النوافذ المفتوحة، وجرى توثيق ذلك رسمياً بحادثة خاطب فيها قائد المسيّرة الإسرائيلي، عجوزين في بلدة حولا «يشربان نسكافيه». السلطات اللبنانية بدورها لفتت إلى هذه الوقائع، وقال مصدر أمني لـ«الشرق الأوسط» إن المنطقة الحدودية «باتت منطقة عازلة بالنار، ولا تتوانى إسرائيل عن تنفيذ استهدافات للسكان والمنازل».


الشرق الأوسط
منذ 2 ساعات
- الشرق الأوسط
عراقجي: ترمب تدخل لمنع انهيار الهدنة
كشف وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، كواليس اتخاذ القرار الإيراني بشأن وقف إطلاق النار مع إسرائيل بعد حرب دامت 12 يوماً تخللها تبادل للضربات غير المسبوقة. وأشار عراقجي في مقابلة تلفزيونية إلى اجتماع عقده المجلس الأعلى للأمن القومي، في ثامن أو تاسع أيام المواجهة، بشأن قبول هدنة من دون شروط مسبقة إذا تقدمت إسرائيل بطلب. ولفت إلى أن المرشد الإيراني علي خامنئي وافق على قرار المجلس، وأشار إلى أن إيران وافقت فوراً بعد تلقيه اتصالات، وإجرائه مشاورات مع قادة «الحرس الثوري». وأشار إلى سوء تفاهم في الساعات الأولى بشأن توقيت الهدنة، ما أدى إلى تدخل الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي أمر المقاتلات الإسرائيلية بالعودة.


الشرق الأوسط
منذ 4 ساعات
- الشرق الأوسط
وهم الفهم
بعد الأحداث الاقتصادية، يتسابق المحللون في التفسير، ويفنّد كل منهم الحدث بحسب معرفته وخبرته وأحياناً حسب توجهاته السياسية، وتخلق هذه الحالة تضارباً في التحليلات الاقتصادية لدى المطّلعين عليها، وقد لا يكون لدى المحللين - الذين تعمّقوا في التفسير - أي توقع لهذا الحدث قبل وقوعه، ومن هنا تبرز الحاجة الملحّة إلى التمييز بين المعرفة الحقيقية، والوهم المعرفي. ومن أبرز الانحيازات التي تؤثر على عملية صنع القرار في السياسة والاقتصاد هو انحياز «وهم الفهم»، وهو ظاهرة معرفية تشرح ميل الأفراد والمجتمعات إلى تبنّي تفسيرات مبسطة ومطمئنة لأحداث معقدة، مع شعور زائف أن أسباب هذه الأحداث مفهومة وواضحة منذ البداية، بينما هي في الواقع أكثر غموضاً وتعقيداً، فما هذا الانحياز؟ وما الأمثلة عليه التي تلاحظ بشكل متكرر؟ ظهر مصطلح «وهم الفهم» في الأدبيات الحديثة عبر أعمال الاقتصادي السلوكي وعالم النفس دانيال كانيمان، وبالتحديد في كتابه «التفكير، السريع والبطيء»، الذي يميّز فيه كانيمان بين نمطين من التفكير: الأول نمط سريع وحدسي، يميل إلى الانفعال والاختزال، والثاني نمط بطيء وتحليلي يتطلب جهداً ذهنياً، ويتولد «وهم الفهم» وفقاً لهذا النموذج عندما يقوم العقل بعد وقوع الحدث، بإعادة ترتيب تسلسل الوقائع، وصياغة رواية تبدو منطقية ومقنعة، وهو ما يوحي أن هذا الحدث كان متوقعاً أو حتى حتمياً، هذه السردية المريحة تمنح شعوراً بالسيطرة على الأحداث، لكنها في جوهرها تتجاهل الصدف والتعقيد والجهل في المواضيع. الأمثلة في السياق الاقتصادي والمالي كثيرة على هذا المفهوم، فعندما شهدت الأسواق العالمية انهيارا في عام 2008، نُسج حول هذه الأزمة تفسيرات كثيرة ركزت على الرهونات العقارية عالية المخاطر، وسلوك البنوك الاستثمارية، وفشل الجهات التنظيمية في متابعة البنوك، وعلى الرغم من صحّة ووجاهة بعض هذه التفسيرات، فإنها غالباً ما غيّبت حقيقة أن الغالبية العظمى من المحللين والمستثمرين فشلوا في التنبؤ بالانهيار، بل كان بعضهم يروّج لنمو متواصل آنذاك، وجاء بعدها السرد اللاحق للأزمة ليحاول إعادة تركيب بعض الوقائع بمنطق يُضفي على الفشل طابع الحتمية، متجاهلاً عنصر المفاجأة، وتعدد العوامل المترابطة بشكل معقّد. في السياق ذاته، تُعد فقاعة «دوت كوم» مثالاً آخر على فشل في التنبؤ بالأزمات الاقتصادية، بل إن فترة ما قبل الأزمة أقنعت البعض أن الإنترنت قد ألغى القواعد الاقتصادية المتبعة في تقييم الشركات الناشئة، مما دفع المستثمرين إلى تقييم الشركات الناشئة بأسعار فلكية رغم غياب الأرباح (وهو ما يشبه بشكل أو بآخر ما يحدث هذا العقد في العملات المشفرة)، وعندما انفجرت فقاعة هذه الشركات لاحقاً، بُنيت سرديات أخرى تظهر أن «الإفراط في التفاؤل» أو «ضعف النماذج الاقتصادية» كانا واضحين، ولكن هذه الرؤية لم تكن حاضرة قبل الانهيار. وهم الفهم يتكرر أيضاً مع روّاد الأعمال، فاليوم ينظر الجميع إلى إيلون ماسك وستيف جوبز بصفتهما رمزين للعبقرية الريادية، وغالبا ما تُعزى نجاحاتهما إلى «الرؤية» و«الجرأة» و«القيادة الاستثنائية»، ولكن هذه الروايات تتجاهل السياق والحظ والدعم المؤسسي، كما أنها تغفل آلاف الرياديين الذين امتلكوا نفس الصفات «الملهمة» ولم يصلوا إلى نفس مستوى النجاح، وكثيراً ما يهز المفتونون برواد الأعمال رؤوسهم إعجابا بتصرف منفرد لماسك أو جوبز أو غيرهما، متوقعين أن هذا التصرف هو سر نجاحهم، بل ظهر مؤخراً من يحاول تقليد ماسك في مزيجه المميز بين الجرأة والوقاحة، وكأن هذا المزيج هو سر النجاح، ومرة أخرى فإن هذا الفهم يعطي راحة عقلية، فالنجاح يبدو ظاهرياً قابلاً للفهم، ولكنه في الحقيقة معقد وعشوائي أكثر بكثير مما هو متوقع، ولذلك فإن تكراره بنفس الطريقة غير ممكن لاستحالة إمكانية تكرر نفس العوامل التي تسببت به. إن وهم الفهم ظاهرة تتكرر كثيراً على مستوى الحكومات والشركات والأفراد، والتحوّط منه يستدعي عدة خطوات، أولاها الاعتراف بوجوده وأن الدماغ يميل إلى بناء قصص مقنعة بعد وقوع الحدث، والثانية اعتماد نهج الاحتمال لا الحتمية، فالجرأة عامل قد يتسبب في النجاح، ولكنه لا يحتّمه، والثالثة التمييز بين ما هو سردي وتحليلي، وعدم الخلط بين التسلسل الزمني للأحداث وحتميتها، ويكمن خطر «وهم الفهم» في أن الكثير من الأخطاء السابقة لا يمكن تجاوزها بفهم نصف القصة، أو اختزال أسبابها بمعرفة محدودة وبالتالي تخيّل فهم الأسباب وجذورها، فذلك يهدد العقلانية في القرارات الاقتصادية، وأكثر ما يدعم «وهم الفهم» هو توفيره تبريرات بسيطة تقنع غير المتخصصين، وتوضح لهم أن الأخطاء (أو النجاحات) التي حدثت يمكن تجاوزها (أو تكرارها) ببساطة في المستقبل، وهو ما يعطي إحساساً زائفاً بالراحة.