
المثقف بين الأفكار والأخلاق
المعرفة أداة قوية، لكنها قد تتحوّل إلى وسيلة للتضليل إذا تجردت من الضمير. التاريخ يعج بأسماء أضاءت العقل وأظلمت السلوك، وأخرى جسّدت الفكر التنويري في مواقف نادرة من الاتساق الإنساني. بين هؤلاء وأولئك، تتضح معضلة المثقف: هل يعيش ما يقول؟
ومن المثقفين الذين خذلتهم سلوكياتهم، جان جاك روسو، صاحب «العقد الاجتماعي»، نظّر لتربية مثالية، لكنه تخلى عن أطفاله الخمسة وسلمهم لملاجئ الأيتام. مارتن هايدغر، أحد أبرز فلاسفة الوجود، انضم إلى الحزب النازي ولم يعتذر لاحقًا عن ذلك. بابلو نيرودا، الشاعر الثوري، كتب في مدح ستالين رغم معرفته بفظائع حكمه.
جان بول سارتر، المدافع عن الحريات، أيد الشيوعية السوفيتية ثم تراجع بعد اجتياح المجر. ليو تولستوي، الذي كتب عن الزهد، عاش مرفهًا وكانت علاقته بزوجته متوترة. أما نيتشه، فقد استخدم نبرة استعلائية تجاه ثقافات بعينها، ووجد النازيون في أفكاره ما يبرر تطرفهم.
جورج أورويل، الذي هاجم الشمولية، سلّم قوائم بأسماء مثقفين للسلطات البريطانية. وكانط، الذي كتب عن كرامة الإنسان، أبدى في نصوصه الأولى أفكارًا عنصرية. ماركس، صاحب «رأس المال»، عاش على نفقة إنجلز وتخلى عن ابنه غير الشرعي. أما لوك، أحد آباء الليبرالية، فاستثمر في شركة لتجارة العبيد.
بيكاسو، مجدد الفن الحديث، عُرف بتعامل مؤذٍ نفسيًا مع النساء. غاندي، رمز اللاعنف، عبّر عن آراء عنصرية في شبابه. جيفرسون، كاتب إعلان الاستقلال، امتلك مئات العبيد. نيرون، راعي الفنون، اتُّهم بإحراق روما وقتل والدته. هنري الثامن، الذي أسس الكنيسة الأنجليكانية الإصلاحية، أعدم زوجتين وعددًا من معارضيه.
في تاريخنا، ابن رشد، الفقيه والفيلسوف الأندلسي، كان من أعظم من دافعوا عن العقل في التاريخ الإسلامي.، كرّس كتاباته لتأكيد إمكانية التوفيق بين الحكمة والشريعة، وهاجم الجمود العقلي، ودعا إلى التفكير النقدي وتحرير العقل المسلم من سلطة النقل، لكنه في حياته العملية، كان ضمن النخبة المقربة من البلاط الموحدي، وتقلّد مناصب رفيعة كالقضاء والطب، مما جعله في صميم البنية الحاكمة آنذاك. وحين تغيّر المزاج العام، نُفي من قرطبة، وأحرقت كتبه، واتُّهم بالزندقة. هذه التجربة المؤلمة تكشف تعقيد العلاقة بين المثقف ومراكز النفوذ، وتطرح سؤالًا دائمًا: إلى أي مدى يمكن أن يحافظ المفكر على استقلاله.
أما ابن خلدون، فتنقل سياسيًا بين سلاطين المغرب وتونس ومصر، وعُرف بتقلب الولاءات. شكيب أرسلان، دافع عن الدولة العثمانية وهاجم الثورة العربية، مما جعله محل خلاف دائم.
في المقابل، ألبير كامو رفض تبرير العنف الثوري، وقال عبارته الشهيرة: «سأدافع عن أمي قبل العدالة»، ملخصًا إنسانيته الأخلاقية.
مالكوم إكس تحوّل من خطاب الغضب إلى خطاب التفاهم بعد زيارته لمكة، وقال: «أنا مستعد أن أموت من أجل التفاهم بين البشر». محمد أركون ظل ناقدًا للتراث ومتواضعًا في حضوره رغم مكانته الأكاديمية. نجيب محفوظ كتب عن الفقراء وعاش بينهم، ورفض العزلة رغم نيله نوبل.
ومن النماذج النادرة أيضًا: علي عزت بيغوفيتش، المفكر والرئيس البوسني، الذي دافع عن التعددية والكرامة الإنسانية، وسُجن بسبب أفكاره، ثم قاد بلاده في الحرب دون أن يتخلى عن المبادئ التي نادى بها. عُرف باستقامته، ورفضه الانتقام، وإيمانه بالسلام رغم الجراح.
وكذلك عبدالوهاب المسيري، المفكر الموسوعي المصري، الذي انتصر للإنسان ضد الهيمنة الثقافية، وهاجم الصهيونية بلغة علمية راقية، دون أن يتورط في التوظيف السياسي لفكره. عاش ببساطة، ورفض أي مجد زائف، وبقي في وجدان طلابه قدوةً في الاستقامة الفكرية والسلوك المتزن.
في عصر السوشيال ميديا، لم يعد المثقف محجوبًا خلف الكتابة، بل في مرمى الجماهير. الرقابة اليوم جماهيرية وفورية، والصورة قد تهدم نصًا عظيمًا في لحظة. لذلك، فإن السؤال لم يعد: «ماذا يقول المثقف؟» بل «هل يعيش ما يقول؟».
الثقافة ليست زينة عقلية، بل التزام أخلاقي. والمثقف، في جوهره، هو من يقود مجتمعه بضميره، لا ببلاغته. وبين من يكتب عن النور ويعيش في الظل، ومن يُضيء بصدقه قبل فكره، يتحدد جوهر المثقف الحقيقي. فالثقافة دون أخلاق كضوء في يد أعمى.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


عكاظ
منذ 38 دقائق
- عكاظ
وسط ترتيبات لعقد محادثات جديدة.. زيلينسكي يطالب بتشديد العقوبات على روسيا
وسط ترتيبات لعقد جولة محادثات جديدة محتملة بين موسكو وكييف (الجمعة)، دعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، اليوم (الإثنين)، إلى تشديد العقوبات على روسيا ومحاسبتها على ما وصفها بـ«الجرائم» التي ارتكبتها في حربها ضد بلاده. وكتب زيلينسكي على منصة «إكس»: بعض الدول الأوروبية غير الأعضاء في الاتحاد لا تنفذ العقوبات المقرة ضد روسيا، موضحاً أن تصدي بلاده للهجمات الروسية أمر بالغ الأهمية، ليس فقط للمنطقة ولأوروبا بل للأمن العالمي. وأشار زيلينسكي إلى ضرورة أن يكون الإطار القانوني لمحاسبة روسيا فعالاً، وذلك من خلال توثيق ما سماها «جرائم الحرب» والتحقيق فيها والتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، مشدداً على ضرورة وجود زخم أكبر من أجل دفع المفاوضات مع موسكو لإنهاء الحرب. ولفت إلى أن المحادثات الجادة ينبغي أن تكون على مستوى القادة، داعياً إلى ضرورة محاسبة أي جهة تلحق الضرر بمصالح أوكرانيا أو تقوض الثقة العالمية بالاتحاد الأوروبي. وأوضح الرئيس الأوكراني أن مناقشاته مع نظيره الأمريكي دونالد ترمب تتعلق بالدفاع الجوي، وبالطائرات المسيرة والتعاون الاقتصادي والاستثمار، داعياً إلى تنفيذها. وكانت وسائل إعلام روسية قد قالت إن هناك موعد جولة جديدة من المحادثات بين روسيا وأوكرانيا لا يزال قيد الاتفاق وسيتم الإعلان عنه في الوقت المناسب، فيما ذكرت تقارير أخرى أن الاجتماع يعقد يومي 23 و24 يوليو ولا يزال قيد الموافقة. من جهة أخرى، قال الكرملين، اليوم، إنه لا يستبعد إمكانية عقد لقاء بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ونظيره الأمريكي دونالد ترمب، إذا زار الرئيسان بكين في نفس الوقت سبتمبر القادم لحضور فعاليات إحياء الذكرى الثمانين لنهاية الحرب العالمية الثانية. أخبار ذات صلة


مباشر
منذ 39 دقائق
- مباشر
بريطانيا و20 دولة تطالب بإنهاء فوري للحرب في غزة
مباشر: دعت بريطانيا وأكثر من 20 دولة أخرى، اليوم الإثنين، إلى وقف فوري للحرب في قطاع غزة، معتبرة أن النموذج الذي تتبعه الحكومة الإسرائيلية في تقديم المساعدات "خطير، ويغذي حالة عدم الاستقرار، ويحرم سكان غزة من كرامتهم الإنسانية". وقال وزراء خارجية بريطانيا وفرنسا وإيطاليا واليابان وأستراليا وكندا والدنمارك وعدة دول أخرى، في بيان مشترك نشرته وكالة "رويترز": "نحن الموقعون أدناه نبعث برسالة بسيطة وعاجلة: يجب أن تنتهي الحرب في غزة الآن". وأضاف البيان: "نحن مستعدون لاتخاذ المزيد من الإجراءات لدعم وقف إطلاق نار فوري، ولبدء مسار سياسي يفضي إلى تحقيق الأمن والسلام للإسرائيليين والفلسطينيين والمنطقة بأسرها". وتأتي هذه الدعوات وسط تدهور غير مسبوق في الأوضاع الإنسانية في القطاع، حيث ارتفعت حصيلة العدوان الإسرائيلي على غزة منذ 7 أكتوبر 2023 إلى 59,029 شهيدًا و142,135 مصابًا، وفق ما أفادت به مصادر طبية لوكالة الأنباء الفلسطينية "وفا". وأشارت المصادر إلى أن الفترة ما بين 18 مارس الماضي – تاريخ استئناف الاحتلال عدوانه عقب وقف إطلاق النار – وحتى اليوم، شهدت 8,196 شهيدًا و30,094 مصابًا إضافيين. حمل تطبيق معلومات مباشر الآن ليصلك كل جديد من خلال أبل ستور أو جوجل بلاي لمتابعة قناتنا الرسمية على يوتيوب اضغط هنا

العربية
منذ ساعة واحدة
- العربية
وزيرة التجارة الأميركي: يدفعون أولاً والباب مفتوح للتواصل
أشارت الولايات المتحدة إلى أنها لن تتراجع عن الموعد النهائي في الأول من أغسطس لبدء فرض رسوم جمركية أعلى على واردات من الاتحاد الأوروبي، في وقت يكافح فيه التكتل الأوروبي للتوصل إلى اتفاق قبل هذا التاريخ. وخلال عطلة نهاية الأسبوع، قال وزير التجارة الأميركي، هوارد لوتنيك، إنه واثق من إمكانية التوصل إلى اتفاق تجاري مع الاتحاد الأوروبي، لكنه حذّر في الوقت نفسه من أن المهلة النهائية لفرض تعريفة أساسية بنسبة 30% "ثابتة ولا رجعة فيها". وقال لوتنيك في مقابلة مع شبكة "CBS News" يوم الأحد، عندما سُئل عن الموعد النهائي: "هذا موعد صارم، لذا اعتباراً من الأول من أغسطس، ستُطبق الرسوم الجديدة". ومع ذلك، أشار إلى أن المحادثات يمكن أن تستمر بعد هذا التاريخ، موضحاً: "نحن نتحدث عن أكبر شريكين تجاريين في العالم. سنتوصل إلى اتفاق، وأنا واثق من ذلك". وأضاف: "لا شيء يمنع الدول من التحدث إلينا بعد الأول من أغسطس، لكنهم سيبدؤون في دفع الرسوم الجمركية من ذلك اليوم". في المقابل، لوّح الاتحاد الأوروبي بأنه يستعد لاتخاذ تدابير انتقامية إذا ما فرضت واشنطن الرسوم العقابية، إلا أن لوتنيك قلل من أهمية هذه التهديدات قائلاً: "لن يفعلوا ذلك ببساطة". وتتواصل المحادثات الأخيرة في محاولة للتوصل إلى اتفاق تجاري، حيث يأمل الاتحاد الأوروبي في التفاوض على خفض معدل الرسوم. وكان التكتل يطمح لإبرام اتفاق مشابه للذي توصلت إليه المملكة المتحدة مع الولايات المتحدة، والذي ينص على رسوم أساسية بنسبة 10% مع بعض الاستثناءات المتعلقة بواردات السيارات والصلب وقطاع الطيران، وفقا لتقرير نشرته شبكة "CNBC" الأميركية، واطلعت عليه "العربية Business". لكن خبراء الاقتصاد والمحللين باتوا أكثر تشككاً في قدرة بروكسل على التوصل إلى اتفاق مماثل، لعدة أسباب. فمن جهة، تتسم العلاقة بين الاتحاد الأوروبي والرئيس الأميركي دونالد ترامب بالتعقيد أكثر منها مع المملكة المتحدة. وغالباً ما عبّر ترامب عن استيائه مما يعتبره علاقة تجارية غير متوازنة وممارسات تجارية غير عادلة، وهو ما ينفيه الاتحاد الأوروبي. ووفقاً للمجلس الأوروبي، بلغ إجمالي حجم التجارة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة 1.68 تريليون يورو (1.96 تريليون دولار) في عام 2024. وعلى الرغم من أن الاتحاد سجل فائضاً تجارياً في السلع، إلا أنه سجّل عجزاً في قطاع الخدمات. وبالمجمل، بلغ الفائض التجاري للتكتل نحو 50 مليار يورو خلال العام الماضي عند احتساب السلع والخدمات معاً. وذكرت صحيفة "فايننشال تايمز" يوم الجمعة أن ترامب يدفع باتجاه فرض حد أدنى من الرسوم الجمركية يتراوح بين 15% و20% على واردات الاتحاد الأوروبي ضمن أي اتفاق تجاري محتمل، كما أفادت بأنه لا يمانع الإبقاء على رسوم قطاع السيارات عند 25%، وهو ما قد يوجه ضربة قاسية لمُصدري السيارات في ألمانيا تحديداً. وتسببت لهجة البيت الأبيض المتشددة تجاه بروكسل في دفع صانعي السياسات الأوروبيين إلى دراسة كيفية الرد على تعريفة الـ30%، وهي زيادة حادة مقارنة بالرسوم الحالية البالغة 10% والتي دخلت حيز التنفيذ في أبريل الماضي. وقال مسؤول في الاتحاد الأوروبي لشبكة "CNBC" إن هناك تحوّلاً واضحاً في المزاج العام بين دول التكتل بشأن الرد المحتمل، باستثناء المجر، التي يقيم زعيمها فيكتور أوربان علاقة تحالف مع ترامب. ويستعد الاتحاد الأوروبي لاتخاذ تدابير مضادة ضد الولايات المتحدة، إذ أكد قادته مراراً أنه سيتم تنفيذها في حال عدم التوصل إلى اتفاق. وتُعدّ الرسوم المقترحة منذ فترة طويلة على واردات أميركية بقيمة 21 مليار يورو مجمّدة حالياً حتى 6 أغسطس، في حين أعدّت المفوضية الأوروبية حزمة ثانية من الرسوم الجمركية تستهدف تجارة بقيمة 72 مليار يورو. وقد تشمل هذه الرسوم واردات تتراوح بين الملابس والمنتجات الزراعية والمواد الغذائية والمشروبات. وفي غضون ذلك، أفادت صحيفة "وول ستريت جورنال" ووكالة "بلومبرغ" بأن عدداً متزايداً من الدول الأعضاء يدعم تفعيل الاتحاد الأوروبي لأداة "مكافحة الإكراه"، وهي أقوى أداة تجارية يمتلكها التكتل، وتمنح المفوضية الأوروبية صلاحيات واسعة لاتخاذ إجراءات انتقامية ضد الولايات المتحدة.