هل امتحان الثانوية العامة بصيغته الحالية يواكب متطلبات وظائف المستقبل؟
في خضم التحولات التقنية المتسارعة التي يشهدها العالم، وتحوّل الاقتصادات نحو الرقمنة والذكاء الاصطناعي، يبرز سؤال جوهري لدى التربويين وصنّاع القرار: هل ما زال امتحان الثانوية العامة (التوجيهي)، بصيغته التقليدية، مناسبًا لإعداد الأجيال القادمة لوظائف المستقبل؟
أولًا: نظام تقليدي في عالم متغير
يُعد امتحان الثانوية العامة في معظم الدول العربية، ومنها الأردن، المحطة الحاسمة التي تحدد المسار الجامعي والمهني للطالب. إلا أن هذا النظام التقييمي، الذي ما زال قائمًا على الاختبارات الورقية الموحدة، يركّز في الغالب على قياس المهارات المعرفية الدنيا مثل الحفظ والاسترجاع، ويغفل المهارات الأكثر طلبًا في سوق العمل المستقبلي.
في المقابل، تسير وظائف المستقبل في اتجاه مغاير تمامًا، إذ تتطلب قدرة على التفكير النقدي، حل المشكلات المعقدة، الإبداع، المهارات الرقمية، العمل الجماعي، والمرونة العالية. ومع صعود وظائف جديدة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، تحليل البيانات، الأمن السيبراني، وتقنيات البلوك تشين، بات من الواضح أن مخرجات التعليم التقليدي لم تعد كافية.
ثانيًا: الفجوة بين المخرجات التعليمية وسوق العمل
تشير دراسات مثل تقرير 'مستقبل الوظائف' الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن أكثر من 50% من مهارات القوى العاملة ستتغير بحلول عام 2030. وفي حين تتهيأ الاقتصادات المتقدمة لإعادة هيكلة نظمها التعليمية بما يتماشى مع هذه التحولات، ما زالت الكثير من أنظمتنا التعليمية تدور في فلك نماذج القرن العشرين.
امتحان الثانوية العامة، بوضعه الحالي، لا يقيس مهارات مثل:
● البرمجة والتفكير الحاسوبي
● التواصل الرقمي والتعاون الافتراضي
● ريادة الأعمال والذكاء العاطفي
● المرونة والتعلم المستمر
هذه المهارات تُعتبر الآن جوهرية للنجاح المهني في عصر الذكاء الاصطناعي، ولا يمكن اكتسابها أو تقييمها من خلال امتحان نهائي واحد، يُقدَّم في ظروف ضاغطة، ويعتمد على نماذج تقليدية في القياس.
ثالثًا: نحو نموذج بديل للتقييم
إصلاح امتحان الثانوية العامة لا يعني إلغاؤه بالضرورة، بل إعادة تصميمه جذريًا ليصبح أداة لقياس الجاهزية المستقبلية للطلبة، لا مجرد أداة لتصنيفهم أكاديميًا. ويمكن أن يشمل هذا الإصلاح:
● إدماج التقييم المستمر والمشاريع التطبيقية ضمن العلامة النهائية.
● استخدام ملفات الإنجاز الرقمية (Digital Portfolios) لعرض مهارات الطلبة وإبداعاتهم.
● تنويع أدوات القياس لتشمل عروضًا تقديمية، دراسات حالة، تجارب ميدانية، وغيرها.
● تبني مسارات تعليمية مرنة تسمح بالتخصص المبكر في مجالات تقنية أو تطبيقية.
رابعًا: التوصيات الإستراتيجية
لضمان مواءمة نظام الثانوية العامة مع متطلبات سوق العمل المستقبلي، نقترح ما يلي:
1. إعادة تعريف النجاح الأكاديمي ليشمل الكفاءات الشخصية والتقنية، لا الدرجات فقط.
2. إشراك القطاع الخاص والتقنيين في تصميم المناهج والتقييمات لضمان ارتباط التعليم بالواقع المهني.
3. تضمين مفاهيم الذكاء الاصطناعي، الحوسبة، وريادة الأعمال في المرحلة الثانوية.
4. تدريب المعلمين على مهارات المستقبل وأساليب التقييم غير التقليدية.
5. تجريب نماذج بديلة في مناطق أو مدارس نموذجية، ثم تعميمها تدريجيًا على النظام التعليمي بأكمله.
لا يمكن أن يكون امتحان الثانوية العامة مجرد روتين تقليدي في زمن يتطلب الابتكار والتجديد. وإذا أردنا بالفعل إعداد جيل قادر على المنافسة، وقيادة اقتصاد المعرفة، وتحقيق التحول الرقمي المنشود، فعلينا البدء بإصلاح جريء وشامل لنظم التقييم، ليصبح التعليم استثمارًا في المستقبل، لا عبئًا على الحاضر.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة

عمون
منذ 3 ساعات
- عمون
هل امتحان الثانوية العامة بصيغته الحالية يواكب متطلبات وظائف المستقبل؟
في خضم التحولات التقنية المتسارعة التي يشهدها العالم، وتحوّل الاقتصادات نحو الرقمنة والذكاء الاصطناعي، يبرز سؤال جوهري لدى التربويين وصنّاع القرار: هل ما زال امتحان الثانوية العامة (التوجيهي)، بصيغته التقليدية، مناسبًا لإعداد الأجيال القادمة لوظائف المستقبل؟ أولًا: نظام تقليدي في عالم متغير يُعد امتحان الثانوية العامة في معظم الدول العربية، ومنها الأردن، المحطة الحاسمة التي تحدد المسار الجامعي والمهني للطالب. إلا أن هذا النظام التقييمي، الذي ما زال قائمًا على الاختبارات الورقية الموحدة، يركّز في الغالب على قياس المهارات المعرفية الدنيا مثل الحفظ والاسترجاع، ويغفل المهارات الأكثر طلبًا في سوق العمل المستقبلي. في المقابل، تسير وظائف المستقبل في اتجاه مغاير تمامًا، إذ تتطلب قدرة على التفكير النقدي، حل المشكلات المعقدة، الإبداع، المهارات الرقمية، العمل الجماعي، والمرونة العالية. ومع صعود وظائف جديدة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، تحليل البيانات، الأمن السيبراني، وتقنيات البلوك تشين، بات من الواضح أن مخرجات التعليم التقليدي لم تعد كافية. ثانيًا: الفجوة بين المخرجات التعليمية وسوق العمل تشير دراسات مثل تقرير 'مستقبل الوظائف' الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن أكثر من 50% من مهارات القوى العاملة ستتغير بحلول عام 2030. وفي حين تتهيأ الاقتصادات المتقدمة لإعادة هيكلة نظمها التعليمية بما يتماشى مع هذه التحولات، ما زالت الكثير من أنظمتنا التعليمية تدور في فلك نماذج القرن العشرين. امتحان الثانوية العامة، بوضعه الحالي، لا يقيس مهارات مثل: ● البرمجة والتفكير الحاسوبي ● التواصل الرقمي والتعاون الافتراضي ● ريادة الأعمال والذكاء العاطفي ● المرونة والتعلم المستمر هذه المهارات تُعتبر الآن جوهرية للنجاح المهني في عصر الذكاء الاصطناعي، ولا يمكن اكتسابها أو تقييمها من خلال امتحان نهائي واحد، يُقدَّم في ظروف ضاغطة، ويعتمد على نماذج تقليدية في القياس. ثالثًا: نحو نموذج بديل للتقييم إصلاح امتحان الثانوية العامة لا يعني إلغاؤه بالضرورة، بل إعادة تصميمه جذريًا ليصبح أداة لقياس الجاهزية المستقبلية للطلبة، لا مجرد أداة لتصنيفهم أكاديميًا. ويمكن أن يشمل هذا الإصلاح: ● إدماج التقييم المستمر والمشاريع التطبيقية ضمن العلامة النهائية. ● استخدام ملفات الإنجاز الرقمية (Digital Portfolios) لعرض مهارات الطلبة وإبداعاتهم. ● تنويع أدوات القياس لتشمل عروضًا تقديمية، دراسات حالة، تجارب ميدانية، وغيرها. ● تبني مسارات تعليمية مرنة تسمح بالتخصص المبكر في مجالات تقنية أو تطبيقية. رابعًا: التوصيات الإستراتيجية لضمان مواءمة نظام الثانوية العامة مع متطلبات سوق العمل المستقبلي، نقترح ما يلي: 1. إعادة تعريف النجاح الأكاديمي ليشمل الكفاءات الشخصية والتقنية، لا الدرجات فقط. 2. إشراك القطاع الخاص والتقنيين في تصميم المناهج والتقييمات لضمان ارتباط التعليم بالواقع المهني. 3. تضمين مفاهيم الذكاء الاصطناعي، الحوسبة، وريادة الأعمال في المرحلة الثانوية. 4. تدريب المعلمين على مهارات المستقبل وأساليب التقييم غير التقليدية. 5. تجريب نماذج بديلة في مناطق أو مدارس نموذجية، ثم تعميمها تدريجيًا على النظام التعليمي بأكمله. لا يمكن أن يكون امتحان الثانوية العامة مجرد روتين تقليدي في زمن يتطلب الابتكار والتجديد. وإذا أردنا بالفعل إعداد جيل قادر على المنافسة، وقيادة اقتصاد المعرفة، وتحقيق التحول الرقمي المنشود، فعلينا البدء بإصلاح جريء وشامل لنظم التقييم، ليصبح التعليم استثمارًا في المستقبل، لا عبئًا على الحاضر.

عمون
٢٥-٠٢-٢٠٢٥
- عمون
الذكاء الاصطناعي لتنظيم المرور: هل اقتربنا من إنهاء أزمات السير؟
نشهد حاليًا تزايدًا ملحوظًا في أعداد المركبات وتنوّعًا في الأنشطة التجارية والعمرانية، مما انعكس على الطرقات الرئيسة وزاد من حدّة الاختناقات المرورية. في ظل هذا المشهد، يبرز الذكاء الاصطناعي كإحدى التقنيات الواعدة لتحقيق نقلة نوعية في إدارة المرور، بفضل قدرته الفائقة على تحليل كميات ضخمة من البيانات والتنبؤ بأنماط الازدحام في الوقت الفعلي. تشير دراسة حديثة نُشرت في مجلة Transportation Research عام 2023 إلى أن اعتماد أنظمة تحكّم ذكية في الإشارات الضوئية، تعتمد على خوارزميات التعلّم الآلي، ساهم في تقليص مدة الانتظار عند التقاطعات بنسبة تصل إلى 30%. وتعتمد هذه الأنظمة على أجهزة استشعار وكاميرات موزعة في نقاط حيوية حول المدينة، حيث تجمع بيانات متجددة طوال اليوم. بعد ذلك، تقوم الخوارزميات المتطورة بتحليل هذه البيانات وتعديل توقيت الإشارات المرورية تلقائيًا بما يتناسب مع تدفق المركبات في كل اتجاه. ومن الأمثلة البارزة على نجاح هذه التقنيات ما قامت به مدينة هانغتشو الصينية عبر مشروع City Brain، الذي استخدم الذكاء الاصطناعي لإدارة الحركة المرورية. وفقًا للتقارير المحلية في الصين، نجح النظام في تقليل الازدحام بنسبة فاقت 15% في بعض الطرقات الرئيسة، حيث يعتمد المشروع على تحليل البيانات الضخمة من الكاميرات والهواتف الذكية، ثم يوجّه تنبيهات فورية إلى مشغّلي المرور وحتى السائقين بشأن المسارات الأكثر انسيابية. أما في الولايات المتحدة، فقد ساهم النظام المركزي ATSAC في لوس أنجلوس في التحكم بالإشارات المرورية في أكثر من 4000 تقاطع، باستخدام مستشعرات وكاميرات ترصد الحركة وتعدّل الإشارات تلقائيًا وفقًا للكثافة المرورية. وقد أدى هذا النظام إلى تحسين تدفق الحركة وتقليل فترات الانتظار، مما أسهم في خفض استهلاك الوقود وانبعاثات الغازات الضارة. وفي نيويورك، ساعد نظام Midtown in Motion، الذي يربط مئات الكاميرات والرادارات بقاعدة بيانات مركزية، على تحسين سرعة التنقل بنسبة 10% في مانهاتن من خلال ضبط توقيت الإشارات وفقًا للحركة الفعلية للمركبات. وعلى الصعيد المحلي، تبنّت بعض المدن في المنطقة العربية مشاريع لإنشاء قواعد بيانات مركزية تجمع معلومات عن الكثافة المرورية، وأوقات الذروة، ومعدلات الحوادث، إضافة إلى رصد الإغلاقات والتحويلات الطارئة. يتم تخزين هذه البيانات في خوادم موحدة ومعالجتها عبر أنظمة الذكاء الاصطناعي، التي تبني نماذج تنبؤية لتحديد أماكن الازدحام قبل وقوعه. وبمجرد ظهور مؤشرات على زيادة الكثافة في منطقة معينة، يتم إرسال توصيات بتغيير مسارات الحافلات أو توجيه المركبات عبر طرق بديلة. ووفقًا لتقرير صادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي عام 2022، فإن اعتماد هذه التقنيات يُحسّن تدفق الحركة المرورية بنسبة تصل إلى 25% في المدن التي تطبّقها بشكل متكامل. لكن هل يمكن للذكاء الاصطناعي وحده القضاء على أزمات المرور؟، دراسة نُشرت عام 2023 في Journal of Advanced Transportation تؤكد أن الحل الأمثل يكمن في تكامل التقنيات الذكية مع بنية تحتية متطورة، تشمل تركيب كاميرات ذات دقة عالية وأجهزة استشعار متقدمة، إلى جانب الصيانة الدورية لضمان كفاءتها. كما تلعب السياسات الداعمة دورًا مهمًا، مثل تعزيز ثقافة استخدام وسائل النقل العام وتوسيع شبكات الحافلات، مما يقلل الاعتماد على المركبات الخاصة ويخفف الضغط على الطرقات. في الختام، يبدو واضحًا أن الذكاء الاصطناعي يشكّل فرصة حقيقية لإحداث نقلة نوعية في إدارة المرور، لكنه يثير تساؤلات جوهرية حول مدى استعدادنا لتهيئة الأطر القانونية والإدارية، وتوفير الخبرات التقنية اللازمة. كما يعتمد نجاح هذه الأنظمة على مدى استعداد القطاعات المختلفة للتعاون وتبادل البيانات بشكل آمن وسريع لضمان كفاءة التطبيق وتحقيق الأهداف المنشودة. مع تطور أنظمة الإشارات الذكية، وتطبيقات الملاحة الفورية، والمشاريع المعتمدة على قواعد بيانات مركزية، تتزايد الآمال في جعل المدن أكثر تطورًا وانسيابية، مع تقليل معدلات التلوث وتخفيف الضغط على سكانها. لقد بدأنا بالفعل السير نحو مستقبل مروري أكثر ذكاءً، ويبقى السؤال: إلى أي مدى يمكننا توظيف الذكاء الاصطناعي لدعم التحول الرقمي في إدارة المرور؟.


أخبارنا
٢٤-٠٢-٢٠٢٥
- أخبارنا
د. خالد وليد محمود : مشهد الأمن السيبراني 2025: ما التحديات والاتجاهات القادمة؟
أخبارنا : لم يعد الأمن السيبراني مجرد مسألة تقنية تهتم بها أقسام تكنولوجيا المعلومات في المؤسسات والجامعات، بل أصبح قضية استراتيجية تمس الأمن القومي، والاستقرار الاقتصادي، والتوازن الجيوسياسي العالمي. فمع تصاعد الاعتماد على التقنيات الرقمية، تزايدت أيضًا التهديدات التي تستهدف الفضاء السيبراني، وأصبحت الهجمات السيبرانية جزءًا من أدوات النفوذ بين الدول، ومنظومة الابتزاز الاقتصادي، وحتى وسائل زعزعة استقرار المجتمعات. فمسألة «الأمن السيبراني» اليوم، لم تعد تدور حول مجرد حماية البيانات أو منع الاختراقات، بل أصبحت معركة مفتوحة تتشابك فيها المصالح الاقتصادية والجيوسياسية، حيث باتت البنية التحتية الرقمية للدول والشركات الكبرى ميدانًا للصراع بين الفاعلين التقليديين والجدد، سواء كانوا دولًا، أو جماعات إجرامية منظمة، أو حتى أفرادًا يمتلكون الأدوات التكنولوجية المتاحة لاستغلال الثغرات السيبرانية. وما يزيد الأمر تعقيدًا، أن الفجوة بين القدرات الدفاعية والقدرات الهجومية في الفضاء السيبراني تتسع باستمرار، مما يجعل الهجمات أكثر تطورًا وأصعب من حيث الاكتشاف والاحتواء. في هذا السياق، جاء تقرير «آفاق الأمن السيبراني العالمي 2025» الذي أعدّه المنتدى الاقتصادي العالمي بالتعاون مع «أكسنتشر»، ليكشف عن واقع شديد التعقيد، حيث تتداخل التوترات الجيوسياسية مع التطورات التكنولوجية، وتتفاقم الفجوات بين المؤسسات الكبيرة والصغيرة، بينما تتنامى الهجمات المدعومة بالذكاء الاصطناعي، في ظل مشهد تنظيمي غير متناسق يزيد من صعوبة التصدي لهذه التحديات. التقرير لا يكتفي بعرض المخاطر، بل يسلط الضوء على الاتجاهات المستقبلية التي ستعيد تشكيل استراتيجيات الأمن السيبراني، ويقدم رؤية متعمقة حول كيفية تكيّف المؤسسات والدول مع هذا الواقع المتغير. إن أحد أبرز التحديات التي تواجه الأمن السيبراني اليوم هو اتساع الفجوة بين المؤسسات الكبيرة والصغيرة في القدرة على الصمود أمام الهجمات السيبرانية. فبينما تمتلك الشركات الكبرى موارد مالية وتقنية متقدمة تتيح لها تعزيز دفاعاتها السيبرانية، تفتقر المؤسسات الصغيرة والمتوسطة إلى الإمكانيات اللازمة لمواكبة هذا التصاعد في التهديدات، ما يجعلها نقاط ضعف تُستغل لضرب سلاسل التوريد بأكملها. وتشير الإحصاءات إلى أن 35% من المؤسسات الصغيرة ترى أن قدرتها على التصدي للهجمات السيبرانية غير كافية، وهو ما يعكس اتساع هذه الفجوة مقارنة بالسنوات السابقة. وفقًا لتقديرات شركة Market and Market المتخصصة في بحوث السوق، فقد بلغ حجم صناعة الأمن السيبراني عالميًا نحو 190.5 مليار دولار في عام 2023. وتشير بيانات The Business Research Company إلى أن الإنفاق على الأمن السيبراني ارتفع إلى 243.15 مليار دولار في عام 2024، ومن المتوقع أن يصل إلى 267 مليار دولار بنهاية عام 2025. يعكس هذا النمو المتسارع تصاعد التهديدات السيبرانية وزيادة الوعي بأهمية الأمن السيبراني، مما يدفع الحكومات والشركات إلى تكثيف استثماراتها في هذا المجال لحماية بنيتها التحتية الرقمية وضمان استمرارية أعمالها في بيئة رقمية متزايدة التعقيد. تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي سلّط الضوء أيضًا على الدور المتنامي للذكاء الاصطناعي في إعادة تشكيل مشهد الأمن السيبراني، حيث بات يشكل تحديًا مزدوجًا، يجمع بين كونه أداة لتعزيز الدفاعات السيبرانية وسلاحًا قويًا بيد المهاجمين. فمع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي، أصبحت الهجمات أكثر تعقيدًا ودقة، لا سيما في مجالات التصيّد الاحتيالي والهندسة الاجتماعية، التي تعتمد على تقنيات التزييف العميق لخداع الأفراد ودفعهم إلى الكشف عن معلومات حساسة. ووفقًا للتقرير، فإن%72 من المؤسسات شهدت تصاعدًا في الهجمات السيبرانية، حيث تواصل هجمات الفدية (Ransomware) تصدّر قائمة التهديدات، مستفيدة من القدرات المتزايدة للذكاء الاصطناعي في تطوير أساليب التسلل والاختراق، ما يجعل المواجهة أكثر تعقيدًا ويعزز الحاجة إلى استراتيجيات دفاعية أكثر تطورًا. على صعيد آخر، فإن التوترات الجيوسياسية تلعب اليوم دورًا رئيسًا في إعادة تشكيل خريطة التهديدات السيبرانية. فمع تصاعد المواجهات بين القوى الكبرى، أصبح الأمن السيبراني ساحة مواجهة غير تقليدية، حيث تستخدم الدول الهجمات السيبرانية كأدوات للتجسس، أو لتعطيل البنية التحتية الحيوية، أو حتى للتأثير على اقتصادات الخصوم. وقد أشار تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن 60% من المؤسسات اضطرت إلى تعديل استراتيجياتها السيبرانية بسبب تصاعد هذه التوترات، حيث أصبح التركيز ينصب بشكل متزايد على بناء استراتيجيات دفاعية أكثر مرونة وقدرة على التكيف مع بيئة غير مستقرة. يعكس الواقع السيبراني المتشابك تحول هذه المسألة إلى ساحة صراع ديناميكية تتطلب إعادة النظر في النهج التقليدي للحماية. فمع تصاعد التهديدات واتساع الفجوة بين القدرات الدفاعية والهجومية، لم يعد من الممكن الاكتفاء بأساليب التحصين السلبي، بل بات الأمن السيبراني مجالًا يتطلب استراتيجيات أكثر تكيفًا مع التطورات التقنية والجيوسياسية. في هذا السياق، يبرز الذكاء الاصطناعي كعامل محوري، ليس فقط في تحسين آليات الدفاع، ولكن أيضًا في رفع مستوى التهديدات، ما يفرض تسابقًا متزايدًا بين المهاجمين والمدافعين. كما أن الطبيعة العابرة للحدود للهجمات السيبرانية تفرض تحديات إضافية، حيث إن غياب التنسيق الفعّال بين الدول والمؤسسات يجعل من الصعب احتواء المخاطر قبل تحولها إلى أزمات واسعة النطاق. في المقابل، يشير تزايد الاعتماد على بيئات المحاكاة والتدريب السيبراني إلى إدراك متزايد لأهمية اختبار سيناريوهات الهجمات قبل وقوعها، مما يعكس تحوّل الأمن السيبراني من كونه مجرد استجابة للأحداث إلى كونه عملية تفاعلية مستمرة، تتطلب القدرة على التنبؤ والتكيف مع أنماط تهديدات غير ثابتة. أمام هذا المشهد المعقد، يبرز التساؤل: أين العرب من كل ما تقدم؟ رغم التحديات الكبيرة التي تواجه العالم العربي في مجال الأمن السيبراني، ثمة بارقة أمل، فقد نجحت العديد من الدول العربية وخاصة الخليجية في ترسيخ موقعها كلاعب محوري في هذه المعادلة واحتلت مراكز متقدمة في التصنيفات الدولية، مستفيدة من استثماراتها الضخمة في تطوير بنيتها التحتية الرقمية وتعزيز أنظمتها الأمنية. وإدراكًا منها بأن الأمن السيبراني لم يعد مجرد مسألة تقنية، بل أضحى جزءًا لا يتجزأ من استراتيجياتها الوطنية لحماية المصالح الاقتصادية والسيادية، عملت هذه الدول على بناء قدرات دفاعية متقدمة، والتكيف مع التهديدات المتغيرة. ومع ذلك، يظل التحدي الأكبر في القدرة على تطوير منظومات أمنية ديناميكية، تستجيب للتحولات السريعة في الفضاء السيبراني، الذي بات ساحة للصراعات تتجاوز الأبعاد التقنية إلى اعتبارات سياسية واقتصادية وجيوستراتيجية. عودٌ على بدء يمكن القول إنه مع استمرار التطور الرقمي، فإنّ معركة الأمن السيبراني لن تكون مجرد سباق تسلح تقني، بل ستكون اختبارًا لقدرة المؤسسات والدول على البقاء في عالم تُعاد فيه صياغة معايير الأمن والقوة من جديد. فالتكنولوجيا تفرض قواعد جديدة للصراع، والفاعلون في هذا المجال ليسوا فقط دولًا قوية، بل أيضًا جهات غير حكومية وجماعات سيبرانية تمتلك أدوات تمكنها من شن عمليات معقدة. في هذا المنحى، يصبح من الضروري تبني سياسات أمنية متوازنة تجمع بين تطوير قدرات الدفاع والهجوم السيبراني، وتعزيز الابتكار في الحلول الأمنية، لضمان عدم تحول الفضاء السيبراني إلى ساحة فوضوية خارجة عن السيطرة.