
كيف يؤثر تراجع الدولار على اقتصادات ومواطني الدول العربية؟
فقرابة 80% من المعاملات التجارية العالمية تُسعَّر به، مدعومة ليس فقط بثقل الاقتصاد الأميركي، بل أيضًا بارتباط معظم السلع الإستراتيجية والعقود السيادية من النفط والمعادن إلى الشحن والتسليح بهذه العملة.
ومع احتفاظ البنوك المركزية حول العالم بجزء كبير من احتياطاتها بالدولار، اكتسبت العملة الأميركية نفوذًا يتجاوز حدود الاقتصاد إلى التأثير الجيوسياسي والقدرة على رسم ملامح النظام المالي العالمي.
وتُقدَّر قيمة التجارة العالمية المرتبطة بالدولار بنحو 33 تريليون دولار سنويًا (بيانات عام 2024)، منها ما يقرب من 24 تريليون دولار في تجارة السلع، مثل الطاقة والمواد الغذائية، ونحو 9 تريليونات دولار في قطاع الخدمات، كالسياحة، والنقل، والتكنولوجيا، والخدمات المالية.
وتسعير هذه المعاملات بالدولار يجعل أي تراجع في قيمته ينعكس مباشرة على تكاليف الاستيراد، واستقرار العملات المحلية، خصوصًا في الدول التي تربط عملاتها به أو تعتمد عليه تجاريًا وتمويليًا.
وفي العالم العربي، يُشكّل الدولار حجر الزاوية في المنظومة الاقتصادية والمالية، سواء على مستوى الاحتياطات، أو الواردات، أو العقود التجارية.
بَيد أن السنوات الأخيرة شهدت تصاعدًا في المؤشرات المقلقة المرتبطة بالدولار، أبرزها فقدانه حوالي 11% من قيمته خلال النصف الأول من عام 2025، في أسوأ أداء نصف سنوي له منذ 1973، إلى جانب تراجع الثقة الدولية وانتشار استخدام عملات بديلة.
في هذا التقرير، نسلّط الضوء على أبرز أسباب هذا التراجع، ونحلّل انعكاساته المختلفة على الدول العربية، وشركاتها، ومواطنيها، في ظل تحوّلات مالية وجيوسياسية متسارعة.
أسباب تراجع الدولار
رغم صموده لعقود كعملة احتياطية عالمية، فإن عدّة تطورات هيكلية بدأت تنال من مكانة الدولار عالميًا وتدفع الدول نحو إعادة النظر في الاعتماد عليه:
إعلان
منذ جائحة كوفيد-19، ضخت الحكومة الأميركية نحو 5 تريليونات دولار في الاقتصاد عبر برامج تحفيزية عُرفت بسياسة "التيسير الكمي"، وهي تعني ببساطة ضخ سيولة جديدة في السوق دون أن يقابلها إنتاج فعلي.
هذه السياسة ساهمت في رفع معدلات التضخم، وأضعفت الثقة في استقرار الدولار على المدى الطويل.
تضخم الدين العام الأميركي
بلغ الدين العام الأميركي نحو 37 تريليون دولار منتصف عام 2024، في أعلى مستوى له تاريخيًا. ومع استمرار الاعتماد على طباعة النقود لتمويل هذا الدين، وفرض زيادات ضريبية، تعاظمت المخاوف الدولية من هشاشة أساسات الدولار.
الاستخدام السياسي للعملة
تسببت إجراءات مثل تجميد الأرصدة الروسية عام 2022 في تعزيز الشكوك حول حيادية الدولار كعملة عالمية. هذا دفع عدة دول كبرى إلى التفكير جديًا في فك الارتباط بالدولار خوفًا من استخدامه أداة ضغط جيوسياسي.
صعود عملات بديلة
شهدت السنوات الأخيرة توقيع عدد من الاتفاقيات الثنائية والإقليمية بين دول كبرى، تُستخدم فيها العملات المحلية بدلًا من الدولار. كما تُجري مجموعة " بريكس" مشاورات لإنشاء عملة احتياطية جديدة، مما يُضعف التفرد التاريخي للدولار ويمهّد لنظام مالي عالمي متعدد الأقطاب.
نتائج تراجع الدولار عالميًا
بعد استعراض العوامل المسببة، ننتقل الآن إلى تداعيات هذا التراجع، والتي تطال الاقتصاد العالمي برمّته:
الدول المستوردة، خاصة المرتبطة بالدولار، ستواجه ارتفاعًا في تكلفة السلع المستوردة، وضعفًا في قيمة الإيرادات عند تحويلها لعملاتها المحلية.
البنوك المركزية التي تحتفظ باحتياطيات ضخمة بالدولار ستشهد تراجعًا في القيمة الحقيقية لهذه الأصول.
أسعار السلع الأساسية، مثل النفط والذهب والقمح، قد تصبح أكثر تقلبًا في غياب مرجعية موثوقة ومستقرة.
الأسواق الناشئة ستتأثر باضطرابات في تدفقات الاستثمار وتذبذب العملات المحلية.
ورغم أن هذا التراجع لا يعني بالضرورة انهيار الدولار، فإنه يرمز إلى تغير تدريجي في قواعد اللعبة الاقتصادية الدولية.
تأثير الدولار على الاقتصاد العربي
يرتبط الاقتصاد العربي بالدولار بشكل وثيق، ما يجعل أي تراجع في قيمته يترك أثرًا مباشرًا على الاستقرار المالي والتجاري في المنطقة.
1- الاعتماد العربي على الدولار
منذ اتفاق "البترودولار" في السبعينيات، ربطت معظم دول الخليج صادراتها النفطية بالدولار، وهو ما جعل العملات الخليجية تُربط به رسميًا.
أما الدول غير النفطية مثل مصر، وتونس، والمغرب، فترتبط به بشكل غير مباشر من خلال تسعير الواردات، والاعتماد على القروض الدولية، والتحويلات، وتسديد الالتزامات الدولية.
وتحتفظ البنوك المركزية العربية بمئات المليارات من الدولارات، أغلبها على هيئة سندات خزانة أميركية، فيما تُسعّر أغلب الصادرات والواردات بهذه العملة، ما يجعل الاقتصاد العربي مكشوفًا لأي تقلبات فيها.
وفقًا لصندوق النقد الدولي، يشكّل الدولار حوالي 59% من الاحتياطات الرسمية العالمية، ما يجعل تراجعه مصدر تهديد مباشر لقوة هذه الاحتياطات.
2- انعكاسات مباشرة على الدول العربية
تآكل الاحتياطات
مع تراجع قيمة الدولار، تفقد الأصول المقوّمة به جزءًا من قدرتها الشرائية، ما يستدعي مبالغ أكبر لتمويل الاستيراد أو دعم السلع الأساسية، خصوصًا في فترات الأزمات.
عجز الموازنات
اعتماد الدول على الدولار في تسعير الصادرات والاقتراض يجعله عنصرًا حاسمًا في الميزانيات العامة. وعندما تتراجع قيمته، تنخفض الإيرادات الحكومية الحقيقية بينما ترتفع تكلفة الواردات وخدمة الدين، وهو ما يؤدي إلى فجوات تمويلية وضغوط مالية.
ضغوط معيشية داخلية
ارتفاع تكلفة الاستيراد بسبب ضعف الدولار ينعكس على أسعار السلع في الأسواق المحلية، مما يُضعف القدرة الشرائية للمواطنين، خاصة في البلدان ذات الدخول المحدودة.
انتقال التضخم العالمي
ربط العملات بالدولار يجعل الدول العربية مكشوفة أمام التضخم المستورد. فعندما ترتفع الأسعار عالميًا، تنتقل التأثيرات إلى الداخل دون أن تكون لدى الحكومات أدوات نقدية كافية لاحتوائها.
تأثيرات الدولار على الشركات العربية
ولفهم التأثير بدقة، نُحلّل انعكاس تراجع الدولار على الشركات العاملة في العالم العربي:
اضطراب التكاليف: تعتمد أغلب الشركات على الاستيراد بالدولار، سواء للمواد الخام أو المعدات. فتقلب سعر الصرف يربك الميزانيات، ويقلّص الهوامش، ويُضعف القدرة التنافسية.
خسائر العقود: المشاريع المرتبطة بعقود طويلة الأجل مقوّمة بالدولار، مثل قطاعي الطاقة والإنشاء، تواجه تراجعًا في العوائد الحقيقية، مما قد يؤدي إلى خسائر أو الحاجة لإعادة التفاوض.
تنافسية مختلطة: تراجع الدولار قد يُحسن قدرة بعض الشركات المُصدّرة على جذب المشترين الدوليين بأسعار منخفضة، لكنه في الوقت نفسه يُضعف الأرباح عند التحويل للعملة المحلية، خصوصًا إن كانت التكاليف محلية أو التمويل خارجيا.
انعكاسات على الأفراد
رغم الطابع الكلي لقضية الدولار، فإن المواطن العادي يتأثر بها بطرق ملموسة:
تآكل قيمة التحويلات: الأسر التي تعتمد على تحويلات المغتربين بالدولار تفقد جزءًا من قدرتها الشرائية حينما تنخفض قيمته.
ضعف المدخرات: الادخار بالدولار يصبح أقل أمانًا عندما تتراجع قيمته الفعلية رغم ثباته الرقمي.
تذبذب الرواتب: في بعض الدول، الرواتب تُصرف بالدولار أو تُربط به. ومع انخفاض قيمته، تقل القوة الشرائية دون تغيير الرقم.
زيادة الأسعار: تكلفة السلع المستوردة بالدولار، خصوصًا الغذاء والدواء والطاقة، ترتفع، مما يؤثر على ميزانية الأفراد.
صعوبة التخطيط المالي: تقلب الدولار يُربك قرارات الاستثمار، والتعليم، والسفر، ويخلق حالة من انعدام اليقين.
كيف نتكيّف مع تراجع الدولار؟
على الدول العربية، وشركاتها، وأفرادها، الاستعداد لواقع جديد عبر خطوات عملية:
تنويع الاحتياطيات: عبر تعزيز حصة اليورو، اليوان، الذهب، أو وحدات السحب الخاصة.
اتفاقيات العملات المحلية: توقيع اتفاقيات مع شركاء تجاريين تعتمد على العملات المحلية للحد من الاعتماد على الدولار.
تعزيز الإنتاج المحلي: الاستثمار في القطاعات الحيوية مثل الغذاء، الطاقة، والدواء لتقليل الاستيراد وتقوية الاستقلال الاقتصادي.
الشركات
التحوّط المالي: استخدام أدوات مالية مثل العقود الآجلة، وصناديق العملات، والحسابات متعددة العملات لحماية الأرباح من تقلبات السوق.
مراجعة العقود: تعديل العقود طويلة الأجل لتشمل سلال عملات بدلًا من الاعتماد الأحادي على الدولار.
تنويع التمويل والموردين: الابتعاد عن الاعتماد الحصري على الدولار في الشراء أو الاقتراض الخارجي.
تنويع المدخرات: توزيع الادخار على عدة أصول مثل العملات البديلة، الذهب، العقارات، أو شهادات الاستثمار.
مراقبة التحويلات: متابعة أسعار الصرف واختيار الوقت المناسب لتحويل الأموال، أو الاحتفاظ بجزء منها محليًا.
ضبط الإنفاق: ترشيد الاستهلاك وتحسين التخطيط المالي لمواجهة ارتفاع الأسعار وتقلبات السوق.
لم يعد تفوّق الدولار مضمونًا كما في السابق. فالتغيير جارٍ، وعلى الجميع التفاعل معه بحكمة. والتحول نحو عالم مالي متعدد الأقطاب لم يعد سيناريو افتراضيًا، بل واقعًا في طور التشكل.
إن الدول العربية مطالبة اليوم بإعادة تقييم انكشافها على هذه العملة، ليس فقط لمواجهة التقلبات المالية، بل للتحصين من تداعيات جيوسياسية أعمق. فالأزمات لا تنذر قبل وقوعها، بل تتسلل تدريجيًا إلى أن تُفرض كأمر واقع.
وعلى الحكومات، والشركات، والأفراد أن يبدؤوا اليوم خطوات عملية للتحوّط، قبل أن تصبح كلفة التأخير باهظة.

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 5 ساعات
- الجزيرة
تهديد ترامب يخفض قيمة الراند الجنوب أفريقي
انخفضت عملة الراند الجنوب أفريقية اليوم الاثنين بعد تهديدات الرئيس الأميركي دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية جديدة على الدول المتحالفة مع مجموعة بريكس التي انعقدت قمتها أمس الأحد في دولة البرازيل. يأتي ذلك بعد يوم من تصريح ترامب عبر منشور على موقع نورث سوشيال، أن مجموعة بريكس التي تضمّ دولا نامية من بينها جنوب أفريقيا تتبع سياسة معادية للولايات المتّحدة. من جانبها قالت وزارة الخارجية في جنوب أفريقيا إنها ليست معادية للولايات المتّحدة، وما زالت تسعى للتفاوض على اتفاق تجاري معها. أما المتحدث باسم وزارة التجارة في جنوب أفريقيا فأكد أن بلاده تنتظر تواصلا رسميا بشأن اتفاق تجاري مع الولايات المتّحدة، رغم أن المحادثات بناءة ومثمرة. وقد بدأت جنوب أفريقيا مساعيها للتفاوض على اتفاق تجاري مع إدارة ترامب منذ مايو/أيار الماضي عندما تمت استضافة الرئيس رامافوزا في البيت الأبيض. وشهدت العلاقة بين جنوب أفريقيا والولايات المتّحدة توتّرا متصاعدا منذ أن وصل الرئيس ترامب إلى الرئاسة. وفرض ترامب ضريبة بنسبة 31% على الواردات الأميركية من جنوب أفريقيا في أبريل/نيسان الماضي، كجزء من سياسته العالمية للتعريفات الجمركية.


الجزيرة
منذ 7 ساعات
- الجزيرة
الصناعة الألمانية تنتعش قبيل تطبيق الرسوم الأميركية
في مفاجأة غير متوقعة، سجّلت الصناعة الألمانية انتعاشًا ملحوظًا خلال شهر مايو/أيار الماضي، مدفوعة بمسارعة الشركات إلى زيادة الإنتاج تحسّبًا لفرض رسوم جمركية أميركية جديدة تهدد الصادرات إلى الولايات المتحدة. فقد أعلن مكتب الإحصاء الألماني اليوم الاثنين، أن إنتاج القطاع الصناعي ارتفع بنسبة 1.2% مقارنة بشهر أبريل/نيسان، مخالفًا التوقعات التي رجّحت انخفاضًا بنسبة 0.2% فقط، بحسب استطلاع شمل عددًا من الاقتصاديين. وشملت الزيادة قطاعات رئيسية مثل صناعة السيارات، والأدوية، والطاقة. سباق قبل الموعد الحاسم هذا التعافي اللافت يُعزى -بحسب بلومبيرغ- إلى اندفاع الشركات الألمانية نحو إنجاز الطلبيات التصديرية بسرعة قبل حلول موعد 9 يوليو/تموز، وهو الموعد النهائي الذي حددته إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لإبرام اتفاقيات تجارية جديدة مع الدول الشريكة، قبل أن يبدأ تطبيق رسوم جمركية مشددة. وبينما منحت هذه الديناميكية بداية قوية للاقتصاد الألماني في 2025، فإن التوقعات لبقية العام تبقى قاتمة. ألمانيا صاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا، يتوقع لها، على أفضل تقدير، أن تكون في طريقها إلى الركود الفني، بعد عامين متتاليين من الانكماش الاقتصادي. تحذيرات رسمية من انكماش ممتد وفي كلمة ألقاها في مدينة تالين بإستونيا، قال رئيس البنك المركزي الألماني (بوندسبنك) يواكيم ناغل إن الوضع "لا يزال متقلبًا"، مشيرًا إلى أن التصعيد أو التهدئة في التوترات التجارية مع واشنطن"ممكنان في أي لحظة". وأضاف: "إذا تفاقم الصراع التجاري، فإن الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا قد يتراجع بما يصل إلى 1.5 نقطة مئوية بحلول عام 2027″. ورغم أن موعد 9 يوليو/تموز لم يحل بعد، فإن الشركات الألمانية بدأت تستعد فعليًا لعلاقة تجارية أكثر تعقيدًا مع الولايات المتحدة، فبعض الشركات الكبرى، مثل "مرسيدس-بنز"، أجرت لقاءات غير رسمية بمسؤولين أميركيين بعيدًا عن قنوات التفاوض الرسمية في بروكسل، في إشارة إلى قلقها من تأثير هذه الرسوم على عملياتها المستقبلية. تضارب المؤشرات وقلق داخلي وبينما يُظهر مؤشر الإنتاج الصناعي هذا الانتعاش، كشف تقرير آخر يوم الجمعة، عن انخفاض في الطلبيات الصناعية بنسبة 1.4% خلال مايو/أيار، وهو التراجع الأول منذ أربعة أشهر، وأكبر مما كان متوقعًا، ما يعكس هشاشة الوضع الصناعي عموما. من جهتها، أصدرت وزارة الاقتصاد الألمانية بيانًا حذّرت فيه من أن مستقبل الإنتاج الصناعي الصيفي سيعتمد بشكل كبير على تطورات البيئة التجارية والجيوسياسية، مؤكدة أن "التطورات المقبلة تتّسم بدرجة عالية من عدم اليقين". هل هناك بارقة أمل؟ ورغم كل هذه المؤشرات المقلقة، عبّر ناغل عن تفاؤل حذر بشأن احتمالات النمو المحدود، "إن الأداء القوي في بداية العام -بنمو فصلي بـ 0.4%- قد يمهّد الطريق لـزيادة سنوية طفيفة". لكنه نبّه إلى أن هذا النمو الطفيف سيمثّل "ثلاث سنوات متتالية من التوسع الاقتصادي الهزيل". وبهذا السياق، يُجمع الخبراء الذين تحدثت إليهم بلومبيرغ، أن الاقتصاد الألماني يسير على حافة الخطر، بين فرص التصدير المهددة والرسوم الأميركية المحتملة، ما يدفع الشركات والسلطات على حد سواء إلى البحث عن بدائل سريعة ومبتكرة قبل أن يغلق النافذة الضريبية الأميركية بشكل كامل.


الجزيرة
منذ 17 ساعات
- الجزيرة
الاتحاد الأوروآسيوي.. موطن المعادن النادرة وصراع القوى الكبرى
تعد المنطقة الأوروآسيوية إحدى المناطق الحيوية التي لطالما كانت بيئة خصبة للمشاريع والاستثمارات الاقتصادية، لما تزخر به من موارد طبيعية وثروات تجعلها ساحة تنافس بين الشرق والغرب، الأمر الذي مهد لظهور الاتحاد الأوروآسيوي. جاء ظهور الاتحاد الأوروآسيوي ضمن جهود الدول المشاركة فيه لتأسيس تحالف لمواجهة الركود الاقتصادي وخلق فرص جديدة للتوازن، ولكن أيضا في سياق مواجهة التحديات المشتركة المتعلقة بالغرب وعقوباته. نسلط في هذا التقرير الضوء على التحديات التي تواجه دول الاتحاد الأوروآسيوي وسط الصراعات الجيوسياسية الراهنة، وكيف توازن دوله علاقاتها مع بعضها ومع الدول الغربية. الاتحاد الأوراسي.. بديل اقتصادي في وجه العقوبات حاولت معظم الدول التي تعرضت للعقوبات الغربية إيجاد بدائل لتخفيف تأثيرها على اقتصاداتها ونموها، فشكلت تكتلات اقتصادية تقيها السياسات الخارجية المعادية. ومنذ أكثر من 10 سنوات، لم يسر قطار العلاقات بين بعض الدول الأوروآسيوية والغرب بوتيرة جيدة، لا سيما بعد فرض الغرب عقوبات على روسيا منذ عام 2014. ومن رحم هذه السياقات ولد الاتحاد الاقتصادي الأوراسي "EAEU" في 29 مايو/أيار 2014، بعد توافق روسي وبيلاروسي وكازاخستاني، بموجب معاهدة وقعوا عليها لتأسيس منظمة إقليمية اقتصادية تهدف لخلق فرص التعاون وتحقيق الاستقرار الاقتصادي وتسهيل حركة السلع والمنتجات. وفي 1 يناير/كانون الثاني 2015 دخلت الاتفاقية حيّز التنفيذ، ثم انضمت إليها أرمينيا في 2 يناير/كانون الثاني 2015، وقرغيزستان في 12 أغسطس/آب 2015. ووفقا لما نشرته صحيفة "إيزفيستيا" الروسية في 8 مايو/أيار 2024، فإنه بعد 10 سنوات على إنشاء الاتحاد الأوراسي، حقق الناتج المحلي الإجمالي لأعضائه نموا بـ4.2 % في نهاية عام 2024، متجاوزًا 2.5 تريليون دولار، بينما بلغ حجم التبادل التجاري 90 مليار دولار، وسجل ارتفاعا مع أطراف ثالثة من خارج التكتل بـ60%، وبشكل أدق ارتفع من 579 مليار دولار إلى 923 مليارا. الأهمية الجغرافية يكمن تفرد جغرافية الدول الأعضاء في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي في طبيعتها الاستثنائية وبُعدها عن مياه المحيطات: فروسيا هي أكبر دولة من ناحية المساحة في العالم بأطول حدود برية في أوراسيا. و كازاخستان هي أكبر دولة حبيسة في العالم. أما بيلاروسيا تعد أكبر دولة حبيسة في أوروبا بأطول حدود برية. وتشترك قرغيزستان و طاجيكستان في المركزين الثالث والرابع عالميا بين البلدان الحبيسة ذات أعلى متوسط ارتفاع فوق مستوى سطح البحر. كما أن أرمينيا الدولة الوحيدة في غرب آسيا التي لا تملك منفذا مباشرا إلى المياه، بينما تملك أذربيجان نفاذا على بحر قزوين. ولا تملك 4 من دول الاتحاد الأوراسي منفذا إلى مياه المحيطات، وذلك يتطلب إنشاء ممرات نقل وتعزيز الروابط الأقاليمية. ووفقا لما جاء في تقرير نشرته صحيفة "إيزفيستيا"، فإن الدراسات الاقتصادية تظهر أن تكاليف النقل في البلدان غير الساحلية يمكن أن تتجاوز تكاليف المناطق الساحلية لجلب منتجاتها إلى الأسواق العالمية بنسبة 50% تقريبا. وتصل حصة تكاليف النقل في إجمالي الواردات لمعظم البلدان النامية التي لا تملك منافذ ساحلية إلى 10-20%، بينما يبلغ لدى البلدان المطلة على المسطحات والولايات المتحدة نحو 5% و2% على التوالي. ويشير الخبراء الاقتصاديون إلى أن زيادة تنسيق السياسات الاقتصادية بين البلدان غير الساحلية في المنطقة الأوراسية أصبح أمرا مهما، ويمكن إلى حد كبير تعزيز هذا النوع من التنسيق من خلال عمليات التكامل الإقليمي لتحييد القيود الجغرافية. وتشمل الجوانب الإيجابية الرئيسية لذلك التغلب على العزلة القارية: أولا، من خلال الحد من الرسوم الجمركية بين البلدان وغيرها من الحواجز. وثانيا، توحيد وتبسيط لوائح النقل الهادفة لتقليل تكاليف تسليم البضائع إلى المناطق الساحلية. وثالثا، تجميع الموارد لبناء وتمويل ممرات النقل المشتركة نحو المناطق الساحلية. إنجازات وتحديات أبدى الاتحاد انفتاحا على التعاون الاقتصادي مع دول أخرى بتوقيع اتفاقيات للتجارة الحرة مع فيتنام وإيران وسنغافورة وصربيا والصين، ويجري تجهيز اتفاقيات جديدة مع الإمارات ومنغوليا خلال المنتدى السنوي للاتحاد لعام 2025، ومن المنتظر أن توقع عليها في نهاية العام الجاري، كما تجري مشاورات مع مصر وتونس وإندونيسيا والمغرب والهند. وإذ تشير الأرقام والمعطيات إلى إنجازات حققها الاتحاد الأوراسي لدوله، يرى خبراء أنه يواجه تحديات داخلية تعوق تطوره. ولعل من أبرز إنجازات الاتحاد الاقتصادي الأوراسي هو تشكيل سوق موحدة للسلع والخدمات ورأس المال والعمالة، وتبسيط التجارة بإلغاء الرسوم الجمركية وتسهيل إجراءات نقل البضائع وخفض التكاليف. كما أسهم تنسيق السياسة الاقتصادية والتعليمية والثقافية في تعزيز التعاون وتنميته، إضافة إلى تطوير الأدوات المالية الرقمية وتسوية المدفوعات بالعملات الوطنية مما يؤدي إلى تقليل الاعتماد على الأنظمة المالية العالمية والدولار. وبحسب كلمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ، في المنتدى الذي عقد يومي 26-27 يونيو/حزيران 2025 في العاصمة البيلاروسية مينسك، فإن الاتحاد الاقتصادي الأوراسي خلق مساحة للشراكة والنمو الاقتصادي، وهو رابطة تكامل ناجحة. وعن التحديات التي يواجهها التكتل، يقول رئيس مركز "آسيا للدراسات والترجمة" أحمد مصطفى للجزيرة نت: "من المهم الاعتراف بأن الاتحاد الاقتصادي الأوراسي يواجه تحديات داخلية تسبق العقوبات". وأضاف "لطالما أعاقت المشاكل الهيكلية مثل التنويع الاقتصادي المحدود وأوجه القصور البيروقراطية والاعتماد المفرط على صادرات السلع الأساسية النمو في المنطقة". لماذا تثير أوراسيا مخاوف الغرب؟ في 9 يناير/كانون الثاني 2025 نشرت صحيفة واشنطن بوست تقريرا للكاتب هال براندز، تحت عنوان "الخطر الأوراسي الذي يلوح في الأفق"، تحدّث فيه عن خصوم أميركا في المنطقة الأوراسية وكيف يصنع العالم الحديث فيما بعد الحروب الباردة والساخنة. يشير التقرير إلى أن أخطر ظاهرة جيوسياسية في عصرنا الحديث ليست الأزمات أو الصراعات أو التنافس بين الدول، بل هي شبكة العلاقات التي تربط خصوم أميركا الأوراسيين ببعضهم لتقويض نفوذ واشنطن في المنطقة، بهدف تعزيز الاستقلال الجيوسياسي والاقتصادي، وذلك ما يدفع واشنطن إلى إيجاد بدائل ضغط على خصومها، مثل فرض العقوبات على صادرات النفط الروسية والإيرانية وعلى البنوك الصينية وغيرها. ورغم تداعيات العقوبات الغربية على اقتصادات الدول الأوروآسيوية، يقلل أحمد مصطفى، رئيس مركز آسيا للدراسات، من أثرها ويقول للجزيرة نت "إن رواية الغرب عن الاقتصادات الأوراسية بأنها على حافة الانهيار، بسبب العقوبات، مبالغ فيها". ويضيف مصطفى أنه على الرغم من حدوث انخفاضات ملحوظة في نمو الناتج المحلي الإجمالي والناتج الصناعي وتعطّل التدفقات التجارية، وتقييد الوصول إلى أسواق رأس المال، فإن العديد من هذه الدول تكيفت مع الظروف للتخفيف من الأثر. وعلى سبيل المثال، نجحت روسيا في إعادة توجيه صادراتها من الطاقة إلى الأسواق الآسيوية، بينما وسّعت الصين مبادرة الحزام والطريق لتعزيز العلاقات الاقتصادية مع أوراسيا. ثروات وصراعات واهتمام أميركي وبالوقوف على ما تمتلكه بعض دول المنطقة الأوراسية من معادن نادرة وثروات طبيعية، يبرز حجم أهميتها في ميزان القوى العالمية. فعلى سبيل المثال، تمتلك روسيا واحدة من أكبر قواعد الموارد المعدنية عالميا، وتحتل المرتبة الأولى في احتياطيات الغاز بإجمالي 63.5 ترليون متر مكعب، إضافة إلى الألماس والنيكل والذهب. بينما تحتل روسيا المركز الثاني في معادن مجموعة الكوبالت والتنغستن والتيتانيوم والفضة والبلاتين، وتأتي ثالثة في احتياطيات النحاس والفحم والرصاص، وخامسة في احتياطيات النفط بإجمالي 31.4 مليار طن، وفقا للموقع الرسمي لوزارة الموارد الطبيعية والبيئة الروسية. أما بيلاروسيا فتمتلك احتياطيات كبيرة من الموارد الطبيعية، تشمل النفط ومواد البناء والجفت (بقايا الزيوت المستخدمة في الوقود والزراعة وصناعة الأعلاف وغيرها)، وتقدر احتياطيات النفط الصناعية بأكثر من 327.95 برميل لعام 2024، وفقا لموقع "أوفيشال لايف" البيلاروسي. وفي فبراير/شباط 2020، قدمت وزارة الخارجية الأميركية لآسيا الوسطى إستراتيجية مصممة لـ5 سنوات تنص على استثمار واشنطن ما يقارب 150 مليار دولار في المنطقة، وفقا لما نقلته صحيفة "كوميرسانت" الروسية. وشهدت المنطقة الأوراسية في السنوات الأخيرة تصاعدا في حدة التوترات، نتيجة للتغيرات في موازين القوى العالمية، واستفحال الصراعات كالحرب في أوكرانيا، وانعكاسات تردّي العلاقات بين روسيا والغرب من جهة والصين والولايات المتحدة من جهة أخرى، بما قد يلقي بتداعياته على دول المنطقة واقتصاداتها.