
ارتداها السنوار.. لماذا يرتدي المقاومون "عباءة" في ميدان القتال؟
وسبق أن ظهر رئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس يحيى السنوار في أيامه الأخيرة قبل استشهاده مرتديًا "غطاءً" يخفي معالم الرأس والنصف العلوي من الجسد، وذلك حسب مقاطع الفيديو التي انتشرت له إبان اغتياله بغزة في أكتوبر/تشرين الأول 2024.
ولم يكن ذلك "الغطاء" مجرد إجراء عابر، حسب ما قاله محللون عسكريون في تصريحات للجزيرة نت، بل كان جزءًا من تكتيك عسكري اعتمدته المقاومة في غزة مؤخرًا، بهدف إخفاء معالم الجسد وملامح الوجه، في مواجهة تطور أدوات الرصد والاغتيال الإسرائيلية.
كما أن هذا التكتيك فتح بابا أمام التحليلات في الأوساط العسكرية، ولفت النظر إلى الأهداف التي جعلت عناصر حماس يلجؤون إليه، خاصة مع التطورات المتلاحقة لأدوات الذكاء الاصطناعي في الرصد والتحليل والمتابعة، وبعض هذه التحليلات تركّز على البعد التقني المتعلق بخداع أدوات الرصد، وبعضها الآخر تناول أبعاده الرمزية والنفسية.
خداع الذكاء الاصطناعي
من ذلك مثلا، ما قاله الخبير العسكري والإستراتيجي عقيد ركن نضال أبو زيد عن أن المقاومة باتت تدرك تمامًا حجم عمليات الاستطلاع والرقابة الجوية، ليس فقط من قبل الاحتلال الإسرائيلي، بل أيضًا من أجهزة استخبارات دولية متعددة، وجميعها تمد الاحتلال الإسرائيلي بمعلومات دقيقة عبر تقنيات المراقبة الحديثة.
وأشار أبو زيد -في تصريحات للجزيرة نت- إلى أن عمليات الاغتيال الأخيرة التي طالت قيادات بارزة استندت إلى معلومات مستخلصة عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي وأدواته، اعتمادًا على الطائرات المسيرة التي تملأ أجواء غزة أو المنطقة.
وأوضح أن "البرامج التي يستخدمها الاحتلال -مثل لافيندر- تعتمد على تحليل شكل الجسم وأبعاده (الطول والعرض)، بالإضافة إلى برامج أخرى ترصد حرارة الجسم وبصماته الحيوية.
ومن ثم يذهب الخبير العسكري والإستراتيجي إلى أن لهذا الغطاء وظيفة أساسية؛ فهو يغير هيئة الجسم ويمنع تحديد أبعاده بدقة، وبالتالي يصعب على الذكاء الاصطناعي رصد شخصية المقاوم ومكانه بالدقة المطلوبة، خاصة أن هذه البرمجيات تخزن البيانات التي تحصل عليها بغرض استخدامها لاحقًا في حال رُصد الشخص المتخفي في مناطق أخرى، حسب أبو زيد.
التمويه والتخفي
والتحليل السابق نفسه يذهب إليه العميد ركن حسن جوني، ويتفق على الأهداف التي تسعى عناصر المقاومة لتحقيقها من ارتداء هذه "العباءة"، مبينا أن إخفاء معالم الرأس والكتفين تزداد أهمية عندما نعلم أنها الأجزاء التي تعتمد عليها برمجيات الذكاء الاصطناعي في تحديد هويات الأشخاص عبر خوارزميات التشخيص الأوتوماتيكي.
ويضيف جوني أن "اختيار الرداء يكون بدقة ليناسب بيئة الركام والدمار؛ فالتمويه هنا ضروري للغاية، كما يتم الاعتماد على أقمشة ذات ألوان باهتة غير عاكسة للضوء لتجنب رصدها بواسطة الأجهزة البصرية أو الكاميرات الحرارية".
وأكد أن هذا الغطاء لا يرتدى كلباس عادي بل هو متحرك ومرن، ويمكن وضعه على الجسد أو استخدامه كغطاء أثناء الاختباء في الحفر أو تحت الركام. مشيرا إلى أن هناك أقمشة تكون مصممة لعزل البصمة الحرارية الخاصة بالجسد، بما يقلل احتمالية كشف المقاوم عبر المستشعرات الحرارية المستخدمة من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي.
البعد الرمزي
أما المحلل العسكري والإستراتيجي اللواء فايز الدويري فيلفت إلى أن هذا الرداء لا يكتسب دلالته من الجانب المادي فقط، بل يحمل أيضًا بُعدًا رمزيًا نفسيًا. مبينا أن هذا الغطاء حمل رمزية خاصة حين ارتداه الشهيد السنوار في نهاية حياته "وهو مقبل على مقاومة الاحتلال غير مدبر".
ويرى الدويري أن المقاومين لجؤوا إلى هذه الوسائل البدائية لسببين:
الأول رمزي، إذ أصبح هذا الرداء علامة إقدام وقدوة في التضحية، وأما الثاني فهو مادي بحت، يهدف إلى إخفاء قسمات الوجه وتغييب بصمة العين وملامح الجسد في ظل تصاعد استخدام الذكاء الاصطناعي من جانب جيش الاحتلال.
وشنت إسرائيل منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 عدوانا شاملا على قطاع غزة، راح ضحيته نحو 58 ألف شهيد ونحو 137 ألف إصابة، وآلاف من المفقودين تحت ركام منازلهم حسب إحصاءات وزارة الصحة في غزة، فضلا عن تعرض أكثر من 2.3 مليون فلسطيني إلى حالة المجاعة حسب تقارير الأمم المتحدة.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 44 دقائق
- الجزيرة
صناع سينما وثائقية: أنظارنا تتجه نحو غزة ولن نتوقف عن التوثيق والإدانة
أعلن عدد من رواد السينما الوثائقية تضامنهم مع الشعب الفلسطيني في مواجهة ما يتعرض له في غزة، ونددوا بما وصفوه بانتهاكات جسيمة تطال المدنيين، حسب بيان وقعه عدد من صناع السينما الذين كرّمتهم جمعية "سكام" الفرنسية تقديرا لمجمل أعمالهم. وأشار البيان إلى أن عددا كبيرا من صناع الأفلام الوثائقية والكُتاب والكاتبات والصحفيين والمصورين يعملون من خلال أفلامهم وكتبهم وصورهم وتقاريرهم على رصد التاريخ والواقع، بهدف تسليط الضوء على ما يمس الإنسانية ويؤذيها، سواء في مجريات العالم الكبرى أو في أعماق النفوس، في أقاصي الأرض أو على مقربة منا. ومن أوائل الموقعين على البيان كل من المخرج ويليام كاريل، والمخرج دانيال كارلين، والكاتب بيير بايار، والمخرجة سيمون بيتون، والمخرجة فرانسواز رومان، والمخرجة كارمن كاستيو، والمخرج آفي موغرابي، والكاتب باتريك شاموازو، وكذلك المصور أوليفييه كولمان، والمصورة لورا التنتاوي، والكاتب الصحفي شارل أندرلان، والكاتبة آني إرنو، والصحفية كاثلين إيفان، والصحفي رافائيل غاريغوس، والمصور كريستيان لوتز، والمنتج الإذاعي والكاتب الصحفي دانيال ميرميه. كما وقعت البيان صانعة الوثائقيات والكاتبة الإذاعية إيرين أوميليانينكو، والصحفية والكاتبة الإذاعية ألين باييه، والصحفية إيزابيل روبير، والصحفي ديني روبير، والصحفية والمخرجة ماري-مونيك روبين، وأيضا الكاتبة ليدي سالفاير، والمصورة كريستين سبينغلر، والمخرج جان-بيير تورن، والمصورة فيرونيك دو فيغيري، والمخرجة تيري وين داميش. وجاء في البيان، "أنظارنا تتجه نحو غزة، ولا شيء يمكن أن يصرفنا عنها. إنه الشعب الفلسطيني الذي يتعرض للإبادة". وأضاف البيان "كما فعلنا من قبل مع الأرمن، واليهود، والغجر، والتوتسي، وجميع الشعوب المضطهدة، لن نتوقف عن توثيق ما يجري أمام أعيننا، وعن إدانة ما يُسجل اليوم ضمن قائمة الفظائع اللاإنسانية". تضامن عالمي يأتي هذا البيان في سياق موجة تضامن عالمية متصاعدة مع الشعب الفلسطيني، إذ شهدت الأيام الأخيرة مواقف داعمة من عدد من الفرق الموسيقية والفنية الدولية. فخلال مشاركتها في مهرجان روسكيلد الموسيقي في الدانمارك، وجهت فرقة الروك المستقلة "فونتينز دي سي" رسالة قوية مؤيدة لفلسطين، أثارت تفاعلا واسعا. وخلال أدائها على المسرح، صعد عدد من النشطاء المؤيدين للقضية الفلسطينية ورفعوا هتافات باللغتين العربية والإنجليزية، بينما ظهرت خلفية العرض تحمل صورة ضخمة للعَلم الفلسطيني، في مشهد لاقى إشادة جماهيرية كبيرة واهتماما إعلاميا ملحوظا. إلى جانب عدد من الفرق الغنائية والموسيقية الأخرى مثل "بوب فيلان"، و"نيكاب" وغيرهما من الفرق الداعمة للقضية الفلسطينية.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
مع تضييق الخناق عليها.. ماذا ينتظر السلطة الفلسطينية؟
رام الله-"أنا مع تصعيد الأزمة حتى انهيار السلطة، من قال إن السلطة مشروع وطني فقط؟ السلطة مشروع أميركي إسرائيلي وإماراتي وأردني ومصري ودولي، وجميعهم مع بقائها"، هذه العبارات وردت في مقابلة إذاعية مع أسامة النجار، رئيس اتحاد نقابات المهن الصحية الفلسطينية، إذ تتصاعد الإضرابات والاحتجاجات في ظل عدم وفاء الحكومة بالتزاماتها المالية تجاه موظفيها. وأضاف النجار "إذا كان انهيار السلطة هو الحل، فليكن، إذا كانت إسرائيل تسعى لذلك، فلنجعلها فوضى خلاقة، ونواجه إسرائيل بهذا الأمر، على العالم الذي خلقها (السلطة) أن يحميها ويقف لمنع انهيارها". لاقت أقوال النجار ردودا واسعة بين من أيدها وساق تبريراته، ومن هاجمه على اعتبار أن السلطة مكسب سياسي تجب المحافظة عليه، لكنها فعليا تعكس أزمة خانقة تعصف بالحكومة والسلطة على وقع تهديدات وإجراءات إسرائيلية بدفعها للانهيار، وفق اثنين من المحللين تحدثا للجزيرة نت. إجراءات غير اعتيادية تطرق رئيس الوزراء محمد مصطفى في الجلسة الأسبوعية للحكومة -اليوم الثلاثاء- للأزمة المالية، موضحا أن إسرائيل لم تحول للسلطة أموال المقاصة، وهي عائدات ضرائب تجمعها عن البضائع الواردة للمناطق الفلسطينية عبر المنافذ التي تسيطر عليها، عن شهري مايو/أيار ويونيو/حزيران بعد اقتطاع نحو النصف منها، موضحا أن مجموع الاقتطاعات المتراكمة تجاوز حتى الآن 8.2 مليارات شيكل (2.44 مليار دولار). وبعد أن أشار إلى بذل "جهود دبلوماسية وقانونية وبكل الوسائل الممكنة لمعالجة هذا الموضوع"، أعلن أن "هذا الوضع لا يمكن احتماله وهو وضع غير اعتيادي وقد يحتاج منا إجراءات غير اعتيادية"، معتبرا ذلك "رسالة يجب أن تصل للجميع ولن نستمر في الانتظار" من دون توضيح تلك الإجراءات. في تفسيره للإجراءات التي ذكرها مصطفى، يقول الدكتور أحمد رفيق عوض، مدير مركز القدس للدراسات التابع لجامعة القدس إن "كل الاحتمالات قائمة". وذكر من بين تلك الاحتمالات توجه الحكومة للجمهور لقول "إنها لا تستطيع أن تكمل المشوار، في ظل كل العقبات التي تضعها إسرائيل، وبينها المقاصّة التي سببها قرار سياسي، وليس إجراءات فنية أو إدارية". مواجهة أم تكيّف؟ يوضح المحلل الفلسطيني أن مواجهة السلطة للإجراءات والعقبات الإسرائيلية "أظهرتها وكأنها تتكيف معها، فكان لا بد من قرار سياسي يعيد تعريف العلاقة مع إسرائيل، وأن الاستمرار بهذه الطريقة غير ممكن". لكن ما الذي يمكن للسلطة فعله وماذا بيدها من أوراق؟ يجيب عوض: "مصارحة الجمهور بأن يتخذ قراراته، وهذا يتطلب قرارا من القيادة الفلسطينية ومشاورات وتوافقا وتنسيقا فصائليا وعربيا وإقليميا ودوليا وحتى مع الأمم المتحدة، لا أن يقتصر على الحكومة، حتى لا يتم القفز بالشعب إلى الفراغ". وبرأي المحلل الفلسطيني، "لا بد من إيصال رسائل للعرب والأوربيين الذين دعموا السلطة على مدى 30 عاما على أمل تحقيق حلم الدولة، بأنه لا يمكن لإسرائيل أن تفعل ما تريد وتغرق السلطة بطلبات تعجيزية، ثم تسحب منها التمويل والتمثيل والثروات والقدرة على الحركة". خيار إقليمي ودولي يتابع المحلل الفلسطيني أن السلطة وجدت بخيار وإرادة دولية وإقليمية، وتقوم بأدوار متعددة تعفي أطرافا كثيرة من أن تقوم بواجبها، بل إن "الكل يتغطى وراء فكرة أن هناك سلطة للفلسطينيين حتى لا يقوم بواجبه". وأضاف أن إسرائيل أيضا تعرف أن السلطة الفلسطينية تتولى عبء الاهتمام بمعيشة الفلسطينيين وحياتهم إداريا وخدماتيا، وهذا يعفيها من الاحتكاك المباشر مع الجمهور، مع أنه يعطيها تمثيلا سياسيا منخفضا. ومع أن إسرائيل الرسمية ترى السلطة عاجزة عن القيام بواجباتها وتتهمها بالفساد، فإنها برؤية الدولة العميقة في إسرائيل ما زالت تقوم بأدوار، ولا داعي لإسقاطها، يضيف عوض. ويرى من أبرز مهددات السلطة اليوم -وفق المحلل السياسي- وجود تيار مركزي في إسرائيل له تمثيل في الحكومة يعلن خيار الضم لإسقاط حل الدولتين، وإقامة دولة التوراة -ما يسمونها "يهودا والسامرة"- ولديه برنامج لإثارة المشاكل وإفقار السلطة وإحراجها وسحب البساط من تحتها. ما يريده الاحتلال -وفق عوض- أن "تتآكل السلطة من الداخل، وتسقط بأيدي أبنائها وليس بيد الإسرائيليين، لكي لا تتحمل إسرائيل التداعيات السياسية إن هي قامت بذلك، ومن هنا جاءت فكرة ' إمارة الخليل ' -وإن كانت صعبة التحقق- لتصب في مصلحة اليمين المتطرف". يرى المحلل الفلسطيني من التحديات التي تهدد السلطة "الإنكار الأميركي لها وتجفيف منابع التمويل بذرائع واشتراطات مختلفة". وقال إن إسرائيل تريد من السلطة "تقليل التمثيل السياسي وأن تمتنع عن انتقاد إسرائيل في المحافل الدولية وأن تقوم بالأدوار الأمنية التي تطلب منها سواء من المحتل أو غيره". من جهته، يقول المحلل السياسي عدنان الصباح إن خلاصات التوجه الإسرائيلي عدم التعاطي مع السلطة الفلسطينية على قاعدة وجود سياسي، وإرهاقها اقتصاديا وسياسيا بعدة عوامل، منها: إعلان تجاهل وجودها والتعاطي مع الأرض الفلسطينية من دون أي صلة بما تم الاتفاق عليه في اتفاق أوسلو وكأنه لم يعد قائما أو ذا شأن. تطبيق القانون الإسرائيلي على الأرض دون الإعلان عن ذلك، ومصادرة الأراضي وضم المناطق "ج" (تشكل 60% من الضفة). احتجاز المقاصة وتجفيف مصادر المال الخارجية للسلطة بشكل شبه تام، ومنها المقاصة، وتراجع الإيرادات الداخلية، لدرجة لن تكون معها السلطة قادرة على مواصلة عملها بعد أشهر قليلة. إلغاء نحو 300 ألف فرصة عمل لفلسطينيين في إسرائيل كانت تشكل مصادر دخل لنحو 300 ألف أسرة، وهذا يعني شل حركة السوق وتراجع الضرائب التي تجبها السلطة داخليا. استباحة المدن الفلسطينية كما يجري في مدن جنين وطولكرم ونابلس. جرائم المستوطنين واعتداءاتهم في كل أنحاء الضفة الغربية. التعاطي مع القضية الفلسطينية والضفة من جانب واحد على قاعدة أن الاحتلال من يقرر، فيشاورون أنفسهم ويصدرون القرارات والقوانين في الكنيست. الهيمنة على المنافذ والموانئ والمعبر البري الوحيد في الضفة، مع استباحة غزة. خنق السوق الفلسطيني بمنع وصول فلسطينيي الداخل والتحكم بوصول المواد الخام للمصانع. جرس إنذار وبرأي المحلل الفلسطيني، لا وجود للسلطة في أجندة الاحتلال على الإطلاق وأنه يتعامل معها بما يشبه مجموعة من مفاتيح الأمان (كهرباء، ومياه، ومقاصة، وجمارك) يغلقها متى شاء. وأضاف أن "كل ما سبق قد يدفع للسلطة للانهيار من ذاتها ووحدها، عندما تصبح غير قادرة على القيام بمهامها الداخلية البسيطة وخدمة جمهورها وتوفير احتياجاته الأساسية له". ويحذر المحلل الفلسطيني من توجه أميركي إسرائيلي لتقاسم الأرض "غزة للرئيس الأميركي دونالد ترامب، والضفة الغربية لإسرائيل". وقال إن فكرة "إمارة الخليل" المدعومة من الاحتلال جرس إنذار للسلطة التي لم تعد قادرة على توفير الرواتب ولا الأمن ولا الحماية للشعب.


الجزيرة
منذ ساعة واحدة
- الجزيرة
غزة تكشف حقيقة اليسار الفرنسي
"حق إسرائيل في الوجود لا جدال فيه". "كانت فرنسا دوما إلى جانب إسرائيل منذ اليوم الأول، وتأسيسها عام 1948 كان فرحة كبيرة". الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند يجمع كلًّا من فرانسوا ميتران وفرانسوا هولاند الكثير من القواسم المشتركة، فهما رئيسان فرنسيان يساريان، وهما صديقان مُقرَّبان من إسرائيل، وخذلتهما إسرائيل في الوقت نفسه. ميتران، الذي أصبح في مارس/آذار 1982 أول رئيس فرنسي يزور دولة الاحتلال منذ 35 عاما، وألقى خطابا حينها في الكنيست أكَّد فيه ضرورة وجود إسرائيل وعيشها في أمن وأمان، كان قد انتقد في الخطاب نفسه الاستيطان في الضفة الغربية، وقال إن "حق إسرائيل في الوجود" يجب ألا يكون على حساب حقوق الشعب الفلسطيني. كان ذكر حقوق الشعب الفلسطيني يعني مباشرة في تل أبيب الدخول إلى حقل ألغام "معاداة إسرائيل". وقد ازداد الأمر سوءا بعد أشهر قليلة حين غزا جيش الاحتلال لبنان عام 1982، إذ صرَّح ميتران في مؤتمر صحفي عُقد في باريس بأن الهجوم الإسرائيلي على لبنان تهديد خطير للسِّلم في الشرق الأوسط، وأنه لا يمكن قبول قتل المدنيين وتحطيم عاصمة مثل بيروت، واصفا اجتياح إسرائيل للبنان بـ"العدوان المفرط" و"انتهاك القانون الدولي"، وما أشبه اليوم بالبارحة. أما الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، فله كلام كثير في مدح إسرائيل، منه ما صرَّح به أثناء زيارته الرسمية لدولة الاحتلال في نوفمبر/تشرين الثاني 2013، حين قال برومانسية شديدة إنه لو قيل له إن عليه الغناء للتعبير عن حبه الكبير لإسرائيل ومسؤوليها لفعل ذلك: "كنت سأفعل ذلك من أجل الصداقة بيني وبين بنيامين، من أجل إسرائيل وفرنسا، حتى لو كنت أُغني بشكل سيئ". بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، أعلن هولاند تعاطفه وتضامنه اللا مشروط مع دولة الاحتلال ضد ما وصفه بـ"المذبحة التي ارتكبتها منظمة إرهابية"، دون أن "يُغنّي بالضرورة"!. بيد أن إسرائيل سرعان ما خذلته بسبب الدم الذي سال في غزة إثر رغبة جيش الاحتلال المحمومة في الانتقام من كل مظهر للحياة في القطاع المحاصر. في مقابلة مع إذاعة "فرانس إنتر" في 4 أبريل/نيسان 2024، قال هولاند إن الوقت قد حان لكي تتوقف إسرائيل، لأن الأمر لم يعد مقبولا ولا محتملا: "لقد عبَّرنا عن تضامننا مع إسرائيل بعد السابع من أكتوبر، وبعد هذه المجزرة غير المحتملة، نعم، لكن أن نسمح الآن بتجويع السكان المدنيين، وأن تُحرم النساء حتى من العلاج، فهذا أمر لا يُحتمل. ولذلك، يجب الآن ممارسة نوع من الضغط". في فبراير/شباط 2025، قال هولاند في تدوينة على موقع "إكس" إن الوضع في غزة أصبح "لا يُطاق"، ودعا إلى فرض عقوبات أوروبية على إسرائيل. ليست تلك إلا نبذة مبسطة عن علاقة إسرائيل الغريبة والمتوترة مع قطاع من اليسار الفرنسي، وذلك لأن اليسار الفرنسي لطالما شكَّل طيفا واسعا ومتنوِّعا. فحتى اليوم، هناك يسار صهيوني، وهناك يسار يُعتبر "معاديا للسامية" من وجهة نظر إسرائيل. مثله مثل اليسار في شتى أنحاء العالم، تُشكِّل اليسار الفرنسي مجموعة أفكار ثورية تغيَّرت وتنوَّعت مع سقوط الاتحاد السوفياتي ، حتى أصبحت هناك اختلافات جوهرية فيما بين الاتجاهات اليسارية المختلفة، حول الاقتصاد والعلاقات الخارجية، وحتى ملفات مثل الوقوف ضد إسرائيل. اليسار واليسار الآخر ما انعكاس كل ذلك على العلاقة المعقدة مع دولة الاحتلال؟ في مايو/أيار 2023، رفضت الجمعية الوطنية الفرنسية مقترح قرار تقدم به الحزب الشيوعي الفرنسي وحزب فرنسا الأبية (أقصى اليسار) لإدانة نظام الفصل العنصري الذي تمارسه دولة الاحتلال ضد الفلسطينيين، وضمَّ هذا المقترح دعوة الحكومة الفرنسية لوضع حدٍّ للاستيطان ومقاطعة إسرائيل اقتصاديا. وقد أحدث الاقتراح انقسامات في صفوف اليسار الفرنسي، فقالت النائبة إيرسيليا سوديه عن حزب فرنسا الأبية إنه لا يمكن التقدم في الديمقراطية الداخلية في إسرائيل دون نجاح في إنهاء الفصل العنصري والاستعمار، معتبرة أنه لا يجب الخوف من استعمال كلمة "الفصل العنصري" في مواجهة إسرائيل وفي وصف الوقائع على الأرض. في المقابل، حيث يجلس نواب الحزب الاشتراكي الفرنسي، ساد الحرج إلى حدٍّ جعل النائب جيروم غيدي يقول إن ما يُطالب به رفاقه اليساريون يُقوِّض القضية التي يدافعون عنها. وقد أتى التعليق في السياق نفسه الذي سار فيه الحزب الاشتراكي، الذي أصدر بيانا صحفيا قال فيه إنه يرفض استخدام كلمة "الفصل العنصري"، ويرفض الدعوة إلى تقنين مقاطعة المنتجات الإسرائيلية لأنه يُعَد تمييزا، ومن ثمَّ انضم الحزب الاشتراكي إلى قائمة رافضي القرار، وهم الكتلة الرئاسية ذات السياسات اليمينية، ثم اليمين الكلاسيكي ومن بعده اليمين المتطرف، مما ترتَّب عليه رفض المقترح. تعمَّق الخلاف من داخل التيار اليساري إلى داخل الحزب الاشتراكي نفسه، وذلك بعد نشر بيان بعنوان "دائرة أصدقاء إسرائيل" في السادس من مايو/أيار 2024 على الموقع الرسمي للحزب. وكان النص مثيرا للجدل، حتى إنه مُسِح بعدها بفترة وجيزة. ويقول البيان إن "الحزب الاشتراكي في فرنسا لا يُعقَل ألا يكون صهيونيا وهو الذي يدافع عن حق الشعوب في تقرير مصيرها". إعلان ولذلك، بعد هجمات السابع من أكتوبر، رأى الحزب (أو مجموعة منه) أن من الضروري تأسيس دائرة أصدقاء إسرائيل، كما فعل حزب العمال البريطاني. في البيان نفسه قال الموقِّعون إن الامتناع عن دعم إسرائيل بوضوح يعني خيانة الشرعية الاشتراكية وفقدان الأمل في الفوز بالانتخابات، التي كانت على الأبواب آنذاك. وقد كتب "أصدقاء إسرائيل" أيضا أن هناك تناقضا في مطالبة الكثيرين بوقف إطلاق النار دون المطالبة باستسلام حركة حماس، وهو ما يشبه سياسة استرضاء الديكتاتوريات، وذلك لأن الحزب لم يعلن الدعم للرهائن الإسرائيليين، ومن بينهم مزدوجو الجنسية الذين يحملون الجنسية الفرنسية. وقد دعا الموقِّعون إلى دعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، مع التفريق بين النقد الحكومي والانسحاب الكامل من دعم إسرائيل، فاليسار الفرنسي وإن كان يدعم اليسار الإسرائيلي، فإنه يدعم أيضا إسرائيل ذاتها بوصفها دولة. لم يقف البيان هنا، بل ذهب إلى ما هو أبعد في دعم نتنياهو نفسه، حينما قال إن الجميع يعلم بأن إسرائيل تتخذ خطوات فريدة للحد من الخسائر المدنية. كيف ذلك؟ باستخدام قنابل دقيقة، وتحذير المدنيين وإخلائهم. كان البيان مُفرطا في الحماس لصالح إسرائيل، وصحيح أنه واجه معارضة داخلية قوية أجبرت كُتَّابه على حذفه، لكنه جاء بمنزلة تطور طبيعي لبيان نُشِر قبله في 27 مايو/أيار 2024، واختار له الحزب عنوان: "معاداة السامية في صفوف اليسار: بين الإقرار والفهم والمجابهة". وقد استهل الحزب البيان المُطوَّل بالحديث عن العودة المُقلِقة لمعاداة السامية التي شهدتها فرنسا مؤخرا، حيث أشار إلى تسجيل 1576 واقعة مُعادية لليهود مقارنة بـ476 واقعة عام 2022، مما يدفع للتساؤل حول قدرة الجمهورية على وضع أسس "العيش المشترك". ويقول الحزب الاشتراكي إن معاداة السامية لم تعد مقتصرة على اليمين المتطرف، فقد ظهرت داخل اليسار، الذي من المفترض أنه حصن تاريخي للقيم الإنسانية والكونية. وقد وجَّه رفاق فرانسوا هولاند اتهاماته مباشرة لكلٍّ من حزب فرنسا الأبية والحزب الجديد المناهض للرأسمالية في استخدام الصراع الفلسطيني الإسرائيلي ذريعةً لاستهداف اليهود داخل فرنسا ووصف "حماس" بالحركة المقاومة. خرج البيان بمجموعة توصيات لحماية إسرائيل، وهي رفض الخلط بين مناهضة الصهيونية وإنكار شرعية إسرائيل، ورفض تصوير اليهود على أنهم طبقة مهيمنة ومن ثمَّ غير مُعرَّضة للتمييز، ورفض التساهل مع بعض خطابات الكراهية باسم الدفاع عن القضية الفلسطينية. وقد رفض الاشتراكيون أشياء كثيرة أخرى، منها التمييز بين النقد السياسي المشروع لإسرائيل ومعاداة السامية، ورفض التشبيهات المتطرفة التي تُشيطن إسرائيل، وعدم التحالف مع مَن يرفضون إدانة الإرهاب أو يبررونه. فرنسا الأبية عادة ما ينقسم الطيف السياسي في فرنسا إلى ثلاثة اتجاهات حين يتعلَّق الأمر بإسرائيل: اليمين واليمين المتطرف، وهما داعمان لجميع تحركات إسرائيل، ويتبنيان فكر بنيامين نتنياهو الذي يقول إن الكيان لا يدافع عن نفسه فحسب، بل يُمثِّل خط الدفاع الأول في وجه "الإرهاب الإسلامي". وهناك فريق ثانٍ يضُم الفريق الرئاسي واليسار الاشتراكي ، الذي يرى أن إسرائيل أخطأت وأسالت دماء كثيرة، وأن ما يحدث في غزة فظيع، بيد أنه يرفض إدانة إسرائيل صراحة ويكتفي بانتقاد سياسات الحكومة. أما الفريق الثالث فهو ما يُعرف إعلاميا بـ"اليسار الراديكالي" ، الذي لا يبدو متحمسا لإسرائيل، وهو أكثر انفتاحا على استعمال مصطلح "الإبادة العِرقية" لوصف ما يحدث في غزة وفي فلسطين عموما. قبل حرب يونيو/حزيران 1967، كانت إسرائيل تُصوَّر في بعض أوساط اليسار الفرنسي بوصفها دولة تقدُّمية، مستوحاة من الاشتراكية الجماعية التي تجلَّت في نموذج مستوطنات الكيبوتس. ولكن بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة والجولان، وترسُّخ التحالف مع الولايات المتحدة، تغيَّر هذا التصور جذريا، وباتت إسرائيل تُرى على أنها قوة استعمارية توسُّعية، وممثلة للمشروع الأميركي في الشرق الأوسط. ومن هنا تبنَّت الدولة الفرنسية ذاتها مواقف مغايرة، وحاولت أن تستفيد من التحوُّل في التيار اليساري، وفي الوقت نفسه أن تبني وجودا مستقلا خاصا بها في المنطقة العربية بعيدا عن النفوذ الأميركي. كانت ذروة هذا الاتجاه أثناء رئاسة شارل ديغول في منتصف الستينيات، الذي تحفَّظ على التحالف المفتوح مع واشنطن وسحب بلاده من القيادة العسكرية لحلف الناتو عام 1966، ثم أدان العدوان على الدول العربية عام 1967، بل وأوقف أي صفقات تسليح لصالح إسرائيل بعد أن كانت الأخيرة حليفة وثيقة لباريس طيلة الخمسينيات. في هذا السياق، تبنّت العديد من منظمات اليسار الراديكالي، مثل "الرابطة الشيوعية الثورية" و"اليسار البروليتاري"، خطابا داعما للمقاومة الفلسطينية، ورأت في النضال الفلسطيني تجسيدا جديدا لحركات التحرُّر في العالم الثالث. ولم يكن هذا الدعم معنويا فقط، بل شمل تنظيم مظاهرات، وحملات توعية، وطباعة منشورات، وفي بعض الحالات إقامة علاقة مباشرة مع منظمات فلسطينية. لم يكُن التضامن مع الفلسطينيين محصورا في مناهضة الاحتلال، بل ارتبط برؤية أيديولوجيا تعتبر القضية الفلسطينية رمزا للثورة الأممية، وترى في منظمة التحرير الفلسطينية وريثة للنضالات العالمية، مثل الثورة الكوبية والفيتنامية. في المقابل، نظر هذا التيار إلى الصهيونية بوصفها أداة استعمارية تمارس القمع باسم "الذاكرة اليهودية". ولكن هذا الخطاب لم يكن خاليا من الإشكالات، إذ كان غالبا ما يتجاهل التفرقة الضرورية بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية، مما فتح المجال لاتهامات سياسية وإعلامية بتبنِّيه مواقف ملتبسة تجاه اليهود. يشير الكاتب والسياسي الشيوعي الفرنسي آلان غريش إلى عدد من التناقضات التي صاحبت هذا الالتزام السياسي. أولا ، لم يُعِر هذا التيار اهتماما كافيا لمعاداة السامية في السياق الفرنسي، وهي قضية كانت حيَّة بالفعل في فرنسا بعد أقل من عقديْن على نهاية الحرب العالمية الثانية وما شهدته من استفحال الظاهرة تحت حكومة فيشي الموالية للنازيين. وثانيا ، كان تركيز اليسار آنذاك على البُعد الخارجي وحده، ولم يلتفت كثيرا إلى معالجة التحديات الداخلية مثل العنصرية والهويات الدينية والتمييز الاجتماعي في فرنسا. كما أن الكثير من تحركاته بقيت رمزية ومحدودة التأثير داخل الفضاء السياسي الفرنسي، مما جعل حضوره قويا في الميدان النضالي لكنه ضعيف في المؤسسات. ولعل غيابه عن النقاشات الوطنية حول السياسات العامة قد عزَّز من صورته بوصفه تيارا احتجاجيا أكثر منه بديلا سياسيا حقيقيا. طرح مقال غريش تساؤلا مهما: كيف يمكن أن يظل تيار سياسي أممي يدافع عن قضايا الشعوب المضطهدة، دون أن يتفاعل بعمق مع السياق المحلي الذي يعيش فيه؟ وهل يمكن الدفاع عن القضية الفلسطينية دون الوقوع في الخطاب الهوياتي أو الطعن في الذاكرة اليهودية؟ يرى غريش أن هذه التوترات ظلت قائمة، وأحيانا مكبوتة، في قلب خطاب اليسار الراديكالي الفرنسي. وقد خلص إلى أن علاقة اليسار بالقضية الفلسطينية كانت من أبرز ملامح هويته السياسية منذ نهاية الستينيات، لكنها كانت مرآة لتناقضاته في الوقت ذاته. بعد انحسار اليسار الراديكالي الجزئي في التسعينيات ومطلع الألفية، عادت أفكاره من جديد على خلفية تعثُّر الرأسمالية العالمية، ومن ثمَّ ظهر حزب فرنسا الأبية بقيادة جان-لوك ميلانشون ، الذي جعل من القضية الفلسطينية محورا لحملته الانتخابية العام الماضي، إلى جانب محاولات اشتباكه مع الأزمة الاجتماعية الفرنسية، في سعي ربما لرأب الصدع القديم بين الانحياز للقضايا الخارجية والاهتمام بالداخل. وقد أدان الاشتراكيون رفض فرنسا الأبية وصف حركة حماس بالمنظمة الإرهابية. وحين حلَّت الذكرى الأولى للهجمات التي شنَّتها حماس على إسرائيل في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تسبَّبت مواقف فرنسا الأبية من حرب غزة في انقسام عميق داخل اليسار الفرنسي. فقد امتنع ميلانشون عن إبداء أي تعاطف تجاه الرهائن الإسرائيليين الذين لا يزالون محتجزين لدى حماس أكثر من مرة. بل على العكس، دعا يوم الجمعة 4 أكتوبر/تشرين الأول الماضي إلى رفع "أعلام فلسطين في كل مكان ممكن". جاء ذلك ردا على تعميم صدر في اليوم نفسه عن الوزير باتريك هيتزل، حذَّر فيه رؤساء الجامعات وذكَّرهم بمسؤوليتهم في "الحفاظ على النظام" قبيل الذكرى السنوية لهجوم حماس. وقد أدان الوزير "بحزم" التظاهرات المؤيدة لفلسطين، معتبرا أنها تتعارض مع مبادئ الحياد والعلمانية في مؤسسات التعليم العالي. ورد ميلانشون بالقول: "هذا استغلال للسلطة. أنا أدعو شباب الجامعات إلى التمرُّد وعدم قبول هذا المنع". ألوان الإدانة المتعدِّدة إنه جدل جديد يُضاف إلى سلسلة طويلة من الجدل حول فرنسا الأبية منذ عام. فبعيدا عن الزلزال الجيوسياسي، شكَّل رد فعل هذا التيار تجاه هجمات 7 أكتوبر تحوُّلا عمَّق الشروخ داخل اليسار وجعلها جراحا مفتوحة. ففي أعقاب الهجوم، أدان الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي الفرنسي وحزب الخضر بوضوح "الهجمات البشعة" التي شنَّتها حماس، واصفين إياها بـ"الإرهابية". أما ميلانشون، فاختار وضع "المجازر" في سياقها، وقال على منصة إكس إن "العنف لا يولد إلا العنف". وقد ظهرت اللهجة ذاتها في بيان حركة "فرنسا الأبية"، إذ وصفت ما حدث بـ"هجوم مسلح نفذته قوى فلسطينية بقيادة حماس"، وذلك "في سياق تصاعد سياسة الاحتلال الإسرائيلي في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية". وقد أعطت هذه المواقف انطباعا بتقليل مسؤولية حماس، مما أثار موجة تنديد واسعة في الأوساط السياسية، لا سيَّما داخل اليسار. وفي 17 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أُعلن عن القطيعة رسميا حين انسحب الحزب الاشتراكي من تحالف الاتحاد الشعبي البيئي والاجتماعي الجديد (NUPES). تمسَّكت فرنسا الأبية بمناورات قانونية آنذاك لتفادي استخدام كلمة "إرهابية" عند الحديث عن حماس، متذرّعةً بأنها تتحدث بلغة القانون الدولي. ولكن في الواقع، كان الهدف هو إظهار أنها أكثر انحيازا للقضية الفلسطينية من الآخرين، بحسب ما ذكره أحد أعضاء الحركة. ولذا فإن ميلانشون، الذي ظل طوال حياته بعيدا عن الانخراط المباشر فيما يتعلَّق بالشرق الأوسط، جعل من الدفاع عن القضية الفلسطينية الخط الناظم الجديد لسياساته. وإن كان تبني ميلانشون لهذا النضال التاريخي محل ترحيب لدى البعض، فإن ما يُؤخذ عليه هو غياب التعاطف مع الشعب الإسرائيلي ومع يهود فرنسا، إذ إن تصريحاته أعادت إحياء تهم "معاداة السامية" التي لطالما نفاها عن نفسه. ففي 22 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وأثناء قيام رئيسة الجمعية الوطنية بزيارة تضامنية إلى إسرائيل، اتهمها ميلانشون بأنها تُخيِّم في تل أبيب لتشجيع المجازر في غزة، وبأنها لا تتحدث باسم الشعب الفرنسي. وقد اعتبر رئيس المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا، يوناتان عرفي، أن هذه التصريحات تُمثِّل خطابا معاديا للسامية، مما أثار عاصفة سياسية امتدت من الحكومة إلى الحزب الاشتراكي. في 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، رفض ميلانشون المشاركة في مسيرة ضد معاداة السامية، بحجة وجود حزب التجمُّع الوطني فيها، مخالفا بذلك بقية أطياف اليسار. وفي أبريل/نيسان، شبَّه رئيس جامعة ليل السابق رئيسها الحالي بالنازي أدولف أيخمان، بعد أن ألغى مؤتمرا عن فلسطين. وقد رفعت الحكومة آنذاك دعوى قضائية ضده بسبب تصريحه الذي عُدَّ مُسيئا. في هذه الأثناء، أصبحت ريما حسن، المحامية الفرنسية-الفلسطينية، رمزا لحزب فرنسا الأبية، إذ أخذت تتنقل بين الجامعات رفقة ميلانشون، وتدافع بقوة عن الشعب الفلسطيني وتصف أفعال إسرائيل بأنها بشاعة لا توصف. على الأرض، تبذل فرنسا الأبية جهدا كي تظهر على أنها الحامي الوحيد للفلسطينيين، ففي فبراير/شباط 2024، زار وفد من نوابها مدينة رفح المصرية، على الحدود مع غزة، لتأكيد تضامنهم. وعلى مدار أسابيع، أخذ أنصارها يتظاهرون كل يوم سبت دعما للشعب الفلسطيني. وقد لاقت هذه التعبئة استحسانا لدى بعض سكان الضواحي وبين الشباب. وفي مساء 9 يونيو/حزيران 2024، عندما أُعلنت نتائج الانتخابات الأوروبية، اعتبر قادة فرنسا الأبية أن تركيزهم على غزة آتى ثماره، فقد حصلت الحركة على 9,9% من الأصوات، بزيادة مليون صوت مقارنة بعام 2019، وقال منسق الحركة مانويل بومبار في سبتمبر/أيلول الماضي إن "هذه الحملة كانت الأكثر وضوحا من حيث الرسائل، وقد نجحنا في التمركز حول قضايا محددة". ولكن بعد عام على هذا التحوُّل، لا تزال المرارة قائمة لدى البعض. فمن جهته، يقول النائب الاشتراكي جيروم غيدي -وهو من تلاميذ ميلانشون السابقين-: "خطأ وجريمة لا تُغتفر جلب الصراع إلى الداخل الفرنسي. ولولا الانتخابات الأوروبية، لما طُرحت مسألة غزة". ويضيف المؤرخ ميشيل دريفوس، مؤلف كتاب "معاداة السامية لدى اليسار"، قائلا إن "هجمات 7 أكتوبر تسببت في تصعيد التوترات داخل اليسار، وإن فرنسا الأبية راهنت على النقد اللاذع لإسرائيل من أجل كسب جمهور أوسع بين المسلمين". منذ الانتخابات الأوروبية، تراجع زخم التعبئة حول القضية الفلسطينية في خطاب فرنسا الأبية، وتأجلت النقاشات الحسَّاسة داخل اليسار ربما من أجل الحفاظ على وحدة الجبهة الشعبية الجديدة. لكن الخلافات لا تزال قائمة، وبعد أن تبنَّت الحركة أخيرا مصطلح "إرهابي" عند الحديث عن حماس، ظهر انقسام لغوي جديد حول استخدام مصطلح "الإبادة الجماعية". ففي 28 سبتمبر/أيلول الماضي، صرَّح ميلانشون في مدينة مند بأن الإبادة الجماعية مستمرة في غزة، مما أثار الجدل من جديد حول الموقف من العملية العسكرية الإسرائيلية. حين توسَّعت الحرب إلى لبنان العام الماضي، ظهرت ساحة جديدة للخلافات المكتومة بين شتى أطياف اليسار. وبينما اتفق الاشتراكيون وفرنسا الأبية على إدانة الغارات الإسرائيلية على لبنان، حرص الحزب الاشتراكي أيضا على إدانة صواريخ حزب الله على شمال إسرائيل، وهو ما لم يفعله ميلانشون الذي اكتفى بالقول إن حزب الله هو أحد مكونات الشعب اللبناني. وردَّت حينها النائبة الاشتراكية لورانس روسينول بقولها: "ما فعله ميلانشون مع حماس، يفعله الآن مع حزب الله. إننا في الحزب الاشتراكي نعلم أن هناك مشكلة". في الأخير، ثمَّة تباين واضح بين اليسار التقليدي واليسار الراديكالي في فرنسا، ويبدو أن قضية غزة قد ساعدت على فرز الطرفيْن وأنصارهما في الشارع الفرنسي، كما فعلت في انتخابات الصيف الماضي، وهو فرز سيُسهِم لا شك على المدى البعيد في رسم توازنات الساحة السياسية الفرنسية، التي تبدو مُقبلة من بعد ماكرون على تقلُّبات سياسة جادة، من اليمين المتطرف واليسار الراديكالي على حدٍّ سواء.