
منتصر الحمد: كيف نعيد تموضع اللغة العربية كفاعل ثقافي عالمي؟
والدكتور منتصر الحمد هو أكاديمي وباحث، ولد في 12 يوليو/تموز 1971، ويقيم حاليا في الدوحة، ويشغل منصب أستاذ مشارك في تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها بجامعة قطر ، ويعد خبيرا دوليا معتمدا في هذا المجال، حيث تعاون مع عدد من الجهات الكبرى كجامعة اليرموك، وشبكة الجزيرة الإعلامية، والمجلس الثقافي البريطاني.
يحمل الدكتور منتصر درجة الدكتوراه في اللغات السامية المقارنة، ودرجة الماجستير في النقوش والكتابات القديمة، إلى جانب دبلوم عال في التربية والممارسة الأكاديمية، وبكالوريوس في اللغة العربية وآدابها. وقد مثل اللغة العربية في محافل علمية وإعلامية دولية، وشارك بصفته محاضرا وخبيرا في مؤتمرات وندوات متخصصة داخل العالم العربي وخارجه.
كما يتميز بإسهاماته الثقافية والإبداعية، منها ابتكار شخصيات تعليمية كرتونية (يوسف وياسمين)، والمشاركة في تأسيس مهرجان إدنبرة العربي، ومشروع "ألف اختراع واختراع" العالمي. إلى جانب نشاطه البحثي، يعرف الدكتور منتصر بقدرته على الربط بين الأصالة اللغوية والتجديد المعرفي، ساعيا إلى تقديم رؤية نقدية متجذرة في الثقافة العربية تجاه قضايا التعليم والاستشراق والاستعمار اللغوي.
ولقد الدكتور إلى أن العرب -من الجاحظ إلى ابن خلدون- قد صاغوا مصطلحاتهم ومفاهيمهم الخاصة، مثل "المستعرب" و"اللكنة" و"العجمة"، من رؤية داخلية نابعة من فهم ذاتي، لا من انبهار خارجي أو تقليد أعمى.
ودعا الحمد في رؤيته إلى ضرورة توطين العلوم، لا باعتبارنا مستهلكين لمفاهيم الآخر، بل بوصفنا فاعلين ثقافيين نمتلك رصيدا غنيا يمكن إعادة بعثه وتقديمه بقوالب جديدة. وقد كان لافتا في طرحه مقاربته النقدية لمصطلحات مثل "اللغة الأم" و"اللغة الثانية"، التي نشأت -كما قال- في سياقات استعمارية ترى في غيرها موضوعا لا فاعلا، مؤكدا أن هناك اليوم في الغرب ذاته جهودا لتفكيك هذا الإرث عبر مبحث "تفكيك الاستعمار في تعليم اللغات" (De-colonization of Language Teaching).
تحاور "الجزيرة نت" الدكتور منتصر الحمد عن مشاركته بالمؤتمر، ومداخلاته النقدية في صلب علاقة الذات بالآخر، والمركز بالهامش، والاستشراق بوعي الذات الثقافية، مناقشا الاستشراق بزاوية جديدة تنطلق من اللسان العربي، وتفتح أسئلة حقيقية حول القدرة على إعادة تعريف علاقتنا بأنفسنا وبالعالم. فإلى الحوار:
جاء مؤتمر الاستشراق في الدوحة -كما تفضلت الوزيرة لولوة الخاطر- بمبادرة ورؤية من سعادتها، وذلك بعد زيارة قامت بها إلى روسيا الاتحادية قبل عدة سنوات. وقد تزامن ذلك مع اهتمام متزايد داخل المؤسسات الأكاديمية في دولة قطر ، وعلى رأسها جامعة قطر ، بموضوع "الاستغراب" (أي دراسة الغرب من منظور شرقي).
ارتأت سعادة الوزيرة، وكانت آنذاك تعمل في السلك الدبلوماسي بوزارة الخارجية، أن دراسة الاستشراق من منظور عربي، وبمساهمة فكرية ومعرفية من الإنسان العربي، تمثل خطوة مهمة في إعادة صياغة وتفكيك الرؤية الاستشراقية السائدة في المؤسسات الأكاديمية الغربية، وهي الرؤية التي شابتها حمولات سلبية في كثير من الأحيان.
ومع مرور الزمن، وخصوصا بعد الإصدار الشهير للراحل إدوارد سعيد لكتابه "الاستشراق"، الذي قدم فيه الاستشراق بوصفه خطابا ملازما للاستعمار، ظهرت الحاجة إلى إعادة النظر في هذا المفهوم وتفكيكه، وقراءته قراءة أكثر اتزانا. وقد حاول إدوارد سعيد نفسه لاحقا، في كتابه "الثقافة والإمبريالية"، أن يوضح أنه لم يكن يقصد أن يتحول موضوع الاستشراق إلى هذا البعد الأحادي، أو أن تحصر المناقشة في زوايا معينة لم يكن يرغب في تسويقها منذ البداية.
من هنا، نشأ مؤتمر الاستشراق في الدوحة ليقدم رؤية عربية مستقلة -ليست منعزلة عن الآخر بل منفتحة عليه- تسعى إلى مساهمة العرب أنفسهم في رسم ملامح حقل الاستشراق، لا كمجال معرفي مغلق، بل كحقل معرفي عام، بيني، عابر للتخصصات.
من هنا، نشأ مؤتمر الاستشراق في الدوحة ليقدم رؤية عربية مستقلة -ليست منعزلة عن الآخر بل منفتحة عليه- تسعى إلى مساهمة العرب أنفسهم في رسم ملامح حقل الاستشراق، لا كمجال معرفي مغلق، بل كحقل معرفي عام، بيني، عابر للتخصصات.
فالاستشراق لا يعد تخصصا بمنهجية واحدة، بل يشمل دراسات اجتماعية لغوية تاريخية وأنثروبولوجية، وله مناهجه الخاصة التي يحتكم إليها، والتي تبنى على أساسها النتائج العلمية الرصينة. ومن ثم، لا ينبغي أن نسطح مفهوم الاستشراق أو نختزله على أنه مجرد فرع معرفي محدود، بل يجب فهمه ضمن سياق تعدد المناهج والتخصصات التي يتقاطع معها.
كيف تسهم دراسات ما بعد الاستعمار ومؤتمر الاستشراق في الدوحة في تجاوز النظرة التقليدية للاستشراق وبناء علاقة أكثر ندية وتفاعلا بين الشرق والغرب؟
إعلان
ما يعرف بالاستشراق الجديد أو بدراسات ما بعد الاستعمار -إن اتفقنا أصلا على أننا نعيش الآن في "حقبة ما بعد الاستعمار"- يعكس تحولا مهما في النظرة إلى العلاقة بين الشرق والغرب. قد نكون قد تحللنا من الاستعمار بصورته التقليدية، لكني لا أود استخدام المصطلح الذي أطلقه المفكر علي شريعتي حين غير حرف العين إلى حاء في الكلمة.
بل أود الإشارة إلى أن هذا "الاستعمار الجديد" أو "دراسات ما بعد الاستعمار" حاولت أن تنأى بنفسها عن الحمولات السلبية التي ارتبطت بمفهوم الاستشراق التقليدي.
لقد ارتبط الاستشراق، في صورته الكلاسيكية، بالمؤسسة الأكاديمية الغربية، التي كانت، في كثير من الأحيان، متشابكة مع مشاريع استعمارية، سواء من حيث التمويل أو الأهداف. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المستشرق أو الباحث نفسه قد لا يكون واعيا بدوره في هذه المنظومة، فقد يكون مجرد ترس صغير في آلة ضخمة، لا يدرك بالضرورة الأجندة الكاملة التي تتحرك بها هذه المؤسسة. وقد يرى البعض طرحي هذا نوعا من التبسيط أو السذاجة، لكنه يعبر عن واقع مركب.
ارتبط الاستشراق، في صورته الكلاسيكية، بالمؤسسة الأكاديمية الغربية، التي كانت، في كثير من الأحيان، متشابكة مع مشاريع استعمارية، سواء من حيث التمويل أو الأهداف. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المستشرق أو الباحث نفسه قد لا يكون واعيا بدوره في هذه المنظومة، فقد يكون مجرد ترس صغير في آلة ضخمة، لا يدرك بالضرورة الأجندة الكاملة التي تتحرك بها هذه المؤسسة. وقد يرى البعض طرحي هذا نوعا من التبسيط أو السذاجة، لكنه يعبر عن واقع مركب.
دراسات ما بعد الاستعمار سعت إلى مراجعة هذا التراث، فبدأ كثير من الجامعات والمؤسسات الأكاديمية في تغيير خطابها ومصطلحاتها، بل تخلى عدد كبير من الباحثين عن وصف "مستشرق" لما يحمله من دلالات سلبية. وبدلا من ذلك، ظهرت تسميات بديلة مثل "مستعرب"، أو تغييرات في أسماء التخصصات، كما نرى في انتقال بعض الجامعات من تسمية Oriental Studies (الدراسات الشرقية) إلى Middle Eastern Studies (دراسات الشرق الأوسط)، أو Gulf Studies (دراسات الخليج)، كما هو الحال في جامعة إكستر البريطانية، وغيرها من المؤسسات التي اختارت توصيفات أكثر حيادية أو دقة.
لكن، في الجوهر، لا تزال هذه الدراسات تدور حول الموضوعات نفسها: الدين، الثقافة، اللهجات، المجتمعات الشرقية، والعوامل المؤثرة فيها. الفارق يكمن في السؤال التالي: هل تدرس هذه الموضوعات باعتبارها مجرد "مواضيع للدراسة"؟ أم باعتبارها "فاعلة ثقافيا" ومؤثرة في الفضاء الحضاري العالمي؟
إذا انطلقنا من الفرضية الثانية، نكون قد تحررنا من الإطار الضيق للاستشراق، وانتقلنا من منطق "الصدام الحضاري" إلى منطق "التعايش الحضاري"، بل إلى "التعاون الحضاري" الذي يعد درجة أرقى، إذ إن التعايش قد ينطوي على قدر من السلبية أو التحييد، بينما التعاون يعني الندية والفاعلية المتبادلة.
وهنا يتولد سؤال جوهري: كم من مؤسساتنا الأكاديمية العربية تهتم اليوم بالدراسات المناطقية أو بدراسة "الغرب" كفاعل حضاري مؤثر في واقعنا العربي؟ وكم من الباحثين العرب يدرسون المجتمعات الغربية أو، على نحو أدق، يدرسون "الآخر الصهيوني" الذي يمارس علينا اليوم حرب إبادة؟ كم من الدارسين العرب يعكفون على دراسة تاريخ هذا الآخر، وأفكاره، وخلفياته الفكرية والفلسفية؟ إذا لم نكن على وعي بهذه المنطلقات التي يشكل بها الآخر رؤيته لنا، ويقولبنا بها، فلن نتمكن من مواجهته أو التفاعل معه بفعالية.
من مؤسساتنا الأكاديمية العربية تهتم اليوم بالدراسات المناطقية أو بدراسة "الغرب" كفاعل حضاري مؤثر في واقعنا العربي؟ وكم من الباحثين العرب يدرسون المجتمعات الغربية أو، على نحو أدق، يدرسون "الآخر الصهيوني" الذي يمارس علينا اليوم حرب إبادة؟ كم من الدارسين العرب يعكفون على دراسة تاريخ هذا الآخر، وأفكاره، وخلفياته الفكرية والفلسفية؟ إذا لم نكن على وعي بهذه المنطلقات التي يشكل بها الآخر رؤيته لنا، ويقولبنا بها، فلن نتمكن من مواجهته أو التفاعل معه بفعالية
من هنا جاءت مبادرة الأستاذة لولوة الخاطر، حين كانت تعمل في وزارة الخارجية، من إدراكها العميق لدور الدبلوماسي في فهم الآخر، والانفتاح عليه، والتعامل معه. فالذي يعمل مع الآخر، كما كانت تفعل هي في محافل العالم المختلفة، لا بد أن يفهم كيف يفكر هذا الآخر، وكيف يعيد إنتاج مفاهيمه ومواقفه، من أجل بناء جسور التعاون على المستويات الإنسانية والسياسية والاقتصادية وغيرها.
هذه الرؤية هي ما نأمل أن نكون جزءا منه في مؤتمر الاستشراق بالدوحة. نحن لا نقيم هذا المؤتمر رفضا للباحثين الغربيين الذين يدرسوننا كـ "آخر"، بل ندعوهم إلى فضاءات أكاديمية عربية، نتحاور فيها بانفتاح، ونناقش كل الأفكار، سواء راقت لنا أم لم ترق. وما لا يروق لنا ينبغي أن نرد عليه بمنهج علمي رصين، لا بردود انفعالية أو اتهامية.
لا وجود لما يسمى "شيطنة" في عالم المعرفة، بل ينبغي أن يكون خطابنا قائما على المنهج، وأن نصل إلى نتائج مدروسة عبر أدوات علمية دقيقة.
لا وجود لما يسمى "شيطنة" في عالم المعرفة، بل ينبغي أن يكون خطابنا قائما على المنهج، وأن نصل إلى نتائج مدروسة عبر أدوات علمية دقيقة.
هل لديكم نية للتوسع في موضوع "الاستغراب"؟ وما أهمية دراسته في السياق العربي المعاصر؟ وكيف تسهم في إعادة تشكيل الوعي الذاتي والعلاقة مع الآخر الغربي؟
بالطبع، أتمنى لو كنت قادرا على الإجابة عن هذا السؤال من جوانبه التخطيطية والإستراتيجية، لأقول: نعم، هناك خطط واضحة ومحددة للتوسع في هذا المجال. ولكن، ما يمكنني الحديث عنه الآن هو الأمنيات والطموحات.
بصفتنا أكاديميين، لا يمكن أن نتجاهل أن بعض الأكاديميين العرب، أو ربما كثيرا منهم -وخصوصا في الحقول الإنسانية- أصبحوا اليوم، بشكل أو بآخر، جزءا من ما يمكن تسميته بـ "الاستشراق الذاتي"، أي أنهم ينظرون إلى ذواتهم ومجتمعاتهم بعين الآخر الغربي، متأثرين برؤاه ومنطلقاته الفكرية والمعرفية.
ومن أجل التحرر من هذا التأثير، أو حتى من أجل بناء رؤية نقدية حقيقية للذات، لا بد أن ندرس الآخر أيضا، لا من باب التماهي، بل من باب المقارنة، ومن أجل استخدام الأدوات والمنهجيات العلمية التي استخدمها هو في دراستنا وتفكيك مجتمعاتنا، لنستخدمها بدورنا في دراسة مجتمعاته وتفكيك خطابه.
نحن بحاجة إلى دراسة "الآخر" الغربي، ليس فقط لأغراض البحث الأكاديمي، بل لنقدم نتائج هذه الدراسات لأصحاب الرؤية في مجتمعاتنا: من دبلوماسيين وساسة وتجار وأدباء ونقاد وصناع سينما وغيرهم، فهؤلاء يحتاجون إلى صورة حقيقية وواعية عن هذا الآخر، لكي يعرفوا كيف يتعاملون معه، لا أن يترك له المجال ليقدم نفسه كما يشاء، ويشكل صورته كما يريد، مستخدما في ذلك أدوات القوة الناعمة، بمختلف أشكالها، ليؤثر فينا ويشكل وعينا الجمعي.
لقد وقعنا، في كثير من الأحيان، فريسة لهذه القوة الناعمة الغربية، التي لم تكتف بتقديم صورة الآخر عن نفسه، بل قدمت "نحن" أيضا لمجتمعاتنا، بالشكل الذي يخدم سرديته ومنظومته القيمية.
لقد وقعنا، في كثير من الأحيان، فريسة لهذه القوة الناعمة الغربية، التي لم تكتف بتقديم صورة الآخر عن نفسه، بل قدمت "نحن" أيضا لمجتمعاتنا، بالشكل الذي يخدم سرديته ومنظومته القيمية.
لذلك، من الضروري أن تعي الجامعات العربية أهمية هذه الدراسات، لا سيما تلك التي تتناول "الاستغراب"، أي دراسة الغرب بوصفه موضوعا للبحث والفهم، وليس فقط كمرجعية أو نموذج.
وأنا لا أوافق أولئك الذين يقولون إن دراسات الاستشراق أو الاستغراب أصبحت جزءا من الماضي. نعم، ربما تكون بعض صيغها التقليدية قد انتهت أو تجاوزها الزمن، لكن دراسة الآخر ستظل دائما ذات أهمية متجددة، لأنها تمثل جسرا لفهم الذات والواقع، كما تمثل أداة للتفاعل مع الآخر، سواء من أجل التعاون أو التعايش، أو حتى الصدام إن كان لا بد منه.
الآخر ليس كائنا بعيدا أو هامشيا، بل هو حاضر معنا في مختلف مستويات الحياة: من الفرد إلى الأسرة إلى المجتمع إلى الدولة إلى العلاقات الدولية وغيرها. هناك "آخر" دائما في المشهد، ولهذا يجب أن نفهمه، وأن نحسن التعامل معه، علميا وثقافيا وسياسيا.
لا أدعي أن لدي منظورا جديدا كليا، ولكن ما يمكنني تأكيده هو أن علماء العرب، عندما بدؤوا التفكير بهذا الحقل، وعندما تشكلت لديهم الرؤية تجاه "الآخر" الراغب في تعلم لغتهم وثقافتهم، أسسوا لذلك من منطلق عربي خالص. فمنذ الجاحظ وصولا إلى ابن خلدون، بدأت تتبلور معالم هذا الاهتمام، حيث استخدمت مصطلحات ذات خلفية معرفية عربية، عكست نظرتهم إلى المتعلم الأجنبي، وإلى المادة التعليمية، والتحديات اللغوية التي تواجهه.
لا أدعي أن لدي منظورا جديدا كليا في تدريس اللغة العربية ، ولكن ما يمكنني تأكيده هو أن علماء العرب، عندما بدؤوا التفكير بهذا الحقل، وعندما تشكلت لديهم الرؤية تجاه "الآخر" الراغب في تعلم لغتهم وثقافتهم، أسسوا لذلك من منطلق عربي خالص. فمنذ الجاحظ وصولا إلى ابن خلدون، بدأت تتبلور معالم هذا الاهتمام، حيث استخدمت مصطلحات ذات خلفية معرفية عربية، عكست نظرتهم إلى المتعلم الأجنبي، وإلى المادة التعليمية، والتحديات اللغوية التي تواجهه.
لقد تحدثوا عن "المستعرب" و"الأعجمي" و"اللكنة"، وغيرها من المصطلحات التي وردت في كتبهم، وتناولوا هذه القضايا بتفصيل واهتمام. وليس خافيا أن من بين أهم من أسهموا في تعليم اللغة العربية وعلومها، لم يكونوا من أصل عربي، بل أعاجم في الأصل، كسيبويه، الذي يعد أبرز مثال… فكيف استطاع رجل أعجمي أن يضع كتابا مؤسسا في قواعد اللغة العربية؟ ما يهمني هنا ليس منهجيته فحسب، بل قدراته اللغوية الفائقة التي مكنته من ذلك.
كذلك الأمر بالنسبة لابن جني (أو كما ينطقه بعضهم "ابن جوني")، الذي كان من المولدين، إذ كان والده روميا، لكنه ألف كتاب "الخصائص"، وهو من أعظم المؤلفات في فلسفة اللغة. وغيرهما من المولدين الذين أسهموا في بناء تراثنا اللغوي والمعرفي.
نحن بحاجة إلى العودة إلى هذه المصطلحات والمنهجيات، لا لنكون أسرى لما يريده الآخر من مصطلحات أو تعبيرات قد يرى أنها أكثر "لطافة" أو "قبولا". فمثلا، البعض يتحسس من مصطلح "أعجمي"، ويظنه تحقيرا، كما التبس الأمر لدى البعض خلال حرب الخليج حين شبه بـ "العلوج". لكن "الأعجمي" في اللغة العربية لا يعني السباب، بل هو توصيف لغوي، يطلق على من في لسانه عجمة، أي صعوبة في النطق بالعربية، حتى لو كان عربي الأصل.
بل إن أبناءنا الذين ينشؤون في الغرب، إذا نشؤوا ولسانهم لا يجيد العربية أو فيه عجمة، فهم يعدون أعاجم، رغم نسبهم العربي. فالقرآن الكريم بين أن الأمر متعلق باللسان: (وهذا لسان عربي مبين)، ولم يقل: "وهذا نسب عربي".
أبناءنا الذين ينشؤون في الغرب، إذا نشؤوا ولسانهم لا يجيد العربية أو فيه عجمة، فهم يعدون أعاجم، رغم نسبهم العربي. فالقرآن الكريم بين أن الأمر متعلق باللسان: (وهذا لسان عربي مبين)، ولم يقل: "وهذا نسب عربي".
من هنا، فإن توطين المعرفة والمصطلحات والانطلاق من رؤيتنا الذاتية ليس فقط مسألة لغوية، بل هو احترام لذواتنا ولخصوصيتنا الثقافية، باعتبارنا فاعلين لا مجرد متلقين أو مترجمين لمفاهيم الآخر. فبعض المصطلحات التي نروج لها اليوم أصلا نشأت في بيئات استعمارية كانت تنظر إلينا كمفعول به ثقافي، لا كفاعل. ولذلك نجد تعبيرات مثل "اللغة الأم"، و"اللغة الوراثية"، و"لغة الأجداد"، و"لغة أجنبية"، و"اللغة الثانية"، محملة برؤية خارجية.
إذن تدعوا لتفكيك الاستعمار أو إزالة المنظور الاستشراقي عن تعليم اللغة العربية؟
حتى الغرب اليوم بدأ يراجع هذه المفاهيم، وهناك دراسات تعنى بما يسمى ب "تفكيك الاستعمار في تعليم اللغات" (Decolonization of Language Teaching)، وهي تحاول التخلص من المصطلحات والمفاهيم التي نشأت في ظل المنظومة الاستعمارية.
ما أطالب به ليس بالضرورة استحداث مصطلحات جديدة، بل العودة إلى ما لدينا، نزيل عنه الغبار، ونعيد تقديمه بقوالب جديدة ومعاصرة، تراعي السياقات الحديثة من دون التفريط بالهوية والموروث.
ما أطالب به ليس بالضرورة استحداث مصطلحات جديدة، بل العودة إلى ما لدينا، نزيل عنه الغبار، ونعيد تقديمه بقوالب جديدة ومعاصرة، تراعي السياقات الحديثة من دون التفريط بالهوية والموروث.
كما أن هذه التناولات الغربية – رغم أهميتها – لا يمكننا تبنيها كما هي، لأن لكل لغة خصائصها. فما يصح في تعليم لغة معينة قد لا يصح في تعليم العربية. ليس لأن اللغة العربية "أفضل"، ولكن لأنها تملك ميزات خاصة، كما لكل لغة ميزاتها.
لذلك، فإن تعليم اللغة العربية للأعاجم لا بد أن يتم من خلال مقاربات خاصة بها، تراعي هذه الخصائص، وتنطلق من رؤية نابعة من داخلنا، لا من تصورات مفروضة من خارجنا.
والأعاجم ليسوا فئة واحدة، بل هم فئات متعددة ومتباينة. فمثلا: الأعاجم الأتراك يختلفون عن الأعاجم الفرس، وهؤلاء يختلفون بدورهم عن الأعاجم من الولايات المتحدة أو أوروبا الغربية.
الأتراك نشترك معهم في بعض المعجم اللغوي، ولكن لا نشترك معهم في الحرف الكتابي. كما نجد تقاطعا جزئيا في بعض عناصر الثقافة، ولكن لا يجمعنا بهم تركيب لغوي مشترك، فهم ينتمون إلى اللغات اللصقية.أما الفرس، فنشترك معهم في المعجم إلى حد ما، ونتقاطع معهم في استخدام الحرف (العربي)، لكننا لا نشترك معهم في التركيب اللغوي، إذ إن لغتهم تنتمي إلى العائلة الهندو-أوروبية.بينما الغربيون (كالناطقين بالإنجليزية أو الفرنسية) فقد نتلاقى معهم في جانب التركيب اللغوي أكثر من غيرهم، لكننا لا نلتقي معهم لا في المعجم ولا في الثقافة.
من هنا، فإن التعامل مع الفضاء العالمي بوصفه كتلة واحدة في مجال تعليم اللغة العربية ، وتقديم اللغة ذاتها بالطريقة ذاتها لكل الأعاجم، هو طرح غير دقيق. بل ينبغي لنا أن ندرس الشعوب المختلفة، وثقافاتها، وأنماط تفكيرها، لنقدم لغتنا وثقافتنا بأفضل الوسائل، وأنسب الطرائق، بما يراعي خصوصية كل فئة.
وهنا أطرح سؤالًا: نحن نحتفل باللغة العربية في مناسبات عدة – في اليوم العالمي للغة العربية الذي يصادف 18 ديسمبر، أو في اليوم العالمي للغة الأم في فبراير. ولكن، متى نحتفل بـ اليوم العالمي للغة الإنجليزية؟ لا يوجد. ومتى هو اليوم العالمي للغة الفرنسية؟ كذلك لا يوجد. فلماذا توجد أيام عالمية لبعض اللغات ولا توجد لغيرها؟ إن كان الغرض من تخصيص يوم عالمي للغة ما هو الاعتراف بها كلغة عالمية، فلماذا لا ينسحب هذا المبدأ على اللغات الأخرى؟.. أترك هذا السؤال مفتوحا للتأمل.
وأحب أن أسوق مثالا، عندما كنت طالبا في بريطانيا ، كان يضرب لدينا مثل طريف يتداول في فترة الأعياد. كانوا يقولون للناس بعد انقضاء مواسم الاحتفال "Dogs are not just for Christmas"، أي "الكلاب ليست فقط لفترة الأعياد"، والمقصود لا تأخذوا الكلاب للتنزه واللعب أثناء الأعياد ثم تهملوها بعد ذلك وتتركوها في البيوت.
وأنا أقول كذلك اللغة العربية ليست فقط لليوم العالمي للغة العربية. لا يصح أن ننزل اللغة من على الرف، ونحتفي بها، ونصفق لها، ونهتف ونزغرد، ثم ما إن ينتهي الاحتفال حتى نعيدها إلى الرف مرة أخرى! فاللغة العربية ليست زينة موسمية، بل ينبغي أن يكون الاحتفاء الحقيقي بها هو في توظيفها، قدر المستطاع، في كل مجالات حياتنا.
وأنا أقول كذلك اللغة العربية ليست فقط لليوم العالمي للغة العربية. لا يصح أن ننزل اللغة من على الرف، ونحتفي بها، ونصفق لها، ونهتف ونزغرد، ثم ما إن ينتهي الاحتفال حتى نعيدها إلى الرف مرة أخرى! فاللغة العربية ليست زينة موسمية، بل ينبغي أن يكون الاحتفاء الحقيقي بها هو في توظيفها، قدر المستطاع، في كل مجالات حياتنا.
أتذكر أستاذي في الجامعة، دخلت عليه ذات مرة وكنت أتحدث إليه بالعامية "المانكونية" (لهجة مانشستر)، فقال لي "Leave that rubbish outside my office"، أي "دع هذه القمامة خارج مكتبي"، وكان يقصد بذلك لهجة العامية. فقد كان يعتبر أن استخدام اللهجة في المكتب الأكاديمي فيه نقص في احترام المؤسسة الأكاديمية. مع أنني حين أزوره في بيته، أتحدث معه أحيانا بنفس تلك اللهجة، ويقبل ذلك، لكن في بيئة الجامعة كان له موقف واضح وحازم.
وهذا الموقف يلقي الضوء على مسألة بالغة الأهمية "الانضباط اللغوي داخل المؤسسة الأكاديمية"، كم من الأكاديميين اليوم في جامعاتنا ومؤسساتنا التعليمية يستخدمون العربية استخداما سليما؟ لن أقول الفصحى الفصيحة على إطلاقها، بل مجرد الالتزام بحد أدنى من الفصاحة والسلامة اللغوية في تدريسهم وكتاباتهم – كم منهم لا يلحن؟
هذه هي التحديات التي يجب أن نضعها في الحسبان عند حديثنا عن "الاحتفال باللغة العربية". فالاحتفاء الحقيقي يبدأ من الصف الأول الابتدائي، ولا ينبغي أن يتوقف حتى نكتب على شاهد القبر جملة سليمة باللغة العربية. هكذا فقط نكون قد وفينا هذه اللغة شيئا من حقها.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


الجزيرة
منذ 4 ساعات
- الجزيرة
9 قواعد ذكية للحفاظ على برودة المطبخ أثناء الصيف
في أشهر الصيف الحارة، يصبح المطبخ أحد أبرز مصادر تراكم الحرارة داخل المنزل، خاصة عند تشغيل الأفران والمواقد. هذا الإرهاق الحراري لا يقتصر تأثيره على من يكون في المطبخ فقط، بل يمتد تأثيره ليشمل ارتفاع درجة حرارة المنزل بأكمله، مما يدفع إلى زيادة الاعتماد على أجهزة التكييف وبالتالي ارتفاع فاتورة الكهرباء، ويؤثر سلبا على راحة جميع أفراد الأسرة. لذلك، نقدم مجموعة من القواعد الذكية والنصائح العملية التي تساعد على الحفاظ على برودة المطبخ وتقليل العبء الحراري خلال الأيام الصيفية. تعد ساعات الظهيرة ذروة ارتفاع درجات الحرارة، لذا يفضل جدولة الطهي في الصباح الباكر أو في وقت متأخر من المساء، حين يكون الجو أكثر اعتدالا. هذا التوقيت يحد من تراكم الحرارة داخل المطبخ، ويقلل الضغط على أجهزة التكييف، مما يساهم في الحفاظ على برودة المنزل وخفض استهلاك الطاقة. ويمكنك استغلال فترات الصباح لطهي الأطباق الأساسية مثل المعكرونة أو البروتينات، أو حتى خبز المخبوزات، لتكون الوجبات جاهزة لاحقا دون الحاجة لتسخين المطبخ مجددا. الاعتماد على الأجهزة الصغيرة مثل الميكروويف، المقلاة الهوائية، أو أواني الضغط الكهربائي يعتبر بديلا ممتازا للأفران التقليدية التي تطلق حرارة عالية. فهذه الأجهزة لا تسخن الغرفة مثل الأفران، كما أنها تطبخ الطعام أسرع وتستهلك طاقة أقل، مما يجعلها خيارا ذكيا وفعالا في الأوقات الحارة. اطبخ في الهواء الطلق عندما يكون ذلك ممكنا إذا كان لديك فناء خلفي أو شرفة أو سطح منزل، ففكر في إعداد الطعام بالخارج باستخدام شواية الفحم أو الغاز أو حتى موقد محمول. هذا يمنع تراكم الحرارة داخل المنزل ويوفر بيئة ممتعة للطهي، خصوصا أثناء الاجتماعات العائلية أو المناسبات الصيفية. حيث إن الطهي في الهواء الطلق هو أحد أفضل الطرق لتقليل الحرارة الداخلية، ولكن احرص على اختيار أماكن ظليلة ومواعيد مناسبة أثناء إعداد الطعام في الخارج؛ لتفادي ضربات الشمس. تعد مراوح الشفط من الأدوات الأساسية التي لا غنى عنها في المطبخ، حيث تعمل على سحب البخار والهواء الساخن الناتج عن الطهي إلى الخارج، فإن أنظمة التهوية المناسبة تسهم بشكل كبير في تقليل درجات الحرارة وتحسين جودة الهواء داخل المطبخ، خصوصا إذا كانت متصلة بمخرج هواء خارجي مباشر، مع التأكد من وجود مصدر هواء نقي داخل المطبخ لتعويض الهواء المسحوب وعمل تيار هواء لخلق بيئة مريحة جيدة التهوية. تشغيل مروحة طاولة صغيرة أو مروحة سقف مضبوطة على الدوران العكسي (عكس عقارب الساعة) يساهم في تحسين تدفق الهواء داخل المطبخ ودفع الهواء الساخن بعيدا عن منطقة الطهي، مما يمنح إحساسا واضحا بالبرودة حتى دون استخدام المكيف. ووفقا لوزارة الطاقة الأميركية، يمكن أن تجعل المراوح الغرفة تبدو أكثر برودة بمقدار 4 إلى 6 درجات فهرنهايت، مما يقلل الحاجة إلى خفض منظم الحرارة. كما أن مراوح الطاولة تعد خيارا منخفض التكلفة وفعالا عند استخدامها بشكل ذكي وإستراتيجي. تمنح النوافذ المكشوفة إضاءة طبيعية رائعة ولكنها للأسف تسمح بدخول كمية كبيرة من حرارة الشمس إلى المطبخ، مما يرفع من درجة حرارته بشكل كبير خاصة في ساعات الذروة. ولهذا ينصح بإغلاق الستائر أو استخدام ستائر معتمة أو عازلة للحرارة خلال فترة الظهيرة. إن كنت من محبي الاضاءة الطبيعية يمكنك تركيب أفلام عاكسة أو واقية من الحرارة على الزجاج لتقليل الإشعاع الشمسي. غير طريقة إعدادك للوجبات لتفادي توليد حرارة زائدة في المطبخ خلال الصيف، يفضل الابتعاد عن إعداد وجبات ساخنة معقدة يوميا، والاعتماد بدلا من ذلك على أطباق خفيفة لا تحتاج للطهي، مثل السلطات والسندويشات واللفائف والأطباق الباردة. كما يمكن تحضير وجبات متعددة في يوم واحد واستخدام الميكروويف أو المقلاة الهوائية لإعادة تسخينها سريعًا، مما يقلل من وقت الطهي والحرارة الناتجة. وإذا كان لا بد من استخدام الفرن أو الموقد، فاستغل الأمر بإعداد كميات كبيرة للاستفادة من بقايا الطعام لاحقا دون الحاجة لإعادة تشغيل أدوات الطهي مجددا. لتحسين كفاءة مطبخك وجعله أكثر برودة خلال فصل الصيف، يُفضل إعادة ترتيب الأجهزة الكهربائية قدر الإمكان. ضع الثلاجات والمجمدات في أماكن بعيدة عن أشعة الشمس المباشرة ومصادر الحرارة، واحرص على ترك مسافة بينها وبين الجدار الخلفي للسماح بتبديد الحرارة بكفاءة أعلى. أما الأجهزة التي تولد حرارة، مثل الفرن والمقلاة الهوائية، فمن الأفضل وضعها بالقرب من النوافذ أو الجدران الخارجية لتسريع تهوية الحرارة المتصاعدة. ولا تنسَ أن الأجهزة الصغيرة كالغلاية والمحمصة وآلة صنع القهوة تُسهم أيضًا في رفع حرارة المطبخ، لذا يُستحسن فصلها عن الكهرباء عند عدم استخدامها — فهذه الخطوة البسيطة تحدث فرقًا ملموسًا على المدى الطويل. تنظيف وصيانة فتحات التهوية والمكيفات إعلان تراكم الغبار والدهون في فلاتر المطبخ والمراوح يقلل من كفاءتها في طرد الحرارة. لذلك، يوصى بتنظيف هذه الفتحات بانتظام، بالإضافة إلى التحقق من أداء أجهزة التبريد وصيانتها لضمان أقصى كفاءة. الصيانة الدورية لأنظمة التهوية والمكيفات تحسن التبريد وتقلل استهلاك الكهرباء. للحفاظ على برودة المطبخ وكفاءته، ينصح بالاستثمار في أجهزة موفرة للطاقة، حيث تصدر حرارة أقل وتستهلك طاقة أقل. كما يفضل استخدام إضاءة ليد بدلا من المصابيح التقليدية التي تولد حرارة زائدة، إذ يوفر الليد إضاءة فعالة دون رفع حرارة الغرفة. ويمكن تعزيز الأجواء المنعشة بإضافة نباتات داخلية، إذ تساعد بعض الأنواع مثل السانسافيرا والسرخس على تبريد الهواء وامتصاص الرطوبة، ما يجعل المطبخ أكثر راحة وانتعاشا في الأيام الحارة. الطهي في الصيف لا ينبغي أن يكون مصدرا للانزعاج أو التوتر. من خلال اتباع هذه القواعد الذكية، يمكنك تقليل الحرارة في مطبخك ومنزلك. يكمن السر في استخدام الأجهزة المناسبة، وتغيير بعض العادات اليومية، والاعتماد على التهوية الذكية لتحقيق بيئة طهي مريحة وآمنة.


الجزيرة
منذ 4 أيام
- الجزيرة
40 عاما على إطلاقه.. ماذا تبقى من "نقد العقل العربي" للجابري؟
قبل 4 عقود، وبالتحديد في عام 1984، أطلق المفكر المغربي محمد عابد الجابري (1936-2010) مشروعا فكريا طموحا نابعا من هاجس التفكير في سبل تحقيق النهضة المنشودة في العالم العربي، وهو مشروع أثار نقاشا واسعا في الأوساط الأكاديمية وخارجها، لا يزال مفعوله قائما إلى الآن. وانطلق الجابري في ذلك الطرح الجريء من فرضية أن مشروع النهضة العربية، الذي بدأ في أواخر القرن الـ19، ظل متعثرا لأنه لم ينبن على نقد العقل، وتساءل في مفتتح المشروع: "هل يمكن بناء نهضة بعقل غير ناهض، عقل لم يقم بمراجعة شاملة لآلياته ومفاهيمه وتصوراته ورؤاه؟" ومنذ إطلاق المشروع، أصبح مصطلح "العقل العربي" دارج الاستعمال في أكثر من سياق، وتعدى المعنى الذي يقصده المؤلف، وهو "العقل الذي تكون وتشكل داخل الثقافة العربية، في الوقت ذاته الذي عمل هو نفسه على إنتاجها وإعادة إنتاجها". أما مهمة نقد العقل العربي، فإنها تتمثل -في نظر الكاتب- في استئناف النظر في معطيات الثقافة العربية الإسلامية بمختلف فروعها، وتحديدا في كيان العقل العربي من جهة، وفي آلياته من جهة أخرى. وبنى الجابري، وهو من مؤسسي الدرس الفلسفي في المغرب، ذلك المشروع الفكري على امتداد أكثر من 10 سنوات، وصدر في 4 أجزاء هي: "تكوين العقل العربي"، و**"بنية العقل العربي"، و"العقل السياسي العربي"، و"العقل الأخلاقي العربي"**. وبقدر ما قوبلت تصورات الجابري بترحيب واسع لدى القراء في العالم العربي، وأعيد طبع كتبه عدة مرات في أكثر من بلد عربي، فإنها أثارت سجالات واسعة في الأوساط الأكاديمية والثقافية، إذ انبرت أسماء فكرية كبيرة لمناقشة تلك الأطروحات، إما لدحضها، أو لرصد ما تعتبره "قصورا مفاهيميا أو تاريخيا". وكان المفكر السوري جورج طرابيشي (1939-2016) من أبرز من انتقدوا أفكار الجابري، وألف في هذا الصدد عدة كتب ضمن مشروع مضاد سماه "نقد نقد العقل العربي". كما دخل على الخط مفكرون وأكاديميون آخرون، من أبرزهم اللبناني علي حرب، والسوري طيب تيزيني، والمصري حسن حنفي. وعلى إيقاع الثورة الإعلامية، وخاصة البث التلفزيوني منذ تسعينيات القرن الماضي، اتسع صدى أطروحات الجابري جماهيريا، ولا تزال الكثير من مداخلاته وتحليلاته متداولة على المنصات الرقمية. وبعد هذه العقود الطويلة، بات من المشروع أن نتساءل عما تبقى من أفكار الجابري ورؤاه بشأن مآل النهضة وأدواتها، في سياق عربي ودولي تتنازعه أطراف وتكتلات متباينة المرجعيات الحضارية، وهاجسها المشترك هو البحث عن المزيد من النفوذ والسلطان. لمناقشة مدى راهنية "نقد العقل العربي" معرفيا وسياسيا، تواصلت الجزيرة نت مع وجوه فكرية وأكاديمية من المشرق والمغرب، إضافة إلى باحث أميركي متخصص في أعمال الجابري، لتسليط المزيد من الأضواء، في سياق جديد، على ما اقترحه الجابري من أفكار وفرضيات لاستئناف القول في سؤال النهضة المتعثرة. ومن بين المشاركين في هذا الملف، المفكر المغربي كمال عبد اللطيف، وهو أيضا من أعمدة الدرس الفلسفي بالمغرب، ومن المواكبين لمشروع الجابري. ويرى عبد اللطيف أن "استمرار حضوره (الجابري) رغم غيابه المادي، أثمر وما زال يثمر كثيرا من المعطيات التي يدركها جيدا الذين يؤمنون بدور الأفكار في التاريخ". وفيما يلي عرض لأهم ما جاء في مساهمات من تواصلت معهم الجزيرة نت. كمال عبد اللطيف.. مفكر مغربي لا تزال أعمال المفكر المغربي محمد عابد الجابري تخاطبنا، تشخص أعطاب تفكيرنا، وتحاور مآلاتنا، كما تدعونا -بحس سياسي مباشر- إلى مزيد من التسلح بالخيارات والمواقف التي تساعدنا على بلوغ ما نتطلع إليه من تقدم. ونستطيع اليوم بالذات، ونحن أمام آثاره الفكرية المتنوعة، أن نعلن أن ما وحد مساعيه الفكرية والسياسية هو رؤيته الخاصة للتنوير وأدواره في التاريخ، وهي رؤية تبلورت في أغلب أعماله، بانية عقلانية نقدية مماثلة في روحها العامة لخيارات فلسفة الأنوار، مع محاولة في تكييف هذه العقلانية مع جملة من المعطيات التاريخية، المختلفة عن سياقات وشروط أنوار القرن الـ18 في أوروبا. كان الجابري يعي جيدا الأدوار التي لعبتها فلسفة الأنوار في الأزمنة الحديثة، كما كان يعي ضرورة إعادة بناء روحها في العمل والنظر، وبشكل يكافئ مقتضيات التغلب على أنماط التفكير السائدة في مجتمعنا. ولهذا السبب بالذات، تسلح بالنقد الأنواري، متوخيا محاصرة أشكال الهيمنة التي تمارسها القراءات المحافظة والجامدة لموروثنا الثقافي، بهدف تركيب قراءة نقدية لمنتوج العقل العربي، تؤهلنا لكسر قيود الماضي والانفتاح على مكاسب عالم جديد. ساهمت الأعمال الفكرية التي أنتجها محمد عابد الجابري في بناء مجموعة من المواقف والاقتناعات الفكرية والتاريخية، في موضوع قراءة التراث العربي الإسلامي، والتفكير في مشروع النهضة العربية، وكذا في إشكالات الوضع السياسي المغربي. وقد تميزت هذه الأعمال بقدرتها الكبيرة على تحقيق نوع من الانخراط المنفعل والفاعل في فضاء الفكر المغربي والفكر العربي المعاصر. وإذا كنا نؤمن بأن آثار الرجل، المتمثلة أساسا في مشروعه في نقد العقل العربي، تمتلك بعض مقومات الحضور في معارك الراهن العربي السياسية والفكرية، فإننا نتصور أن استمرار حضوره، رغم غيابه المادي، أثمر وما زال يثمر كثيرا من المعطيات التي يدركها جيدا الذين يؤمنون بدور الأفكار في التاريخ. نفترض أن قوة الأثر التي تحملها أعماله، تأتي من كونها تعكس صورة من صور انخراطه في جدل تاريخي هم -ويهم- الحاضر العربي، ويتعلق الأمر بكيفيات مقاربته لأسئلة الموقف من التراث ومن الماضي. فقد اهتم الجابري طيلة 4 عقود من الزمن بأسئلة التراث، وذلك في ضوء عنايته بأسئلة النهضة والتقدم في العالم العربي. ولم تكن عنايته بالموروث الثقافي العربي تندرج ضمن خطة في البحث التاريخي الموضوعي والمحايد، بحكم أن هذه المقاربة -في تصوره- لا تعد أمرا ممكنا، فنحن لا نستطيع -في نظره- استعادة الموروث الثقافي في الحاضر بمحتوى الماضي. محمد الأشهب.. أستاذ جامعي مغربي أرى أن المشروع النقدي لمحمد عابد الجابري لا يزال يضم العديد من الآليات المنهجية التي استثمرها في قراءته للتراث، والتي يمكن توظيفها لمواصلة التفكير الفلسفي النقدي اليوم، بمنطق النقد المزدوج. فالفلسفة بالنسبة للجابري لم تكن ترفا فكريا، بل كانت أداة للمقاومة: مقاومة الاستبداد أولا، وتفكيك البنى الفكرية التي تدعمه، ثم مقاومة الفكر الاستعماري الذي يعد السبب الرئيسي لكثير من المآسي التي عاشتها الشعوب المستعمرة في أفريقيا والعالم العربي وأميركا اللاتينية. لذا، لا يستغرب أن نجد تلقيا لمشروعه في أميركا اللاتينية، كما هو الحال مع الفيلسوف الأرجنتيني إنريكه دوسيل وآخرين، الذين استفادوا من فلسفة الجابري في نقد المركزية الأوروبية، بهدف نزع الطابع الاستعماري عن العقل. ومن وجهة نظري، يمكن قراءة مشروع "نقد العقل العربي" بجميع أجزائه ضمن هذا الإطار الأوسع، أي مشروع "نزع الاستعمار عن العقل والمعرفة" عموما. وهو مشروع بدأه الجابري في كتاباته المبكرة عن الخطاب التربوي في المغرب، وتناوله لقضايا الهوية وحقوق الإنسان، وقراءته النقدية للتراث، إضافة إلى نقده لـ"ورثة الاستعمار" في الفضاء الثقافي المغربي والمغاربي والعربي والأفريقي. وفي ظل التكالب المستمر للإمبريالية العالمية على ما يسمى بـ"الجنوب العالمي"، يظل المشروع النقدي للجابري يحتفظ براهنيته، خاصة بعد أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول، حيث سقطت أقنعة التحالف الغربي الصهيوني المتواطئ في الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، متجاهلا كل القيم التي ادعى الدفاع عنها، مثل حقوق الإنسان واحترام القانون الدولي. هذا الوضع المتردي الذي تعيشه المنطقة العربية، والظلم الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني (وهو موضوع أساسي في فكر الجابري السياسي)، يجعل من عمله النقدي -الهادف إلى مناهضة كل أشكال الاستبداد والظلم- مصدرا مهما يمكن الاستفادة منه اليوم، دون التعامل معه كمصدر للحقيقة المطلقة. كما أن دور الجابري في الفضاء العمومي المغربي والعربي، ليس كمنتج للمعرفة الفلسفية فحسب، بل كمثقف عمومي منخرط في الشأن السياسي والثقافي، انطلاقا من قناعته بـ"ممارسة السياسة بالثقافة"، يدعونا إلى العودة إلى إرثه الغني، سواء في سلسلة "مواقف" (التي تضم نحو 80 كتيبا)، أو في مئات المقالات والحوارات التي نشرها. هذا الإرث يجسد نموذج "الفيلسوف العمومي" الذي أصبح نادرا في زمن سيولة الثقافة وسيطرة "ثقافة التفاهة". هذا البعد العملي في فلسفته، وتدخلاته النقدية في الفضاء العام، كان دائما يوجهه هاجس تحقيق الديمقراطية، التي كان يرى أنها تبدأ بـ"طلب الحق في الكلمة". زهية جويرو.. أستاذة جامعية تونسية لقد خفتت كثيرا الحركية التي أحدثتها رباعية "نقد العقل العربي" زمن صدورها، مما يدل على أن القارئ العربي كان متعطشا لمشروع جديد يقطع مع الخطاب التراثي المؤدلج المعاد تدويره، من أجل فرض الأيديولوجيا السلفية من جهة، ومع خطابات تقتصر في دراسة التراث على قضاياه ومضامينه، بعيدا عن النظر في أنظمة الفكر التي أنتجته وتحكمت فيه. ويشار إلى أن هذه الحركية أثارت اهتماما واسعا، خاصة في الأوساط الأكاديمية، وانخرطت فيها الصحافة، مما كان جديرا بأن يطور الفكر العربي. لكن المآخذ الهيكلية التي اكتشفها القراء، المختصون أساسا، في مشروع الجابري، إضافة إلى عوامل أخرى، أسهمت في تبديد تلك الحركية وذلك الاهتمام. ومن بين هذه العوامل "قصر نفس" القارئ العربي وقلة جديته. وحتى المختصون في الموضوع والناشرون في مجال نقد العقل، يظهرون وكأن كل واحد منهم يفكر ويكتب من قارة منعزلة تماما عن الآخر، لذلك يظل الفكر العربي المعاصر يدور في حلقة مفرغة. أما في حال وجود "تفاعل" ما، فهو سلبي انتقادي لا يؤسس لتراكم معرفي نوعي كفيل بتحقيق التحولات في الفكر والمعرفة. يضاف إلى ذلك عامل آخر، هو انفتاح الإمكانيات التواصلية التقنية، إذ احتلت "وسائل التواصل الاجتماعي" ساحة الفكر، فخفتت الأصوات الجادة أو عادت إلى قواعد "الأكاديمية" لتحتمي بها، وانقطعت دونها السبل نحو إحداث الحركية الفكرية المنشودة في مجال الوعي العام. بالنسبة لراهنية "نقد العقل العربي" سياسيا ومعرفيا، أعتقد أنه يصعب الحديث عن شقها السياسي، إذا كان المقصود بذلك موقع هذا المشروع وأضرابه في الحقل السياسي، فشؤون الفكر والمعرفة والوعي لم تكن يوما داخلة في مجال تداول السياسيين العرب عامة، إلا باعتبارها موضوعا "للتدجين"، وليس موضوعا للتفكير والتعقل والتطوير. أما الراهنية المعرفية، فمؤكدة؛ فاليوم وغدا يحتاج الفكر العربي المعاصر حقا إلى أن يفكر في نفسه، وفيما ينتج من خطابات حتى يعي نقائصه واختلالاته، وإلى أن يؤسس لمشروع فلسفي يعي خصوصيات سياقاته بكل أبعادها، ويأخذها بعين الاعتبار فيما يفكر فيه وينتجه، وينخرط في الجهد الذي يبذله فلاسفة ومفكرو الجنوب العالمي من أجل تحرير المعرفة من كل أشكال الهيمنة الاستعمارية والاستلاب الذاتي. زياد حافظ.. الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي يحتل المفكر محمد عابد الجابري مكانة مميزة بين الأعلام الفكرية العربية في العصر الحديث، حيث إن مؤلفاته ساهمت في تعميق الوعي بدور التراث الفكري العربي والإسلامي في تفسير حالة العرب والمسلمين. ومما لا شك فيه أن مؤلفاته الموسوعية أصبحت مرجعا فكريا لمن يريد أن يقارب المشهد الفكري العربي، لا سيما في ثنائيات الحداثة والأصالة، والعقلانية والغيبية، والتراث والعصرنة، وهي ثنائيات عمت الفضاء الفكري العربي بعد الحرب العالمية الثانية كمحاولات لتفسير التراجع. وجاء المشروع الذي أطلقه محمد عابد الجابري لتفكيك العقل العربي كمحاولة للإجابة على سؤال مفصلي: لماذا تأخر العرب بعدما كانوا هم من أنتج المعرفة ونقلوها إلى الغرب؟ لقد أدرك الجابري أهمية العقل معرفيا وسياسيا، وترجمها في دعوته لإيجاد الكتلة التاريخية بالمغرب في مواجهة التحديات الخارجية الاستعمارية والتغريبية. ويسجل لمؤسسة محمد عابد الجابري، التي تأسست بعد وفاته، التقاط تلك الدعوة وإطلاقها مجددا كضرورة في مواجهة حملات التطبيع التي تفرض على الدول العربية. فتحالف مختلف المكونات السياسية والاجتماعية في الوطن العربي هو انعكاس لتلازم العقل مع الإيمان، وتجاوز التباينات الفكرية المصطنعة الوافدة من التوريد الغربي، والتي ساهمت في تعميم ثقافة التجزئة. فالتراجع العربي هو من نتائج التجزئة، والتجزئة من منتوج الاستعمار، ونجاح الأخير في تعميق ثقافة الهزيمة ناتج عن الانشطار بين العقل والإيمان، أو بين الحداثة والتراث. نايلة أبي نادر.. أستاذة جامعية لبنانية رسم الجابري إطارا معرفيا مختلفا في البحث عن أسباب الركود في الفكر العربي، وحاول أن يتوقف في مشروع "نقد العقل العربي" عند الأسباب التي حالت دون تطور "أدوات المعرفة" كالمفاهيم، والمناهج، والرؤية داخل الثقافة العربية. وأصر على الكشف عن أسباب عدم تحقق نهضة فكرية وعلمية في العالم العربي، كما حصل في أوروبا. لذا كان طرحه لمسألة التأخر على الصعيد الإبستمولوجي يشكل الإطار الصحيح للبحث، بالنسبة إليه، من خلال التوجه المباشر إلى العقل العربي، الذي بدأ بالتقاعس إلى أن تخلى عن دوره. من هنا جاء اهتمام الجابري بتكوين العقل العربي وبآلية اشتغاله، وحاول التمييز بين العقل والفكر عن طريق التمييز بين العقل المكون والعقل المكون، مفضلا التركيز على الأداة التي تنتج الأفكار أكثر من الأفكار نفسها. وأشار إلى أن هناك تداخلا بين العقل كأداة تنتج الأفكار، وبين مجموع هذه الأفكار التي يتضمنها العقل، لافتا الانتباه إلى أن هذا التداخل مخفي وراء عملية المزج الحاصلة بين الفكر والأيديولوجيا. كما يرى أن الفكر هو نتيجة للتفاعل مع المحيط الاجتماعي والثقافي الذي يتعامل معه، أي أن للمحيط الاجتماعي الثقافي دورا في عملية تكوين خصوصية الفكر. لذا أكد الجابري على تاريخية العقل، لأنه مرتبط بالثقافة التي يعمل داخلها، رافضا إضفاء أي صبغة أخلاقية عليه، وركز على "النظرة العلمية المعاصرة للعقل"، من دون أن يجعل منها الحقيقة المطلقة. جوردان كاينز.. باحث أميركي متخصص في أعمال الجابري أنظر إلى مشروع المفكر المغربي محمد عابد الجابري "نقد العقل العربي" (وخاصة الجزأين الأول والثاني) من زاوية تربوية. وعلى غرار العمل الضخم للمؤرخ الإنجليزي إدوارد جيبون (1737-1794) حول سقوط روما، بعنوان "تاريخ تراجع وسقوط الإمبراطورية الرومانية"، يعد مشروع الجابري عملا موسوعيا مبنيا على أطروحة بسيطة نسبيا، إذ يروي قصة صعود وسقوط العقل البرهاني في العالم الإسلامي. ويركز الجابري في الجزء الأول (تكوين العقل العربي) على ضرورة تصحيح مفهوم "الزمن الثقافي" العربي. وبالنسبة لي، فإنه من الواضح أن هذه القصة انبثقت من مشروعه التربوي الهادف إلى تقديم توجه ثقافي وتاريخي جديد للطلاب المغاربة من خلال النظام التعليمي في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. ورغم أن استخدامه الإجرائي للتاريخ تعرض للنقد، لا بد من الاعتراف بأن مفهوم "الزمن الثقافي" لطالما لعب دورا في التعليم الغربي، حيث يوجه الطلاب نحو قصة التقدم الحديث غير المقيد: عصور يونانية ورومانية مجيدة، تلتها عصور الظلام، ثم عودة ظافرة للعقل في عصر النهضة. وإلى جانب وظيفته التوجيهية، يقدم نقد الجابري التاريخي بيانا جريئا حول الحاضر، فهو بمثابة تحذير من مخاطر الجمع بين ادعاءات المعرفة الباطنية والسياسة. يكتب التاريخ دائما من الحاضر، ويعكس نقد الجابري للعقل العربي بالفعل هموم عصره. ومع ذلك، فإن مشروعه الأساسي، الذي يدعو إلى قراءات جديدة للتاريخ في ضوء التحديات الراهنة، لا يزال وثيق الصلة بالواقع.


الجزيرة
منذ 5 أيام
- الجزيرة
منتصر الحمد: كيف نعيد تموضع اللغة العربية كفاعل ثقافي عالمي؟
يعد الدكتور منتصر فايز فارس الحمد، الأكاديمي والباحث في اللغات السامية والكتابات القديمة، أحد أبرز الخبراء الدوليين في تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها. وقد جاء حضوره في سياق " مؤتمر الاستشراق – الدوحة" ليمنح بعدا حيا وناقدا لمفهوم "الآخر" كما تشكل في الوعي العربي، لا سيما في مجال اللغة، وكيف تعامل العرب الأوائل مع الأعجمي، ليس من منطلق مركزيتهم، بل من منطلق مسؤوليتهم الثقافية. والدكتور منتصر الحمد هو أكاديمي وباحث، ولد في 12 يوليو/تموز 1971، ويقيم حاليا في الدوحة، ويشغل منصب أستاذ مشارك في تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها بجامعة قطر ، ويعد خبيرا دوليا معتمدا في هذا المجال، حيث تعاون مع عدد من الجهات الكبرى كجامعة اليرموك، وشبكة الجزيرة الإعلامية، والمجلس الثقافي البريطاني. يحمل الدكتور منتصر درجة الدكتوراه في اللغات السامية المقارنة، ودرجة الماجستير في النقوش والكتابات القديمة، إلى جانب دبلوم عال في التربية والممارسة الأكاديمية، وبكالوريوس في اللغة العربية وآدابها. وقد مثل اللغة العربية في محافل علمية وإعلامية دولية، وشارك بصفته محاضرا وخبيرا في مؤتمرات وندوات متخصصة داخل العالم العربي وخارجه. كما يتميز بإسهاماته الثقافية والإبداعية، منها ابتكار شخصيات تعليمية كرتونية (يوسف وياسمين)، والمشاركة في تأسيس مهرجان إدنبرة العربي، ومشروع "ألف اختراع واختراع" العالمي. إلى جانب نشاطه البحثي، يعرف الدكتور منتصر بقدرته على الربط بين الأصالة اللغوية والتجديد المعرفي، ساعيا إلى تقديم رؤية نقدية متجذرة في الثقافة العربية تجاه قضايا التعليم والاستشراق والاستعمار اللغوي. ولقد الدكتور إلى أن العرب -من الجاحظ إلى ابن خلدون- قد صاغوا مصطلحاتهم ومفاهيمهم الخاصة، مثل "المستعرب" و"اللكنة" و"العجمة"، من رؤية داخلية نابعة من فهم ذاتي، لا من انبهار خارجي أو تقليد أعمى. ودعا الحمد في رؤيته إلى ضرورة توطين العلوم، لا باعتبارنا مستهلكين لمفاهيم الآخر، بل بوصفنا فاعلين ثقافيين نمتلك رصيدا غنيا يمكن إعادة بعثه وتقديمه بقوالب جديدة. وقد كان لافتا في طرحه مقاربته النقدية لمصطلحات مثل "اللغة الأم" و"اللغة الثانية"، التي نشأت -كما قال- في سياقات استعمارية ترى في غيرها موضوعا لا فاعلا، مؤكدا أن هناك اليوم في الغرب ذاته جهودا لتفكيك هذا الإرث عبر مبحث "تفكيك الاستعمار في تعليم اللغات" (De-colonization of Language Teaching). تحاور "الجزيرة نت" الدكتور منتصر الحمد عن مشاركته بالمؤتمر، ومداخلاته النقدية في صلب علاقة الذات بالآخر، والمركز بالهامش، والاستشراق بوعي الذات الثقافية، مناقشا الاستشراق بزاوية جديدة تنطلق من اللسان العربي، وتفتح أسئلة حقيقية حول القدرة على إعادة تعريف علاقتنا بأنفسنا وبالعالم. فإلى الحوار: جاء مؤتمر الاستشراق في الدوحة -كما تفضلت الوزيرة لولوة الخاطر- بمبادرة ورؤية من سعادتها، وذلك بعد زيارة قامت بها إلى روسيا الاتحادية قبل عدة سنوات. وقد تزامن ذلك مع اهتمام متزايد داخل المؤسسات الأكاديمية في دولة قطر ، وعلى رأسها جامعة قطر ، بموضوع "الاستغراب" (أي دراسة الغرب من منظور شرقي). ارتأت سعادة الوزيرة، وكانت آنذاك تعمل في السلك الدبلوماسي بوزارة الخارجية، أن دراسة الاستشراق من منظور عربي، وبمساهمة فكرية ومعرفية من الإنسان العربي، تمثل خطوة مهمة في إعادة صياغة وتفكيك الرؤية الاستشراقية السائدة في المؤسسات الأكاديمية الغربية، وهي الرؤية التي شابتها حمولات سلبية في كثير من الأحيان. ومع مرور الزمن، وخصوصا بعد الإصدار الشهير للراحل إدوارد سعيد لكتابه "الاستشراق"، الذي قدم فيه الاستشراق بوصفه خطابا ملازما للاستعمار، ظهرت الحاجة إلى إعادة النظر في هذا المفهوم وتفكيكه، وقراءته قراءة أكثر اتزانا. وقد حاول إدوارد سعيد نفسه لاحقا، في كتابه "الثقافة والإمبريالية"، أن يوضح أنه لم يكن يقصد أن يتحول موضوع الاستشراق إلى هذا البعد الأحادي، أو أن تحصر المناقشة في زوايا معينة لم يكن يرغب في تسويقها منذ البداية. من هنا، نشأ مؤتمر الاستشراق في الدوحة ليقدم رؤية عربية مستقلة -ليست منعزلة عن الآخر بل منفتحة عليه- تسعى إلى مساهمة العرب أنفسهم في رسم ملامح حقل الاستشراق، لا كمجال معرفي مغلق، بل كحقل معرفي عام، بيني، عابر للتخصصات. من هنا، نشأ مؤتمر الاستشراق في الدوحة ليقدم رؤية عربية مستقلة -ليست منعزلة عن الآخر بل منفتحة عليه- تسعى إلى مساهمة العرب أنفسهم في رسم ملامح حقل الاستشراق، لا كمجال معرفي مغلق، بل كحقل معرفي عام، بيني، عابر للتخصصات. فالاستشراق لا يعد تخصصا بمنهجية واحدة، بل يشمل دراسات اجتماعية لغوية تاريخية وأنثروبولوجية، وله مناهجه الخاصة التي يحتكم إليها، والتي تبنى على أساسها النتائج العلمية الرصينة. ومن ثم، لا ينبغي أن نسطح مفهوم الاستشراق أو نختزله على أنه مجرد فرع معرفي محدود، بل يجب فهمه ضمن سياق تعدد المناهج والتخصصات التي يتقاطع معها. كيف تسهم دراسات ما بعد الاستعمار ومؤتمر الاستشراق في الدوحة في تجاوز النظرة التقليدية للاستشراق وبناء علاقة أكثر ندية وتفاعلا بين الشرق والغرب؟ إعلان ما يعرف بالاستشراق الجديد أو بدراسات ما بعد الاستعمار -إن اتفقنا أصلا على أننا نعيش الآن في "حقبة ما بعد الاستعمار"- يعكس تحولا مهما في النظرة إلى العلاقة بين الشرق والغرب. قد نكون قد تحللنا من الاستعمار بصورته التقليدية، لكني لا أود استخدام المصطلح الذي أطلقه المفكر علي شريعتي حين غير حرف العين إلى حاء في الكلمة. بل أود الإشارة إلى أن هذا "الاستعمار الجديد" أو "دراسات ما بعد الاستعمار" حاولت أن تنأى بنفسها عن الحمولات السلبية التي ارتبطت بمفهوم الاستشراق التقليدي. لقد ارتبط الاستشراق، في صورته الكلاسيكية، بالمؤسسة الأكاديمية الغربية، التي كانت، في كثير من الأحيان، متشابكة مع مشاريع استعمارية، سواء من حيث التمويل أو الأهداف. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المستشرق أو الباحث نفسه قد لا يكون واعيا بدوره في هذه المنظومة، فقد يكون مجرد ترس صغير في آلة ضخمة، لا يدرك بالضرورة الأجندة الكاملة التي تتحرك بها هذه المؤسسة. وقد يرى البعض طرحي هذا نوعا من التبسيط أو السذاجة، لكنه يعبر عن واقع مركب. ارتبط الاستشراق، في صورته الكلاسيكية، بالمؤسسة الأكاديمية الغربية، التي كانت، في كثير من الأحيان، متشابكة مع مشاريع استعمارية، سواء من حيث التمويل أو الأهداف. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المستشرق أو الباحث نفسه قد لا يكون واعيا بدوره في هذه المنظومة، فقد يكون مجرد ترس صغير في آلة ضخمة، لا يدرك بالضرورة الأجندة الكاملة التي تتحرك بها هذه المؤسسة. وقد يرى البعض طرحي هذا نوعا من التبسيط أو السذاجة، لكنه يعبر عن واقع مركب. دراسات ما بعد الاستعمار سعت إلى مراجعة هذا التراث، فبدأ كثير من الجامعات والمؤسسات الأكاديمية في تغيير خطابها ومصطلحاتها، بل تخلى عدد كبير من الباحثين عن وصف "مستشرق" لما يحمله من دلالات سلبية. وبدلا من ذلك، ظهرت تسميات بديلة مثل "مستعرب"، أو تغييرات في أسماء التخصصات، كما نرى في انتقال بعض الجامعات من تسمية Oriental Studies (الدراسات الشرقية) إلى Middle Eastern Studies (دراسات الشرق الأوسط)، أو Gulf Studies (دراسات الخليج)، كما هو الحال في جامعة إكستر البريطانية، وغيرها من المؤسسات التي اختارت توصيفات أكثر حيادية أو دقة. لكن، في الجوهر، لا تزال هذه الدراسات تدور حول الموضوعات نفسها: الدين، الثقافة، اللهجات، المجتمعات الشرقية، والعوامل المؤثرة فيها. الفارق يكمن في السؤال التالي: هل تدرس هذه الموضوعات باعتبارها مجرد "مواضيع للدراسة"؟ أم باعتبارها "فاعلة ثقافيا" ومؤثرة في الفضاء الحضاري العالمي؟ إذا انطلقنا من الفرضية الثانية، نكون قد تحررنا من الإطار الضيق للاستشراق، وانتقلنا من منطق "الصدام الحضاري" إلى منطق "التعايش الحضاري"، بل إلى "التعاون الحضاري" الذي يعد درجة أرقى، إذ إن التعايش قد ينطوي على قدر من السلبية أو التحييد، بينما التعاون يعني الندية والفاعلية المتبادلة. وهنا يتولد سؤال جوهري: كم من مؤسساتنا الأكاديمية العربية تهتم اليوم بالدراسات المناطقية أو بدراسة "الغرب" كفاعل حضاري مؤثر في واقعنا العربي؟ وكم من الباحثين العرب يدرسون المجتمعات الغربية أو، على نحو أدق، يدرسون "الآخر الصهيوني" الذي يمارس علينا اليوم حرب إبادة؟ كم من الدارسين العرب يعكفون على دراسة تاريخ هذا الآخر، وأفكاره، وخلفياته الفكرية والفلسفية؟ إذا لم نكن على وعي بهذه المنطلقات التي يشكل بها الآخر رؤيته لنا، ويقولبنا بها، فلن نتمكن من مواجهته أو التفاعل معه بفعالية. من مؤسساتنا الأكاديمية العربية تهتم اليوم بالدراسات المناطقية أو بدراسة "الغرب" كفاعل حضاري مؤثر في واقعنا العربي؟ وكم من الباحثين العرب يدرسون المجتمعات الغربية أو، على نحو أدق، يدرسون "الآخر الصهيوني" الذي يمارس علينا اليوم حرب إبادة؟ كم من الدارسين العرب يعكفون على دراسة تاريخ هذا الآخر، وأفكاره، وخلفياته الفكرية والفلسفية؟ إذا لم نكن على وعي بهذه المنطلقات التي يشكل بها الآخر رؤيته لنا، ويقولبنا بها، فلن نتمكن من مواجهته أو التفاعل معه بفعالية من هنا جاءت مبادرة الأستاذة لولوة الخاطر، حين كانت تعمل في وزارة الخارجية، من إدراكها العميق لدور الدبلوماسي في فهم الآخر، والانفتاح عليه، والتعامل معه. فالذي يعمل مع الآخر، كما كانت تفعل هي في محافل العالم المختلفة، لا بد أن يفهم كيف يفكر هذا الآخر، وكيف يعيد إنتاج مفاهيمه ومواقفه، من أجل بناء جسور التعاون على المستويات الإنسانية والسياسية والاقتصادية وغيرها. هذه الرؤية هي ما نأمل أن نكون جزءا منه في مؤتمر الاستشراق بالدوحة. نحن لا نقيم هذا المؤتمر رفضا للباحثين الغربيين الذين يدرسوننا كـ "آخر"، بل ندعوهم إلى فضاءات أكاديمية عربية، نتحاور فيها بانفتاح، ونناقش كل الأفكار، سواء راقت لنا أم لم ترق. وما لا يروق لنا ينبغي أن نرد عليه بمنهج علمي رصين، لا بردود انفعالية أو اتهامية. لا وجود لما يسمى "شيطنة" في عالم المعرفة، بل ينبغي أن يكون خطابنا قائما على المنهج، وأن نصل إلى نتائج مدروسة عبر أدوات علمية دقيقة. لا وجود لما يسمى "شيطنة" في عالم المعرفة، بل ينبغي أن يكون خطابنا قائما على المنهج، وأن نصل إلى نتائج مدروسة عبر أدوات علمية دقيقة. هل لديكم نية للتوسع في موضوع "الاستغراب"؟ وما أهمية دراسته في السياق العربي المعاصر؟ وكيف تسهم في إعادة تشكيل الوعي الذاتي والعلاقة مع الآخر الغربي؟ بالطبع، أتمنى لو كنت قادرا على الإجابة عن هذا السؤال من جوانبه التخطيطية والإستراتيجية، لأقول: نعم، هناك خطط واضحة ومحددة للتوسع في هذا المجال. ولكن، ما يمكنني الحديث عنه الآن هو الأمنيات والطموحات. بصفتنا أكاديميين، لا يمكن أن نتجاهل أن بعض الأكاديميين العرب، أو ربما كثيرا منهم -وخصوصا في الحقول الإنسانية- أصبحوا اليوم، بشكل أو بآخر، جزءا من ما يمكن تسميته بـ "الاستشراق الذاتي"، أي أنهم ينظرون إلى ذواتهم ومجتمعاتهم بعين الآخر الغربي، متأثرين برؤاه ومنطلقاته الفكرية والمعرفية. ومن أجل التحرر من هذا التأثير، أو حتى من أجل بناء رؤية نقدية حقيقية للذات، لا بد أن ندرس الآخر أيضا، لا من باب التماهي، بل من باب المقارنة، ومن أجل استخدام الأدوات والمنهجيات العلمية التي استخدمها هو في دراستنا وتفكيك مجتمعاتنا، لنستخدمها بدورنا في دراسة مجتمعاته وتفكيك خطابه. نحن بحاجة إلى دراسة "الآخر" الغربي، ليس فقط لأغراض البحث الأكاديمي، بل لنقدم نتائج هذه الدراسات لأصحاب الرؤية في مجتمعاتنا: من دبلوماسيين وساسة وتجار وأدباء ونقاد وصناع سينما وغيرهم، فهؤلاء يحتاجون إلى صورة حقيقية وواعية عن هذا الآخر، لكي يعرفوا كيف يتعاملون معه، لا أن يترك له المجال ليقدم نفسه كما يشاء، ويشكل صورته كما يريد، مستخدما في ذلك أدوات القوة الناعمة، بمختلف أشكالها، ليؤثر فينا ويشكل وعينا الجمعي. لقد وقعنا، في كثير من الأحيان، فريسة لهذه القوة الناعمة الغربية، التي لم تكتف بتقديم صورة الآخر عن نفسه، بل قدمت "نحن" أيضا لمجتمعاتنا، بالشكل الذي يخدم سرديته ومنظومته القيمية. لقد وقعنا، في كثير من الأحيان، فريسة لهذه القوة الناعمة الغربية، التي لم تكتف بتقديم صورة الآخر عن نفسه، بل قدمت "نحن" أيضا لمجتمعاتنا، بالشكل الذي يخدم سرديته ومنظومته القيمية. لذلك، من الضروري أن تعي الجامعات العربية أهمية هذه الدراسات، لا سيما تلك التي تتناول "الاستغراب"، أي دراسة الغرب بوصفه موضوعا للبحث والفهم، وليس فقط كمرجعية أو نموذج. وأنا لا أوافق أولئك الذين يقولون إن دراسات الاستشراق أو الاستغراب أصبحت جزءا من الماضي. نعم، ربما تكون بعض صيغها التقليدية قد انتهت أو تجاوزها الزمن، لكن دراسة الآخر ستظل دائما ذات أهمية متجددة، لأنها تمثل جسرا لفهم الذات والواقع، كما تمثل أداة للتفاعل مع الآخر، سواء من أجل التعاون أو التعايش، أو حتى الصدام إن كان لا بد منه. الآخر ليس كائنا بعيدا أو هامشيا، بل هو حاضر معنا في مختلف مستويات الحياة: من الفرد إلى الأسرة إلى المجتمع إلى الدولة إلى العلاقات الدولية وغيرها. هناك "آخر" دائما في المشهد، ولهذا يجب أن نفهمه، وأن نحسن التعامل معه، علميا وثقافيا وسياسيا. لا أدعي أن لدي منظورا جديدا كليا، ولكن ما يمكنني تأكيده هو أن علماء العرب، عندما بدؤوا التفكير بهذا الحقل، وعندما تشكلت لديهم الرؤية تجاه "الآخر" الراغب في تعلم لغتهم وثقافتهم، أسسوا لذلك من منطلق عربي خالص. فمنذ الجاحظ وصولا إلى ابن خلدون، بدأت تتبلور معالم هذا الاهتمام، حيث استخدمت مصطلحات ذات خلفية معرفية عربية، عكست نظرتهم إلى المتعلم الأجنبي، وإلى المادة التعليمية، والتحديات اللغوية التي تواجهه. لا أدعي أن لدي منظورا جديدا كليا في تدريس اللغة العربية ، ولكن ما يمكنني تأكيده هو أن علماء العرب، عندما بدؤوا التفكير بهذا الحقل، وعندما تشكلت لديهم الرؤية تجاه "الآخر" الراغب في تعلم لغتهم وثقافتهم، أسسوا لذلك من منطلق عربي خالص. فمنذ الجاحظ وصولا إلى ابن خلدون، بدأت تتبلور معالم هذا الاهتمام، حيث استخدمت مصطلحات ذات خلفية معرفية عربية، عكست نظرتهم إلى المتعلم الأجنبي، وإلى المادة التعليمية، والتحديات اللغوية التي تواجهه. لقد تحدثوا عن "المستعرب" و"الأعجمي" و"اللكنة"، وغيرها من المصطلحات التي وردت في كتبهم، وتناولوا هذه القضايا بتفصيل واهتمام. وليس خافيا أن من بين أهم من أسهموا في تعليم اللغة العربية وعلومها، لم يكونوا من أصل عربي، بل أعاجم في الأصل، كسيبويه، الذي يعد أبرز مثال… فكيف استطاع رجل أعجمي أن يضع كتابا مؤسسا في قواعد اللغة العربية؟ ما يهمني هنا ليس منهجيته فحسب، بل قدراته اللغوية الفائقة التي مكنته من ذلك. كذلك الأمر بالنسبة لابن جني (أو كما ينطقه بعضهم "ابن جوني")، الذي كان من المولدين، إذ كان والده روميا، لكنه ألف كتاب "الخصائص"، وهو من أعظم المؤلفات في فلسفة اللغة. وغيرهما من المولدين الذين أسهموا في بناء تراثنا اللغوي والمعرفي. نحن بحاجة إلى العودة إلى هذه المصطلحات والمنهجيات، لا لنكون أسرى لما يريده الآخر من مصطلحات أو تعبيرات قد يرى أنها أكثر "لطافة" أو "قبولا". فمثلا، البعض يتحسس من مصطلح "أعجمي"، ويظنه تحقيرا، كما التبس الأمر لدى البعض خلال حرب الخليج حين شبه بـ "العلوج". لكن "الأعجمي" في اللغة العربية لا يعني السباب، بل هو توصيف لغوي، يطلق على من في لسانه عجمة، أي صعوبة في النطق بالعربية، حتى لو كان عربي الأصل. بل إن أبناءنا الذين ينشؤون في الغرب، إذا نشؤوا ولسانهم لا يجيد العربية أو فيه عجمة، فهم يعدون أعاجم، رغم نسبهم العربي. فالقرآن الكريم بين أن الأمر متعلق باللسان: (وهذا لسان عربي مبين)، ولم يقل: "وهذا نسب عربي". أبناءنا الذين ينشؤون في الغرب، إذا نشؤوا ولسانهم لا يجيد العربية أو فيه عجمة، فهم يعدون أعاجم، رغم نسبهم العربي. فالقرآن الكريم بين أن الأمر متعلق باللسان: (وهذا لسان عربي مبين)، ولم يقل: "وهذا نسب عربي". من هنا، فإن توطين المعرفة والمصطلحات والانطلاق من رؤيتنا الذاتية ليس فقط مسألة لغوية، بل هو احترام لذواتنا ولخصوصيتنا الثقافية، باعتبارنا فاعلين لا مجرد متلقين أو مترجمين لمفاهيم الآخر. فبعض المصطلحات التي نروج لها اليوم أصلا نشأت في بيئات استعمارية كانت تنظر إلينا كمفعول به ثقافي، لا كفاعل. ولذلك نجد تعبيرات مثل "اللغة الأم"، و"اللغة الوراثية"، و"لغة الأجداد"، و"لغة أجنبية"، و"اللغة الثانية"، محملة برؤية خارجية. إذن تدعوا لتفكيك الاستعمار أو إزالة المنظور الاستشراقي عن تعليم اللغة العربية؟ حتى الغرب اليوم بدأ يراجع هذه المفاهيم، وهناك دراسات تعنى بما يسمى ب "تفكيك الاستعمار في تعليم اللغات" (Decolonization of Language Teaching)، وهي تحاول التخلص من المصطلحات والمفاهيم التي نشأت في ظل المنظومة الاستعمارية. ما أطالب به ليس بالضرورة استحداث مصطلحات جديدة، بل العودة إلى ما لدينا، نزيل عنه الغبار، ونعيد تقديمه بقوالب جديدة ومعاصرة، تراعي السياقات الحديثة من دون التفريط بالهوية والموروث. ما أطالب به ليس بالضرورة استحداث مصطلحات جديدة، بل العودة إلى ما لدينا، نزيل عنه الغبار، ونعيد تقديمه بقوالب جديدة ومعاصرة، تراعي السياقات الحديثة من دون التفريط بالهوية والموروث. كما أن هذه التناولات الغربية – رغم أهميتها – لا يمكننا تبنيها كما هي، لأن لكل لغة خصائصها. فما يصح في تعليم لغة معينة قد لا يصح في تعليم العربية. ليس لأن اللغة العربية "أفضل"، ولكن لأنها تملك ميزات خاصة، كما لكل لغة ميزاتها. لذلك، فإن تعليم اللغة العربية للأعاجم لا بد أن يتم من خلال مقاربات خاصة بها، تراعي هذه الخصائص، وتنطلق من رؤية نابعة من داخلنا، لا من تصورات مفروضة من خارجنا. والأعاجم ليسوا فئة واحدة، بل هم فئات متعددة ومتباينة. فمثلا: الأعاجم الأتراك يختلفون عن الأعاجم الفرس، وهؤلاء يختلفون بدورهم عن الأعاجم من الولايات المتحدة أو أوروبا الغربية. الأتراك نشترك معهم في بعض المعجم اللغوي، ولكن لا نشترك معهم في الحرف الكتابي. كما نجد تقاطعا جزئيا في بعض عناصر الثقافة، ولكن لا يجمعنا بهم تركيب لغوي مشترك، فهم ينتمون إلى اللغات اللصقية.أما الفرس، فنشترك معهم في المعجم إلى حد ما، ونتقاطع معهم في استخدام الحرف (العربي)، لكننا لا نشترك معهم في التركيب اللغوي، إذ إن لغتهم تنتمي إلى العائلة الهندو-أوروبية.بينما الغربيون (كالناطقين بالإنجليزية أو الفرنسية) فقد نتلاقى معهم في جانب التركيب اللغوي أكثر من غيرهم، لكننا لا نلتقي معهم لا في المعجم ولا في الثقافة. من هنا، فإن التعامل مع الفضاء العالمي بوصفه كتلة واحدة في مجال تعليم اللغة العربية ، وتقديم اللغة ذاتها بالطريقة ذاتها لكل الأعاجم، هو طرح غير دقيق. بل ينبغي لنا أن ندرس الشعوب المختلفة، وثقافاتها، وأنماط تفكيرها، لنقدم لغتنا وثقافتنا بأفضل الوسائل، وأنسب الطرائق، بما يراعي خصوصية كل فئة. وهنا أطرح سؤالًا: نحن نحتفل باللغة العربية في مناسبات عدة – في اليوم العالمي للغة العربية الذي يصادف 18 ديسمبر، أو في اليوم العالمي للغة الأم في فبراير. ولكن، متى نحتفل بـ اليوم العالمي للغة الإنجليزية؟ لا يوجد. ومتى هو اليوم العالمي للغة الفرنسية؟ كذلك لا يوجد. فلماذا توجد أيام عالمية لبعض اللغات ولا توجد لغيرها؟ إن كان الغرض من تخصيص يوم عالمي للغة ما هو الاعتراف بها كلغة عالمية، فلماذا لا ينسحب هذا المبدأ على اللغات الأخرى؟.. أترك هذا السؤال مفتوحا للتأمل. وأحب أن أسوق مثالا، عندما كنت طالبا في بريطانيا ، كان يضرب لدينا مثل طريف يتداول في فترة الأعياد. كانوا يقولون للناس بعد انقضاء مواسم الاحتفال "Dogs are not just for Christmas"، أي "الكلاب ليست فقط لفترة الأعياد"، والمقصود لا تأخذوا الكلاب للتنزه واللعب أثناء الأعياد ثم تهملوها بعد ذلك وتتركوها في البيوت. وأنا أقول كذلك اللغة العربية ليست فقط لليوم العالمي للغة العربية. لا يصح أن ننزل اللغة من على الرف، ونحتفي بها، ونصفق لها، ونهتف ونزغرد، ثم ما إن ينتهي الاحتفال حتى نعيدها إلى الرف مرة أخرى! فاللغة العربية ليست زينة موسمية، بل ينبغي أن يكون الاحتفاء الحقيقي بها هو في توظيفها، قدر المستطاع، في كل مجالات حياتنا. وأنا أقول كذلك اللغة العربية ليست فقط لليوم العالمي للغة العربية. لا يصح أن ننزل اللغة من على الرف، ونحتفي بها، ونصفق لها، ونهتف ونزغرد، ثم ما إن ينتهي الاحتفال حتى نعيدها إلى الرف مرة أخرى! فاللغة العربية ليست زينة موسمية، بل ينبغي أن يكون الاحتفاء الحقيقي بها هو في توظيفها، قدر المستطاع، في كل مجالات حياتنا. أتذكر أستاذي في الجامعة، دخلت عليه ذات مرة وكنت أتحدث إليه بالعامية "المانكونية" (لهجة مانشستر)، فقال لي "Leave that rubbish outside my office"، أي "دع هذه القمامة خارج مكتبي"، وكان يقصد بذلك لهجة العامية. فقد كان يعتبر أن استخدام اللهجة في المكتب الأكاديمي فيه نقص في احترام المؤسسة الأكاديمية. مع أنني حين أزوره في بيته، أتحدث معه أحيانا بنفس تلك اللهجة، ويقبل ذلك، لكن في بيئة الجامعة كان له موقف واضح وحازم. وهذا الموقف يلقي الضوء على مسألة بالغة الأهمية "الانضباط اللغوي داخل المؤسسة الأكاديمية"، كم من الأكاديميين اليوم في جامعاتنا ومؤسساتنا التعليمية يستخدمون العربية استخداما سليما؟ لن أقول الفصحى الفصيحة على إطلاقها، بل مجرد الالتزام بحد أدنى من الفصاحة والسلامة اللغوية في تدريسهم وكتاباتهم – كم منهم لا يلحن؟ هذه هي التحديات التي يجب أن نضعها في الحسبان عند حديثنا عن "الاحتفال باللغة العربية". فالاحتفاء الحقيقي يبدأ من الصف الأول الابتدائي، ولا ينبغي أن يتوقف حتى نكتب على شاهد القبر جملة سليمة باللغة العربية. هكذا فقط نكون قد وفينا هذه اللغة شيئا من حقها.