logo
دراسة جديدة تفكك لغز تدمير تماثيل حتشبسوت بعد وفاتها

دراسة جديدة تفكك لغز تدمير تماثيل حتشبسوت بعد وفاتها

الرجلمنذ 3 أيام

كشفت دراسة أثرية جديدة أن تماثيل الملكة حتشبسوت، إحدى أبرز حاكمات مصر القديمة، لم تُحطم بدافع الانتقام أو الكراهية، كما هو شائع، بل كُسرت عمدًا لإعادة استخدامها في أعمال بناء لاحقة.
الدراسة، التي أعدّها الدكتور جون يي وونغ من جامعة تورنتو، ونُشرت في مجلة Antiquity، استندت إلى وثائق وصور وملاحظات ميدانية غير منشورة تعود لبعثات التنقيب في عشرينيات القرن الماضي بموقع الدير البحري في الأقصر.
تولت حتشبسوت الحكم خلال الأسرة الثامنة عشرة، وفرضت سلطتها كـ"فرعون" في فترة شهدت ازدهارًا سياسيًا وتجاريًا ومعماريًا واسعًا. وهي ابنة الملك تحتمس الأول، وزوجة غير شقيقة لتحتمس الثاني. وبعد وفاته، أصبحت وصية على ابنه الصغير تحتمس الثالث، ثم نصّبت نفسها فرعونًا مشاركًا.
ولتأكيد شرعيتها، غيّرت حتشبسوت اسمها إلى صيغة ذكورية، وارتدت اللباس التقليدي للفراعنة الذكور بما فيه اللحية الاصطناعية. وقد وصفتها الباحثة الأمريكية كارا كوني بأنها "المرأة الأقوى والأكثر نجاحًا في حكم العالم القديم."
إعادة بناء الوجه.. وتفكيك الأسطورة
خلال القرن العشرين، اعتُبرت حملة تدمير تماثيل حتشبسوت عملًا انتقاميًا نفذه تحتمس الثالث بهدف محو أثرها من الذاكرة الرسمية. لكن الدكتور وونغ يرى أن هذه الرواية بحاجة إلى مراجعة.
وبحسب الدراسة، فإن تحليل التماثيل المتضررة أظهر أنها كُسرت في نقاط ضعف محددة مثل العنق والخصر والركبتين، في ما يبدو تفكيكًا منهجيًا بغرض إعادة استخدامها في البناء، وليس تدميرًا عشوائيًا مدفوعًا بالغضب.
كما لُوحظ أن العديد من الوجوه بقيت سليمة تقريبًا، وهو ما يتنافى مع فكرة التشويه المتعمد. ويرى الباحث أن هذه الممارسة تُعرف باسم "إبطال القداسة"، وهي طقس جنائزي كان يهدف إلى نزع الهالة الرمزية عن تماثيل الحكام بعد وفاتهم، وليس بالضرورة دلالة على عداء شخصي.
ورغم أن الدراسة تؤكد أن دوافع إعادة استخدام التماثيل كانت في الغالب عملية أو رمزية، فإنها لا تستبعد تمامًا وجود حملة لتقليص نفوذ حتشبسوت الرمزي بعد وفاتها. فقد واجهت تحديًا فريدًا في مجتمع ذكوري، وحكمها المستقل – الذي دام قرابة 20 عامًا – ربما أثار حساسية سياسية في أوساط السلطة الذكورية لاحقًا.
تُوفيت حتشبسوت عام 1458 قبل الميلاد، ويُعتقد أنها توفيت جراء الإصابة بسرطان العظام. وقد عُثر على رفاتها في وادي الملوك عام 1930، لكن لم يتم التعرف عليها رسميًا إلا عام 2007، عبر تحليل الحمض النووي ومقارنة الأسنان بمومياء أخرى قريبة.
يُعد معبد حتشبسوت الجنائزي في الدير البحري من أبرز إنجازاتها المعمارية، ويقع بالقرب من معبدي منتوحتب الثاني وتحتمس الثالث، في مشهد بصري يعكس التنافس الرمزي بين السلالات.
اليوم، يُعد المعبد أفضل المعالم المعمارية حفظًا من تلك الحقبة، بينما تُعرض بعض تماثيل حتشبسوت، بما فيها تمثالها في هيئة "أبو الهول"، في متحف المتروبوليتان للفنون بنيويورك.

Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

مشروع مصري يوثّق الذاكرة الروحية لتراث المقامات في الإسكندرية
مشروع مصري يوثّق الذاكرة الروحية لتراث المقامات في الإسكندرية

الشرق الأوسط

timeمنذ 8 ساعات

  • الشرق الأوسط

مشروع مصري يوثّق الذاكرة الروحية لتراث المقامات في الإسكندرية

كنوزٌ روحية وتاريخية منسيّة في المنطقة التراثية القديمة ببحيرة مريوط، التي تُمثّل حالياً الحدود الجنوبية لمدينة الإسكندرية (شمال مصر)، يوثّقها مشروع بحثي مصري بعنوان «مقامات منطقة بحيرة مريوط»؛ تلك البحيرة التي كانت تمتدّ على مساحة قد تزيد على 200 كيلومتر مربع، وترتبط بنهر النيل، وإنما شهدت تقليصاً كبيراً في مساحتها مع مرور الزمن. المشروع، الذي يقوده «المركز الفرنسي للدراسات السكندرية»، بتنسيق من مهندس المساحة والخرائط ونظم المعلومات الجغرافية، الدكتور إسماعيل عوض، وبالتعاون مع المصوّرة الفوتوغرافية سمر بيومي، وبدعم من مؤسّسة «بركات تراست» البريطانية، يسعى إلى توثيق الأضرحة والمقامات التي تعود إلى القرن الـ14، والمهدَّدة بالاندثار، خصوصاً في المناطق الريفية. يعتمد المشروع، الذي انتهت مرحلته الأولى، على دراسة خرائطية مكثَّفة، بدءاً من خرائط الحملة الفرنسية عام 1801، وصولاً إلى صور الأقمار الاصطناعية الحديثة لعام 2024، إذ تمكّن الفريق البحثي من تتبُّع تطوُّر هذه المقامات وتحديد مواقعها عبر العصور. وكشفت الدراسة الخرائطية عن وجود 279 مقاماً في منطقة بحيرة مريوط، في حين تمكّن الفريق من زيارة 118 مقاماً وتوثيقها بصرياً. مقام سيدي صهيب بعزبة كوم التابعة لمدينة أبو حمص في محافظة البحيرة (تصوير: سمر بيومي) يقول المنسّق الدكتور إسماعيل عوض إنّ المشروع البحثي التوثيقي جاء مع تعرّض عشرات الأضرحة والمقامات في القاهرة للهدم قبل أشهر، ويضيف لـ«الشرق الأوسط» أنّ «المشروع يهدف إلى الإضاءة على هذه الكنوز المنسية المهدَّدة بالاندثار، وإبراز تأثيرها العميق في هوية منطقة بحيرة مريوط القديمة وسكانها، وتحديد ما يحتاج منها إلى الحماية والعناية والترميم، وزيادة الوعي بقيمة هذه المقامات بكونها جزءاً أصيلاً من التراث المعماري والأثري للمنطقة». ورغم أنَّ مقامات بحيرة مريوط قد لا تحظى بالأهمية عينها التي تنالها الأضرحة الكبرى في الإسكندرية أو القاهرة، فإنّ المشروع اكتشف تنوّعاً معمارياً وفنّياً لافتاً فيها، وهو ما يرتبط بالطبيعة الجغرافية للمنطقة الممتدَّة بين دلتا النيل الزراعية شرقاً والمنطقة الصحراوية غرباً. فالمقامات في الجزء الشرقي (محافظة البحيرة) تميل إلى الألوان الخضراء والزرقاء، وتشبه في طابعها المعماري المقامات المملوكية في المدن الكبرى، بينما تتّسم المقامات في المنطقة الغربية (مدينتا برج العرب والحمّام) بالطابع البدوي البسيط، وتغلب عليها الألوان البيضاء والصفراء. المفاجأة التي بيّنتها الدراسة، وفق عوض، تكمن في أنَّ ما بين 60 إلى 64 في المائة فقط من هذه المقامات لا تزال قائمة حتى اليوم، بينما اختفى الباقي أو تعرَّض للتدمير بفعل الإهمال أو التعدّيات أو حتى النسيان. وهناك نحو 40 مقاماً لا يزال مصيرها غير مؤكّد، خصوصاً تلك الواقعة في مناطق شهدت تحوّلات عمرانية جذرية، أو وسط تجمّعات سكنية، إذ كان كثير من تلك المقامات نواةً لنشوء عدد من القرى والمدن من حولها. ويُعدُّ مقام محمد المغازي في محافظة كفر الشيخ الأقدم الذي حدَّده المشروع حتى الآن، إذ يعود تاريخه إلى بدايات القرن الـ14. بينما الحالة الأغرب تتمثَّل في وجود 12 مقاماً تخصُّ عائلة سيدي عمر أبو لطيعة، تقع جميعها متجاورةً في موقع واحد بمحافظة البحيرة، وقد بُني كلّ واحد منها بأسلوب وتصميم مختلف، يعود أقدمها إلى عام 1918، وأُنشئ أحدثها في عام 1986. مقام سيدي بشر الحطابي بعزبة الستمائة التابعة لـ«حوش عيسى» في البحيرة (تصوير: سمر بيومي) يعلّق عوض: «هذا المشروع لا يوثّق مباني فحسب، وإنما يحاول إنقاذ ذاكرة جماعية غنية بالقصص والروحانيات؛ فكلّ مقام يحمل قصة خاصة بصاحبه». في المشروع، تظهر عدسة المصوّرة الفوتوغرافية سمر بيومي شاهدةً أساسيةً على هذا التراث الروحي والتاريخي، إذ تتمثَّل مَهمتها في التوثيق البصري والسمعي للمشروع. وتقول لـ«الشرق الأوسط»: «المقامات الريفية لم تكن مطروحة بقوة على الساحة، مما جعلني أشعر بأنني جزء من عمل مهم يوثّق مناطق لم تُستكشف من قبل»، لافتة إلى أنَّ التحدّي الأكبر تمثَّل في الوصول إلى مواقع المقامات النائية، سواء داخل الأراضي الزراعية أو تلك الموجودة على رؤوس التلال. تُركّز عدسة بيومي على التفاصيل المعمارية الدقيقة لكلّ مقام من الداخل والخارج، بما فيها ألوان الدهانات والنقوش والآيات القرآنية على الجدران، لتُظهر التباين بين مقام وآخر، مؤكّدة أنَّ كلّ لمسة لون أو تفصيلة في البناء تُقدّم لمحة عن تاريخ المقام، ما يُوفّر نظرة شاملة وعميقة لهذا التراث المنسي، وفق تعبيرها. كذلك شملت مَهمتها جمع «التاريخ الشفهي» للمقامات من خلال السكان المحلّيين، موضحةً أنّ «حكايات السكان المُسجّلة جزء لا يتجزّأ من المشروع، إذ وثّقنا روايات عن صاحب المقام وتاريخ بنائه وقصته، بما يُبقي على الذاكرة الحيّة لهذا التراث الفريد». هذه الروايات، إلى جانب عشرات الصور المأخوذة للمقامات، يضمّها معرض فنّي بعنوان «في حضرة المقام»، يحتضنه حالياً «المركز الفرنسي للدراسات السكندرية» بالإسكندرية. وتشير سمر بيومي إلى أنَّ المعرض ليس مجرّد عرض لصور فوتوغرافية تُبرز الاختلافات المعمارية بين المقامات، وإنما هو تجربة فنّية متعدّدة الوسائط، تضمّ مقاطع فيديو، وتسجيلات صوتية لقصص الأهالي، وكتابات تسرد حكايات هذه المقامات، ويهدف عرضها على هيئة عمل فني إلى إنعاش اهتمام الناس بهذا التراث.

الذكاء الاصطناعي… حين يكتب الشعر والمقال نيابة عن العقل
الذكاء الاصطناعي… حين يكتب الشعر والمقال نيابة عن العقل

عكاظ

timeمنذ يوم واحد

  • عكاظ

الذكاء الاصطناعي… حين يكتب الشعر والمقال نيابة عن العقل

في زمن التحولات الرقمية المتسارعة، لم ينج الحرف من يد الذكاء الاصطناعي، فامتدت خوارزمياته إلى حقول الشعر والمقال والرأي، لتتولى ما كان يوماً نتاجاً خالصاً للفكر والوجدان. اليوم نشهد ظاهرة متنامية بين بعض الشعراء والصحفيين والكتاب الذين باتوا يعتمدون على هذه الأدوات لكتابة نصوصهم، مما يثير تساؤلات عميقة حول مستقبل الإبداع وقدرة العقول على الصمود في عصر الأتمتة. أن يستعين الكاتب أو الصحفي أو الشاعر بالذكاء الاصطناعي لتوليد فكرة أو تنقيح صياغة لا ضير في ذلك، أما أن يلقي بالقلم جانباً ويترك «الآلة» تفكر وتكتب وتنتج بالنيابة عنه فتلك بداية التراجع لا التقدم. إنها عودة إلى الخلف في لباسٍ عصري، إذ تغيب الذات ويختزل الإبداع إلى تركيبة رقمية بلا روح. أخطر ما في الاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعي هو اغتيال ملكة التفكير، فالعقل الذي يتوقف عن الاجتهاد وعن إعادة النظر وعن البحث عن الجمال بين تضاريس اللغة هو عقل يذبل ببطء، والشاعر الذي لا يرهق قلبه قبل قلمه لن يمنحنا بيتاً حياً يلامس الوجدان، بل مجرد سطر جميل الصياغة فارغ الدلالة. أما الصحفي الذي يكتفي بتغذية الخوارزمية بمعلومات عامة ليحصل على مقال فهو يفرط في أهم مقومات مهنته «البحث والتحليل والربط بين الظواهر وتقديم زاوية جديدة للقارئ»، ذلك لا يقتل الاعتماد على الذكاء الاصطناعي الإبداع فقط، بل يهدد نزاهة المحتوى وأصالته ويضعف الحس النقدي لدى القارئ والكاتب على حد سواء. لا شك أن التكنولوجيا أداة جبارة حين تستخدم بوعي لكن الخطورة تكمن حين تتحول إلى بديل عن الفكر لا وسيلة له. يجب علينا أن نعيد ترتيب العلاقة مع هذه الأدوات ونستفيد منها دون أن نستسلم لها، ونعزز بها قدراتنا دون أن نلغي عقولنا، فالإبداع الحق لا يولد من آلة بل من إنسان. أخيراً إن الركون التام إلى الذكاء الاصطناعي يقصي العقل ويتسبب في ضمور المهارات المهنية ما ينعكس على شخصية الكاتب نفسه، فحين يعتمد على أداة تفكر عنه يفقد تدريجياً ثقته بقدراته التحليلية وحسه الإبداعي. وإذا لم نتدارك هذا الميل سيتحول الأديب والصحفي إلى مشغّل آلة لا صاحب فكر، ويصبح المستقبل محتكراً لصوت واحد بلا روح ولا ذاكرة ولا خيال. أخبار ذات صلة

"السذاجة" ذكاء اجتماعي أو عمليات تأثير وإقناع؟
"السذاجة" ذكاء اجتماعي أو عمليات تأثير وإقناع؟

الشرق السعودية

timeمنذ 2 أيام

  • الشرق السعودية

"السذاجة" ذكاء اجتماعي أو عمليات تأثير وإقناع؟

"السذاجة وعلم النفس الاجتماعي: الأخبار الكاذبة، نظريات المؤامرة، والمعتقدات اللاعقلانية"، كتاب مرجعي لفهم ظاهرة انتشار المعتقدات الزائفة في المجتمعات المعاصرة، على الرغم مما يُفترض فيها من عقلانية واعتماد على المنهج العلمي. يجمع هذا العمل أبحاث عدد من روّاد علم النفس الاجتماعي (33 عملاً)، لتحليل الآليات النفسية والاجتماعية التي تقف وراء قبول الأفراد معتقدات غير عقلانية، وأحياناً غير إنسانية، بل ومتناقضة مع الأدلة الموضوعية. وهو من تحرير جوزيف ب. فورغاس وروي ف. بوميستر، ترجمة محمد صلاح السيد، (منشورات صفحة 7). ما هي السذاجة يعرّف المؤلفان فورغاس وبوميستر السذاجة بأنها "فشل في الذكاء الاجتماعي، يسهل فيه خداع الشخص أو التلاعب به لتحقيق نتائج غير محمودة"، وهو تعريف يربط السذاجة بضعف البصيرة الاجتماعية، ويضعها في قلب عمليات التأثير والإقناع. كما توصف بأنها "قرينة للغفلة، والميل إلى تصديق الافتراضات غير المحتملة وغير المدعومة بالأدلة"، ما يعزّز مكانتها كبنية معرفية هشّة، تؤسّس لقبول التضليل وتشكّل قابلية للتأثر بالمعلومات الزائفة. تبقى معايير الحكم على السذاجة محلّ إشكال، إذ لا يمكن حصرها في التناقض مع "الواقع الموضوعي"، لأن هذا الأخير كثيراً ما تحدّده أعراف ثقافية ومعايير جماعية مهيمنة. فمثلاً يوصف من يعتقد بأن الأرض مسطّحة "بأنه ساذج، ليس فقط لغرابة الفكرة، بل لانفصالها عن الإجماع العلمي. غير أن هذا الاستخدام يتسع ليشمل أحياناً كل من يخرج عن المألوف أو المعايير الاجتماعية، بصرف النظر عن حججهم"، ما يفتح الباب أمام تصنيفات قَبلية وإقصائية، كما يُعبّر المثل الشعبي: "من يبحث عن حكاية، فسوف يجدها". هذا التعقيد يجد طريقاً له في بعض التصوّرات الأخلاقية والصوفية، التي لا ترى الغفلة مجرّد نقص في الوعي، بل تلمّح إلى وظيفتها النفسية الترميمية، باعتبارها لحظة استراحة من فرط التفكّر أو قلق المعنى. ويُفهم في هذا السياق قولهم: "الغفلة عزّ الجاهل، وسلوى العاقل"، بما يعكس دورها في التخفيف من الإرهاق العقلي، وإن على نحو مؤقت. وعند تقاطع هذه الرؤية مع علم النفس الاجتماعي، يمكن فهم السذاجة كامتداد وظيفي لهذا النمط: ليست فقط ضعفاً في الإدراك، بل استجابة ذهنية تختزل التعقيد، وتحتمي بتصوّرات جاهزة تمنح شعوراً بالأمان أو الانتماء، ولو زائفاً. تغدو السذاجة هكذا، استراتيجية نفسية اجتماعية تُفعّل في لحظات التهديد أو عدم اليقين، وتندمج في النظام الإدراكي للفرد، لا على هامشه. ينقسم هذا المؤلف الجماعي إلى 14 فصلاً يغطي موضوعات متنوّعة، مثل نظريات المؤامرة والطائفية السياسية، مروراً بتأثير الأخبار الكاذبة والمعتقدات الدينية المتطرفة، ووسائل التواصل الاجتماعي، والأسس العصبية والانفعالية للسذاجة. يعرض فورغاس وبوميستر في المقدّمة، إطاراً نظرياً شاملاً لفهم السذاجة كظاهرة متعدّدة الأبعاد، معتمدَين على أحدث الدراسات التجريبية في مجال علم النفس الاجتماعي. تكمن أهمية هذا العمل في انتقاله من النظرة السطحية للسذاجة، المترسّبة في الذاكرة الجمعية بوصفها "جهلاً" أو "غشامة" فحسب، إلى تحليلها كنتاج لعمليات عقلية معقّدة يلعب فيها الفكر، والأديان، والتربية الثقافية دوراً كبيراً، إذ يتم تشويه إدراك الواقع لتحقيق أغراض نفسية واجتماعية وسياسية. ليست السذاجة إذاً راحة اجتماعية أو شخصية، بل لها أدوار في الفردية والسياسة والاقتصاد. السذاجة ليست "غباءً بل آلية تكيّف معطوبة تخدم أغراضاً نفسية". لا تنشأ المعتقدات الخاطئة من فراغ، ولا من عقل "سطحي" "ساذج"، بل تترسّخ عبر آليات معرفية واجتماعية معقّدة، مثل الانحيازات المعرفية، وحاجة الفرد إلى الانتماء، وسيكولوجيا الإقناع، والاصطفاف العقائدي، بل وحتى الأدبي. لا تعدّ السذاجة تصرفاً عارضاً فحسب، بل سلوكاً يشمل مناحي الحياة، والعقل متواطئ عملياً في إنتاجها، على الرغم من افتراقها الظاهري عنه، أو هكذا يبدو بحسب آليات احتكام العقل. يُبرز الكتاب ضرورة فهم هذه المنظومة الفكرية النفسية الاجتماعية، لمواجهة التحديات المعاصرة، وخصوصاً في سياق انتشار التضليل الإعلامي، وتعمّق الاستقطاب السياسي، وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي. كما يقدّم أدوات عملية للتعامل مع هذه الظواهر، وفقاً لعلم النفس الاجتماعي، ودراسات الاتصال، وتحليل الخطاب السياسي والاجتماعي. السذاجة من بنيات العقل من الضروري وصف العقل البشري بأنه كيان متغيّر، قابل للتكيّف، ومقاوم للثبات؛ وهذا لا يُعدّ نقصاً، بل مظهراً من صلاحيته الوظيفية. ولأن العقل يعمل في إطار بنى اجتماعية واقتصادية وسياسية متبدّلة، فإنه يضطر إلى تكييف ذاته وفق ما يتيح له الاشتغال ضمنها. وتبعاً لذلك، توصَف هذه القابلية أحياناً بالمرونة، وطوراً بالمراوغة أو النفعية، غير أن جميع هذه الصفات، على تباينها، تعدّ من بنيات العقل نفسه، لا من خارجها. وهكذا، لا يُستغرب أن يجمع العقل بين المتناقضات، وأن تندرج السذاجة ضمن تكوينه، لا بوصفها خللاً عارضاً، بل كمكوّن ذهني اجتماعي له جذوره المعرفية والنفسية. نظرية المؤامرة وتصديق الأخبار الكاذبة يحلّل كتاب "السذاجة وعلم النفس الاجتماعي" الآليات النفسية التي تجعل الأفراد عرضة لتصديق معلومات زائفة، حتى عندما يكونون على علم بزيفها، ويعتمد في ذلك على مفهوم يُعرف بـ"تأثير الحقيقة الزائفة"، حيث يمنح التكرار المعلومة مصداقية شعورية، لا لصدقها، بل لألفتها. وهذا ما عبّر عنه وزير الدعاية النازية جوزيف غوبلز بقوله: اكذب، اكذب، فلا بدّ أن يصدّق الناس كذبة واحدة. تتقاطع هذه الآلية النفسية مع ما تطرحه الباحثة الهولندية رووس فونك، أستاذة علم النفس الاجتماعي بجامعة رادبود، في كتابها "عيوب بشرية: في سيكولوجية سلوكنا اليومي"، حيث ترى أن الانسجام العاطفي والانتماء الاجتماعي يدفعان الأفراد إلى قبول أفكار مألوفة دون تمحيص، لأن التكرار يخلق شعوراً بالثقة، حتى لو لم يكن مبنياً على دليل. يرتبط الإيمان بنظرية" المؤامرة"، كما يشرح الكتاب، بالحاجة النفسية إلى التفسير في مواجهة العجز، إذ توفّر الروايات التبسيطية شعوراً زائفاً بالسيطرة، وهو ما يتناغم مع ملاحظات فونك حول رغبة الأفراد في تفسير شامل، ولو كان وهماً، لأن المجهول يثير القلق، بينما تعطي المؤامرة شكلاً مريحاً للواقع. أن تبنّي نظريات المؤامرة لا يرتبط فقط بالسمات الفردية، بل يتأثر أيضاً بطبيعة البنية الاجتماعية التي ينتمي إليها الأفراد. فالمجتمعات القائمة على الجماعية تُظهر ميلاً أعلى لتصديق الروايات المؤامراتية، بخلاف المجتمعات الفردية التي تضع المسؤولية الذاتية في صلب تصوراتها، ما يحدّ من انتشار هذا النمط من التفكير. وتُفسّر هذه الظاهرة نفسياً على النحو الآتي: "من المرجّح أن يكون الأشخاص الذين يشعرون بالعجز وقلة الحيلة أكثر ميلاً لتبني روايات المؤامرة، لأنها تقدّم لهم تفسيراً بسيطاً ومريحاً لما يحدث، وتحميهم من الشعور بعدم القدرة على التأثير في مجريات الأمور." بهذا المعنى، تصبح نظرية المؤامرة في المجتمعات الجماعية، بمثابة استراتيجية نفسية لتعويض الإحساس بالعجز الجمعي، بينما يواجهها الأفراد في البيئات الفردية بدرجة أعلى من التحليل الذاتي وتحمل المسؤولية. وهكذا، يظهر، التفكير التآمري باعتباره "نظاماً مغلقاً" وليس جهلاً فحسب. أما في ما يخص الإشاعات، فيُبرز الكتاب بعدها الاجتماعي، حيث يُنظر إليها على أنها وسيلة تفاعل نفسي أكثر من كونها اعتقاداً. الناس لا ينشرون الإشاعة لأنهم يصدّقونها، بل لأنهم لا يريدون أن يصمتوا. هذا السلوك يفسّر وفق تحليل رووس فونك أن القبول الاجتماعي دافع أقوى من حب الحقيقة؛ وقد يفضّل الإنسان الانحياز إلى الخطأ الجماعي عوض التمسك بالصواب الفردي، انسياقاً مع ضغط الانتماء. السذاجة الأخلاقية وفيما يتعلق بالسذاجة الأخلاقية، يشير الكتاب إلى أنها نزوع نفسي لتصديق ما يعزّز الصورة الأخلاقية الذاتية، ولو تعارض مع الحقيقة، إذ تُعاد صياغة الوقائع بما يريح الضمير. وهذا ما تعبّر عنه الباحثة الهولندية رووس فونك بقولها إن الناس يحبّون الاعتقاد بأنهم من الأخيار، ولذلك يتم إهمال أو تحريف الحقائق التي تهدّد هذا التصوّر. ومن منظور عصبي–معرفي، تظهر دراسات التصوير الدماغي أن تكرار المعلومات ينشّط القشرة المحيطية بالحصين المسؤولة عن الشعور بالألفة، ويُضعف في المقابل النشاط في مناطق التحليل النقدي مثل الفص الجبهي الظهراني، ما يفسّر كيف تكتسب المعلومة المكرّرة مظهراً من الحقيقة، دون أن تكون صحيحة. سلطت أزمة كورونا، ولا سيما حملات التشكيك باللقاحات، الضوء على خطورة هذه الظواهر؛ حيث استمدّت روايات المؤامرة المتعلقة باللقاح قوتها من تكرارها ومن الشعور الزائف الذي تمنحه، لا من أي أساس علمي. ونجحت بعض برامج التدخّل النفسي والاجتماعي في مواجهتها عبر ما يُعرف بالتطعيم المعرفي، وهو أسلوب وقائي يعرض الآليات التضليلية نفسها للأفراد قبل أن يواجهوها في الواقع. يُعزى تصديق الأكاذيب إلى 4 آليات متداخلة: حاجة نفسية لليقين في عالم معقّد، وتأثير التكرار الذي يُنتج شعوراً زائفاً بالمصداقية، وضغط اجتماعي يجعل الانتماء أولى من الحقيقة، وانحياز أخلاقي يدفع لتصديق ما يعزّز الهوية الذاتية. تُستغل هذه الثغرات في العصر الرقمي، عبر تكرار خوارزمي ومحتوى انفعالي، ما يفسر انتشار نظريات المؤامرة والمعلومات الزائفة. إن ما يبدو "سذاجة" لا يعكس غياب الذكاء، بل يكشف هشاشة العلاقة بين المعرفة والهوية والانتماء. نحن نصدّق لا لأننا نجهل، بل لأن التصديق في بعض السياقات يمنحنا شعوراً بالتماسك، ولو كان وهماً." إن السذاجة ليست مرادفاً للغباء، بل هي استعداد معرفي لتصديق روايات غير مدعّمة بالأدلة، فقط لأنها منسجمة عاطفياً". تُفهم السذاجة في كتاب "السذاجة وعلم النفس الاجتماعي"، كظاهرة مركّبة تتقاطع فيها العوامل النفسية والاجتماعية والتقنية، وليست مجرّد نقص في المعرفة. يشير الكتاب إلى أن تكرار المعلومة الزائفة يجعل 78% من الأفراد يصدقونها رغم معرفتهم بخطئها، ما يُبرز مركزية القبول والموافقة في صناعة التصديق. كما يُبيّن أن الميل لتبنّي نظريات المؤامرة غالباً ما ينبع من العجز لا من الجهل، وأن المجتمعات الجماعية أكثر قابلية لها من المجتمعات الفردية. ويُظهر أن السذاجة الأخلاقية تنبع من الرغبة في الحفاظ على صورة الذات، لا من تقييم عقلاني للحقائق. نحتاج راهناً إلى تفكيك البنية التكنولوجية التي تعيد إنتاج السذاجة بشكل منهجي عبر خوارزميات التضليل الرقمي، التي تُعزّز التكرار، وتُكرّس الانحيازات المسبقة، وتُقصي المعلومات المخالفة. ويتطلّب ذلك بناء نموذج تكاملي يشمل البُعد المعرفي، والعاطفي، والاجتماعي، والتقني. تعدّ الترجمة العربية للكتاب رصينة، نقلت المفاهيم النفسية المعقّدة بدقّة ووضوح. وحرص المُترجم على تحديث بعض المصطلحات لتتلاءم مع السياق الثقافي العربي المعاصر.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store