logo
«مستقبـل البيتكـويـن»  هل سيعيد التاريخ أزماته بأدوات رقمية مشفّرة؟

«مستقبـل البيتكـويـن» هل سيعيد التاريخ أزماته بأدوات رقمية مشفّرة؟

الرياضمنذ 2 أيام
لقد دخلنا مرحلة جديدة من التاريخ المالي العالمي، تتشابك فيها المضاربة في السوق المشفرة مع السياسات العامة والنفوذ السياسي، لدرجة تجعل من الصعب التمييز بين الابتكار الحقيقي والمخاطر المقنّعة، خاصة بعد خطوة بنك «جي بي مورجان» نحو إقراض العملاء مقابل حيازاتهم من العملات المشفرة، فرغم أن هذا قد يبدو كجزء من تطور طبيعي لدمج الأصول المشفرة بالاقتصاد الحقيقي، إلا أنه، تكرار لنمط تاريخي مرعب من تهاون تنظيمي ينتهي بأزمات مالية ذات طابع كارثي. وتقول، رانيا جول، كبير محللي الأسواق في XS.com- بمنطقة الشرق: «ببساطة البيتكوين ليس أصلاً يمكن التعويل عليه في إطار مالي تقليدي، بتقلب يتجاوز أربعة أضعاف المؤشرات الكبرى، وعدم ارتباطه بأي إنتاج فعلي أو قيمة جوهرية، يصبح من الصعب تبريره كأداة للإقراض المؤسسي. والأسوأ من ذلك هو ارتباط العملات المشفرة بتمويل الإرهاب، والجريمة الإلكترونية، وتجاوز القوانين، دون أن يكون هناك حافز حقيقي للجهات السياسية لوضع حد لذلك، ففي الوقت الذي كان من المفترض أن تكون الجهات التنظيمية حازمة، اخترقت جماعات الضغط المشهد السياسي بقوة المال، مُنفقة عشرات الملايين من الدولارات لضمان تمرير قانون «جينيوس»، وهو تشريع يبدو في ظاهره تنظيمياً، لكنه في جوهره تفكيكٌ آخر للنظام المالي لصالح فئة ضيقة من المضاربين.
وبرأيي التاريخ يعيد نفسه بطريقة لا تخطئ. فما جرى عام 2000 مع تحرير المشتقات المالية خارج البورصة، والذي قاد في النهاية إلى أزمة 2008 عبر مقايضات الائتمان، يبدو كالمخطط المكرر نفسه الذي نشهده اليوم مع العملات المستقرة والبيتكوين، لكن الفارق هو أن الأداة الجديدة -العملات المشفرة- أكثر هشاشة وتطرفًا في تقلباتها من أي منتج مالي سابق، وعندما يُتوقع أن ينمو سوق العملات المستقرة من 200 مليار دولار إلى 2 تريليون، وفقاً لتقديرات وزير الخزانة الأميركي، فإن هذا لا يعكس نمواً صحياً بل فقاعة تتضخم وسط غياب الحذر التنظيمي. والمشكلة الأكبر أن التشريع الجديد -تماماً مثل سابقيه- لا يحمي الاقتصاد الكلي، بل يخلق انطباعاً زائفاً بالأمان، الادعاء بأن العملات المستقرة مدعومة بنسبة 1:1 بالدولار الأميركي لا يعالج جذور التقلب أو يقي النظام المالي من الانهيار عند أول صدمة، فنحن لا نتعامل هنا مع أصل استثماري تقليدي يمكن التنبؤ بسلوكه، بل مع أداة ذات «معامل بيتا» مرتفع جداً أي أنها لا تتحرك بشكل منفصل عن السوق، بل بشكل مضاعف لها. فبيتكوين، على سبيل المثال، يمتلك معامل بيتا يبلغ 2.6 مقارنة بمؤشر ستاندرد آند بورز، ما يعني أن أي هزة في الأسواق التقليدية ستنعكس بصورة أكبر على قيمة العملات المشفرة. وفي ظل ضبابية السياسة النقدية واحتمالات ارتفاع التضخم مجددًا، فإن أي تحرك من الفيدرالي لرفع أسعار الفائدة قد يؤدي إلى انهيارات حادة في السوق، وهذا لا يهدد فقط المستثمرين الأفراد، بل يطال المؤسسات المالية – خاصة تلك التي باتت تحتفظ بأصول مشفرة في ميزانياتها العمومية. والتهديد هنا لا يتعلق فقط بالخسائر، بل بإمكانية تجميد أسواق الائتمان وخلق ذعر مالي لا يختلف في طبيعته عن أزمة 2008، لكنه يأتي هذه المرة في ثوب رقمي.
ثم يأتي الخطر الهيكلي الأكبر: التأثير المحتمل على سوق سندات الخزانة الأميركية. في لحظة أزمة، قد تضطر شركات العملات المشفرة إلى بيع كميات ضخمة من السندات لتغطية عمليات الاسترداد، مما يخلق دوامة هبوط في أسعار السندات، ويرفع من تكاليف الاقتراض الحكومية. عندها ستُفرض ضغوط على الحكومة الأميركية، مرة أخرى، لإنقاذ المؤسسات المالية – ولكن هذه المرة لإنقاذ المضاربين في عالم رقمي لا تحكمه قواعد واقعية أو رقابة صارمة. وفي هذه اللحظة، ندخل مرحلة الاضطراب السياسي الحقيقي. وهو أحد أخطر تجليات هذه الأزمة المحتملة ويتمثل في انعدام ثقة المواطنين بالنظام الاقتصادي والسياسي السائد. فلقد أسهم تحرير الأسواق في التسعينيات، ثم أزمة 2008، في تفكيك العقد الاجتماعي بين الدولة والطبقة الوسطى، مما مهّد لصعود الشعبوية السياسية – من بينها ظاهرة ترامب. واليوم، نكرر الخطأ ذاته، عبر دعم تشريع مثل «قانون جينيوس»، الذي يحظى بتأييد الحزبين، ويأتي في وقت تتآكل فيه ثقة المواطن بالديمقراطية. وليس من قبيل الصدفة أن يشارك إريك ترامب كمتحدث رئيس في مؤتمرBitcoin Asia 2025. لإن انخراط هذه الرموز السياسية في ترويج العملات المشفرة ليس فقط جزءًا من استراتيجية انتخابية، بل دليل على توظيف الأدوات المالية عالية المخاطر كسلاح سياسي لتعبئة الغضب الشعبي، والتشكيك بالنظام القائم. ونحن نعلم أن الفوضى الاقتصادية هي الأرض الخصبة الأكثر مثالية لصعود الشعبوية، وهو ما يهدد ليس فقط الاقتصاد الأميركي، بل النظام المالي العالمي ككل. ولقد تجاوزت العملات المشفرة كونها أداة مالية إلى كونها أداة سياسية وثقافية وفكرية، ومع توسع دعمها المؤسسي في آسيا، وتحوّلها إلى جزء من استراتيجيات الشركات الكبرى، كما نرى في هونغ كونغ واليابان، فإن خطر انهيارها لم يعد مقتصرًا على الولايات المتحدة فقط. بل أصبح انهيارًا عالميًا محتملاً، سيطال البنوك، والشركات، والحكومات، وحتى ثقة الناس بالمال ذاته.
ومن وجهة نظري، الوقت ما زال متاحًا لاتخاذ خطوات تصحيحية. لكن ما نحتاجه ليس فقط تنظيمًا ماليًا صارمًا، بل إرادة سياسية لوقف اندماج الابتكار غير الناضج مع رأس المال السياسي. فلا توجد عملة -مشفرة أو ورقية- يمكنها أن تُقيم اقتصادًا ما لم تكن مبنية على أساس من الشفافية والمساءلة، أما إذا استمررنا في هذا الاتجاه، فإن السؤال لن يكون ما إذا كنا سنواجه أزمة، بل متى.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

سيــاسـة نـووية حكيـمة.. !
سيــاسـة نـووية حكيـمة.. !

عكاظ

timeمنذ 2 ساعات

  • عكاظ

سيــاسـة نـووية حكيـمة.. !

يحظر المجتمع الدولي على دول العالم «غير النووية»؛ ومنها الدول العربية، حتى دراسة الفيزياء والكيمياء والهندسة النووية، كي لا يستغلوا معرفتهم في هذه العلوم لإنتاج أسلحة دمار شامل، وبخاصة الأسلحة النووية... وهناك تشدد أكبر تجاه العرب... لأن ما يعتمل في صدور العرب من غبن وقهر تجاه الصهاينة (يدركه ساسة أمريكا) قد يدفع العرب -أو بعضهم- لاستخدام هذه المعرفة ضد عدوهم الألد (سيما أن هذا العدو يشهر نفس السلاح ضدهم)... ففي ذلك تهديد (خطير) لـ«أمن إسرائيل»...!! كما يقولون. إن من عجائب، ومظالم، العلاقات الدولية، في العصر الحديث والمعاصر، أن تضع دولة عظمى (أمريكا) كل ثقلها... لكي تضمن «تفوق» وهيمنة دويلة عدوانية مصطنعة (إسرائيل) في كل المجالات، ومنها التسلح بكل أنواع الأسلحة الإستراتيجية، وفى ذات الوقت، تعمل كل ما بوسعها لإضعاف الطرف الآخر (العرب) والحيلولة دون نهوضه... حتى لا يهدد «أمن» إسرائيل... وحتى تمسي بلاده لقمة سائغة للإمبريالية، والصهيونية، وأطماعهما الاستعمارية البغيضة. وتتجلى هذه العجيبة في: فلسطين والعراق، وسوريا، وغيرها. كما تتجلى بوضوح أكبر في: مسالة التسلح النووي. ففي الوقت الذي يسمح فيه لإسرائيل -بل وتقدم لها كل المساندة الممكنة- بامتلاك حوالي 200 رأس نووي، ووسائل حملها وقذفها في دائرة كبرى... تكاد تغطي كل العالم العربي، من المحيط الى الخليج، فإن أمريكا -وإسرائيل- تقيم الدنيا ولا تقعدها إن شرعت إحدى الدول العربية في أبحاث نووية، أو فكرت في امتلاك بنية نووية للأغراض السلمية! ***** لقد امتلكت إسرائيل قوة نووية ضاربة، بدعم غربي وأمريكي تقني وسياسي شامل. وما زالت إسرائيل ترفض حتى مجرد خضوع منشآتها النووية للتفتيش الدولي، وتصر -بصفاقة ووقاحة غير مسبوقة- على عدم الانضمام إلى «اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية» (NPT) وتسخر من كل المحاولات العربية (والإقليمية والدولية) الرامية لإقامة «منطقة شرق أوسط خالية من السلاح النووي» (MENFZ). أما العرب، فقد وقعوا الاتفاقية المذكورة، وصادقوا عليها، دولة بعد أخرى. ومع ذلك، ما زالت بعض الأوساط الأمريكية تعمل على: ضمان خلو العالم العربي من أي معرفة نووية تقنية تذكر. ورأينا ما عملته أمريكا تجاه العراق (بإيعاز من الدوائر الصهيونية) لمجرد أنه كان لديه بعض العلماء القادرين على تطوير سلاح نووي، والذين قتلتهم إسرائيل، أثناء الغزو الأمريكي للعراق... ومجرد إمكانية حيازة العراق للخيار النووي، في المدى الطويل. **** وتثار من حين لأخر، أقاويل من قبل بعض وسائل الإعلام الأمريكية المتصهينة، بأن المملكة، أو دولة عربية أخرى، لديها منشآت ومواد نووية خطرة، وأنه ينبغي إخلاؤها من هذه التقنية، ومنعها من امتلاك بنية نووية سلمية. وهي أكذوبة... لم يكن هدفها سوى حجب الأنظار عن إمكانيات إسرائيل النووية. وقد تعامل المسؤولون السعوديون مع هذه الأكاذيب بحكمة وواقعية... أخرست تلك الأبواق، وأحرجت الصهاينة. وقد أكد هؤلاء المسؤولون حق المملكة في الاستخدام السلمي للطاقة النووية، وعدم وجود أي رغبة في امتلاك قوة، أو إمكانية نووية عسكرية، وانعدام الرغبة المطلقة في التسلح النووي، خاصة وأن المملكة وقعت وصادقت على اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية، وغيرها. كما لفتوا الأنظار إلى إسرائيل، وموقفها المشين في المسألة النووية. فالمملكة هي في طليعة الدول الداعية لاستخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية فقط. ومما يبرهن حسن نواياها أكثر، في هذا الصدد، قيامها (بتاريخ 16/‏6/‏ 2005م) بتوقيع اتفاق الضمانات، وبروتوكول الكميات الصغيرة، المنبثقة عن اتفاقية حظر الانتشار النووي. **** أن السياسة النووية السعودية الراهنة جيدة، وإيجابية، وملائمة، – بصفة عامة – للأوضاع النووية والسياسية، المحلية والإقليمية والعالمية. وفيها الكثير من الحكمة، والتأكيد على أن المملكة دولة محبة للسلام. ومن ناحية أخرى، يبدو أننا – كمواطنين- نتمنى ألا تكون «البنية النووية» السعودية - أي: مجموع العلماء والتقنيين، والمنشآت النووية – معدومة، أو ضئيلة جدا. ونتمنى أن يسعى لتطويرها، ودعمها دائما... لتتلاءم والمستوى العلمي والتقني الذي وصلت إليه البلاد، وأن يستمر هدفها – كما هو حاليا – هو: استغلال القوة النووية للأغراض السلمية المختلفة، ومنها: توليد الطاقة وتحلية المياه، وشق الطرق، والتطبيب... الخ. أما الخيار النووي العسكري، فإن المملكة قد استبعدته تماما. ولكن إصرار بعض المعادين المحتملين على تملك هذا الخيار، وفي مقدمتهم إسرائيل وإيران (وهما على مشارف الحدود السعودية) ربما يجعل من المنطقي إعادة النظر في هذا الاستبعاد – فيما بعد – خاصة إذا لم يتم التوصل إلى السلام العادل المنشود بالمنطقة. أخبار ذات صلة

شركات التوظيف بالباطن !
شركات التوظيف بالباطن !

عكاظ

timeمنذ 2 ساعات

  • عكاظ

شركات التوظيف بالباطن !

سوق العمل عرضة للتقلبات الحادة بسبب ظروف متعددة، وخاصة في مجالات العمل التي تعتمد على العمل الموسمي كما في القطاع السياحي والخدمي المرتبط بالأنشطة الاقتصادية السياحية في فترة زمنية محددة، وكذلك القطاع الخدمي مثلاً والمرتبط بهذه الصناعة، بعض الشركات والعملاء يلجأون إلي شركات متخصصة في التوظيف نيابة عنهم ولأسباب عديدة، وخاصة الحاجة الملحة والسريعة لإيجاد الكوادر البشرية في مجالها بأسرع وقت، ويفترض أن تكون بكفاءة عالية وتوفير للمال والجهد من إعلانات ومقابلات، إضافة الى عدم تكليف المنشآت مبالغ في حال إنهاء عقود العمل مع هؤلاء الموظفين المستقدمين عن طريق طرف ثالث وهي وكالات التوظيف، والتي يعمل بها في كثير من دول العالم وهي موجودة حالياً لدينا، ومن تجارب البعض في شركات التوظيف هذه فإنها تمارس ضغوطاً كبيرة على طالبي العمل لديها، فلا يوجد شفافية مع طالبي العمل بتوضيح الجهة التي يفترض أن يوقع معها عقداً، فتلجأ شركات التوظيف الثالث هذه لاستقطاب الموظفين وإيهامهم بأنهم سوف يعملون مع هيئات أو شركات حكومية أو شركات ضخمة معروفة وتتم المقابلات معهم ويقبل البعض منهم، ولكن يتفاجأون أن عقودهم ليست مع الشركات المعلن بالعمل فيها، وأن رواتبهم زهيدة جداً مقارنة بموظفي تلك الهيئات والشركات الأصليين، فالرواتب قد لا تعادل نسبة ٢٠٪ بالمئة ممن يتقاضونه زملاؤهم في الشركة الأم، تخيل مثل هذه التفاوت بين موظف يوُدي نفس المهام ولكن راتبه وحقوقه الوظيفية من تأمين صحي وحقوق مالية ووظيفة فيها إجحاف واضح، وليس لديه مرجعية واضحة في حال اختلافه الوظيفي مع الشركة التي يعمل لديها، شركات التوظيف بالباطن أو التوظيف الثالث هي المستفيدة في كل هذه العملية فهي تقدم رواتب بسيطة لطالبي العمل وتأخذ مقابلها الملايين من عملائها، أتمنى أن يكون هناك شفافية ووضوح لدور هذه الشركات في المنتصف وحماية حقوق الموظفين عن طريقها، وأن تشرح وتبين كل الحقوق والواجبات لهم قبل البدء بالعمل، بل إن البعض منهم يترك وظيفته التي هو عليها عندما يجد إعلاناً وظيفياً أو اتصالاً بأن هيئة أو شركة مرموقة تريد استقطابه، وفي النهاية وبعد توقيع العقد يجد نفسه يعمل بعقد عمل مع شركة توظيف ثالث وليس لدى الشركة التي حلم يوماً أن يعمل فيها، طبعاً هذا لا يعفي الهيئات وشركات القطاع الخاص المحترمة من مسؤولياتها الوطنية في توظيف أبناء وبنات الوطن بشكل مباشر لديها ويتمتعون بكل الحقوق والمزايا مثل الآخرين. إشكالية تواجه الموظفين عن طريق هذا الطرف الثالث أنهم لا يعرفون منه صاحب عملهم الرئيسي، فهم يقعون في منطقة ضبابية يعتريها الضعف الواضح في حال إنهاء عقودهم وفي الغالب بدون مقدمات ولا يحصلون على حقوق إنهاء وظائفهم من الناحية المالية، البعض يعتقد أن هناك رقابة على هذه الشركات ولكن هناك قصص حزينة لمن يتوظفون عن طريق هذه الشركات، لن أتحدث عن موظفي هذه الشركات والذين يقومون بمقابلة الموظفين الجدد لعملاء شركتهم فأغلبهم من خارج الحدود، فالطريقة والتعامل نزق وعدم الوضوح ديدنهم. أخبار ذات صلة

مناسب.. ويليق بأبها
مناسب.. ويليق بأبها

عكاظ

timeمنذ 2 ساعات

  • عكاظ

مناسب.. ويليق بأبها

عندما نتأمل ملامح التحول في الإدارة السعودية اليوم فنحن لا نقصد مجرد تحديث إداري أو إصلاح تقني، بل نتحدث عن تحوّل جوهري في طريقة اتخاذ القرار، وفي عمق العلاقة بين القيادة العليا والقيادات التنفيذية، وفي حضور الهوية داخل كل مشروع، والذوق داخل كل اختيار. هذا التحول لا يُقاس فقط بالمشروعات العملاقة، ولا يُختزل في مؤشرات اقتصادية أو بنى تحتية، بل يظهر أحياناً في لحظة عابرة... في محادثة، في كلمة، في إيماءة. وهذا ما يجعل من رسالة خاصة، استعرضها مؤخراً أمير منطقة عسير الأمير تركي بن طلال، بينه وبين ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وثيقة رمزية تختصر ما تغيّر في عمق الدولة. قد يبدو ظاهر هذه المحادثة بسيطاً: عرض لتصميم مشروع، وتعليق من القائد، وردّ من الإداري التنفيذي. لكن ما وراء ذلك هو بنية ذهنية جديدة، تُحيلنا إلى سؤال جوهري: كيف تتعامل الدولة السعودية الحديثة مع القرار؟ وما الذي تعنيه كلماتٌ مقتضبة مثل: «يليق»، «مناسب»، «نعتمده»... حين تصدر من رأس الدولة أو من ينفذ أمره؟ قبل أن تبدأ الكلمات، كانت الصورة. صورة العرض لولي العهد الأمير محمد بن سلمان في المحادثة كانت الشعار الرسمي للمملكة: السيفان والنخلة. لا صورة شخصية، ولا مناسبة إعلامية، ولا رمزاً شخصياً. بل رمز الدولة ذاته. وهذه ليست مصادفة. بل هو تعبير رمزي عميق عن قائد اختار أن يكون تمثيله امتداداً للدولة، لا تجسيداً لذاته. قائد ألغى مفهوم التمحور حول الذات، وارتضى أن تكون صورته الأولى هي السعودية. لا يحتاج إلى صورة تُعرّفه... لأن الراية تكفي. حين استعرض الأمير تركي التصاميم النهائية لمطار أبها الجديد، جاءت أولى كلمات ولي العهد: «هذا مطار يليق بأبها». وهنا لا نتحدث عن إطراء عابر، بل عن تقدير ذوقي وسيادي في آنٍ واحد. ولي العهد لا يمدح التصميم من منظور هندسي، بل يربط بين المشروع وهوية المدينة. وكأنه يقول: نحن لا نريد مطاراً فحسب، بل نريده أن يكون امتداداً لكرامة أبها، لذوقها، لهويتها الثقافية. كلمة «يليق» هنا ليست وصفاً، بل معياراً تنفيذياً. عندها بادر الأمير تركي بن طلال بالرد: «نعتمده طال عمرك». وهي جملة تحمل في طيّاتها فهماً دقيقاً لما تعنيه عبارة القائد، واستعداداً فورياً للانتقال من التقييم إلى التنفيذ. لم ينتظر توجيهاً إضافياً، بل التقط روح الرسالة، وأعاد صياغتها كقرار إداري رسمي. ثم قال الأمير محمد بن سلمان كلمة واحدة فقط: «مناسب». كلمة قصيرة للغاية، لا تُلفت النظر عند عامة الناس، لكنها في عقل الدولة الحديثة تُعادل ختم القرار. ففي أنظمة الحكم التقليدية تُثقل القرارات بالكلمات. أما في الإدارة السيادية الناضجة فتكفي كلمة واحدة إذا جاءت من موقع السيادة. و«مناسب»، في هذا السياق، ليست تعبيراً عن الرأي، بل إشارة بالاعتماد، وفتح باب التنفيذ. إذا تأملنا تسلسل المحادثة نجد أننا أمام لحظة فريدة تتجسد فيها الدولة بثلاث طبقات: «يليق» = الحس بالهوية والانتماء. «نعتمده» = الترجمة التنفيذية السريعة. «مناسب» = الاعتماد السيادي الأخير. وهذا هو النموذج الذي تُبنى عليه الدول الذكية: الحس قبل الحساب، الكلمة الموجزة بدل الملف المُكدّس، الثقة بدل الشرح. ليست كل وثيقة تُكتب بالحبر. بعض الوثائق تُقال على الهاتف، وتُفهم بالعقل، وتُبنى على الثقة. هذه هي الدولة التي يرسم ملامحها ولي العهد: دولة لا تُكثر من الضجيج، لكن كل كلمة فيها تُحسب... وكل «مناسب» فيها يُحرّك آلة كاملة من العمل الصامت. وهكذا، في 3 جمل، تجلّت هوية وطن... واكتملت حلقة القرار. أخبار ذات صلة

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store