logo
غرب أفريقيا على طريق أفغانستان!

غرب أفريقيا على طريق أفغانستان!

العرب اليوممنذ 2 أيام
في صحراء الساحل الكبرى الممتدة من شمال مالي إلى حدود غانا وكوت ديفوار، يتشكّل ما يشبه دولة موازية خارجة عن القانون، تخضع لحكم جماعة متطرفة تُعرف باسم «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين». هذه الجماعة المرتبطة بـ«تنظيم القاعدة» أصبحت، وفق تقييم خبراء أمنيين، أقوى تنظيم إرهابي في القارة الأفريقية اليوم، وتسيطر على أراضٍ تتجاوز مساحتها خمس مرات ولاية تكساس، في وقت تبدو حكومات غرب أفريقيا عاجزة عن المواجهة، والمجتمع الدولي شبه غائب.
انطلقت هذه الجماعة من مالي عام 2017 كمظلة جمعت فصائل «جهادية» متفرقة، واستفادت من هشاشة الدولة، ثم تمددت إلى بوركينا فاسو والنيجر، ولا تزال توسّع نفوذها شرقاً وجنوباً، مهددة دولاً مثل بنين وتوغو وكوت ديفوار والسنغال وغانا، وهي بلدان كانت تُعد بمنأى عن التهديدات الإرهابية. ووفق شهادات أمنيين، تمارس الجماعة نوعاً من الحكم الفعلي في الأراضي التي تسيطر عليها، حيث تجمع الأموال من السكان، وتدير شبكات تهريب وسرقة واختطاف، ما يوفّر لها تمويلاً مستداماً يجعلها قادرة على مواصلة القتال والتوسع.
وبينما تنشغل الولايات المتحدة بإعادة النظر في وجودها العسكري العالمي، يبدو أن غرب أفريقيا يفقد ثقله في أجندة واشنطن، رغم تحذيرات قائد القيادة الأميركية في أفريقيا، الجنرال مايكل لانغلي، أمام الكونغرس، حين أكد أن «الخطر الإرهابي في الساحل يتفاقم، وإذا لم يُكبح، فسيمثّل تهديداً مباشراً لاستقرار المنطقة، وربما للمصالح الأميركية لاحقاً». تصريحاته تزامنت مع تقليص التمويل لبرامج التنمية الأميركية في أفريقيا.
الخطورة لا تكمن فقط في الهجمات المتكررة التي تستهدف القوات الحكومية ومقارها، التي بلغت في بوركينا فاسو أكثر من 280 هجوماً خلال النصف الأول من عام 2025، بل في تحوّل الجماعة إلى ما يشبه «نموذج حكم» يكون بديلاً عن الدول العاجزة. ففي المناطق الخاضعة لها، تفرض قوانين مستوحاة من تفسير متشدد للشريعة، وتُظهر سيطرة أمنية واجتماعية واضحة، ما يخلق واقعاً جديداً يصعب تغييره عبر القوة فقط.
ويرى خبراء أمنيون أن الجماعة تستخدم العنف وسيلة استراتيجية لفرض مشروعها، لكنها تتجنب عمداً استهداف المصالح الغربية بشكل مباشر، وهو ما يجعل الغرب يتعامل معها بوصفها تهديداً «محلياً» لا يتطلب تدخلاً فورياً. لكن هذا التقدير قد يكون مضللاً، إذ إن «تحوّل الجماعة إلى كيان ثابت وقادر على الحكم يعني ولادة ملاذ آمن لـ(الجهاديين) من مختلف أنحاء العالم، ومعه تتوسّع شبكات التهريب والهجرة غير النظامية وتجارة المخدرات والأسلحة والبشر».
من جهة أخرى، تتفاقم خطورة الوضع مع تراجع فاعلية الجيوش المحلية، خصوصاً بعد سلسلة الانقلابات التي جاءت بأنظمة عسكرية إلى الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو. هذه الأنظمة، بدلاً من معالجة الأسباب العميقة للتطرف، لجأت إلى القمع الشديد في القرى والمناطق الريفية، ما أدى، وفق تقديرات ميدانية، إلى نفور السكان والتفافهم حول الجماعة التي تقدّم نفسها بوصفها مدافعاً عنهم في وجه الاعتداءات الحكومية.
الولايات المتحدة باتت تعتمد على مقاربة جديدة، تتمثل في تقديم المساعدة التقنية والاستخباراتية من دون انخراط مباشر. الجنرال لانغلي قال بوضوح إن على الدول الأفريقية أن «تحمل العبء الأمني بنفسها»، و«الولايات المتحدة لن تفرض نفسها على سيادة أحد»، مؤكداً أن واشنطن قد لا تستمر في القيام بكل ما كانت تفعله سابقاً. وخلال مؤتمر دفاعي في أيار (مايو) الماضي، أوضح لانغلي أن «الهدف اليوم هو مساعدة أفريقيا على أن تفعل الكثير بنفسها».
لكن هذه المقاربة تُقلق مراقبين، خصوصاً في ظل سباق النفوذ الجاري على القارة. الصين، بحسب لانغلي، تنفق على شراكاتها العسكرية في أفريقيا بمعدل يفوق ما تنفقه واشنطن على القيادة العسكرية هناك بمائة مرة. أما روسيا، فتمضي في توسيع حضورها عبر «فاغنر» التي أعادت تشكيل نفسها تحت اسم «فيلق أفريقيا»، وتقوم بمهمات أمنية ومساعدات سياسية لأنظمة عدة، ما يمنح موسكو نفوذاً كبيراً على حساب الغرب.
وهنا يكمن البُعد الاستراتيجي الخطير: فبينما تُعاد صياغة خريطة الولاءات والنفوذ في أفريقيا، تغيب الولايات المتحدة تدريجياً، في وقت تسعى فيه الصين وروسيا إلى ملء الفراغ. الجنرال لانغلي قالها صراحة: «أفريقيا أصبحت ساحة مواجهة محورية في صراع القوى الكبرى»، وهو ما ردده أيضاً مايك روجرز، رئيس لجنة القوات المسلحة في الكونغرس، بقوله: «يجب أن نستثمر أكثر في أفريقيا لمواجهة النفوذ الزائد للصين وروسيا، لا أن نقلّص وجودنا».
في هذا السياق، تبدو «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين» أكثر من مجرد تنظيم مسلح. إنها أداة توازن جيوسياسي في منطقة هشة، وإذا استمرت في التمدد، فقد تغيّر المشهد الاستراتيجي بالكامل، ليس في غرب أفريقيا فقط، بل في مجمل القارة، وربما خارجها. ومن شأن سقوط عواصم أفريقية أو مدن ساحلية بيد الجماعة أن يؤدي إلى موجات هجرة زائدة نحو أوروبا وأميركا، وإلى تنامي تهريب السلاح والمخدرات، وتحوّل المنطقة إلى بؤرة لتدريب جماعات أخرى.
وفي الوقت الذي يشيد فيه الرئيس الأميركي دونالد ترمب بفرص الاستثمار في بعض دول غرب أفريقيا، فإن خبراء أمنيين يحذرون من أن تجاهل الخطر الإرهابي قد يُفرغ هذه الفرص من معناها. فالاستثمار لا يستقر من دون أمن، والمساعدات لا تُجدي إذا لم تترافق مع فهم حقيقي لما يجري على الأرض.
يبقى السؤال: هل ستتحرك الدول الغربية قبل أن يتحول الساحل إلى أفغانستان جديدة، أم أن الوقت قد فات على مواجهة جادة لهذا التمدد «الجهادي»؟ لا تبدو المؤشرات مشجعة، لكن الفرصة لا تزال قائمة، بشرط أن تُفهم المنطقة على حقيقتها، لا على أساس الحسابات المؤقتة.
Orange background

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا

اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:

التعليقات

لا يوجد تعليقات بعد...

أخبار ذات صلة

الحجايا تكتب:العطاء الصامت في زمن الضجيج
الحجايا تكتب:العطاء الصامت في زمن الضجيج

وطنا نيوز

timeمنذ 4 ساعات

  • وطنا نيوز

الحجايا تكتب:العطاء الصامت في زمن الضجيج

د.دهمه الحجايا بينما تشق شاحنات الإغاثة طريقها نحو غزة، محملةً بأطنان من الغذاء والدواء، وبينما تنصب المستشفيات الميدانية الأردنية أروقتها لاستقبال جرحى الحرب، يسود صمتٌ أردنيٌ عميق. هذا الصمت ليس فراغاً، بل هو لغة قائمة بذاتها، لغة تختزل قروناً من القيم الأصيلة التي تشربها الهاشميون وشعب الأردن، لغة تتعرض اليوم لعاصفة هوجاء من 'التشويه المنظم'. في عالم يضج بالصراخ الإعلامي وتبادل الاتهامات،حيث تقدم المملكة الأردنية الهاشمية نموذجاً فريداً للعطاء الإنساني. في معركة وجودية، ليست معركة على الأرض فحسب، بل معركة قيم الإنسانية والتضامن والتكافل في مواجهة سموم الإعلام المأجور الذي يسعى بلا هوادة إلى تشويه صورة هذه المساعدات وتحويل الفعل الخالص إلى شبهة. وبالرغم من كل هذه السموم يظل الرد الأردني هو الأبلغ حيث الاستمرار في العمل بصمت. هذا الصمت ليس ضعفاً، بل هو ثقة بالقيمة الذاتية لفعل الخير، وإيمان بأن البذل الحقيقي لا يحتاج إلى ضجيج. إنه تحدٍ صامت لآلة التشويه، قائماً على الإنجاز الملموس على الأرض. حيث الجسور الجوية الأردنية تحلق ، والبرية تسير ليل نهار ، ليست مجرد قوافل إغاثة بل هي جسور تضامن ملموسة تمتد من عمق القلب الأردني إلى أشقاء تحت الحصار. والمستشفيات الميدانية مثل 'مستشفى الملكة رانيا' في غزة، وشحنات الدواء والغذاء المستمرة، وعلاج الجرحى داخل الأردن، كلها شواهد على فعل لا يتوقف. لذلك على الجميع أن يدرك بأنه 'لَيْسَ مِن شِيمِ الهاشميين وَأَهْلِنَا وَأَجْدَادِنَا الخَيِّرِينَ فِي الأُرْدُنِ التُّمَنُّنُ عَلَى فِعْلِ خَيْرٍ يقومون بِهِ'. هذه العبارة ليست مجرد شعار يرفع، بل هي جوهر الفعل الأردني. إنها ترجمة عملية لقيم راسخة، مستمدة من الإرث الهاشمي العريق ومن تعاليم الإسلام السمحة. إنهم يقدمون العون بلا منٍّ، بلا انتظارٍ لميكروفونات الإعلام أو عبارات الشكر، لأن الدافع أسمى وأعمق. حيث المرجعية الأخلاقية للأردن قيادة وشعباً قول الله تعالى في سورة الإنسان 'وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا'. هنا يكمن سر العطاء الأردني لغزة، وللمنكوبين أينما كانوا، يُقدَّم بورع المؤمن الذي يوقن أن الثواب الحقيقي، والجزاء الأوفى، هو عند ربٍ كريم وليس عند بشر قد يجزِلُ بالشكر أو يجحد. فالعطاء الصامت ليس تكتيكاً، بل هو هوية. هو ردٌ وجودي على محاولات التشويه، يترجم قوله تعالى إلى واقعٍ تراه العيون في قوافل الإغاثة، وتلمسه الأيدي في المستشفيات، ويلمسه القلب في كل فعل خير يقدم دون منٍّ ولا أذى. في زمن الضجيج، يعلو صوت الصمت الأردني الأصيل، حاملاً رسالة واضحة: فعل الخير غاية في ذاته، ووجه الله هو المرتجى. حمى الله الأردن شامخاً عزيزاً دوماً معتزاً بقيادته الهاشمية التي تجسد معاني العطاء عبر التاريخ، ليكتب فصلًا جديداً من فصول الإنسانية في زمن تكثر فيه الضوضاء وتقل فيه القيم.

تحقيق موثق لـ'لوموند ديبلوماتيك' يعري اللوبي المؤيد لإسرائيل في فرنسا وكيف أخر الاعتراف بالدولة الفلسطينية
تحقيق موثق لـ'لوموند ديبلوماتيك' يعري اللوبي المؤيد لإسرائيل في فرنسا وكيف أخر الاعتراف بالدولة الفلسطينية

أخبارنا

timeمنذ 7 ساعات

  • أخبارنا

تحقيق موثق لـ'لوموند ديبلوماتيك' يعري اللوبي المؤيد لإسرائيل في فرنسا وكيف أخر الاعتراف بالدولة الفلسطينية

أخبارنا : نشرت صحيفة "لوموند ديبلوماتيك' الفرنسية تحقيقا مطولا في عددها الأخير لشهر أغسطس/آب الجاري عن على اللوبي المؤيد لإسرائيل في فرنسا، وكيف يؤثر هناك في الأوساط الرسمية والأكاديمية والإعلامية ويسهم في صناعة القرار الفرنسي وفي توجيه جزء من الرأي العام بشأن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. التحقيق الذي أعده سيرج حليمي (رئيس تحرير الصحيفة السابق) وبيير ريمبير بدأ بالتأكيد على أنه "فيما حولت إسرائيل قطاع غزة إلى معسكر اعتقال، ولا تزال تواصل ضم الضفة الغربية، قررت باريس مرة أخرى إعلان الاعتراف بدولة فلسطين، المقرر في سبتمبر/أيلول المقبل'. وفرنسا -وهي دولة كانت ذات نفوذ في منطقة الشرق الأوسط- اتخذت ذلك القرار بشكل متأخر جدا، لتصبح الدولة رقم 149 التي تقدم على تلك الخطوة المتأخرة التي ترجع إلى دور تكتل سياسي وإعلامي قوي يعمل لصالح تل أبيب'. ولفت التقرير إلى أنه تحت ذلك التأثير ظلت فرنسا خلال العقدين الماضيين تصطف مع المعسكر الغربي في انحيازه التام ودعمه المطلق للحكومة الإسرائيلية التي تثبت ممارساتها اليومية أنها تتعارض مع القيم التي يتبناها الغرب. وتساءل الكاتبان: لماذا تصرفت قوة نووية كفرنسا وعضوة دائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لفترة طويلة كشريك صامت لـ'دولة مارقة؟'. أسباب التواطؤ برأيهما يعود ذلك "التواطؤ' مع إسرائيل إلى 3 أسباب رئيسية، أولها انحياز باريس التدريجي إلى ما سمتها المجلة "دبلوماسية القيم' التي تفترض التفوق الحضاري والأخلاقي للغرب الذي تعد إسرائيل رأس حربته في منطقة الشرق الأوسط. أما السبب الثاني فيكمن في إعادة الهيكلة السياسية الفرنسية التي تكيف خطاب حرب الحضارات في فرنسا بهدف توحيد اليمين وأقصى اليمين وأنصار الرئيس ماكرون في المعركة ضد اليسار الذي يأتي ذكره مرادفا لانعدام الأمن وللنزعة الإسلامية ومعاداة السامية. اللوبي الإسرائيلي في فرنسا يشكل مجرة متباينة المكونات وتضم منظمات راسخة في المشهد الفرنسي مثل المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا (كريف) المتحالف مع حزب الليكود الإسرائيلي ويتجلى السبب الثالث في فعالية اللوبي المؤيد لإسرائيل في فرنسا الذي يُستخدم غالبا لدعم نظريات المؤامرة، ويحيل ذلك اللوبي إلى القوى والأطراف -وهي ليست بالضرورة كلها يهودية- التي تدعم سياسات إسرائيل في كل لحظة حاسمة. ويفصل تحقيق "لوموند ديبلوماتيك' في اللوبي الإسرائيلي في فرنسا أنه يشكل مجرة متباينة المكونات وتضم منظمات راسخة في المشهد الفرنسي مثل المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا (كريف) المتحالف مع حزب الليكود الإسرائيلي، وجماعات الصداقة البرلمانية و'جمعية فرنسا إسرائيل'. ويشمل ذلك اللوبي أيضا وسائل إعلام مجتمعية، بينها "راديو جي'، وشخصيات ملتزمة بصدق بالدفاع المستميت عن دولة تراها ملاذا لليهود، إضافة إلى شبكة غير رسمية من وسائل الإعلام والشخصيات البارزة التي تجاهر بمناهضة الإسلام وترى في إسرائيل البوصلة الموجهة لتحركاتها. مكونات اللوبي وقالت "لوموند ديبلوماتيك' إن كل مكونات اللوبي المؤيد لإسرائيل في فرنسا -سواء في الشق الدبلوماسي أو السياسي ومجال التأثير- تصبح على قلب رجل واحد في أوقات الأزمات، وتتبنى نفس الخطاب الذي تروجه تل أبيب وينتعش ذلك بشكل جلي في الصحافة الفرنسية المحافظة. ولتفسير ذلك الدعم المطلق، تستشهد الصحيفة بنموذج ببرنارد هنري ليفي الذي تصفه بالمؤثر الرئيسي والمقرب جدا من الرئيس ماكرون، إضافة إلى أنه كاتب عمود في مجلة لوبوان ذات التوجه اليميني المحافظ ومحرر في دار النشر الشهيرة غراسي المملوكة لمجموعة بولوري الداعمة لليمين المتطرف ورئيس مجلس إدارة قناة "آر تي'. وتذكر بما قاله ليفي "كلود لانزمان أنتج (عام 1973) فيلما بعنوان "لماذا إسرائيل؟'، وكان جواب كلود لانزمان لأن مصير الغرب يعتمد على ذلك (..)، لو لم تولد إسرائيل أو تختفي لكان ذلك بمثابة انهيار رمزي وأخلاقي للغرب لن يتعافى منه أبدا'. وترى "لوموند ديبلوماتيك' أن اللوبي المؤيد لإسرائيل ساهم في إعادة توجيه الدبلوماسية الفرنسية على مدى الـ20 عاما الماضية، وذلك ضمن نفوذه المتزايد على اليمين السياسي في أوروبا برمتها. وتجلى ذلك التأثير في الساحة الفرنسية بتلاشي ما كانت تعرف بـ'سياسة فرنسا في العالم العربي'، ومن أبرز محطاتها دعم الجنرال شارل ديغول المبدئي عام 1967 للمقاومة في الأراضي المحتلة، وزيارة الرئيس جاك شيراك إلى القدس عام 1996، ومرافعة وزير الخارجية الفرنسي دومينيك دوفيلبان عام 2003 ضد مشاركة بلاده في غزو العراق. وتؤكد الصحيفة أنه بعد ذلك التاريخ تراجع صوت فرنسا بعد إعادة اندماجها الكامل في حلف شمال الأطلسي (ناتو) الذي أعلنه الرئيس نيكولا ساركوزي في واشنطن في نوفمبر/تشرين الثاني 2007، وكان من آثاره أن القرار الفرنسي أصبح جزءا من الكتلة الغربية، ولم تعد لباريس سياسة شرق أوسطية أصيلة ومحترمة. وذكر بأنه بينما كان اليمين الديغولي يقيم علاقات جيدة مع كبرى العواصم العربية المعنية مباشرة بالقضية الفلسطينية ووفر الرعاية للزعيم الفلسطيني ياسر عرفات حتى وفاته في المستشفى العسكري بكلامار في باريس عام 2004 فإن بعض الأحزاب التي تدّعي النسب لديغول وشيراك مثل حزب "الجمهوريون' تغالي في تبني مواقف مؤيدة لإسرائيل. اللوبي المؤيد لإسرائيل ساهم في إعادة توجيه الدبلوماسية الفرنسية على مدى الـ20 عاما الماضية، وذلك ضمن نفوذه المتزايد على اليمين السياسي في أوروبا برمتها. وتروج تلك الأوساط السياسية لخطاب مفعم بمفردات الإرهاب ومعاداة السامية، وتحاول إقناع جمهورها بأن الفرنسيين والإسرائيليين يواجهون العدو نفسه، وكل من لا يصف عناصر حركة حماس بـ'الإرهابيين' مدان بمعاداة السامية. وترى "لوموند ديبلوماتيك' أن هذه الأفكار تحمل توقيع السلطات الإسرائيلية وتنتشر بكل سلاسة في الصحافة اليمينية وفي قنوات الأخبار التي يتسيد فيها اللوبي المؤيد لإسرائيل مثل القنوات التلفزيونية "سي نيوز'، و'إل سي إي'، و'بي إف إم تي في'. ومن أبرز الوجوه الإعلامية في تلك الأوساط المذيعة لورنس فيراري (إل سي إي) وفرانز أوليفييه جيزبار كاتب افتتاحيات مجلة لوبوان اللذان دُعيا في 27 مايو/أيار الماضي إلى حفل دعم للجيش الإسرائيلي، وحصلا على جائزة تقديرية لـ'دعمهما المتحمس لإسرائيل والشتات'. وإضافة إلى وسائل الإعلام اليمينية المتطرفة يلفت تقرير "لوموند ديبلوماتيك'، إلى أن اللوبي المؤيد لإسرائيل يضم أيضا قطاعا من الشخصيات المحسوبة على الوسط واليسار، والتي تتمسك بفكرة "الحرب المشتركة' وتدافع عن إسرائيل باعتبارها -في نظر تلك الشخصيات- حليفا وإحدى قلاع التنوير المهددة من محيطها الجغرافي. وقدّم التحقيق قائمة بشخصيات من هذا القطاع المؤيد لإسرائيل، بينها صوفيا آرام الممثلة الكوميدية في إذاعة فرانس إنتر، وفيليب فال المدير السابق لمجلة شارلي إيبدو وإذاعة فرانس إنتر، والكاتب رافائيل إنثوفن المؤسس المشارك مع الإعلامية كارولين فوريست لمجلة "فران-تيرور'، والإمام المثير للجدل حسن شلغومي، وأمين الخاتمي العضو السابق في الحزب الاشتراكي والمؤسس المشارك لحركة "الربيع الجمهوري'، وهي حركة متطرفة تدافع عن العلمانية. وينقل التحقيق عن المديرة السابقة لمجلة ماريان اليمينية ناتاشا بولوني حديثها مطلع العام الجاري عن انحراف هذه المجموعة الغامضة التي كانت مقربة منها، قائلة "لقد تحولت الحركة التابعة للربيع الجمهوري (الذي أنشئ في مارس/آذار 2016 في أعقاب الهجمات التي وقعت في باريس) إلى الدفاع، ليس فقط عن إسرائيل، بل أيضا عن سياسات بنيامين نتنياهو'. وإلى جانب هؤلاء، يوجد في معسكر الداعمين لإسرائيل أكاديميون متخصصون، بينهم الكاتب فريديريك إنسيل الذي يناقش من منظور إسرائيلي صرف ملفات الشرق الأوسط في مجلة لوفيغارو وفي الكثير من المنابر الإعلامية الأخرى. ويشير التحقيق كذلك إلى نموذج المؤرخ جورج بن سوسان الذي تتهافت عليه نفس وسائل الإعلام اليمينية وهو يردد أفكار ونظريات بنيامين نتنياهو التي يدافع فيها عن سلوك الجنود الإسرائيليين الذين "أعادوا الحياة والبقاء' إلى غزة، وفق تعبيره. في المقابل، تحجم تلك المنابر الإعلامية عن استضافة خبراء مثل باسكال بونيفاس أو آلان غريش القادرين على الرد على أطروحات وأفكار أولئك الخبراء الداعمين بشكل أعمى لإسرائيل. وإضافة إلى وسائل الإعلام اليمينية المتطرفة فإن اللوبي المؤيد لإسرائيل يضم أيضا قطاعا من الشخصيات المحسوبة على الوسط واليسار التي تتمسك بفكرة "الحرب المشتركة' وتدافع عن إسرائيل باعتبارها -في نظر تلك الشخصيات- حليفا وإحدى قلاع التنوير المهددة من محيطها الجغرافي تصنيع معاداة السامية ويلفت تقرير "لوموند ديبلوماتيك' إلى أن تأثير جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل لا يقتصر على توجيه السياسة الخارجية الفرنسية وسياسات معظم وسائل الإعلام، بل يمتد إلى تشويه سمعة الشهود -سواء كانوا صحافيين أم لا- الذين ينقلون ببساطة ما يرونه في غزة. وفي هذا الصدد، ساقت عينة من عمل صحيفة لوفيغارو التي خصصت في 17 ديسمبر/كانون الأول 2024 تحقيقا عن تغطية صحيفة "لوموند' الفرنسية ما يجري في قطاع غزة، وانتقدت ما سمته "القلق المتزايد' و'الخوف' و'الصمت' الناجم عن التحيز (المزعوم) المؤيد للفلسطينيين من طرف جزء من هيئة تحرير تلك الصحيفة. تأثير جماعات الضغط المؤيدة لإسرائيل لا يقتصر على توجيه السياسة الخارجية الفرنسية ومعظم وسائل الإعلام، بل يمتد إلى تشويه سمعة الشهود -سواء كانوا صحافيين أم لا- الذين ينقلون ببساطة ما يرونه في غزة. وخلصت "لوموند ديبلوماتيك' إلى أن الدعم الأعمى الذي تتلقاه إسرائيل من القوى الغربية -بما فيها فرنسا- لا يصب في مصلحتها، وعادت إلى شق آخر من إجابة المخرج الفرنسي كلود لانزمان (1925-2018) عن سؤال "لماذا إسرائيل؟' عندما قال "هناك حاجة إلى بلد يمكن لليهود من جميع أنحاء العالم العيش فيه بأمان بعيدا عن الاضطهاد'. وعلقت على ذلك التبرير بالقول إن المجازر التي تقترفها إسرائيل في حق الفلسطينيين، والحرب التي تشنها باستمرار ضد جيرانها، وما تحظى به من دعم غربي مطلق كلها عوامل تهدد مبرر وجود هذا الدولة التي أنشئت عام 1948. مستقبل إسرائيل وفي هذا الصدد، أشارت "لوموند ديبلوماتيك' إلى مخاوف توماس فريدمان الكاتب الأمريكي (اليهودي) البارز في صحيفة نيويورك تايمز، والذي يخشى اليوم الذي "ينظر فيه اليهود إلى إسرائيل، ليس باعتبارها ملاذا لهم من معاداة السامية، ولكن على أنها آلة جديدة لإنتاج معاداة السامية'. وهو ما دفعه إلى القول في مقال نشر في 11 يونيو/حزيران 2025 إنه يجب على الشتات اليهودي في العالم أن يستعد بالفعل "ليكون يهوديا في عالم تُعتبر فيه الدولة اليهودية دولة منبوذة ومصدر عار لا مصدر فخر'. وختمت الصحيفة الفرنسية تحقيقها بالتساؤل التالي: هل يعمل اللوبي المؤيد لإسرائيل على التعجيل بتحقيق تلك الغاية من خلال الدفاع عن أمر لا يمكن الدفاع عنه؟

غرب أفريقيا على طريق أفغانستان!
غرب أفريقيا على طريق أفغانستان!

العرب اليوم

timeمنذ 2 أيام

  • العرب اليوم

غرب أفريقيا على طريق أفغانستان!

في صحراء الساحل الكبرى الممتدة من شمال مالي إلى حدود غانا وكوت ديفوار، يتشكّل ما يشبه دولة موازية خارجة عن القانون، تخضع لحكم جماعة متطرفة تُعرف باسم «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين». هذه الجماعة المرتبطة بـ«تنظيم القاعدة» أصبحت، وفق تقييم خبراء أمنيين، أقوى تنظيم إرهابي في القارة الأفريقية اليوم، وتسيطر على أراضٍ تتجاوز مساحتها خمس مرات ولاية تكساس، في وقت تبدو حكومات غرب أفريقيا عاجزة عن المواجهة، والمجتمع الدولي شبه غائب. انطلقت هذه الجماعة من مالي عام 2017 كمظلة جمعت فصائل «جهادية» متفرقة، واستفادت من هشاشة الدولة، ثم تمددت إلى بوركينا فاسو والنيجر، ولا تزال توسّع نفوذها شرقاً وجنوباً، مهددة دولاً مثل بنين وتوغو وكوت ديفوار والسنغال وغانا، وهي بلدان كانت تُعد بمنأى عن التهديدات الإرهابية. ووفق شهادات أمنيين، تمارس الجماعة نوعاً من الحكم الفعلي في الأراضي التي تسيطر عليها، حيث تجمع الأموال من السكان، وتدير شبكات تهريب وسرقة واختطاف، ما يوفّر لها تمويلاً مستداماً يجعلها قادرة على مواصلة القتال والتوسع. وبينما تنشغل الولايات المتحدة بإعادة النظر في وجودها العسكري العالمي، يبدو أن غرب أفريقيا يفقد ثقله في أجندة واشنطن، رغم تحذيرات قائد القيادة الأميركية في أفريقيا، الجنرال مايكل لانغلي، أمام الكونغرس، حين أكد أن «الخطر الإرهابي في الساحل يتفاقم، وإذا لم يُكبح، فسيمثّل تهديداً مباشراً لاستقرار المنطقة، وربما للمصالح الأميركية لاحقاً». تصريحاته تزامنت مع تقليص التمويل لبرامج التنمية الأميركية في أفريقيا. الخطورة لا تكمن فقط في الهجمات المتكررة التي تستهدف القوات الحكومية ومقارها، التي بلغت في بوركينا فاسو أكثر من 280 هجوماً خلال النصف الأول من عام 2025، بل في تحوّل الجماعة إلى ما يشبه «نموذج حكم» يكون بديلاً عن الدول العاجزة. ففي المناطق الخاضعة لها، تفرض قوانين مستوحاة من تفسير متشدد للشريعة، وتُظهر سيطرة أمنية واجتماعية واضحة، ما يخلق واقعاً جديداً يصعب تغييره عبر القوة فقط. ويرى خبراء أمنيون أن الجماعة تستخدم العنف وسيلة استراتيجية لفرض مشروعها، لكنها تتجنب عمداً استهداف المصالح الغربية بشكل مباشر، وهو ما يجعل الغرب يتعامل معها بوصفها تهديداً «محلياً» لا يتطلب تدخلاً فورياً. لكن هذا التقدير قد يكون مضللاً، إذ إن «تحوّل الجماعة إلى كيان ثابت وقادر على الحكم يعني ولادة ملاذ آمن لـ(الجهاديين) من مختلف أنحاء العالم، ومعه تتوسّع شبكات التهريب والهجرة غير النظامية وتجارة المخدرات والأسلحة والبشر». من جهة أخرى، تتفاقم خطورة الوضع مع تراجع فاعلية الجيوش المحلية، خصوصاً بعد سلسلة الانقلابات التي جاءت بأنظمة عسكرية إلى الحكم في مالي والنيجر وبوركينا فاسو. هذه الأنظمة، بدلاً من معالجة الأسباب العميقة للتطرف، لجأت إلى القمع الشديد في القرى والمناطق الريفية، ما أدى، وفق تقديرات ميدانية، إلى نفور السكان والتفافهم حول الجماعة التي تقدّم نفسها بوصفها مدافعاً عنهم في وجه الاعتداءات الحكومية. الولايات المتحدة باتت تعتمد على مقاربة جديدة، تتمثل في تقديم المساعدة التقنية والاستخباراتية من دون انخراط مباشر. الجنرال لانغلي قال بوضوح إن على الدول الأفريقية أن «تحمل العبء الأمني بنفسها»، و«الولايات المتحدة لن تفرض نفسها على سيادة أحد»، مؤكداً أن واشنطن قد لا تستمر في القيام بكل ما كانت تفعله سابقاً. وخلال مؤتمر دفاعي في أيار (مايو) الماضي، أوضح لانغلي أن «الهدف اليوم هو مساعدة أفريقيا على أن تفعل الكثير بنفسها». لكن هذه المقاربة تُقلق مراقبين، خصوصاً في ظل سباق النفوذ الجاري على القارة. الصين، بحسب لانغلي، تنفق على شراكاتها العسكرية في أفريقيا بمعدل يفوق ما تنفقه واشنطن على القيادة العسكرية هناك بمائة مرة. أما روسيا، فتمضي في توسيع حضورها عبر «فاغنر» التي أعادت تشكيل نفسها تحت اسم «فيلق أفريقيا»، وتقوم بمهمات أمنية ومساعدات سياسية لأنظمة عدة، ما يمنح موسكو نفوذاً كبيراً على حساب الغرب. وهنا يكمن البُعد الاستراتيجي الخطير: فبينما تُعاد صياغة خريطة الولاءات والنفوذ في أفريقيا، تغيب الولايات المتحدة تدريجياً، في وقت تسعى فيه الصين وروسيا إلى ملء الفراغ. الجنرال لانغلي قالها صراحة: «أفريقيا أصبحت ساحة مواجهة محورية في صراع القوى الكبرى»، وهو ما ردده أيضاً مايك روجرز، رئيس لجنة القوات المسلحة في الكونغرس، بقوله: «يجب أن نستثمر أكثر في أفريقيا لمواجهة النفوذ الزائد للصين وروسيا، لا أن نقلّص وجودنا». في هذا السياق، تبدو «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين» أكثر من مجرد تنظيم مسلح. إنها أداة توازن جيوسياسي في منطقة هشة، وإذا استمرت في التمدد، فقد تغيّر المشهد الاستراتيجي بالكامل، ليس في غرب أفريقيا فقط، بل في مجمل القارة، وربما خارجها. ومن شأن سقوط عواصم أفريقية أو مدن ساحلية بيد الجماعة أن يؤدي إلى موجات هجرة زائدة نحو أوروبا وأميركا، وإلى تنامي تهريب السلاح والمخدرات، وتحوّل المنطقة إلى بؤرة لتدريب جماعات أخرى. وفي الوقت الذي يشيد فيه الرئيس الأميركي دونالد ترمب بفرص الاستثمار في بعض دول غرب أفريقيا، فإن خبراء أمنيين يحذرون من أن تجاهل الخطر الإرهابي قد يُفرغ هذه الفرص من معناها. فالاستثمار لا يستقر من دون أمن، والمساعدات لا تُجدي إذا لم تترافق مع فهم حقيقي لما يجري على الأرض. يبقى السؤال: هل ستتحرك الدول الغربية قبل أن يتحول الساحل إلى أفغانستان جديدة، أم أن الوقت قد فات على مواجهة جادة لهذا التمدد «الجهادي»؟ لا تبدو المؤشرات مشجعة، لكن الفرصة لا تزال قائمة، بشرط أن تُفهم المنطقة على حقيقتها، لا على أساس الحسابات المؤقتة.

حمل التطبيق

حمّل التطبيق الآن وابدأ باستخدامه الآن

هل أنت مستعد للنغماس في عالم من الحتوى العالي حمل تطبيق دايلي8 اليوم من متجر ذو النكهة الحلية؟ ّ التطبيقات الفضل لديك وابدأ الستكشاف.
app-storeplay-store