
العيوب القاتلة للشرق الأوسط الجديد: غزة وسورية والأزمة المقبلة في المنطقة
مها يحيى* - (إندبندنت عربية) 2025/5/30
إعادة إعمار الشرق الأوسط بعد موجات الحروب والدمار لن تنجح ما لم تصاحبها تسويات سياسية تعالج المظالم والانقسامات الداخلية، لأن تجاهل حقوق الشعوب -خصوصاً الفلسطينيين- واختزال الاستقرار في التنمية من دون عدالة أو مساءلة، سيؤدي إلى دورات عنف متكررة وفشل كل الرؤى الإقليمية. اضافة اعلان
* * *
على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، عانى الشرق الأوسط الحروب والدمار والنزوح. ولقي مئات الآلاف من الأشخاص حتفهم مع احتدام القتال في غزة ولبنان وليبيا والسودان وسورية واليمن، بينما سلك الملايين طريق النزوح والهجرة. كذلك، أدى العنف إلى تراجع المكاسب في مجالات التعليم والصحة والدخل، ودمر المنازل والمدارس والمستشفيات والطرق والسكك الحديدية وشبكات الكهرباء. وكان للحرب في غزة أثر مدمر بصورة خاصة، إذ إنها أرجعت المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية في القطاع إلى مستويات العام 1955. وقدر البنك الدولي ومنظمات الأمم المتحدة أن كلفة إعادة إعمار الشرق الأوسط وتوفير مساعدات إنسانية كافية ستراوح ما بين 350 مليارا و650 مليار دولار، بينما قدر "برنامج الأمم المتحدة الإنمائي" أن إعادة إعمار غزة وحدها تتطلب ما لا يقل عن 40 مليارا إلى 50 مليار دولار.
يعد تقديم المساعدات الإنسانية والمالية لهذه المجتمعات المنكوبة أمراً بالغ الأهمية لبقاء الملايين على قيد الحياة، وخاصة على المدى القريب. ولذلك، يبعث تقليص حكومات غربية عديدة، بما في ذلك واشنطن، للمساعدات الخارجية والدعم الإنساني، على القلق الشديد. ولكن في نهاية المطاف، لن يكون العائق الرئيسي أمام إعادة إعمار العالم العربي هو نقص الأموال، وإنما النزاعات السياسية والمظالم. المنطقة مليئة بالدول الفاشلة، وتذم قوى متنافسة تعمل على استغلال هذه الفوضى لخدمة مصالحها الجيوسياسية. هذه المشكلات مجتمعة تجعل تحقيق السلام الدائم أمراً مستحيلاً.
وفي الواقع، تدرك القوى الكبرى في المنطقة هذه الحقيقة جيداً. فقد أمضت إيران وإسرائيل والولايات المتحدة ودول الخليج العربي عقوداً في محاولة تشكيل المنطقة بما يناسب مصالحها من دون معالجة الأسباب الجذرية للصراع، وقد فشلت مراراً وتكراراً. فقد سعت هذه الدول إلى الأمن على حساب السلام، وانتهى بها الأمر إلى فقدان الاثنين معاً. ومع ذلك، تتشابه خططها الحالية بصورة لافتة مع الجهود السابقة، في جوهرها على الأقل. ما تزال جميع هذه الدول تلتزم مجدداً برؤى لنظام إقليمي جديد تتم فيه إعادة الإعمار من دون تسويات سياسية. وقد طُرحت مقترحات طموحة، مثل تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية، واتفاق اقتصادي بين إيران ودول الخليج، من دون أي مراعاة للواقع السياسي، أو الديناميات المحلية، أو غيرها من العواقب الأوسع نطاقاً. ونتيجة لذلك، لن تنجح خططها في وضع حد لدورات العنف المتكررة، بل قد تغذيها.
في سبيل تحقيق الاستقرار، يجب على الشرق الأوسط الذي مزقته الحرب أن يغير مساره. يتعين على القوى الفاعلة في المنطقة أن تكف عن تجاهل الانقسامات الإقليمية والمحلية، وأن تنخرط بدلاً من ذلك في العمل الجاد لمعالجتها. وبالإضافة إلى ذلك، عليها أن تساعد المجتمعات المتصدعة على التكاتف، وأن تنشئ مؤسسات سياسية خاضعة للمساءلة، وأن تعزز أنظمة العدالة الانتقالية. وعليها أن تدعم عملية إعادة إعمار تكون جزءاً من أجندة أوسع لبناء السلام. كما يتعين عليها صياغة إطار سياسي يعترف فعلياً بحق الفلسطينيين في تقرير المصير. وعليها أيضاً إيجاد سبل لحل خلافاتها، أو على الأقل إدارتها بصورة أفضل. وإلا، فلا قيمة لما ينفقه العالم على إعادة الإعمار، لأن المنطقة ستبقى على حالها مدمرة ويعمها الانهيار.
تفادي المشكلة
في العام 1945، كانت أوروبا مدمرة. وخلال ست سنوات من الحرب، قتل عشرات الملايين من الناس ونزح ملايين آخرون من ديارهم. وتعرضت مدن عديدة كانت الأكثر ازدهاراً في القارة للدمار بفعل القصف الجوي أو المدفعي. وانهارت العملات الإقليمية، مما دفع الناس إلى التسول والمقايضة.
في مواجهة هذا الدمار، دعت إدارة ترومان واشنطن إلى تكريس جهودها لإعادة إعمار القارة. وبناءً على نصيحة وزير الخارجية الأميركي آنذاك، جورج مارشال، بدأ الكونغرس في إقرار حزم مساعدات ضخمة لشعوب أوروبا ومجتمعاتها، فأنفق على المنطقة 13.3 مليار دولار (أي ما يعادل أكثر من 170 مليار دولار بالقيمة الحالية للعملة). لكن هذه الأموال جاءت بشروط. كان على الدول المستفيدة إزالة معظم الحواجز التجارية مع الدول الأوروبية الأخرى. وكان عليها تبني سياسات تزيد من صادراتها إلى الولايات المتحدة وتدفعها إلى استيراد مزيد من السلع الأميركية. لم يكن الهدف مجرد إعادة بناء منازل أوروبا وطرقها وجسورها، بل أيضاً دمج القارة في النظام الليبرالي الناشئ بقيادة الولايات المتحدة.
وقد نجحت هذه الاستراتيجية. انضمت الدول المستفيدة من أموال "خطة مارشال" إلى "حلف شمال الأطلسي" بقيادة الولايات المتحدة، ملتزمة بالدفاع المشترك. ودمجت اقتصاداتها، ممهدة الطريق لتأسيس "الاتحاد الأوروبي". وبفضل هذه القرارات، لم تتعاف أوروبا اقتصادياً من دمار الحرب العالمية الثانية فحسب، بل أصبحت، بعد قرون من الصراعات، واحدة من أكثر مناطق العالم سلماً وازدهاراً.
يشبه حجم الدمار في جميع أنحاء الشرق الأوسط اليوم حجم الدمار الذي حدث في أوروبا في العام 1945. أعداد القتلى صادمة، وإن لم تكن بالارتفاع نفسه، وقُضي على اقتصادات بأكملها. وفقدت العملات الوطنية معظم قيمتها. وعلى سبيل المثال، فقد الريال اليمني 80 في المائة من قيمته منذ العام 2014. ويظهر الضرر بصورة أكثر وضوحاً في غزة، حيث تجاوز عدد القتلى الرسمي 47 ألفاً حتى أواخر كانون الثاني (يناير)، وهو على الأرجح تقدير أقل من الواقع، وحيث أدى القصف الإسرائيلي إلى تحويل 70 في المائة من مبانيها تقريباً إلى أنقاض في غضون عام واحد فقط (توقعت الأمم المتحدة أن عملية إزالة الأنقاض وحدها ستستغرق أكثر من عقد من الزمان). لكن دولاً أخرى تكبدت خسائر مماثلة. فقد أدت الحرب الأهلية السورية التي استمرت 14 عاماً إلى نزوح 12 مليون شخص ومقتل أكثر من 600 ألف، ويعيش أكثر من 90 في المائة من سكان البلاد الآن تحت خط الفقر الدولي. وفي اليمن، يعيش أكثر من نصف السكان في فقر مدقع، ويحتاج ما يقرب من 20 مليون شخص هناك إلى مساعدات إنسانية مباشرة. وقد أسهم سوء الإدارة الاقتصادية والممارسات الجشعة في تدهور الوضع الاقتصادي، لا سيما في مصر والعراق ولبنان.
يحتاج الشرق الأوسط إلى "خطة مارشال". ولكن بخلاف أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية، لم تبادر أي دولة للقيام بالدور المطلوب. لا يوجد راعٍ حقيقي للمنطقة، ولا إجماع على طريقة إخراجها من مستنقعها. بل على النقيض من ذلك، يعاني الشرق الأوسط من الانقسام والتنافس. والقاسم المشترك الوحيد بين المقترحات الأميركية والإيرانية والإسرائيلية والتركية والخليجية المختلفة هو تجاهلها للتحديات الأساسية.
ولننظر أولاً إلى النهج الأميركي. تعتقد واشنطن أن أسس شرق أوسط أفضل تتضمن إضعاف إيران، المنافس الإقليمي الرئيسي للولايات المتحدة، وتطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية على أمل جذب استثمارات جديدة. وفي الحقيقة، ترغب واشنطن في المساهمة في إعادة إعمار غزة، لكنها تعتقد أن التمويل يجب أن يأتي في معظمه من الدول العربية، لكن الخطة الأميركية تدعو إلى إعادة الإعمار من دون أي أفق لحل سياسي للفلسطينيين. واليوم، غزة التي تتخيلها واشنطن هي إما مساحة مطهرة عرقياً من الفلسطينيين، أو فراغ سياسي بلا حكم فعلي، ومع ذلك تتوقع أن يظل الوضع مستقراً بطريقة ما.
ويشاركها الإسرائيليون هذا الوهم، لكن بعضهم يرغب في أن يكون أكثر عدوانية في ما يتعلق بطهران والفلسطينيين. الإسرائيليون عموماً يدعمون الحرب في غزة. وحتى بعد اتفاق وقف إطلاق النار في كانون الثاني (يناير) يرغب كثر في العودة إلى القصف. وقد أسهم نجاح إسرائيل في إضعاف إيران و"حزب الله"، الميليشيات اللبنانية المدعومة من طهران، في تعزيز عدوانية القادة الإسرائيليين. لا تريد تل أبيب إعادة إعمار غزة إلا بعد "القضاء على نزعة التطرف" الفلسطينية وبعد أن يثبت الفلسطينيون قدرتهم على "الحكم الفعال"، على حد تعبير مسؤولي الأمن الإسرائيليين السابقين عاموس يدلين وأفنير غولوف. وفي المقابل، لا يرغب بعض المسؤولين الإسرائيليين في إعادة إعمار غزة على الإطلاق.
هذه الرؤية الإسرائيلية خاطئة أخلاقياً؛ فالفلسطينيون لهم حق لا لبس فيه في تقرير مصيرهم. وهي أيضاً غير قابلة للتطبيق. فمهما بذلت إسرائيل والولايات المتحدة من جهود ومحاولات، لا يمكنهما تحقيق السلام عن طريق تجاهل الفلسطينيين. في الواقع، كانت محاولة القيام بذلك هي ما أوصلهما إلى هذا الوضع. خلال الولاية الرئاسية الأولى لدونالد ترامب، أقنعت الولايات المتحدة البحرين والمغرب والسودان والإمارات العربية المتحدة بتطبيع العلاقات مع إسرائيل كجزء من "اتفاقات أبراهام"، في إطار مشروع كان ترامب يطمح لأن تقوده إسرائيل في مجالات الأمن والتجارة والاستثمار. وفي غضون ذلك، كثفت إسرائيل بناء المستوطنات، وزادت من وتيرة القمع، ووسعت سلطتها على الأراضي الفلسطينية. ورداً على ذلك، شنت "حماس" هجومها العنيف في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023. وعلق زعيم "حماس" إسماعيل هنية، على الهجوم بالقول: "كل عمليات التطبيع والاعتراف، وكل الاتفاقات التي وقعت [مع إسرائيل]، لن تنهي الصراع القائم".
أثار الهجوم رداً إسرائيلياً عنيفاً، مما أوقف التقدم نحو اتفاق إسرائيلي - سعودي، ودفع إيران وشركاءها الجماعات المسلحة والموازية للدول إلى الانتظام في المعركة. وعلى الرغم من أن إسرائيل حالت دون تسبب "محور المقاومة" بأضرار جسيمة وتمكن الجيش الإسرائيلي من إضعاف إيران نفسها، فإن طهران ردت بمقترح سلام يهدف إلى تقويض عدوها اللدود، وعرضت على جيرانها العرب الانضمام إلى اتفاق عدم اعتداء وشراكة اقتصادية، يهدف جزئياً إلى عزل إسرائيل.
ثمة كثيرون في العالم العربي يرون في إيران قوة إقليمية لا بد من التعامل معها. وبعد حملات القصف الإسرائيلي في غزة ولبنان وسورية واليمن، باتت شعوب المنطقة تنظر إلى إسرائيل على أنها الطرف الأكثر تطرفاً وتدميراً في الشرق الأوسط، لكن هذا لا يجعل رؤية إيران أكثر واقعية. إنه يتجاهل سلوكها التخريبي في جميع أنحاء المنطقة، بما في ذلك رعايتها للجماعات المسلحة والعنيفة وما يترتب على ذلك من غياب القانون وانهيار الدولة. ويعترف مخطط إيران بحق الفلسطينيين في تقرير المصير، لكن الدول العربية تريد إنهاء الفوضى الإقليمية، لا مجرد إنهاء الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني.
هناك رؤية طرحتها دول الخليج العربية، أي البحرين والكويت وعمان وقطر والسعودية والإمارات العربية المتحدة، من خلال مجلس التعاون الخليجي، والتي ربما تكون الأكثر طموحاً. وتتضمن مقترحات المجلس تعميق التكامل الاقتصادي بين دول الخليج، وإنشاء آليات دفاع مشتركة، ثم حل الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني بطريقة ما من خلال حل الدولتين الذي بات تطبيقه الآن شبه مستحيل. ويقر هذا المقترح على الأقل، تماماً مثل المقترح الإيراني، بأن إنهاء هذا الصراع هو مفتاح تحقيق الأمن الإقليمي، لكنه لا يطرح أي آلية واقعية للتوصل إلى اتفاق. كما أن خطة دول الخليج تتحدث بصورة محدودة للغاية عن الصراعات الأخرى في المنطقة أو كيفية معالجتها.
في أفضل الأحوال، لن تحقق هذه الرؤى المتنوعة سوى القليل. وفي أسوأ الأحوال، قد تؤدي إلى مزيد من الصراعات مثلما فعلت "اتفاقات أبراهام". بهذا التركيز المفرط على الأمن، حولت هذه الرؤى السلام إلى مجرد مسألة تنمية اقتصادية واستعراض للقوة. ويبدو أن قوى الشرق الأوسط تعتقد أن الشعوب التي أنهكتها الحروب سترضى بمجرد إعادة بناء ما تهدم، من دون الحاجة إلى تحقيق العدالة أو المساءلة أو القيادة الرشيدة. وإذا لم يرض الناس بذلك، يمكن استخدام العنف معهم: تستطيع إسرائيل، على سبيل المثال، اعتقال الفلسطينيين المطالبين بالمساواة في الحقوق وقتلهم. وهذه الافتراضات خطرة وخاطئة.
الفوضى تسود
في صميم أزمات المنطقة تكمن المسائل المتعلقة بالحكم. فقد انهارت دول متعددة أو تفككت، مع ظهور مراكز قوة متنافسة تهيمن عليها غالباً جماعات إثنية أو سياسية معينة. وأبرز مثال على ذلك هو الواقع في سورية، حيث أضعفت سنوات الحرب العلاقات بين مركز البلاد وأطرافها، وأدت إلى ظهور حكام محليين متنوعين. ثمة بعض المناطق خاضعة لسيطرة الأكراد. أما المناطق التي حافظ فيها الأسد على أعلى مستويات الدعم، فكانت تلك التي تقطنها الطائفة العلوية التي ينتمي إليها. ويخضع الجنوب لسيطرة ما يسمى "غرفة عمليات الجنوب"، وهي تحالف من فصائل متمردة ظهر في العام 2011، ويميل إلى أن يكون أقل تطرفاً إسلاموياً من الجماعات الأخرى. ويتألف التنظيم الذي أطاح بالأسد في النهاية، "هيئة تحرير الشام"، من متطرفين سابقين من الطائفة السنية، من بينهم مقاتلون غير سوريين. ويزعم هؤلاء أنهم لن يميزوا ضد الجماعات الأخرى. لكن البلاد شهدت منذ سيطرتهم على دمشق تصاعداً في عمليات القتل الانتقامية والعنف العشوائي الذي يستهدف العلويين. ومن دون عملية سياسية شاملة، ستبقى سورية ممزقة بمختلف أنواع الانقسامات.
أسهم التدخل الدولي في زيادة حدة الخلافات وسوف يستمر في أن يفعل. وما تزال القوى الرئيسة في الشرق الأوسط تتنافس باستمرار على مزيد من النفوذ الإقليمي. ولذلك، عندما تندلع الحروب غالباً ما يدعم كل من هذه القوى جماعة مختلفة. في سورية، على سبيل المثال، تدعم تركيا "هيئة تحرير الشام" وفصائل أخرى في الشمال، في حين أن الولايات المتحدة تساعد الأكراد. وهناك دول عربية لها نفوذ كبير على "غرفة عمليات الجنوب". وتحاول إسرائيل تعزيز علاقاتها مع الطائفة الدرزية في سورية، ولذلك استغلت فراغ السلطة لاحتلال نحو 155 ميلاً مربعاً (400 كيلومتر مربع) من الأراضي السورية.
في الوقت الحالي، تحافظ الفصائل السورية على السلام. في الواقع، في اجتماع عقد في 29 كانون الثاني (يناير)، اجتمعت الجماعات الرئيسة المشاركة في الإطاحة بالأسد لتعيين زعيم "هيئة تحرير الشام"، أحمد الشرع، رئيساً جديداً للبلاد. لكن أحمد العودة، الشخصية القيادية البارزة في "غرفة عمليات الجنوب"، لم يحضر هذا الاجتماع وأرسل ممثلاً عنه، بينما قاطعت الفصائل الكردية والدرزية المؤتمر تماماً. ومع زوال عدوها المشترك، قد تنقلب الميليشيات السورية على بعضها بعضا. وإذا حدث ذلك قد يبدو مستقبل سورية شبيهاً بحاضر الصومال، حيث تسيطر فصائل مختلفة على بقاع متفرقة من الأراضي. أو أنها قد تصبح شبيهة بالوضع في ليبيا المجاورة للصومال. وعلى الرغم من أن سورية وليبيا بلدان مختلفان تماماً، فقد شهدت ليبيا أيضاً ثورة خلال الربيع العربي حرضت جماعات مسلحة متعددة على ديكتاتور حكم البلاد لفترة طويلة. وقد نجحت هذه الجماعات في الإطاحة بمعمر القذافي في العام 2011. ولكن بمجرد رحيله، بدأت الجماعات تقاتل بعضها بعضاً من أجل الهيمنة بدعم من جهات خارجية، عربية وأوروبية. واليوم، تتلقى السلطتان المتنافسان في شرق ليبيا وغربها دعماً من جهات مختلفة.
من الواضح أن التدخل الأجنبي في صراعات الشرق الأوسط يضر بالسلام. لكنّ هناك جانباً إيجابياً في كل تدخل خارجي: نظراً لاعتماد الأطراف المتحاربة على رعاة دوليين، يمكن للجهات الفاعلة الخارجية الضغط من أجل التوصل إلى حلول. ونتيجة لذلك، قد يساعد التقارب بين القوى الإقليمية، مثل اتفاقية التطبيع للعام 2023 بين إيران والسعودية، في تهدئة الصراع. وعلى الرغم من أن التقارب الإيراني - السعودي خفف من حدة الانقسامات الطائفية، فإنه لم يحد من دعم إيران للجهات القمعية غير الحكومية. ونتيجة لذلك، لا يمكنه فعل الكثير لإرساء الهدوء والاستقرار في المنطقة.
وحتى لو تمكنت هذه الدول من تسوية خلافاتها بالكامل، فلن تتمكن من ضمان السلام. سوف تظل في حاجة إلى حث القوى المحلية على تنفيذ تسويات تعيد إعمار الدول، وتضمن العودة الآمنة للنازحين، وترمم النسيج الاجتماعي الممزق. وليس هناك ما يضمن امتثال هذه الأطراف، التي جعلتها سنوات الحرب أكثر قسوة. وستكون قضية العدالة الانتقالية، على وجه الخصوص، شائكة. فبعد انتهاء القتال، يحتاج المجتمع إلى درجة من التسامح للشفاء. ومع ذلك لا يمكن منح عفو شامل، خاصة للذين ارتكبوا فظائع في انتهاك حقوق الإنسان. في نهاية الحرب الأهلية في لبنان، اختارت السلطات إصدار عفو شامل عن جميع الفظائع التي ارتكبت خلال الصراع الذي دام 15 عاماً. واعتقد القادة أن القيام بذلك سيضمن السلام بسرعة ويتيح إعادة إعمار البلاد. كما أملوا في حماية أنفسهم من الملاحقة القضائية. ولكن بدلاً من ذلك، شهد لبنان اضطرابات مدنية بصورة دورية مع استمرار تفاقم الأحقاد الناجمة عن الحرب، أحياناً بتحفيز من زعماء الصراع القدامى. لتجنب المصير نفسه، سيتعين على قادة سورية الجدد محاسبة كبار مسؤولي نظام الأسد على الفظائع التي ارتكبت على مدى 54 عاماً من الحكم الاستبدادي، وعدم القيام بذلك لن يؤدي إلا إلى تشجيع مزيد من الأعمال الانتقامية الفردية، مما سيصعب بدوره التوصل إلى حل سلمي دائم.
لا سلام من دون عدالة
في الشرق الأوسط، لا يوجد نهج واحد يناسب جميع الحالات لإنهاء النزاعات أو إعادة بناء ما فقد. وتشترك الحروب التي تعصف بالمنطقة في سمات عديدة، ولكن نظراً إلى استمرارها لسنوات، فقد طورت دينامياتها الخاصة. في لبنان، على سبيل المثال، لا يقتصر التحدي على إعادة بناء ما دمره الصراع مع إسرائيل، بل يشمل أيضاً إعادة بناء نظام سياسي منهار، والسعي إلى نزع سلاح "حزب الله" نهائياً، وتعزيز المؤسسات الوطنية الضعيفة. كما أن سورية، التي دمرتها الحرب تماماً، في حاجة إلى تسوية سياسية جديدة كلياً، ولكن من دون عودة سورية من جديد إلى نمط السلطة المركزية مثلما حدث في عهد الأسد. ويجب أن يتمتع أي حل يطرح بدعم على مستوى البلاد ككل، وأن يراعي الديناميات المحلية التي نشأت خلال الصراع.
بالنسبة لغزة، فإن التحديات أعمق من ذلك بكثير. وقد يكون حجم الدمار وامتداده في القطاع سابقة تاريخة. ومع ذلك، بخلاف الأماكن الأخرى التي تحولت إلى خراب، فإن غزة ليست دولة. إنها لا تسيطر على حدودها. وهي تحت الحصار، معزولة عن الأسواق الخارجية. وهي تفتقر إلى جميع أنواع الموارد الأساسية، بما في ذلك الماء والغذاء والأراضي اللازمة للإنتاج الزراعي أو الصناعي. في ظل هذه الظروف، لا يمكن جعل المنطقة صالحة للسكن، ناهيك عن كونها غير قادرة على تحقيق اقتصاد مستدام. ولا توجد خطة واضحة لمن سيتولى زمام الأمور في إعادة إعمارها ثم الحكم فيها. على المدى القريب، قد تحتاج غزة إلى حكم موقت من سلطة انتقالية ينشئها مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة: وهي آلية استخدمت للمساعدة في إعادة بناء أجزاء من البلقان وكمبوديا في تسعينيات القرن العشرين، عندما تم تدمير قدرات الحكم المحلي. وفي النهاية، يجب أن يحكمها فلسطينيون يتمتعون بتأييد شعبي ديمقراطي. ولكن في الوقت الحالي، ليست هناك حلول مطروحة قصيرة أو طويلة الأجل.
من دون تسويات سياسية، سيكون من الصعب حتى توزيع أموال إعادة الإعمار. في الواقع، قد يؤدي تقديم المساعدة إلى خلق توترات. فكثيراً ما تتلاعب الجهات الفاعلة المحلية والإقليمية بتسليم المساعدات، مما يخلق اقتصاداً مشوهاً يخلف استياء لدى البعض ونفوذاً وجرأة زائدة لدى البعض الآخر. وقد تستخدم الجماعات السياسية المساعدات لتعزيز قوتها وإضعاف الحكومات.
لا يعني أي من هذه التحديات أن منظمات الإغاثة الإنسانية يجب ألا تقدم دعماً كثيفاً للمناطق المدمرة في الشرق الأوسط، وبخاصة غزة. فالقطاع يضم ملايين المشردين الذين لا مأوى لهم، بينما يتضور ملايين آخرون جوعاً أو يحتاجون إلى رعاية طبية. إنهم في حاجة إلى أي مساعدة يمكنهم الحصول عليها، وبسرعة.
هناك بالتأكيد شرق أوسط جديد يتشكل. ولكن من دون حل سياسي، لن تجدي إعادة الإعمار نفعاً على المدى البعيد. إنها لا تستطيع إصلاح اختلالات موازين القوى أو التوترات العرقية أو المؤسسات المنهارة التي تسبب إراقة الدماء المستمرة، ولن تدفع القوى الأجنبية إلى العمل معاً بانسجام بدلاً من أن يتصرف كل طرف بما يتعارض مع الآخر. قد تساعد المساعدات الناس على إعادة بناء منازلهم ومتاجرهم ومدارسهم حرفياً، ولكن إلى أن يتحقق سلام دائم، قد تنهار تلك المباني مجدداً عندما يعود الصراع حتماً.
*مها يحيى: مديرة "مركز مالكوم كير كارنيغي للشرق الأوسط". المقال مترجم عن "فورين أفيرز"، حيث نشر في 17 شباط (فبراير) 2025.
هاشتاغز

جرب ميزات الذكاء الاصطناعي لدينا
اكتشف ما يمكن أن يفعله Daily8 AI من أجلك:
التعليقات
لا يوجد تعليقات بعد...
أخبار ذات صلة


رؤيا نيوز
منذ ساعة واحدة
- رؤيا نيوز
الجيش الإسرائيلي يعترض صاروخًا أُطلقه الحوثيون من اليمن
قال الجيش الإسرائيلي، اليوم السبت، إنه رصد إطلاق صاروخ من اليمن باتجاه الأراضي الإسرائيلية، مشيرا إلى أن أنظمة الدفاع الجوي اعترضته. وأضاف الجيش في منشور عبر تطبيق تيليجرام ،أن صفارات الإنذار دوت في عدة مناطق داخل إسرائيل عقب إطلاق الصاروخ الذي تم اعتراضه كانت إسرائيل قد هددت الحوثيون بحصار بحري وجوي إذا استمرت هجماتها عليها. وتقول الجماعة اليمنية إن هجماتها تأتي تضمانا مع الفلسطينيين في غزة.


الغد
منذ ساعة واحدة
- الغد
خلال اتصال مع الأمير تميم.. الشرع يؤكد عمق العلاقة بين سوريا وقطر
أكّد الرئيس السوري أحمد الشرع عمق العلاقة التي تجمع سوريا وقطر، مشيراً إلى الشراكة الاستراتيجية التي تربط البلدين. وجاء في بيان صادر عن رئاسة الجمهورية أن الرئيس الشرع أجرى اتصالاً هاتفياً مع أمير دولة قطر، الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، قدّم خلاله التهاني بمناسبة عيد الأضحى المبارك، متمنياً لقطر دوام الأمن والاستقرار والازدهار. اضافة اعلان قطر تبدأ تزويد سوريا بالغاز عبر الأردن بموافقة واشنطن من جانبه، شدّد الشيخ تميم على أهمية تعزيز أواصر الأخوّة والمحبة بين الشعبين السوري والقطري، وفقاً للبيان. الشرع يشيد بمواقف قطر تجاه سوريا ويؤكد أهمية التعاون معها أجرى الرئيس السوري، أحمد الشرع، زيارة إلى دولة قطر، يوم أمس الثلاثاء، التقى خلالها الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وبحثا عدداً من ملفات التعاون الثنائي وسبل تعزيز العلاقات بين البلدين. وخلال الجلسة التي عُقدت في الديوان الأميري، أعرب أمير قطر عن تطلّعه إلى أن "تُسهم هذه الزيارة في دفع مسيرة التعاون بين البلدين إلى آفاق أوسع"، فيما أكّد الشرع حرص سوريا على "تطوير العلاقات الثنائية وتعزيز التنسيق المشترك بما يخدم مصالح البلدين". وعقب الزيارة، أشاد الرئيس الشرع بالمواقف الثابتة لدولة قطر تجاه الثورة السورية، والدعم الذي قدّمته للسوريين طوال السنوات الماضية، مؤكداً أهمية التعاون وتعزيز العلاقات معها. وقال الشرع، في رسالة موجّهة إلى الشيخ تميم: "أتقدّم بجزيل الشكر والتقدير لأخي سمو الأمير تميم بن حمد آل ثاني على حفاوة الاستقبال وكرم الضيافة اللذين حظيتُ بهما خلال زيارتي لدولة قطر الشقيقة". وأضاف في الرسالة التي نشرتها الرئاسة السورية: "لن ننسى لدولة قطر موقفها الصادق ودعمها الثابت للشعب السوري"، مشدداً على أن تعزيز علاقات التعاون والتكامل بين سوريا وقطر يُعد ركناً أساسياً في ترسيخ الاستقرار ودفع عجلة الازدهار لشعبي البلدين. من جانبه، قال الشيخ تميم في تغريدة عبر منصة "إكس": "سعداء بزيارة أخي الرئيس الشرع، وبمباحثاتنا التي شملت مجموعة واسعة من أوجه التعاون الثنائي في شتى المجالات". كما أكد أن "العلاقات الأخوية بين بلدينا الشقيقين في تطوّر ونماء كبيرين، بفضل حرصنا المشترك على تعزيزها وتطويرها". وشدّد أمير قطر على أهمية "العمل معاً من أجل الارتقاء بالعلاقات إلى المستوى المأمول، الذي يخدم المصالح المشتركة للبلدين"، معرباً عن أمله في أن يُسهم ذلك "في تحقيق تطلعات الشعب السوري الشقيق نحو الاستقرار والازدهار والتنمية". (التلفزيون السوري) اقرأ أيضاً: الشرع يشيد بدولة قطر ويؤكد أهمية التعاون معها


الغد
منذ ساعة واحدة
- الغد
أمير الكويت يستقبل الشرع في قصر البيان
وصل الرئيس السوري أحمد الشرع إلى "قصر البيان" في العاصمة الكويتية، الأحد، حيث استقبله أمير دولة الكويت الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح، في مستهل أول زيارة رسمية له إلى الكويت. اضافة اعلان وتعليقا على الزيارة، أكدت وكالة الأنباء الكويتية 'كونا' أن الزيارة الرسمية، التي يقوم بها الشرع والوفد الرسمي المرافق له إلى الكويت اليوم، تحمل أهمية خاصة في مسيرة العلاقات الكويتية-السورية حيث يجري خلالها مباحثات رسمية مع الأمير الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح، وذلك تأكيداً لموقف دولة الكويت الثابت والداعم لسوريا وشعبها الشقيق ووحدتها وسيادتها على كامل أراضيها. وقالت الوكالة في تقرير لها اليوم: إن العلاقات الدبلوماسية الكويتية–السورية، التي انطلقت رسمياً في الـ 24 من تشرين الأول عام 1963، وشهدت نوعاً من الانقطاع بين العامين 2012 و2024 بسبب ما شهدته سوريا طوال تلك السنوات، عادت في الـ30 من كانون الأول الماضي لتشهد تطوراً مهماً وجديداً، حين زار وزير الخارجية الكويتي عبد الله اليحيا العاصمة السورية بصفته رئيس المجلس الوزاري لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، في خطوة تعكس التزام دول (التعاون) بدعم الأمن والاستقرار في المنطقة. وأضافت الوكالة: إنه "في اليوم ذاته انطلقت من الكويت أولى رحلات الجسر الجوي الهادف إلى مساعدة الأشقاء في سوريا، انطلاقاً من الدور الإنساني الرائد لدولة الكويت في دعم الأوضاع الإنسانية للشعب السوري، وتجسيداً لتضامن الشعب الكويتي مع الأشقاء في سوريا، والحرص على الإسهام في تخفيف معاناة المحتاجين هناك". وختمت الوكالة تقريرها بالقول: "وخلال الأشهر الخمسة الماضية أكدت دولة الكويت، في بيانات عديدة أصدرتها وزارة الخارجية، موقفها الثابت والداعم لوحدة سوريا وسيادتها على كامل أراضيها، مشددةً على أهمية تكثيف الجهود الدولية لدعم الشعب السوري وتخفيف معاناته". التلفزيون السوري